يوم 28 سبتمبر 1970 توفي الرئيس المصري جمال عبد الناصر في خضمّ الصّراع المسلح في الأردن مع المنظمات الفدائية الفلسطينية، فيما عُرف بـ«أيلول الأسود». وأدَّى غيابُ عبدِ الناصر وفقدانُ العملِ الفدائي الفلسطيني قاعدتَه الأولى والأكبر منذ انطلاقه في أواخر عقد الستينات… إلى أكبر هزّة من نوعها للفكر القومي العربي بشكلِه التقليدي.
يومذاك، سقط العديدُ من الفرضيات والمسلّمات التي صمدت، ولو بهشاشة، بعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967.
إذ حاولتِ «الناصرية» الجريح الاحتفاظَ بمقوّمات وجودها عبر «حرب الاستنزاف» (1967-1970). إلّا أنَّ تلك المحاولة انهارت بوفاة عبد الناصر، وأجهز عليها نهائياً «انقلاب» خليفتِه ورفيق سلاحِه السابق أنور السادات.
وحقاً، بعد ضرب مَن كان يسمّيهم السادات «مراكز القوى» عبر «ثورة التصحيح» في مايو (أيار) 1971، قُضي على كل ما كانت تمثله «الناصرية» كفكرة وممارسة وتحالفات. وقاد السادات «مصر العروبية» الاشتراكية بعيداً عن المحور الشرقي السوفياتي باتجاه التحالف مع الغرب، وخرج يومذاك عمّا كان إجماعاً عربياً… مراهناً على السلم المنفرد مع إسرائيل.
«المفصل السبتمبري» الثاني كان عملية 11 سبتمبر 2001 ضد الولايات المتحدة، حين شنّ حركيّو «القاعدة» هجمات غير مسبوقة بطائرات ركّاب مدنية في نيويورك وواشنطن وريف ولاية بنسلفانيا الأميركية… قُتل فيها أقل بقليل من 3 آلاف شخص!
«القاعدة»، حقاً، كانت أحد تجلّيات الإسلام السياسي المسلح. وتطوّرت بديلاً لجُملة من تجارب الحكم في العالمين العربي والإسلامي منذ مرحلة الاستقلال، تحديداً، منذ النصف الثاني من عقد الأربعينات.
في العالم العربي استقلت مجموعة من الدول العربية… منها دول رافعةً لواء العروبة، ومنها مناضلةً باسم الهوية الإسلامية، ومنها مُراهنةً على بورجوازية حداثية متنورة؛ لم ترَ في الاستقلال تناقضاً حتمياً مع الغرب، في مناخ «حرب باردة» عالمية استمرت من انتهاء الحرب العالمية… وحتى انهيار «جدار برلين» وسقوط الاتحاد السوفياتي.
وفي العالم الإسلامي، تفاوتت ولاءات أبرز الدول الحديثة الاستقلالية بين «لا انحيازية» أحمد سوكارنو في إندونيسيا و«إسلامية» باكستان المتحمّسة لعيش «إسلامها» – هويتها المميزة – ضد علمانية الهند… ثم ضمن الأحلاف الغربية التي نشأت خلال الخمسينات لتطويق السوفيات. وبالفعل كانت باكستان عضواً في حلفين اثنين هما «حلف بغداد» («السنتو» لاحقاً) و«حلف جنوب شرق آسيا» (السياتو).
انتكاس البديل «العربي» بعد 1967، ثم تراجع البديل «اليساري – الثوري» بعد أحداث الأردن (1970) وانتقال مصر إلى المحوَر الغربي (مطلع السبعينات) 1971، ثم الخروج الفلسطيني المسلح من لبنان عام 1982 إثر غزو إسرائيلي، تطوّرات أنعشت بديلاً ثالثاً هو «البديل الإسلامي»، لا سيما بعد نجاح «الثورة الخمينية» في إيران عام 1979.
«البديل الإسلامي» هذا فرض نفسه على عدد من الساحات العربية. وجاء الدعم الأميركي لـ«المجاهدين» الأفغان ومناصريهم – بمن فيهم بعض العرب – في حرب هدفها استنزاف السوفيات في مستنقع أفغانستان ليعزّز مكانة السلاح. ولكن، كما نتذكّر، أدارت واشنطن ظهرها لهذا «البديل»، على الأقل في وجهه السنّي، بمجرّد سقوط العدو الشيوعي في موسكو.
هذه «الخيانة»، من وجهة نظر الإسلام السياسي «السنّي» المسلح، حملت «القاعديين» على استهداف الولايات المتحدة… فكانت هجمات 11 سبتمبر عام 2001. وعلى الأثر، جاء الرد الأميركي أولاً في أفغانستان ضد حركة «طالبان» (وريثة «المجاهدين»)، وثانياً ضد العراق «السنّي» بحجة القضاء على قدراته العسكرية «النووية» (غير الموجودة) التي يمكن أن تهدّد إسرائيل!!
وفعلاً، بحلول 2003 هوجم العراق واحتُل، وأسقط نظام صدام حسين. وبالتالي، تُرك العراق، «بوابة العرب الشرقية»، لقمة سائغة لملالي إيران، الذين «سكتت» واشنطن طويلاً على خطابهم السياسي، وتوسّعهم الجيوسياسي، رغم انهماكهم بالتطوير النووي الحقيقي.
يوم أمس، 27 سبتمبر 2024، كان يوماً «مفصلياً» في التعامل مع «الحالة الشيعية» التي نتجت عن ذلك «السكوت» الأميركي. يبدو أن السماح لإسرائيل بتصفية قيادة «حزب الله»، الذي هو رأس حربة «الحرس الثوري الإيراني»، حدث له ما له… وبعده ما بعده.
«حزب الله»، الذي أسهم في رفد النظام الإيراني في غير مناسبة، وساعد على تمدّده داخل العالم العربي من الخليج إلى سوريا، ومن فلسطين إلى اليمن، لم يكُن مجرّد تنظيم مرتبط بطهران بعلاقة «تحالفية» أو «تبعية»… بل له معها علاقة عضوية.
لقد كان جزءاً لا يتجزأ من الركن الأمني لنظام طهران.
في حالة «حماس»، طُرحت أسئلة كثيرة بعد خذلان القيادة الإيرانية الحركة، وبقائها مكتوفة الأيدي رغم تصفية إسرائيل قائدها إسماعيل هنيّة في قلب طهران.
كثيرون تساءلوا، يومذاك، لكن البعض ردّوا مذكّرين بأن «حماس» في نهاية المطاف تنظيم «سنّي»، وكان دعم إيران لها لمجرد ادعاء «أبوّة» القضية والمزايدة على العرب والمسلمين.
غير أن وضع «حزب الله» مختلف تماماً. فهو ليس فقط شيعي الهويّة، ويضم أفراداً وقيادات من عائلات تنسب نفسها لأهل البيت، بل يشكّل عملياً وعملياتياً الفرع اللبناني لـ«الحرس الثوري».
وبناءً عليه، ما حدث مساء 27 سبتمبر 2024 في «المفصل السبتمبري» الثالث… سيُشكل «حالة» جديدة تماماً على مستويي لبنان والمنطقة، وقد يحسم خلال الأسابيع أو الشهور القليلة المقبلة مسألة «التفاهم» على الدور الإيراني في المنطقة العربية.
رابط المصدر