انتقد القرآن وشجع الغناء وكتب الكتب “الملعونة”.. اطلع على ابن الراوندي “البائع للإلحاد” الذي استخدم قلمه لخدمة من يدفع له!

By العربية الآن



انتقد القرآن وشجع الغناء وكتب الكتب “الملعونة”.. اطلع على ابن الراوندي “البائع للإلحاد” الذي استخدم قلمه لخدمة من يدفع له!

%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A9 %D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB %D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9 copy

<

div class=”wysiwyg wysiwyg–all-content css-1vkfgk0″ aria-live=”polite” aria-atomic=”true”>

يعرف بأنه “دائما ينادي على نفسه: اِعْلَموا أني ملحد”!! تم توجيه هذا الوصف لأَحْمد بنتألق الكاتب يحيى الراوندي (ت نحو 298هـ/912م) -الذي يُعتبر أحد أهم “الملحدين” على مر العصور في العالم الإسلامي- في كتاب ‘الانتصار والرد على ابن الراوندي الكافر‘ للكاتب أبو الحسين الخياط المعتزل (ت بعد 300هـ/912م)، ولم تشر الخياط إلى سبب اقرار ابن الراوندي بالكفر الذي اتُهِم به باعتباره فكراً مخالفاً وخطيراً للدين، لدرجة أدهش هذا الأمر الإمام ابن عقيل الحنبلي (ت 513هـ/1124م) الذي تساءل عن سبب بقاءه على قيد الحياة؛ قائلاً: “كيف لم يُقتلْ”!

بالفعل، قام ابن الراوندي بتحطيم النسيج الديني بأكمله عبر ادعائه بوجود “اللحن” في القرآن الكريم وكتابة أعمال اصطفاها العلماء بأنها “ملعونة”، بالرغم من تربيته في بيئة تتسم بـ”العقلانية” لدى المعتزلة، حيث كان ينتمي إليهم ويدرس تحت إشرافهم حتى تصاعدت الخلافات بينه وبين زعماء “تنظيم” المعتزلة مما أدى إلى طرده منذ ذلك الحين بلا عودة.

على الرغم من ذلك، يبدو أن شهرة ابن الراوندي لم تنبع فقط من أفكاره بل من جرأته على نشر تلك الأفكار في أوساط الثقافة والحوارات وفي دواوين الجدل الفكري؛ مما جعل كتاباته وآراءه جوهراً لأنشطة حامية الوطيس في تاريخ الفكر الإسلامي.

ويبدو أن التنكيل التنظيمي والتنكيل الاجتماعي الذي تعرض له ابن الراوندي من جماعته المعتزلة زاد من تطرفه في مواقفه ليصبح “ناقد مأجور”، حيث بدأ -حسب التقارير- بتقديم خدماته العلمية لمن يدفع ثمنها، وبدأ في كتابة كتب لأي جماعة تريد تشويه سمعة خصومها، حيث قيل أنه كتب كتباً لمهاجمة عقائد الإسلام وبيعها لغير المسلمين، وهكذا ظهر ابن الراوندي بوجه الانتقام بدلاً من النقد أو التفكير!

إن دخول ابن الراوندي إلى عالم “النبذ التنظيمي” لدى المعتزلة قد لا يكون كافياً لفهم موقفه “الكفري” بالطريقة التي يُعرض بها، وإلا فإنه يوضح أسباب اتخاذ ابن الراوندي مواقفه المعارضة للإسلام إلى حد إعلانها بوضوح في الساحة العامة، ونقول “إنه يوضح” لأن الطبيعة الانفجارية للتنظيمات الدينية الفِرَقية تفرض أن تكون معاركها الداخلية ملتهبة، حيث الالتحاق بها والانتماء ليس سهلاً والانفصال عنها يكون عادة صاخباً وبارزاً، ومع المعتزلة تتصاعد حدة تلك الظروف والطبائعة وتتزايد حدة الصراع وشدة الانقسام.

فعلى حد زعماء المعتزلة، كانوا صارمين في جذب الأفراد لـ”الانضمام للتنظيم” والاستمرار فيه، وحازمين في طرد المنحرفين عن مبادئهم ومعتقداتهم، وكانت الانضباطية أو الطرد لديهم شديد العنف بلا رحمة، ولذا تشهد سجلات جدليات الفِرَق الدينية وصراعات أتباع المذاهب والطوائف أن المعتزلة تبادلوا الفتاوى بالتكفير بينهم قبل غيرهم، مما أدى إلى تعدد فروعهم واستمرار الانقسامات بحيث وصل تصنيفهم لهم الباحث في الفِرَق والجماعات عبد القاهر البغدادي (ت 429هـ/1039م) -في كتابه ‘الفَرْق بين الفِرَق‘- إلى وجود “عشرين فرقة كل واحدة تلعن باقي الفرق”، أي تلعن كل فرق المعتزلة الأخرى!

تمتاز هذه المقالة بمحاولتها وضع تحليل وتبرير لشخصية ابن الراوندي ومساره الحياتي المصاحب له بنقاشات كلامية عنيفة استمرت عبر التاريخ الإسلامي، حيث يعتبر أحد أبرز الشخصيات المتأثرة بظاهرة الإضطراب الديني أو ما كان يسمى أحيانًا “الإلحاد” الذي اعتبر بمفهومه تغيير العقيدة نحو الضلالة، وقد كان “أصل الملحد هو المائل عن الحق، والإلحاد هو ابتعاد عن الهدف…، [مما أدى إلى] استخدام هذا المصطلح بصفة نمطية للخروج عن الدين”؛ وفقًا لتعبير الإمام ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) في كتابه ‘فتح الباري بشرح صحيح البخاري‘.

انتماء متقلب
تفقد المترجمون على ابن الراوندي (أو الرواندي/الريوندي) في اطلاق اسمه واسم أبيه؛ وقد اقترحوا أنه: أَحْمد بن يحيى الراوندي، ومع ذلك، لم توثق المصادر المتاحة والمراجعات لترجمته، التي بحثها عبد الأمير الأعسم (ت 1440هـ/2019م) في كتابه حوله المعنون: ‘تاريخ ابن الريوندي الملحد: نصوص ووثائق من المصادر العربية خلال ألف عام‘- بتفاصيل كافية عن فترة حياته الأولى قبل وصوله إلى بغداد، أو عن معلميه الذين تلقى عندهم علمه.

وقد روى الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في ‘سير أعلام النبلاء‘- أنه تلقى علومه من عيسى بن الهيثم الصوفي (ت 245هـ/859م) الذي ينتمي إلى “كبار المعتزلة [وإن كان] يختلف معهم في بعض النقاط”. كما اعتُبر أبو عيسى الوراق المعتزل (ت 247هـ/861م) من معلميه الذين أثرت فيه معرفته.وكان الكاتب من قادة “المتحدثين الذين يظهرون الإسلام ويخفون الكفر”؛ بناءً على النديم أو ابن النديم البغدادي (متوفى عام 384 هـ / 997 م) في “الفهرس”. وكان من شيوخه أيضًا المعتزل أبو حفص الحداد (متوفى عام 252 هـ / 866 م) صاحب كتاب “الجاروف في تكافؤ الأدلة”.

تطورت علاقة ابن الراوندي مع المعتزلة في مراحل مختلفة من “التألق” في مذهبهم، إلى التفرغ لـ”الافتضاح” بعد “طرده” من صفوفهم، وردودهم الوافرة على كتبه؛ إذ حسب خصمه أبو الحسين الخياط المعتزلي (متوفى بعد عام 300 هـ / 912 م) -في “الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد”- كان “تلميذهم، ومتعلم منهم، ومتحاور في مجالسهم، ومحذوف لكتبهم، ومسأل عن مسائلهم، ومنتسب لمذهبهم في سؤاله”.

ويعتقد أبو الحسين الخياط المعتزلي أن المعتزلة طردوا ابن الراوندي لانتقاده للدين؛ فـ”أول عداء المعتزلة له” كان بسبب ادعائه في الحسن بن علي بن أبي طالب (متوفى عام 51 هـ / 672 م) وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب (متوفى عام 80 هـ / 700 م) اللذين كانا يحاولان إصلاح سمعتهما بأخذ المال من معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد. وشهد الخياط تلك الادعاء بنفسه.

وفي سياق آخر من الكتاب؛ يذكر الخياط ابن الراوندي بسبب طرده من جماعة الاعتزال نهائيًا؛ قائلاً: “ومن ضمنك كتاب ‘الزمرد’ تنتقد فيه الرسل، وتتطاول على أعلامهم، ومع كتاب ترجمة خاصة للمحمدية؛ فهذه وجهة نظرك وهي قولك، ولأجلها نفوتك المعتزلة ونطردك عن اجتماعاتها، ونبعدك عن أنفسها”.

ظاهرة اعتزالية
لم يكن ابن الراوندي الشخص الوحيد الذي طردته جماعة الاعتزال بسبب انحرافه عن مبادئ “الأصول الخمسة” المؤسسة لمذهبهم الكلامي؛ فصرح الخياط بأنهم طردوا فضل الحذاء الحدثي (متوفى عام 257 هـ / 861 م) الذي كان “عالمًا في العقيدة اعتزاليًا”، فـ”اختلط وترك الحق ونفاه المعتزلة عنه، وطردوه عن جماعاتهم”، وفعلوا الشيء نفسه مع أبي عيسى الكاتب “عندما اعتنق الرهنية (= الغيوانية) ودعم نظرية الثنوية (= الأزلية للنور والظلام)، ونقل لهم الكتب التي تعزز مذاهبهم وتؤكد قولهم”.”شق طريقه.. الفلسفة انتكست عند أفراد طبقته من الحديثين”.

وتسجّل الأدبيات نزاعات الفرق الإسلامية وانشغالات أتباع التيارات والعصبيات أن المعتزلة اتجهوا نحو التباذل بالتكفير، وهو أمر شائع بينهم مما أدى إلى تكاثفهم وتشعُّبهم المتلاحق، حتى وصف الباحث في تاريخ الفرق عبد القاهر البغدادي (ت 429هـ/1039م) -في كتابه ‘تفرق بين التفارق‘- بوجود “عشرين جماعة كل جماعة منها يتهم باقي الجماعات” أي بقية جماعات المعتزلة الأخرى، ذلك مع التنويه من البغدادي بأن جماعات المعتزلة “اثنتان وعشرون جماعة اثنتان منها ليستا من جماعات الإسلام، وهما: الحايطية والحمارية”.

وقد أورد البغدادي نموذجا لـ”تكفير الشيوخ المعتزلة بعضهم بعضا” بالإشارة إلى إبراهيم النَّظَّام (ت 229هـ/844م)، إذ أبدى اندهاشه تجاهه “ذم تكفيره معظم الشيوخ المعتزلة، بمن فيهم أبو الهُذيْل” العلّاف (227هـ/842م) والجُبّائي.

احتفاءٌ مُغرِض
ومع انشغال ابن الراوندي وكبار شيوخه الثلاثة بالفصل من أصحاب التيار المستبعدين؛ فإنه من المناسب أن ننظر ماذا جرى لهؤلاء بعد انقطاعهم من التنظيم؟ هذا ما يُكشف عنه بمراجعة مسيرة ابن الراوندي -بعد خروجه من جنبات المعتزلة- مع الجماعات والأفكار والاتهامات، والمترجمين لسيرته وأعماله “الملعونة” و”الصالحة”.

يؤكد الإمام أبو الحسن الأشعري (324هـ/936م) -في كتابه ‘ثقافة الإسلاميين‘- أن ابن الراوندي وشيخه الوراق من “رجال الرافضة” وقد “كتبا لهم كتبا في الإمامة”. ويرسم لنا الخياط -بشفافية أكبر- سيرة ابن الراوندي بعد طرده من المعتزلة، والتحولات التي شهدتها رحلته الفكرية والعقائدية، وتأثير هذا الطرد على نفسيته؛ إذ يقول إنه “ظل مقّهورًا وحيدًا فدفعه الغضب الذي غمره إلى التوجه نحو الرافضة، حيث لم يجد جماعة من الأمة تقبله فقام بتأليف كتاب لهم في الإمامة، واقترب منهم بالكذب على المعتزلة”.

ويوضح نص الخياط هذا مدى انحراف الانتظام في سلك جماعة من جماعات ذلك الزمن الذي كان يتخلله تعدد المدارس والفئات، كما يظهر لنا -في نص آخر- تأثير أفكار ابن الراوندي “الخبيثة” على من حوله من الشباب؛ إذ يقول: “وكان هذا القول يُنقل من قبل الشخص الخبيث في آخر حياته بالمعتزلة، وتواطأت معه أحداث، فكلهم كشفوا إلحاده وبانت كفره”. وتقرير سجلات السير “أن ابن الراوندي كان متخبطًا في المذهب وغير ثابت في التبني حتى يتحول من حالٍ إلى حال”؛ وفق صفة المؤرخ صلاح الدين الصفدي (ت 764هـ/1363م) في كتابه ‘الوافي بالوفيات‘.

ويرجع مترجمو ابن الراوندي إلى أن هذا التردي المنظم لم يكن مُحدودًا بلوغ نقل الأفكار فقط إلى التأليف والتوزيع لمختلف الفئات وفق رغباته؛ فالصفدي يقول -نافيًا عن أبي العباس الطبري البغدادي المعروف باسم “ابن القاص” (ت 335هـ/947م)- إنه “ألف كتابًا لليهود بعنوان ‘الرؤية‘ كرد على الإسلام بمبلغ أربعمائة درهم -وفق ما وصلت إلي معلوماتي- أخذها من يهود سامَرَّا، ثم عندما استلم الأموال قرر نسبها حتى أعطوه مائتي درهم فتراجع عن نسبها”.

وفي ‘طبقات المعتزلة‘ لابن المرتضى (ت 840هـ/1436م) يُشير إلى أنه “ألف لليهود والنصارى والثنوية وأتباع التعطيل، وقيل إنه ألف كتابًا عن الإمامة للرافضة واستلم منهم ثلاثين دينارًا (= تعادل حوالي 6000 دولار أمريكي اليوم)”.

وبمعنى أن هذه الإثارة قد تكون سلاحًا في سوق المعارك التشويهية التي دارت بين المعتزلة وابن الراوندي، والتي تضمنت بعضها ما ذكره الإمام ابن حزم الظاهري الأندلسي (ت 456هـ/1065م) -في كتابه ‘حبة الحمامة‘- قائلا: “ولقد ذكر أبو الحسين أحمد بن يحيى بن إسحق الراوندي -في كتاب ‘المصطلح والإصلاح‘- أن إبراهيم بن سيار النَّظَّام (ت نحو 227هـ/842م) تولى زعامة المعتزلة -رغم ارتفاع مستواهم الكلامي واحتكامهم واستيلائهم على المعرفة- أدى إلى تحريف الأصول في عقل شاب نصراني أعجب به، من خلال تأليفه كتابًا يُرجح فيه التثليث على التوحيد؛ ليرشده! حفظك الله من تدخل الشيطان وبالك وقع الهزيمة”!!

وبشأن المواقف العقلانية والآراء الحديثية الخاصة بابن الراوندي؛ يشير المؤرخ ابن خلّكان (ت 681هـ/1262م) -في ‘وفيات الكبار‘- إلى أن ابن الراوندي “ابتكر معتقدات نقلها أصحاب علم الكلام عنه في كتبهم”.

ونجد نحو عشرين من هذه المعتقدات في ‘ثقافة الإسلاميين‘ للأشعري، وتتعلق باستمراره مع المرجئة في تعريف الإيمان، وادّعاؤه “أن السجود للشمس لا يُعتبر كفرًا إنما إشارة إلى الكفر”، وعدم قدرة عُصاة أهل القبلة على البقاء في النار، ومظاهر كلامية أخرى من بينها اتصال بعلم الله، وتعريف “القدرة” و”الإنسان”، ومنهجه في القرآن الكريم الذي يُفترض بأن “الله عز وجل خلقه ليس من جسم ولا طول”.

ويقول مؤرخ الأفكار المصري أحمد أمين (ت 1374هـ/1954م)- في “ظهر الإسلام” – إن أبو بكر البغدادي وأبو الفتح الشهرستاني (ت 548هـ/1153م) وغيرهم من كتاب كتب الطوائف والمذاهب استفادوا من ما كتبه ابن الراوندي عن الفرق الإسلامية، فنسبوا لهم أقوالهم دون تحقيق مما أثار انزعاجهم عليهم.

واستحضار الجدل الحاد بين المعتزلة والأشاعرة في ذلك الوقت يوضح سبب تأييد الأشاعرة لما يلوث سمعة المعتزلة. ومن الممكن أن تكون اهتمامات الأشعري الكبير بإقوال ابن الراوندي ورواياته لآراء أهل الاعتزال ناتجة عن توحدهما في مواجهة “جماعتهما الأولى” قبل خروجهما عنها.

النقل أم التشويه؟
وبناءً على ضرورة احترس فيما يتعلق بأقوال ومعتقدات شيوخ الاعتزال التي يُنسب إليهم ابن الراوندي، يشير الخياط -مناصراً جماعته- إلى أن “المعتزلة قد هاجموا هذا المفتن باستهدافهم للملحدين وتفريقهم وضع كتبهم عليهم. لذا أراد أن يُكذب عليهم ويضللهم بما ليس من قولهم، ويشينهم بما لم يقولوه، ليضل الجهال وغير المطّلعين على حقيقة القول إلى أن أقوالهم شنيعة ومعتقداتهم فاسدة”.

وقد حذر الخياط في عدد من مواضع جهده في الدفاع عن شيوخ الاعتزال من نوايا ابن الراوندي في نسب الأقوال الشنيعة إليهم لتشويه سمعتهم. وقد كانت فاقته في الإنكار لهذه الادعاءات مستمرة حتى توجه إليه بقوله: “لقد ازداد كذبك على المعتزلة في هذا الكتاب، حتى يجب أن يُكتب على غلافه: كذب صاحب الكتاب فيما حكاه عن المعتزلة”.

وأورد الخياط المعتزلي مبدأً منهجياً مهماً في نقل مذاهب العلماء وأقوال الطوائف؛ حيث أقر بأن “يمكن معرفة قول الإنسان فقط من تحدث أصحابه عنه أو من كتبه”، حتى في حالة نقل الناقل بدون نية التدليس. وحسب تفسير ابن تيمية في “منهاج السنة”، فهذا يأتي لأن العديد “من الناقلين لا يقصدون الكذب، ولكن معرفتهم بأسرار أقوال الناس -بدون نقل النَّصوص الأصلية وما فيها- قد يكون صعباً على بعضهم ويعقد على آخرين”.

وهذه النهجية الأساسية لا يمكن للمنصف أن يقرأ كتب تناول مزايا وعيوب المذاهب والطوائف من دون تذكرها وتطبيقها، وذلك بسبب الظروف القائمة في زمن كتابتها التي شهدت انتقاداً شديداً لتعصب الموالي واستهداف المعارضين، كما تظهر كلمتا “فضائل” و”عيوب” في تلك العناوين الرئيسية والفرعية؛ حيث يراه البعض أن ابن الراوندي كتب “عار المعتزلة” رداً على كتاب “فضيلة المعتزلة” للجاحظ (ت 255هـ/869م). وهذا الأمر دفع أبا القاسم عبد الله بن أحمد البلخي (ت 319هـ/931م) -تلميذ الخياط المعتزلي- لكتابة كتابه “حيث كتب ضده انتقاداً للجاحظ”، كما ذكره ابن تيمية في “منهاج السنة”.

وتساعد هذه النهجية التيمية في استقراء قضية ابن الراوندي والاتهامات بالكفر والإلحاد الموجهة إليه، والمضادة التي وجهها هو لخصومه بتشويه سمعتهم وزجَّ بأخطائهم. وذكر الخياط المعتزلي أن ابن الراوندي كان يعترف بنفسه باعتناق الإلحاد! وفيما بعد، اتُّهم بالزندقة والإلحاد من قبل خصومه، مما جعله “ينطلق” عما كان عليه سابقًا، كما ورد في “الفهرس”، كما ذكر ابن حجر في “لسان الميزان”، وتعتذر عن ذلك الإشارة قائلًا: “تم ذكره من أجل اللعنة”.

ومن الواضح أن اتهام ابن الراوندي بالإلحاد والزندقة كان موضوعًا متفقًا عليه بين الفرق المختلفة على الرغم من اختلافات طوائفها: المعتزلة والحنابلة والأشاعرة والظاهرية والشيعة الإمامية والإسماعيلية. فابن عماد الحنبلي (ت 1089هـ/1678م) وصفه في “شذرات الذهب” بأنه “ملحد ألعنه الله”، وذكر الشيعي الميرزا محمد باقر الموسوي الخوانساري (ت 1313هـ/1895م) في “روضات الجنات” أنه كان يُتهم عامةً بالزندقة والإلحاد. وكان انتقاده لكل هذه الفروع هو السبب في الاتهام الجماعي بالإلحاد، حيث كانت بعض الجماعات تعتبر أي تحرك ضد معتقداتها “إلحادًا”.

وعلى الرغم مما يُلقى على ابن الراوندي من اتهامات بالإلحاد من قبل هذه الطوائف المتنوعة؛ إلا أن هناك رواية تقول إن ابن الراوندي دافع عن نفسه وأنكر هذا الاتهام البغيض.بسبب التفاعل مع أعدائها يُظهر ابن الراوندي نهجًا فلسفيًا تحقيقيًا صافًا؛ إذ ذكر في ‘الوافي بالوفيات‘ للمؤرخ الصفدي: “أدلى القاضي أبو علي التنوخي (ت 384هـ/995م) بأن أبو الحسين ابن الراوندي كان يتبع أهل الإلحاد، فإذا انتقده في ذلك قال: إنما يكون رغبت في معرفة معتقداتهم”.

سُخط وهذيان
يُفصّل الخياط بشكل يُثير الدهشة أن ابن الراوندي تلقى الإلحاد عن “أستاذه وراثته الأولى، سلف الفساد” أبي عيسى الوراق، الذي جره “من عزّ الانعزال إلى ذلّ الكفر والإلحاد”، ويشير الخياط في مناطق مختلفة إلى أن غضب ابن الراوندي من المعتزلة دفعه نحو الإلحاد.

مترجمو ابن الراوندي تنوّعوا في تحديد سبب إلحاده، وتضاربت آراؤهم بشدة؛ حيث اهتم مصنفو المعتزلة -الذين جاءوا بعد الخياط- بالمبرر النفسي لهذا الإلحاد، إذ اعترف النديم “أنه انزوى نحو ذلك بسبب انقلاب أصدقائه عليه وإبعادهم عنه”، وأدلى ابن المرتضى بقوله: “وانقسموا حول سبب إلحاده فقيل: حقدهم عليه، وقيل: رغبته في كرسي لم تحصل عليه فتمرّد وألقى الإيمان، فوضع هذه الكتب للإلحاد”.

قصائد الرجل تفيد بأن سعيه وراء الجاه هو ما ألهمه بهذا “الإلحاد” مع قلقه الدائم، وربما توحي هاتان البيتان -اللذان تنسبهما إليه مصادر أدبية وتاريخية متعددة- بأنه يُعاني من “ضيق المطاردة والتقدم”؛ وفقًا لمفهوم آلان دو بوتون. والبيتان هما:
كمْ عَاقلٍ عاقلٍ أعيتْ وُجوهُه ** ومُتعلمٍ جاهلٍ تطلبوهُ
هذا الذي ترك الأوهامَ مُتحيرةً ** وجعل الفعّال العارف زنديقا

لا يصف الخياط ابن الراوندي إلّا بـ”المُتهور الغبي”، وينوه بانحرافه السردي بما يقول: “فعلى سبيل المثال، المُتهور الغبي أدى إلى ما أورد ثمامة [ابن أشرس]، وانتقده الناس لكنه لم يتخلّ عنه حتى دمّره الله بعقوبة قاسية، ولو لم أحمي هذا الكتاب عن ذِكره لأشاركته”.

قبل ابن الراوندي؛ انشهرت جماعة من الزنادقة والمتكبرين باسم “طبقة المُجدّلين”، وقد عده أبو حيان التوحيدي (ت بعد 400هـ/1010م) ابن الراوندي ضمنهم في كتابه ‘الإمتاع والمؤانستان‘، فوضعه من ضمن الذين “زَلزلوا إلى أوهام الارتكاب، واستمثروا عن جهلهم أصحاب الجرأة والتفاخر”. وهذا عندما يشير إلى “فرق زمانية مُلحدين دخلوا مجال الاجتدال والجهل، ولجأوا إلى الفوضى بالتعصب”.

ويدعم اهتمام ابن الراوندي بـ”الهذيان” حتى درجت أنه شجع على سماع الموسيقى؛ إذ ذكر المعتزلي جار الله الزمخشري (ت 538هـ/1143م) -في ‘ربيع الأبرار‘- قوله: “انشغل الناس بالموسيقى فأحلها قوم وحرمها آخرون، وأنا على زاوية التحاورين فأوجبتها”. ويشير الخياط إلى أن خُطَة ابن الراوندي لمُهاجمة الدين تأخذ منحى تنازُلي؛ إذ “كتب العديد من الكتب لتثبيت الإلحاد، ونفي التوحيد، وإنكار الرسالة، والسب على الأنبياء عليهم السلام، والأئمة المهديين”، ولكن الخياط -في ورده عليه- تركز على نقده لأئمة المعتزلة.

أسفل كتب
يذكر ابن الجوزي أنه سمع بـ”العظائم” عن ابن الراوندي حتى شاهد “ما لم يفكر فيه عقل منطقي أن يقوله”، وورد أنه استعرض عددًا من كتبه فأطلق عليها أسماء كالعشرة، ونقل أقوالًا “مثيرة” من تلك الكتب، حيث من كتاب ‘الزمرد‘ نقل حديث: “نشاهد في كلام أكثم بن صيفي (التميمي الأكثر شهرة بين حكام الجاهلية) أفضلَ من {إِنَّا أَعْطَيناكَ الْكَوْثَرَ}”، وقال عن حديث عمّار بن ياسر (ت 37هـ/658م) «سيحاربك جماعة ظالمة» أن “المُنبِّء يقول مثل هذا”.

وذُكر عليه زعمه بتناقض في القرآن بين قوله تعالى {وَما تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُها} وقوله تعالى {وَما جَعَلْنا الْقِبلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْها إِلا لِنَعْلَمَ..}، وإثارته الانتقادية لقوله تعالى {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً}، بقوله “أي تضعيف له في حين أطلق آدم وأولاده؟!”.

وذكر ابن خلّكان أن ابن الراوندي لديه حوالي 114 كتابًا، وأما صاحب ‘الفهرست‘ فقد تقسم كتبه إلى فترتين: “فترة الاصلاح” وفترة “الكتب الرديئة”؛ وأوردفي كل مرحلة تسميات طرقة من كتبه. ومن علامات اختلاله النفسي أنه يستنكر نفسه، ويفسد كتبه بيده وعقله؛ فعند الحديث عن مجمل كتبه تجد عبارة الحزن: “وتدميره ابن الراوندي على نفسه”.

وقام أبو علي الجبائي المعتزل -بحسب ما نقله عنه ابن كثير (ت 774هـ/1373م) في “البداية والنهاية”- بوصف كتاب لابن الراوندي بأنه ليس به إلا “الغباء والكذب والافتراء”، واتهمه بأنه “كتب كتابا ينكر فيه على الدنيا وينفي الخالق ويصحح عقيدة الدهرية، ويعترض على أتباع التوحيد، ويكتب كتابا لمهاجمة محمد صلى الله عليه وسلم”. ثم أضاف ابن كثير قائلاً: “وهو أضعف وأقبح وأذل من أن يُأخذ به وبجهله وحديثه وهذرته وجهالته وتلبيسه”.

وبالرغم من وصف الجبائي هذا ودعم ابن كثير له؛ فإن الردود لا تزال تتوالى على كتب “تفاهات وجهالات” ابن الراوندي، وخاصة من قادة الانفصال؛ حيث رد الجبائي على أغلب “كتبه النكراء”، وكذلك أبو الخياط في “الانتصار”، وهناك نقاد آخرون وردود كثيرة مبعثرة في كتب الفرق في انتقاد آراءه والرد عليها.

ولم تنحصر الردود عليه بين المعتزلة ولا بين العراقيين؛ بل انتقد كتبه وأقواله “الإلحادية” الحنابلة والإسماعيلية وزهرة الأندلس وأدباء القيروان بتونس؛ حيث رد عليه ابن عقيل الحنبلي (ت 513هـ/1124م) وابن الجوزي وابن تيمية في مختلف كتبهم. وقام ابن حزم الواحة الأندلسي (456هـ/1065م) بتأليف كتاب بعنوان: “الترشيد في الرد على كتاب الفريد” لابن الراوندي في عرضه على النبوات”.

ويخبرنا الذهبي -في “السير”- بأن ابن عبدون الفهري الأندلسي (ت 529هـ/1135م) قد قام بتأليف “قصيدة [من] إحدى عشر ألف بيت في الرد على المارق البغدادي”، حيث كان يقصد ابن الراوندي. ومن بين الردود الأساسية التي احتفظت بها مخطوطات من كتاب “الزمرد” لابن الراوندي كتاب “المجالس المؤيدية” للمؤيد في الدين هبة الله الشيرازي (ت 470هـ/1077م)، وهو “ناشط الدعوة” الإسماعيلي في فترة الخليفة المستنصر بالله (ت 487هـ/1095م).

رفاق وأفكار
يحكي الذهبي -في ترجمته للتوحيدي من كتابه “تاريخ الإسلام”- عن ابن الجوزي قوله: “مرتدي الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي، وأبو حيان التوحيدي، وأبو العلاء المعري. وأشدهم على الإسلام أبو حيان، لأنهما صرحا وهو مجمجم ولم يصرح”. وقال أبو علي الأهوازي (ت 446هـ/1055م) في كتابه “مثالب ابن أبي بشر”: “رجلان كانا من المعتزلة خرجا من المذهب فألحدا: ابن الراوندي والأشعري”؛ فما رأي هؤلاء الثلاثة “الملحدين” في ابن الراوندي؟

كتب الأشعري عدة ردود على ابن الراوندي، ولذلك فاجأ أتباعه من تسمية الأهوازي له بالإلحاد وتشبيهه بابن الراوندي؛ حيث قال ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) في “تبيين كذب المفتري فيما نُسِبَ إلى الإمام أبي الحسن الأشعري”: “حيث أن مقارنتهما بالإلحاد غير صحيحة عندي، لأنني ذكرت تسمية ما هاجمه أبو الحسن من تأليفاته، وبينت من كثيرة أقواله في كتبه ومؤلفاته؛ فكيف يرتبط بينهما بالإلحاد رغم وجود الاختلاف والمنازعات بينهما؟”.

ويزيدنا ابن عساكر في هذا الشأن علما مهما حول نظرة المعتزلة للذين خرجوا عن تنظيمهم؛ حيث يقول إن مقالة الأهوازي المحددة “تنبئ عنه أنه كان من المؤمنين بالاعتزال لأنه جعل الانحراف عن مبادئ أهل الاعتزال إلحادًا، ولقد قدم هذا القدر من تقديره فسادًا”. وعلى الرغم مما سبق عن ابن الراوندي من أقوال مثيرة للجدل إذا انسبت إليه، وردود أبي الحسن الأشعري عليه؛ فإن الأخير جعل ابن الراوندي “مسلمًا خاشعًا رائدًا” كما يستنتج من ذكره له ولآرائه اللسانية في كتابه “مقالات الإسلاميين”؛ وهكذا فإن الإشارة إليهما.

أما التوحيدي فقد زندق ابن الراوندي في الإبداع والتأليف، كما سبق؛ إلا أنه أشاد -في كتابه “البصائر والذخائر”- بانتقائه للنحاة كالت�
حديات، واعتبره من “المسلمين والمحامين والن�
قلاء، لأنه متكلم ماهر، وفيلسوف نقد، وباحث ح�
جاج ومفكر طويل الأمد”. لكن التوحيدي ذ�
كر في موضع آخر من الكتاب تحدي ابن الب�
ال الشاعر البغدادي للقرآن واعتبره أنه “كان على ف�
قه ابن الراوندي”، رغم أنه أشار -في كتاب�
“أخلاق الوزراء”- إلى ابن الب�
ال هذا ضمن “فئة كريمة تتَّبع الأخلاق الحسن�
ة”. ويدل هذا التباين في الحكم على أن التوحيدي �
يثني على قدرة ابن الراوندي الحجاجية واللسان�
ية على الرغم من انتقاده لاتجاهه الديني.

كان المعري (445هـ/1054م) أكثر رفاق الاتهام اهتمامًا بابن الراوندي؛ حيث ناقشهبكل تفصيل وسخرية واستهزاء في ‘رسالة الغفران‘، واستنكر من يدعو نفسه كـ “الملعون” بشكل شديد، يسخر بوحوح ونقد حاد من كتبه؛ على سبيل المثال، يقول عن كتابه ‘الفريد‘ أنه “فردي من جميع الأصدقاء، وغطّاه بثوب الذل المنخور إلى الأبد”، وبخصوص كتاب ‘الدامغ‘ يقول: “لا يستذله ولا يتقهقره إلا من خَطَّه، وبسوء الحكمة تبعه..؛ [وقد] يظهر من وضعه ضعف الفكر”.

وأضاف الأديب المصري مصطفى صادق الرافعي (ت 1356هـ/1937م) تعليقًا ممتعًا حول مناقشة المعري لابن الراوندي؛ حيث قال -في كتابه ‘تاريخ آداب العرب‘- أنه “قدم الرجل حسابه عليها، ونبذ كتبه بشدة بمقدار دلو من الشعر! وبعيدًا عن شعر المعري الذي يلعن باللفظ أولاً قبل أن يلعن بالمعنى”.

دفاع متواضع
لاحظ تاريخيًا أن رفاق ابن الراوندي في اتهامهم بالزندقة والإلحاد – مثل الحسين بن منصور الحلاج (ت 309هـ/922م) والتوحيدي والمعري- وجدوا من يجدون لهم دفاعًا؛ إذ كُتبت أبحاث وفصول لتبريرهم من اتهامات الإلحاد والزندقة، قام بها علماء ومحققون كبار؛ كابن عساكر في دفاعه عن الأشعري؛ وتاج الدين السبكي (ت 771هـ/1370م) في تبرير التوحيدي؛ وعبد العزيز الميمني الراجكوتي (ت 1398هـ/1978م) وأبو فهر محمود محمد شاكر (ت 1418هـ/1997م) في دعم المعري.

ولم يحصل ابن الراوندي على تأييد قديم سوى دفاع الشريف المرتضى (ت 436هـ/1045م) الذي رأى –في كتابه ‘الشافي في الإمامة‘- أن ابن الراوندي “قام بـ كتبه التي انتقدها بها معارضًة للمعتزلة وتحدًّا لهم. لأن الناس كانوا يُسيئون إلى علاقته ويستقلقون فهمه؛ فحملته هذه الأعمال على إظهار ضعفهم في نقدها، وانتقادهم عليه بدون فهم حقيقي، وكان يُنفي عن نفسه هذه الأعمال ظاهريًا، ويجعلها غير قصده، ويضمها إلى أعمال آخرين”.

المرتضى يرى أنه من العدالة أن “يتوقف الجاحظ عن شتم الصحابة والأئمة والإدلاء عليهم بالضلال، ويتنحى عن الدين بطرده كلامه بسهولة، فلتزال الاتهامات عن ابن الراوندي باستثناء ذلك”. وكان ابن الخياط في دفاعه مُحترسًا لهذا الانتقال الذي فتحه المرتضى، فقال إن ابن الراوندي “حاسد تجاه أنبياء الله ورسله، يُريد مهاجمتهم وانتقادهم بأفواه غيرهم”.

أما العالم الشافعي والقاضي الأعظم المؤرخ ابن خلّكان فوصف ابن الراوندي بأنه “العالم البارز.. في فترته”، ولم يشير إلى اتهامه بالزندقة والإلحاد على الرغم من الإشارة إلى بعض كتبه “الملعونة”. وتجاهله ذلك أثار استياء ابن كثير؛ فعلق قائلاً إنه “تجنب التعليق عليه ولم يحاسبه بأي شيء.. على عادته في علاقته بالعلماء والشعراء؛ حيث يُطول في تراجمهم، ويقدم لهم تقديم مخطط، ويتجاهل تكريم زنادقتهم”!

توبة أو رهبة؟
من بين “التكتيكات السوداء” في فترة ابن الراوندي أن بعض كتاب ‘مثالب المذاهب‘ يقومون بتشويه خصومهم عبر الاتهام بالتنتساب إلى أصول غير إسلامية، على سبيل المثال الأهوازي مع أبي الحسن الأشعري. وفي سير ابن الراوندي نجد اصرارًا من كتّابها على ذكر انضمامه إلى شخص يهودي، على الرغم من أن بعض النُسخ من ‘الفهرست‘ للنديم تشير إلى أن اسم جديه “محمد”.

بل تتجاوز التراجم ذلك إلى المزيد حيث تصوّر “عائلة الراوندي” وكأنها جماعة تعارض النصوص السماوية؛ فالابن كتب ‘الدامغ‘ ليظهر أن القرآن متضاد؛ ووُرد عنه الذهبي –في ‘سير أعلام النبلاء‘- أنه قال: “في القرآن لَحْنٌ”. وأبوه يدّعي اليهود بأنه عدّل توراتهم، ويُنصح المسلمين باليقظة من ابنه حتى لا يفسد عليهم القرآن؛ فأشار الصفدي إلى أن “والده كان يهوديًا ثم أسلم، وكان بعض اليهود ينصح المسلمين بحذر هذا الشخص لئلا يُفسد عليهم القرآن؛ لقد تقدم بهراء إلى أنه “ابن الخياط في انتصاره معتمدًا على هذا الاتهام الذي طرحه المرتضى، فأكد أن ابن الراوندي “يغضب على أنبياء الله ورسله، يريد بها شتمهم وتقليل مكانتهم بأفواه الآخرين”.

أما العالم الشافعي وقاضي القضاة المدون ابن خلّكان فقد وصف ابن الراوندي بأنه “العالم البارز.. في عهده”، ولم يشير إلى زندقته وإلحاده على الرغم من الإشارة إلى بعض كتبه “الملعونة”. وتجاهل هذا أثار انزعاج ابن كثير؛ فعلّق قائلاً إنه “تهرب من انتقاده ولم يُنتقده بشيء.. على عادته في التعامل مع العلماء والشعراء؛ حيث يُطوّل في التعريف بهم، ويقدم لهم تعريفًا مختصرًا، ويتجاهل تجريح مشكلتهم”!

توبة أم رهبة؟
من ضمن “استراتيجيات الدعاية السوداء” في عهد ابن الراوندي أن بعض مؤلفي كتب “مثالب المذاهب” يُتّهمون خصومهم بانتمائهم إلى أصول غير إسلامية، كما فعل الأهوازي مع أبي الحسن الأشعري. وفي سيرة ابن الراوندي نرى تصريحًا من كتّابها على توثيق تعاونه مع رجل يهودي، على الرغم من أن بعض النسخ من ‘الفهرست‘ للنديم تشير إلى أن جدّه كان يدعى “محمد”.

ويتعمق التاريخ في ذلك أكثر، حيث يقدم “عائلة الراوندي” على أنهم جماعة تتعارض مع النصوص السماوية؛ فالابن يقوم بكتابة ‘الدامغ‘ ليُظهر تناقضات القرآن، ويُقال عنه – حسب ما ذكره الذهبي – قوله: “في القرآن لَحْنٌ”. ووالده يزعم اليهود أنه خرّف توراتهم، ويحذر المسلمين من ابنه حتى لا يُفسد عليهم القرآن؛ فذكر الصفدي أن “والده كان يهوديًا وبعد اعتنق الإسلام، وكانت بعض الشائعات تقول إنه “ابن الخياط في انتصاره متأهبًا لهذه الوقائع التي فتحها المرتضى، حيث قال إن ابن الراوندي “مُتقبل لشتم أنبياء الله ورسله، مُنويًا تجريحهم وانتقادهم عبر لسان شخص آخر”.

وأما الفقيه الشافعي ورمز القضاة المحترف ابن خلّكان، فوصف ابن الراوندي بأنه “العالم المعروف.. في زمانه”، ولم يتطرق لزندقته وإلحاده رغم الإشارة إلى بعض كتبه “الملعونة”. وتجاهله لهذا الأمر أثار غضب ابن كثير؛ فعلّق قائلا إنه “تجنب استنكاره ولم يحذره بأي شيء.. حسب تقديمه للعلماء والشعراء؛ فالشعراء تكثر تفاصيل تاريخهم، والعلماء يتحجج بعرض نبذة عنهم، والزنادقة يتجنب تذكيره بتشجيعهم لمشاريعهم الهرطقة”!
نجاة ابن الراوندي من عقاب الحاكم رغم الرهبة التي أظهرها؛ فيقول: “لا أدري كيف نجا!!”. ويرى لنا الخياط أن الحاكم (لم يُسم ذلك الحاكم وتعسف تحديده نظرًا لاختلاف كبير في تواريخ وفاة ابن الراوندي) طلبه، وأظهر الندم خوفًا من الفأس؛ يعلن: “وقد ألَّف هذا العالم كتابًا في معتقد الوحدانية يتزين به أمام الأتباع لحماية نفسه، ووضعت الجنود في مطالبته”.

وفي تأكيد لمظهر وراء المعتزلة بمعارضيهم إلى الحاكم في نمط داخلي من عيب التحيز الديني؛ يتحفنا الخياط بمعلومة حين يقول أن المعتزلة وصلت من قوتها على ابن حائط –الذي كان من أتباع المعتزلة- إلى أن “أعلمت [الخليفة العباسي] بزيغه، فأمر [القاضيَّ] ابنَ أبي دُؤاد بفحص شأنه، وبتطبيق عقوبة الله فيه، فمات لعنه الله في هذه اللحظة”.

وروي عن أبي علي الجبائي أن الحاكم طلب ابن الراوندي وشيخه الكاتب؛ “فبالنسبة للكاتب تمّ احتجازه حتى وافاته..، واختفى ابن الراوندي عند ابن لاوي اليهودي، فكتب له مخطوطة ‘الدامغ‘”؛ وفقًا للصفدي. وذكر الحكيم أن أكبر “مؤلفات الكفر التي نشرها كتبت لأبي عيسى ابن لاوي اليهودي الأهوازي، وتوفي في منزل هذا الشخص”. وفي حكاية ابن المرتضى أنه عندما “بزغ منه ما ابتزغ، جاء المعتزلة لمعاقبته، ولجأوا للحاكم لقتله، فهرب وانتقل لمقر إقامة يهودي في الكوفة، وقيل توفي في منزله”. واغلب المراجع تأكد ان ابن الراوندي تَوَفّي سنة 298هـ/912م.

تلك بالتالي كانت ملامح شخصية زاحفة إلى تنظيم عقلي ثم فصلت عنه، فاتهمها أتباعه بالفجور والخروج عن العقيدة، فردت عليهم بالزجر وفي الحالات؛ في سياق تأسره نفس الشغف بـ”أخطاء الخصوم” و”مزايا الأصدقاء”. وهذا ما ينبغي أن يُميز فيه تلك الاتهامات بناء على العدل مع الخصم والرحمة بالمنشق، ولو اتخذنا نصيحة الخياط –وهو الخصم الأليم لابن الراوندي- لوجدنا الصمت كنزًا؛ فقد قال: “وحينما ترى الناس يتهمون بعضهم بأقوال قبيحة يجب عليك الصمت”!!

المصدر : الجزيرة



أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Exit mobile version