أبطال مجهولون في الخرطوم.. السودان على حافة الأمل
24/12/2024
يوم السبت، الخامس عشر من أبريل/ نيسان 2023، الساعة التاسعة والنصف صباحًا، كنت في طريقي إلى خرطوم 2 – مكان عملي – برفقة صديق أقلني من منزلي في الخرطوم بحري، بحلة خوجلي. لم يكن الطريق مزدحمًا، إذ كانت عطلة رسمية. على الرغم من ذلك، كانت الصحف تواصل العمل بلا توقف، فمهنة الصحافة لا تعرف الراحة.
مرّت أربعون عامًا أو أكثر، تغيّرت خلالها الكثير من الأمور، شهدت حروبًا جديدة وصراعات سياسية وانقلابات عسكرية، وبدت الأمور وكأنها كابوس لا ينتهي.
عبرنا كوبري النيل الأزرق بسلاسة، كل شيء كان هادئًا. مشاهد قليلة تخطف الأنظار على الطريق، حيث يتجه البعض إلى السوق العربي الذي يعتبر مركز الحياة اليومية في العاصمة. تعرف الخرطوم بالمثلث بسبب مدنها الثلاث: الخرطوم، الخرطوم بحري، وأم درمان. كانت تلك المدينة ذات حجم صغير وهدوء.
خلال تلك الفترة، شهدنا حدثًا مهمًا وهو اتفاق السلام في 3 مارس 1972 الذي أنهى الحرب بين الشمال والجنوب. وقتها، كنا نرى القائد جوزيف لاقو في الخرطوم وصمت البنادق.
الخرطوم في الليل كانت مدينة مفعمة بالثقافة والإضاءة، وكانت الأصوات بعيدة عن الضجيج، أما اليوم فكل شيء تبدل. ما من أحد كان يدرك أن ذلك السبت في أبريل 2023 سيحول السودان إلى مسرح من الألم والدمار.
كنا تحت مرمى المدفعية وطلقات الطائرات، تهتز الأرض وتصدر أصوات القصف، بينما كانت البيوت القديمة من الطين تسجل مشاعر الخوف والوهن.
رصاصة في الصباح
عند التاسعة والنصف صباحًا، سمعنا أصوات الرصاص. المركبات بدأت تتجنب الاتجاه صوب الخرطوم بحري مستغلة أي فرصة للنجاة. لكننا، كما الكثيرين، واصلنا طريقنا. ومع تزايد الأصوات، تغيّر المشهد وتحولت الأجواء إلى حالة من الفوضى. بعد أيام، كنا عالقين في جحيم لا يوصف.
توجهت إلى منزلي في حي “حلة خوجلي” في الخرطوم بحري، الذي يطل على نهر النيل، والذي اقترن اسمه بشخصية تاريخية عاشت قبل 300 سنة. هنا، أعيش مع عائلتي في بيئة تتميز بحبها للفرح.
في الجوار، معسكر كبير لقوات الدعم السريع، وتحت القصف والغارات، كانت مدينتنا صغيرة وتحتفظ بجمال مؤسساتها الاجتماعية على الرغم من الفقر.
لا أنسى صراخ تلك الطفلة الذي سمعناه عبر شاشة التلفاز بعد يومين من اندلاع الحرب، مناشدةً البرهان وحميدتي أن يوقفوا هذا القتال ليتمكن الجميع من العودة إلى المدرسة.
تحت الشجرة
توقفت حالة الفوضى لفترة قصيرة بعد الثامنة من صباح 19 أبريل،…
في لحظة نادرة للخروج من منازلنا، اجتمعنا تحت شجرة نُسميها “النادي”. كنا ثمانية أشخاص: عبد الحميد والزنجي ووليد وأحمد، أعضاء لجان المقاومة والتغيير والخدمات في الحي، بالإضافة إلى سيف الإعلامي الرياضي، ونادر صاحب الدكان، وأنا. ناقشنا خلال هذا الاجتماع الأوضاع الحالية، وأعددنا المهام، وتناولنا مختلف السيناريوهات.
تأمين المياه والغذاء
تعرضت محطة المياه الرئيسية للقصف في اليوم الأول من الحرب، مما جعل الوضع أكثر صعوبة. قمنا بجمع بعض الوقود (الجازولين) من أجل عربة النقل المملوكة لأسرة أحمد لنقل المياه من النيل، بالإضافة إلى عربتين أخريين وبعض (الدرداقات) التي يستخدمها سيف وشباب آخرون لجلب المياه. كانت البيوت تعج بالأطفال وكبار السن والنساء الذين لا يمكنهم تحمل العطش.
تواصلنا مع صاحب المخبز، سدرة، المقيم في أم درمان، وطلبنا منه فتح المخزن للحصول على بعض دقيق القمح لتوزيعه على سكان الحي. وافق على الفور وأخبرنا بأن نأخذ كل ما هو موجود. بالفعل تم توزيع الدقيق على جميع سكان الحي.
انقطاع الكهرباء وتزايد المعارك
بعد أسبوعين، انقطعت الكهرباء، وأصبح الحي معزولًا عن العالم. حتى بطارية عربة علي، التي خصصناها لشحن الهواتف، نفدت. واشتدت المعارك، حيث سقطت قذائف على منزل وسط الحي، والذي كان لحسن حظ السكان خاليًا في تلك اللحظة. كما تعرض سوق فور للقصف من طائرة حربية، مما أسفر عن مقتل أكثر من 30 شخصًا، بالإضافة إلى مقتل محمد، خفير المزرعة، أثناء استلقائه في فراشه.
إجلاء الضعفاء إلى مناطق آمنة
في ظل خطورة الأوضاع، اقترحنا نقل النساء والأطفال وكبار السن إلى مناطق أكثر أمانًا. حصلنا على كمية قليلة من الوقود تكفي لإنجاح هذه المهمة. انتقلت معظم الأسر إلى الحاج يوسف والدروشاب، حيث كانت تلك المناطق تعتبر آمنة. رحل اللاجئون الإثيوبيون المقيمون في الحي بدموع في أعينهم إلى القلابات على الحدود السودانية الإثيوبية.
بقي الشباب في الحي لتوفير الماء والطعام لبعض الأسر التي رفضت المغادرة، مثل أسرة بيومي، وأسرة عصام، وعائلات أخرى قريبة من مسجد الشيخ خوجلي. كان الماء يُجلب من النهر، والطعام القليل يُطبخ في التكية تحت الشجرة، وغالبًا ما كان فولًا أو عدسًا، حيث استخدموا الأغصان الجافة كوقود للطبخ.تواصلت تبرعات أهل الحي داخل وخارج السودان لضمان استمرار وجود الطعام.
الأمل تحت نيران الحرب
استمرت التكية في العمل، حيث أنقذت من تبقى من السكان من الجوع. في ظل دوي المدافع، كان هؤلاء الشباب يذهبون إلى النهر لجلب المياه وتوزيعها على المنازل القليلة المأهولة. وكانوا يستغلون لحظات توقف القتال للتجارة في سوق الدناقلة، حيث لا يزال بعض الناس يبيعون السلع الأساسية لتوفير مستلزمات المطبخ العمومي. رغم عزلتهم، بقي الجميع ملتزمين بتلبية الواجب والحفاظ على قيم الوطن كمجموعة من لجان التغيير والخدمات.
لمحة من الخارج
في وقت لاحق، اضطررت لمغادرة الحي للسفر خارج الخرطوم لاستكمال علاج زوجتي. في صباح أحد الأيام، اتصل بي وليد دراج يسأل عن حالتها. أخبرني بأنهم وجدوا وسيلة لشحن الهواتف والاتصال بالشبكة مرة واحدة في الأسبوع من مكان بعيد. وعندما سألته عن أوضاعهم، أجاب: “لا تقلق، نحن بخير، لأننا نتطلع إلى غدٍ أفضل، ونعيش على أمل السلام واستعادة الحياة الطبيعية. نرى هذا الأمل في عيون الأطفال والأمهات وهن يبتسمن لنا”.
تذكر وليد أيضًا القطة الصغيرة التي كانت مختبئة في زاوية البيت والتي عادت للعب معه، وكأنها تأمل في نهاية الحرب.
صرخة من آلام الأطفال
لا يمكنني أن أنسى صراخ تلك الطفلة المختلط بالألم، والذي نقلته قناة تلفزيونية بعد يومين من اندلاع الحرب، قبل انقطاع الكهرباء، حيث وجهت نداءً للبرهان وحميدتي قائلة: “أوقفوا هذه الحرب، دعوني أذهب إلى المدرسة وأمتحن، فأنا أريد الذهاب إلى المدرسة المتوسطة”.
ليتهم سمعوا صراخها. لكن يبقى السودان على حافة الأمل.