أرست “كفاح غزة” أسس انتهائها في مصر.. حكاية صراع تحرير من الصليبيين استمرت مئتي عام حيث بدأها الزنكيون وثبتها الأيوبيون وأنهاها المماليك

By العربية الآن



أرست “كفاح غزة” أسس انتهائها في مصر.. حكاية صراع تحرير من الصليبيين استمرت مئتي عام حيث بدأها الزنكيون وثبتها الأيوبيون وأنهاها المماليك

التاريخ الإسلامي - التراث - احتفالات النصر

“تمكنتم من “المسجد الأقصى الذي.. هو أول القبلتين وثاني المقامين وثالث الحرمين..؛ فهنيئًا لكم بجيش ظهر عليه المعجزات النبوية والمعارك البدرية، والقرارات الصديقية والانتصارات العمرية، والقوات العثمانية والنصرات العلوية! جددتم للاسلام أيام القادسية والمعارك اليرموكية، والصراعات الخيبرية، والهجمات الخالدية؛ فجزاكم الله عن نبيه محمد ﷺ أعظم الثواب، وشكر لكم ما بذلتموه من جهد في مواجهة الأعداء”!!

تم توجيه هذه الكلمات في “خطبة الفتح” التي ألقاها قاضي القضاة محيي الدين ابن الزكي الشافعي (ت 598هـ/1105م) بحضور السلطان صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ/1193م)، في أول جمعة قُمِمت في المسجد الأقصى بعد تحريره من الصليبيين سنة 583هـ/1187م.

إلا أن ما هي حكاية هذا الانتصار وما تبع ذلك من انتصارات؟ وما هي حكاية حرب التحرير العظيمة التي امتدت مئتي عام حيث سلمت فيها الراية جيل بعد جيل؟ وما هي العوامل السياسية والعسكرية والدينية التي شكلت ملامح تلك المقاومة الحضارية العظيمة؟

هذا المقال -الذي نُشر احتفالاً بمرور 950 عامًا هجرية على بدء احتلال الصليبيين للمنطقة و750 عامًا على تطهيرهامن بينهم، وتُعيد نشره اليوم احتفالاً بالذكرى الـ780 للانتصار الإسلامي على الصليبيين في “معركة غزة” التاريخية التي حالت دون سقوط مصر في أيديهم في عام 642هـ/1244م – يسعى للإجابة عن تلك الأسئلة؛ حيث كانت قصة حرب التحرير ليست قصة فردية أو حكاية شعبية، بل كانت ملحمة تمتد خطوتها وشرائطها تدريجيًا، حيث بدأ أول ظهور لها عندما تحرّكت جيوش المقاومة في لحظة الغزو، معلنةً أن الأمة قد قررت ألا تنحني في زمن الضعيفة!

ولمواجهة تحدي الصليبي المتقدم؛ وُضعت خطط طويلة المدى لأمة يجب أن تنتفض في مجالات الوعي أولاً قبل ساحات المعركة، مع فهم واسع لمفاهيم التحرير التي استنتجت منها التوحيد وحققتها التحرير، حيث كان قلب ذلك كله يتألف من قيادة الحكام العظماء في أسواق الحكم في البداية بقادة السلاجقة في الموصل بالعراق، ثم آل زنكي في بلاد الشام الذين وضعوا “خارطة طريق” للتحرير تبدأ بتوحيد القوى الإسلامية في الشام ومصر بعد تصفية البؤر السياسية الخائبة، وتُعزز بفكرة الإصلاح الديني والفكري والتنموي الشامل الذي يقوم على تمكين العلماء المصلحين والخبراء المخلصين.

ثم امتد الأثر الزنكي مع الأيوبيين الذين تأصلت أصول هذا المشروع في مصر ضمن عملية تحول تاريخية خطيرة، وفي أيامهم تمت إعادة الاحترام إلى المسجد الأقصى كـ”ثالث المقدسين”؛ مما يعني تعزيز قضية القدس في قلوب المسلمين بالعناية الصوفية والدينية الشاملة.

على الرغم مما شهدته معركة التحرير من صعوبات وتجديدات متعلقة بها؛ إلا أنها استمرت في التقدم بقوة حتى استلمت دولة المماليك ما تملِّكها، فضع قادتها على الخُطط الكبرى المتسلسلة للوصول إلى الحسم الكامل للصراع.

ومع هذا النشاط التحريري المستمر الذي امتد عبر الأجيال والتدابير؛ تطهرت المنطقة العربية والإسلامية في بلاد الشام ومصر من الاحتلال الصليبي لنحو خمسة قرون، حتى سمح الإمبراطور الفرنسي نابوليون بونابرت (ت 1236هـ/1821م) لنفسه بإعادة إشعال شرارة حروب الصليبية بحملته على مصر وشواطئ الشام في عام 1212هـ/1797م.

ولم يكن هذا غريبًا على الفرنسيين، حيث كانت “الصليبيّة الأولى في أساسها مغامرة فرنسية”؛ كما يقول المؤرخ الأميركي ويل دورانت (ت 1402هـ/1981م) في “قصة الحضارة”. وبالمثل، ليس الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين اليوم – وما ينتج عنه من عدوان همجي مُستمر على غزة والقدس وغيرها – إلا “مغامرة غربية”، حيث استبدل الغدر الصهيوني الخسيس الكيد الصليبي وقلده في استراتيجيات الانتشار ووسائل الإمداد!!

وهكذا، تعتبر قصة الحرب الكبرى للتحرير هذه ملحمة ملهمة تبيّن كيفية اكتساب شروط النصر، وتحقيق الميزات على عواقب الهزيمة، وتبرز أن مشاريع نهضة الأمة قد تتنوع في التفاصيل والأساليب، ولكنها تتفق في الجوهر والمحتوى: التوحيد والتحرير!!

مشهد فوضوي
خلال النصف الأول من القرن الذي سبق الهجوم الصليبي على مناطق واسعة من منطقة المغرب العربي الإسلامي (440-490هـ/1049-1099م)؛ كان المشهد السياسي في تلك المنطقة مليئًا بالفوضى والانقسام والتناحر. في بدايات تلك الفترة اختفت الدولة البويهية التي كانت تسيطر على العراق، وحلت محلها الدولة السلجوقية التي سرعان ما تحولت إلى دولة متشعبة تمتد من وسط آسيا إلى سواحل البحر المتوسط.

أما مصر في ذلك الوقت كانت خاضعة لحكم الخلفاء الفاطميين الذين تجهم مصيرهم نحو أن يصبحوا -كما الخلفاء العباسيين- جسيمًا بأيدي ما سميوا لاحقًا بـ”الوزراء العظماء”، وهو ما رغب في استحواذ عليه السلاجقة بقوة قبل أن يستعيد الوزير الفاطمي القوي الأفضل الجمالي الأرمني (ت 515هـ/1121م) السيطرة على فلسطين والقدس الشريف في عام 491هـ/1098م؛ أي قبل دخول الحملة الصليبية الأولى بعامٍ واحد.

لقد أدى نجاح السلاجقة في إعادة تقويم بوصلة المسلمين وتوسيع نطاق سلطتهم على حساب البيزنطيين – بعد هزيمتهم في معركة ملاذكرد عام 463هـ/1071م – إلى ارتباك شديد في العالم الأوروبي؛ فاضطر ذلك – بجانب أسباب أخرى – إلى شن حملة صليبية على المنطقة الإسلامية، مستفيدة من التشتت والضعف الذي يعصف بأرض الإسلام في محاوره الحيوية: العراق والشام ومصر.

ومن اللافت تزامن هذا الهجوم الصليبي على المشرق مع “حروب الاسترداد” الإسبانية في الأندلس التي أسفرت أولى نتائجها عن سقوط مدينة طليطلة عام 478هـ/1085م، واستكمال النورمانديين المسيحيين استيلائهم على جزيرة صقلية في عام 484هـ/1091م بعد تطييشهم لاحتلالها في عام

بدأ العام 1053 ميلادية/444 هجرية.

وقام الشيخ أبو الحسن السلمي الدمشقي (رحمه الله) -في كتابه ‘الجهاد‘ الذي كتبه بعد سيطرة الصليبيين على القدس- بملاحظة هذا التزامن الغريب؛ حيث قال: “وجدت جماعة (= من الصليبيين) في جزيرة صقلية بين تباين سكانها وتنافسهم، واستولوا بنفس الطريقة على بلاد من بلاد الأندلس، وعندما انتشرت الأخبار لديهم عن الاضطراب الذي تعانيه هذه البلاد [الشامية] بسبب تباين أسيادها.. قرروا الانطلاق إليها، وكانت القدس نهاية طموحاتهم”!!

في هذا السياق الإقليمي والمحلي، وفي 27 نوفمبر/تشرين الثاني 1095م (= ذو القعدة 488هـ)؛ ألقى البابا الكاثوليكي أوربان الثاني (رحمه الله) خطبة دينية باللغة اللاتينية في دير كليرمونت بجنوبي فرنسا، واهتزت لها العصور، حتى وصفها المؤرخ ويل ديورانت -في ’قصة الحضارة’- بأنها “خطبة قوية وذات تأثير كبير في تاريخ العصور الوسطى”!!

طموحات متعددة
وخلال خطبته، دعا البابا الأوروبيين إلى الانخراط في حملة “الصليب” لمساعدة إخوانهم في بيزنطة ضد “الأتراك”، ولتحرير الأراضي المقدسة من يد “الكفّار” المسلمين. ونقل المؤرخ والقسيس في الحملة الصليبية الأولى فوشيه الشارتري (رحمه الله) خطبة البابا أوربران، ومن أبرز ما جاء فيها:

“عليكم بمد يد العون لإخوانكم في المشرق..، الأترك هاجموهم كما يعلم الكثيرون منكم، اقتحموا الأراضي الرومانية (= البيزنطية بالأناضول) حتى وصلوا إلى البحر المتوسط..، استولوا تدريجيا على أراضي المسيحيين، وتغلبوا عليهم في سبع معارك حتى الآن…؛ لذا -وبصلاة خاشعة- أدعوكم، أنا والله يحثكم يا جنود المسيح على الاستعداد لهزيمة هذا العدو من أراضينا”!!

وعندما تحدث المؤرخ ديورانت عن دوافع الحملات الصليبية؛ خلص إلى ثلاثة أسباب أساسية هي: “[الـ]ـأولى..: زحف الأتراك السلاجقة..؛ الثانية..: ضعف الإمبراطورية البيزنطية..؛ [الـ]ـثالثة..: رغبة المدن الإيطالية في توسيع نفوذها التجاري”. واعتبر ديورانت أن “الحملات الصليبية.. كانت -من جانب- حملات استعمارية تهدف للفوز والتجارة”!!

وبسبب هذه الدوافع السياسية والاقتصادية والشحن العاطفي والتحريض الديني الكبير؛ نجحت دعوة البابا أوربان في الوسط والغرب الأوروبي، حيث شاركت حملة الصليبية الأولى في الشرق الإسلامي، ونجحت -بتباين- في استعمار بلاد الشام لمئتي عام، وأسست أربع دول صليبية وهي:

إمارة الرها بين حلب والموصل (1098م)؛ وإمارة أنطاكية (1098م) وإمارة طرابلس (1109م)؛ ودعوا هذه الإمارات التابعة لمملكة بيت المقدس التي تأسست في 22 يوليو 1099م.

هكذا بدأت حقبة الاحتلال الصليبي التي لن نتطرق إلى تفاصيلها وجرائمها هنا، لكن سنوقف عند محاولات مشروع مقاومة طالت أجيالًا لصد هذا الاحتلال، وكيف انتقلت قيادتها من الموصل إلى حلب ودمشق وأخيرًا القاهرة حيث كانت فرصة لحسم الصراع بقوة عسكرية وحكم سياسي.

نقطة تحت المجهر
يلاحظ أن مشروع المقاومة الإسلامية للاحتلال الصليبي الأوروبي كان مشروعًا شاملًا حظي بدعم وتأييد من الجميع في الأناضول والعراق والشام ومصر، المناطق التي كانت -عبر الأزمنة والدول المتعاقبة- في مواجهة مباشرة مع الفرنجة المعروفة تاريخيًا بـ”الصليبيين”.

يمكن القول أن مشروع المقاومة لم يكن متماسكًا أو متناغمًا حتى ظهور ولاة الموصل

واعتبر الأبطال مثل مودود بن ألتونتكي (ت 507هـ/1113م) بقوة مؤثرة منذ عام 503هـ/1109م، ومن ثم خليفهم آقنْقُر البرُسوقي (ت 520هـ/1126م) بدءًا من سنة 507هـ/1113م، وكذلك عماد الدين زنكي (ت 541هـ/1146م)؛ لكن الحقيقة أن جهود المقاومة كانت مشتعلة منذ وصول الصليبيون إلى بلاد الشام، خصوصًا منذ سنة 493هـ/1100م كما سنرى لاحقًا.

تم قتل سُليمان بن قُتلَمِش السلجوقي -الذي كان السلطان المؤسس لدولة السلاجقة في الأناضول- في عام 479هـ/1087م على يد ابن عمه توتش ابن السلطان ألب أرسلان (ت 487هـ/1094م) خلال معركة أهلية قرب حلب؛ مما أدى إلى تدخل الصليبيين في النزاعات الداخلية التي استغلوها بعد دخولهم الأناضول وهزمهم في معارك دورُليوم (=مدينة إسكي شهير) ونيقية وغيرها في السنوات 490-491هـ/1097-1098م، ثم تقدموا نحو الساحل الشامي حتى وصولهم إلى القدس المباركة في سنة 492هـ/1099م.

وبالرغم من خطورة هذه الأحداث؛ إلا أن تأثيراتها أدت إلى ظهور إمارة جديدة لسلالة تركمانية نشأت بمعية الفتح السلجوقي للأناضول بقيادة السلطان ألب أرسلان (ت 465هـ/1073م) بعد معركة ملاذكرد سنة 463هـ/1071م.

وكان بطل هذه السلالة الأمير التركماني كمشتاقين بن دانشمند طايلو (ت 499هـ/1106م) المقرب من السلطان سُليمان بن قتلمش، واشتهر بلقب “ابن الدانشمند” بسبب أبيه [طايلو] الذي كان معلمًا للتركمان وانتقل بتغيراتٍ حتى أصبح حاكمًا لبعض المناطق في شرق ووسط الأناضول؛ وفقًا للمؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) في “الكامل”.

كانت أحد أعنف معارك الصليبيين قرب منطقة الدانشمند هي إمارة أنطاكية التي كان يقودها بوهيمند الأول (ت 505هـ/1111م) المعروف أيضًا باسم “بيمند”، حيث كان يطمح لتوسيع إمارته ليشمل شمال بلاد الشام بتضمًن حلب وأعزاز. بدأت هذه الخطة في سنة 493هـ/1100م عندما “انطلق بيمند ملك الإفرنج ومال نحو حصن أفامية ونصب عليه الحصار”، حسب ابن القلانسي (ت 555هـ/1160م) في “تاريخ دمشق”.

وعلى الرغم من خطورة تمدد الصليبيين نحو حلب ومناطقها؛ خطط كمشتاقين بن دانمند بحكمة لمواجهة هذا التهديد، من خلال حصار مدينة ملاطية جنوب الأناضول التي كانت تحكمها الأرمن بقيادة جبريل الأرمني. كان كمشتاقين على علم بأن جبريل سيطلب المساعدة من بوهيمند أمير أنطاكية الصليبي، وهو ما أكده ابن الأثير قائلاً: “وبعدما كتب له بوهيمند صاحب ملاطية وأرسله فأتى إليه بمعونةٍ تضم 5000 مقاتل”.

التحكيم والانتصار
وأعد كمشتاقين لاستقبال عدوه بوهيمند الأول أمير أنطاكية مع قواته العسكرية، ولسوء حظ الأمير بوهيمند، فقد “وقع بسبب خطاياه في أيدي خصمه فأسره بالقيود مما أدى إلى نصر لدانمند”، كما ورد في تاريخ المؤرخ الصليبي وليم الصوري (ت 582هـ/1186م) حول حروب الصليبيين.

كانت اسرة بوهيمند الأول -الذي كان أحد الأبطال الكبار لرؤساء الصليبيين وزعماء حملاتهم الأولى- كارثة كبيرة انتشر صداها سريعًا في أوروبا؛ حيث ناشد البابا باسكال الثاني (ت 512هـ/1118م) بضرورة التحرك لإنقاذه فانطلقت الجموع من إيطاليا وفرنسا وألمانيا لإنقاذه ورد الاعتبار على الإهانة التي تلقوها من الأتراك، بعد عام واحد فقط من احتلالهم للقدس والمناطق الرئيسية على الساحل الشامي!!

وبخصوص تحركهم ذلك ومواجهة الدانمنديين، أخبرنا ابن الأثير -في “الكامل”- قائلاً إنه في شهر ذي القعدة 493هـ/1100م “وصل إلى الساحل سبعة أمراء فرنجة وكانوا يريدون إنقاذ بيمُند، وقادوا إلى قلعة تُسمى أنكورية [أنقرة] فاستولوا عليها وقتلوا المسلمين الموجودين فيها..، فجمع ابن الدانمند قوات كبيرة واجتمع مع الفرنج في منطقة ميرسيفان (MERZİFON)..، ولم يسلم أحد من الفرنج وكان عددهم 300 ألف”!!

يؤكد المؤرخون اللاتينيون صحة هذه الأرقام، ويرون بعضهم أن هزيمة ميرسيفان -أو ميرزفوم- في شمال الأناضول يمكن مقارنتها بحملة صليبية “ثانية” تم تجاهلها من قبل المؤرخين، حيث لم ينتبهوا إلى قوة التركمان المسلمين الدانمنديين فيها. ويضيف ابن الأثير أن كمشتاقين استفاد من هزيمة أعدائه فانتقل “إلى ملاطية وسيطر عليها واعتقل صاحبها (= جبريل الأرمني)، ثم خرجت قوات الفرنج من أنطاكية لمواجهته فاجتمعوا وهزموا، وحدثت هذه الأحداث في وقت قريب”!!

وعلاوة على ذلك، أدرك كمشتاقين خطورة حروب الصليبيين وتمايل أعداؤهم بالآلاف لاحتلال الأناضول، وكان واضحًا أن الصراع بين إخوة الأتراك -سواء دانمنديين أو سلاجقة الروم- يجب أن ينتهي لتجنب الأخطار؛ لذلك أرسل رسالة إلى السلطان قِلِج أرسلان بن سُليمان.

ابن قتلمش السلجوقي (ت 501هـ / 1107م) أظهر استعدادا للتعاون والاتحاد ضد هذا العدو، فوافق قِلِج على العرض.

فعند وصول الصليبيين إلى قونية – عاصمة السلاجقة – اكتشفوا تحالفًا إسلاميًا بين الأمراء الترك الذين “تربصوا جميعًا بالصليبيين بالقرب من هرقلة (شرق قونية)، وعند اندفاع الأتراك نحو الصليبيين في بداية سبتمبر / أيلول 1101م (ذو القعدة 494هـ)، أسقطوا الجيش الصليبي واحدًا تلو الآخر، ولم ينجو سوى عدد قليل بصعوبة كبيرة”؛ وفقًا لما نقله المؤرخ سعيد عاشور (ت 1430هـ / 2009م) – في كتابه “الحملات الصليبية” – من النصوص اللاتينية.

نتجت انتصارات الأتراك الدانشمندية وسلاجقة الروم المدهشة على الصليبيين في توقف الحملات الصليبية لنحو نصف قرن، وساهمت انتصاراتهم في إحياء روح المقاومة الإسلامية في العراق وبلاد الشام في المرحلة الأولى من حقبة الاحتلال الصليبي، وجعلت المناطق الشمالية في الأناضول بيئة أمنة وقادرة على إعاقة تقدم العدو الصليبي برًا عبرها نحو الجنوب؛ مما دفع أوروبا إلى دعم وتمويل أبنائها في الشام عن طريق البحار فقط.

أنظمة دونية
عرفت بلاد الشام الداخلية – بعد سيطرة الصليبيين على معظم السواحل من أنطاكية شمالًا إلى عسقلان جنوبًا، بالإخضاع لحكم سلاجقة الشام (471-511هـ / 1078-1117م)؛ حيث حكم رضوان بن تأتش بن ألب أرسلان (ت 507هـ / 1113م) حلب وما حولها، بينما حكم أخوه دقاق بن تتش (ت 497هـ / 1104م) دمشق ومحيطها، وكانا في صراع مستمر من أجل النفوذ والسيطرة بين شمال وجنوب الشام، مما استبعد الشام من ساحة العمل المقاومة لما يقرب من عقدين.

اشتهر رضوان – بشكل عام – بتبنيه سياسة غير محمودة ومراوغة واستغلالية، ويخبرنا ابن الأثير عن بعض جوانبها قائلاً: “كانت أمور رضوان غير محمودة.. وكان يلجأ للباطنية في كثير من قضاياه بسبب قلة دينه”!! كما اشتهر بعلاقته الانكسارية مع الصليبيين، حيث كان كثيرًا ما “كتب إلى طنكري (ت 506هـ / 1112م) صاحب أنطاكية.. وطلب منه المساعدة” لكسب نزاعاته مع جيرانه من الأمراء الترك.

أما أخوه دقاق، فكان يتبع سياسة ضعيفة طوال فترة حكمه، وقد تعرض لـ “مرض أصابه وتوفي بسببه..، فتغلب ظهير الدين طغتكين (البوري ت 522هـ / 1128م) حينها على دمشق” بتوليه قيادة جيشها وتحويلها إلى إمارة ووراثتها لخلفه؛ وفقًا لابن عساكر (ت 571هـ / 1175م) في “تاريخ دمشق”.

بدأت حكم سلالة البوري في دمشق حتى سنة 549هـ / 1154م، وقد ساهم مؤسس إمارتهم طغتكين في مواجهة الصليبيين المجاورين لهم في فلسطين وسواحل الشام، ففي عام 501هـ / 1117م “سار طُغتكين في جيش دمشق مهزمًا الفرنج وأسر سيد طبرية جرماس (بعد 501هـ / 1117م)” الصليبي؛ وفقًا للذهبي (ت 748هـ / 1347م) في “سير أعلام النبلاء”. ويضيف أنه في العام التالي “سار طُغتكين بقواته واجتمع الفرنج فانهزموا وثبت هو، ثم تراجعوا إليه وتمكنوا” في مواجهة معسكر الفرنج.

بمشاركة السلاجقة وأمراءهم في الأناضول والشام بمواجهة التوسع الصليبي وصدهم عن الهجمات المتكررة على القرى والمدن الإسلامية وقوافل الحج والتجارة؛ قدم سلاطين سلاجقة العراق وقادتهم العسكريين الكبار إسهامات قوية في هذا المجال، حيث يرون المؤرخون أن “أتابكية الموصل” كانت نقطة انطلاق رئيسية في تحرير الشام من قبضة الاحتلال، ومن هنا بدأت المراحل التالية من التحرير التي ساهمت فيها مصر وانتهت بتطهير الشام من وجود الصليبيين.
صراع معطِّل
وفي الفترة التي تلت وفاة السلطان المشهور ملكشاه بن ألب أرسلان في سنة 485هـ / 1092م، وحتى وفاة ابنه السلطان بركياروق في سنة 497هـ / 1104م؛ كانت فترة صراع عنيف بين أبناء ملكشاه على عرش السلطنة، وكانت ظروف تمتصها الصليبيون لاحتلال بلاد الشام والقدس وارتكاب الجرائم.

وقد عبّر المؤرخ ابن الأثير – في كتابه “الكامل” – ببراعته المعتادة عن العلاقة بين نجاح الغزو الصليبي والصراع بين ملوك المسلمين، حيث قال: “وتباين السلاطين.. ليفسح المجال للفرنج للاستيلاء على البلاد”!! وأشار أيضاً – بوجه يسلط الضوء على الرأي العام الإسلامي في ذلك الوقت- إلى أنه “عندما امتد الفرنج..

بعد أن استولوا على أراضي الإسلام، واتفقت القوى الإسلامية وزعماؤهم على مواجهة بعضهم البعض بالقتال، حدث تباين في آراء المسلمين وتشتت في الثروات”!!

بعد سنوات من الصراع الداخلي بين السلاجقة، توصلا طرفا النزاع في عام 496هـ/1103م إلى اتفاق لتقسيم مقاطع حكمهم؛ وكما يشير صدر الدين الحسيني (ت 622هـ/1225م) في كتاب ‘أخبار الدولة السلجوقية‘ إلى أنهم “اتفقوا على تخصيص المنطقة وراء نهر الفرات (شمال إيران) للسلطان محمد (ابن ملكشاه ت 511هـ/1117م) بالإضافة إلى الموصل والشام”.

حاول السلطان غياث الدين محمد بن ملكشاه -وبعده ابناه المتنافسان: محمود (ت 525هـ/1131م) ومسعود (ت 547هـ/1152م)- تعزيز نفوذ الإمارات التابعة لهم في تلك المناطق، وعلى رأسها “أتابكية الموصل” التي لازمت -بقيادة زعيمها البارز قوام الدولة كَرَابُغا/كَرَبوقا (ت 495هـ/1102م)- حيث قادت الجهود ضد الصليبيين منذ هجومهم على أنطاكية في عام 491هـ/1098م.

وفي ‘زُبدة الحلب في تاريخ حلَب‘، يقول ابن العديم (ت 660هـ/1262م): “عندما هاجم الفرنجة.. أنطاكية، قاموا بحفر خندق بينهم وبين المدينة للدفاع عنفسهم من هجمات عسكرية لأنطاكية ونجاحهم في الوصول إليهم… ونشأ كَرَبوكا حاكم الموصل جيشًا كبيرًا وقطع بهم عبور نهر الفرات” لمواجهة الصليبيين. وهكذا كان كَرَبُغا -رئيس الموصل تحت السلاجقة- يقود الدفاع عن أنطاكية قبل سقوطها.

في أعقاب كَرابُغا، أسندَ حكم المدينة إلى جَكرمش التركي (ت 500هـ/1106م) الذي تعاطى بشجاعة بالتحالف مع سُقمان بن أرْتق (ت 497هـ/1104م) لتصدي للصليبيين في الرُّها (= أورفا اليوم) وأنطاكية، وحين حاولوا الاستيلاء على حران (جنوب تركيا اليوم) “ارسل كل منهم دعوة لشريكه للاجتماع لتجنب أزمة حران ويُخبره بأنه قد ضحى بحياته لوجه الله وأجره”، وفقا لابن الأثير.

وبعد فوز المسلمين على الصليبيين في المعركة “قتلوهم حسب شهواتهم وامتلأ أيدي التركمان من الغنائم”، وأسر بلدوين الأول (ت 512هـ/1118م) -حاكم إمارة الرها الصليبية- بعد أن “هُزم في طليعة قواتهم”.

تحول بارز
وبهذا تمكنت حرَّان من الاحتلال الصليبي بفضل التعاون والتضامن بين أتابكية الموصل وإمارة الأراتقة في ديار بكر التي كانت تتبع سلطان السلاجقة، وتحول الجهد المقاوم من الهامش في أناضول إلى الصدارة بالشام والجزيرة الفراتية.

ووفقًا للمؤرخ البريطاني ويليام بارون ستيفنسون (ت 1374هـ/1954م) – في كتابه ‘الحروب الصليبية في الشرق‘- أدت معركة حران -أو البَلِيخ- إلى “نتائج ذات أهمية كبيرة، حيث عرقلت تقدم الصليبيين نحو الشرق وألغت آمالهم في السيطرة على العراق والجزيرة الفراتية، وقلصت طموحهم في استيلاء حلب وتحويل إمارة أنطاكية إلى دولة كبيرة، وحفّزت رضوان [ابن تُتش أمير حلب] ليقود سلسلة هجمات على المواقع المحيطة بحلب ونجح في تطهيرها بمساعدة سكان المنطقة المسلمين الذين تمردوا على حكّامهم الصليبيين”.

واستمرت “أتابكة الموصل” (وجيوشهم) -بعد جركمش- في مواجهة الصليبيين في مناطق الشام، بقيادة الزعيمين جاولي سقاووا (ت 502هـ/1108م) ومودود بن ألتونتكين. وكان مودود واحدًا من كبار الأمراء الترك المجاهدين؛ إذ أدرك خطورة إمارة الرها الصليبية في شمال الشام واعتبرها عقبة رئيسية أمام مشروع التحرير وحاصرها بشكل مستمر.

في عام 503هـ/1109م، أمر السلطان محمد بن ملكشاه كل من أمير الموصل مودود وأمير أرمينية سُقمان القطبي (ت 504هـ/1110م) وأمير ديار بكر إيلغازي بن أرْتَق (ت 516هـ/1122م) “الانطلاق مع الجيوش للجهاد ضد الفرنجة وحماية أراضي الموصل.. وتجمع المسلمون بأعداد لم يجتمعوا معهم جميع الفرنجة. وتوافقت الآراء على بدء الجهاد بتوجيهه نحو الرُّها بهدف الضغط عليها حتى يُسهل الله فتحها بحكمته ورحمته”، كما ذكر ابن القلانسي في ‘تاريخ دمشق‘.

على الرغم من أن الصليبيين نجحوا في كسر الحصار الذي وُضع على الرها وسكانها -الذين كان معظمهم مسيحيين-، وفقًا للذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘؛ إلا أن تحالف القوى الإسلامية لبدء “الجهاد بتوجيهه نحو الرُّها” كان إنجازًا كبيرًا، وأعطى دليلاً قويًا على استعادة الطرف الإسلامي للسيطرة في الصراع.

البادرة تم إذن نقل الجهد العسكري المقاوم من حالة الوِقاية لـ وضعية الهجوم.

نجم جديد
أتاريت شهامة المدينة -بدءا من كربُغا وجركمش- في تربية وتهيئة عماد الدين زنكي لأنه كان الابن الوحيد لصديقهم قسيم الدولة آقْسُنْقُر التركماني (ت 487هـ/1094م) “وكان عمره عندما قُـتل والده عشر سنوات”؛ وفقا لما ورد في ‘تاريخ الإسلام‘.

وفيما يخص تلك الصلة بين عماد الدين والعناية التي قدمها أصدقاء والده في تربيته؛ يُخبرنا ابن الأثير -في كتابه ‘التاريخ الباهر‘- بقوله: “عندما أصبح [كربُغا] حاكم المدينة (= الموصل)، دعا خدم قسيم الدولة آقسُنقر وأمر باحضار [ابنه] عماد الدين زِنكي، وقال: إنه ابن أخي، وأنا أهل للإشراف على تربيته! فحضروه أمامه..، وعندما تولى حكم المدينة [بعده] شمس الدولة جكرمش واستقبله الشهيد عماد الدين وأقرّبه وأحبّه واعتبره ولدًا له على حسب معرفته بمكانة والده..، ثم تولى حكم المدينة -بعد جكرمش- جاولي سقاووا فتواصل معه عماد الدين زنكي فظهرت عليه علامات السعادة والكرامة”!

هذه التربية الأخلاقية والعسكرية العميقة التي حصل عليها عماد الدين زنكي ستكون هي التي تثير انطلاقة كبيرة في مشروع المُقاومة الإسلامية ضد الصليبيين، بدءًا من سنة 522هـ/1128م عندما عيّنه السلطان السلجوقي محمود بن محمد بن ملكشاه واليًا على المدينة، بديلاً عن هؤلاء الزعماء الكبار الذين سبقوه في ساحة المواجهة وفتحوا السبيل لها على مدى عقدين.

تم ارتقاء زنكي لمنصب ولاية المدينة مدعومًا بنجاحه في تنفيذ مهمات “ولاية بغداد وشرطتها” عندما تولى هذا المنصب في سنة 521هـ/1127م، بالإضافة إلى تأييد كبار القضاة والعلماء في المدينة، ومن الوزير السلجوقي ببغداد أنوشروان بن خالد القاشاني (ت 532هـ/1138م) “نظرًا لحاجة الناس إلى من يواجه الفرنج”؛ وفقًا لما ورد عنه في كتاب الذهبي.

ويطلعنا ابن الأثير -في ‘التاريخ الباهر‘- على مدى توسع نفوذ الصليبيين حينما تولى زنكي ولاية البلاد؛ حيث يقول إن “مملكة الفرنج في ذلك الوقت امتدت من ناحية ماردين وشبختان (تقعان جنوب شرقي تركيا اليوم) حتى عريش مصر، وكانت لا تفصل بينها وبين أقاليم المسلمين سوى حلب وحمص وحماة ودمشق، وكانت قواتهم تصل من ديار بكر إلى آمد، ومن ديار الجزيرة إلى نَصِيبِين (جنوبي تركيا) ورأس العين (شمالي سوريا)..، وانقطعت الطرق إلى دمشق فتارة إلا عبر الرحبة (= مدينة الميادين اليوم) والبر..، ثم تفاقمت الأمور واتسع الظلم حتى فرضوا على كل بلد مجاور لهم ضرائب وتقاليد يفرضونها على الناس هناك”!!

علم عماد الدين زنكي بخطورة الصليبيين وامتدادهم على أراضي المسلمين، وأن سبب هذا الامتداد كان بسبب تشتت المقاومة الإسلامية إلى ولايات متنافسة في معظم الأوقات بين العائلات المالكة في مناطق المنطقة: المد تروية المدينة، والارتققة الجزيرة، والسلاجقة حلب، والبريين دمشق؛ ولذا قرر توحيد هذه الجبهات في دولة واحدة ومواجهة الصليبيين في الوقت نفسه، وكانت التحديات كبيرة في القيام بالمهام المزدوجة: التوحيد والتحرير.

وخلال سنوات قليلة، اتسع نطاق إمارة زنكي في كل الاتجاهات وأقال الأمراء في معظم المدن الكبيرة وجمعها تحت حكمه؛ حيث انتشرت لأول مرة أخبار الانتصارات التي أعطت دفعة للروحيات وحفزت الطاقات للسعي نحو الموحدة والتحرير، وأعطت المناطق روح بعث جديدة أسست لمشروع تحرير تدعمه أجيال متعاقبة وتعتز به. وكان هذا المشروع النواة لتوحيد زنكي للمدينة مع حلب التي تولى إليها في سنة 522هـ/1128م وقد “خرج أهل حلب ليلتقوا به وتفاءلوا بقدومه، فدخلوا المدينة واستولى عليها ونظم شؤونها”؛ وفقًا لما ذكره ابن الأثير.

ويرصد لنا الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- تلك الحماسة الجهادية التي أحدثها زنكي بقوله “استولى على الأراضي وتمكنت حكمه..، وتقدم به الأمر إلى أن أصبح حاكمًا على المدينة وحلب وحماة وحمص وبعلبك، والعديد من المدن الكبيرة..، واسترجع عدة حصون من الصليبيين كـ كفرطاب والمعرة والرها..؛ وكانت الأراضي في خراب من الظلم واحتلال الصليبيين حتى أنه لا يقضي عام إلا وهو ينتصر على بلادهم”!! أما ابن الأثير فيقيم بأنه “لولا أن الله تعالى أنعم على المسلمين بحكم أتابك [زنكي] في بلاد الشام لصارت ولايتهم في أيدي الصليبيين..، نعم الله بولاية عماد الدين فتصرف على الصليبيين” الأفعال!!

أساس قوي
وبعد تحكمه في الأوضاع في شمال العراق والجزيرة الفراتية

وفي شمال الشام، وتوحيد جبهاتها تحت قيادة عماد الدين زنكي لمدة تفوق العشرين سنة؛ نجح في بناء أرضية قوية يمكنها من مواجهة الإمارات الصليبية التي تلوح في الأفق، بعد أن ضمن خطوطه الخلفية من أعدائه من أمراء الداخل الإسلامي الغدارين؛ حيث كان هؤلاء الأعداء يهددون بلاده ويسعون جميعا للاستيلاء عليها والسيطرة عليها. وفقا لتعبير الذهبي.

هكذا بدأ عام 539 هـ / 1144م حين سقطت أول إمارة صليبية أُنشئت في المنطقة الإسلامية شمال الشام، عندما ورد له تقرير استخباراتي يفيد بأن أمير الرها الصليبي جوسلين الثاني (ت 554 هـ / 1159 م) قد غادر. فاستغل زنكي الفرصة واستولى على الرها -التي كانت تابعة للفرنجة- بنصب المجانيق وتحطيم السور وإلقاء الحطب والنيران فيها لتدميرها، ثم دخلها وقاتلهم وانتصر المسلمون..، وتم تحرير ما يقارب الخمسمئة أسير من المسلمين الذين كانوا محتجزين هناك؛ وفقا لما ورد من الذهبي.

وبذلك التحرير – الذي كان أبرز إنجازات عماد زنكي وأهم مكسب للمسلمين منذ بداية الاحتلال الصليبي للمنطقة- تكاملت الرها كأول إمارة صليبية تسقط وتأسست في المنطقة!! وعلاوة على ذلك، كانت هذه العملية تحريرية تخلص أحد قبضات الصليبيين عن حلب المقامة بين الرها وأنطاكية، والتي تعد أكبر مدينة في حكم زنكي بعد عاصمته الموصل، بعد أن استمرت دمشق في المقاومة رغم عدة محاصرات.

لقد عقَد المؤرخ والكاتب عماد الدين الأصفهاني (ت 597 هـ / 1201 م) الانتباه للأثر التاريخي الذي خلفه تحرير الرها والذي بدأ يرسم نهاية الفترة الصليبية؛ فقد زعم -وفقا لما نقله ابن أبي شامة المقدسي (ت 665 هـ / 1267 م) في كتاب الروضتين-: “استولى زنكي على الشام.. وهو الذي فتح الرها بالقوة..، ومع هذا الفتح، استعاد المسلمون السيطرة على بلاد أميرها جوسلين، واعتنق الاسلام جميع سكانها في عهد ولده زنكي: نور الدين، وبدأت علاقات الفرنجة بالتحلل منذ ذلك التاريخ وبدأت أمورها تتغير وتضعف معاقلهم”!!

تمثل فتح الرها نهاية مجد عماد زنكي حيث لم يعش طويلا بعد ذلك؛ وحسب ابن الأثير -في كتاب الكامل- في ليلة 16 ربيع الآخر سنة 541 هـ / 1146 م، أثناء استعداده لاحتلال قلعة جعبر على الفرات؛ تعرض لهجوم قامت به مجموعة من مرافقيه ليلاً بخيانة، ولجأوا إلى قلعة جعبر التي كان يحكمها منافسه الأمير علي بن مالك العقيلي (ت 546 هـ / 1151 م).

يرد سبط ابن الجوزي (ت 654 هـ / 1256 م) على ارتباط محتمل بين الأمير العقيلي واغتيال زنكي، احتياطا لاستيلاءه المنتظر على جعبر؛ حيث يقول إن عملية القتل تمت على يد “أحد خدمه (= زنكي) ومن كان يُحن بشخصيته ويثق به وكان يتعارف مع بيرنقش الفرنجي، ونظم له بعض الخدم.. فأقدموا على قتله وهو في فراشه بعد مواجهات استطاعوا منها التصدي له، وهرب الخادم [الفرنجي] إلى القلعة وأخبر صاحبها عز الدين علي بن مالك بن سالم العقيلي، فباركه له وأرضاه بفعلته !!

خطة شاملة
انقسمت مملكة عماد زنكي -بعد اغتياله- بين ولديه: سيف الدين غازي (ت 544 هـ / 1149 م) الذي تولى بمفرده حكم الموصل وشمال العراق والجزيرة الفراتية، ونور الدين محمود (ت 569 هـ / 1174 م) الذي اختار حلب لتكون مقرا له لحكم مناطق شمال الشام.

تبع نور الدين محمود خطى والده بالتصويب على الصليبيين على مدى ثمانية وعشرين عامًا، وسعى إلى توحيد المناطق الإسلامية التي لم تكن في قبضتهم؛ وبالتالي، فإنه تميز بالاجتهاد في مواجهة الكفار والمتمردين، وسعى لرعاية مصالح العباد”، وفقا لكتاب تاريخ دمشق لابن عساكر.

لم يكن نور الدين محمود يتوانى عن مواجهة الصليبيين وتوحيد الشام من الشمال إلى الجنوب؛ فورة تسلمه الحكم “شن هجمات، فتصدى لحصون وقلاع الفرنجة”+ حسب شاهد عيان كان قريبًا منه كابن عساكر في تاريخ دمشق.

وبلغ إنجازه في مهاجمة الصليبيين حيث تم اسر عدد من ملوكهم لأول مرة منذ بداية الصراع؛ لقد حدث بمناسبة أن “هاجم حصن إنب (قرب أعزاز السورية)، وكان الأمير ريموند متحكمًا في أنطاكية وأحد أبطال العدو وشياطينهم، وتركه الأمير وذهب لقائهم دون أنطاكية، وهاجمهم وهزمهم وقتله وثلاثة آلاف من الفرنجة كانوا معه، وبقي ابنه صغيرًا مع والدته في أنطاكية وتزوجت أمه من أمير آخر، وخرج نور الدين في بعض غزواته وأسر أمير الثاني، وتحكم ابن الأمير الأول بأنطاكية وهو برهموند الثاني (ت 524 هـ / 1130 م)، وأسره في معركة في حارم.

(تندرج اليوم في إدلب السورية) وأديتها (= افتداها) بمبلغ كبير استثمره [نور الدين] في الجهاد”، كما ذكر ابن عساكر.

وفي عام 549 هـ/1155م، تمكن نور الدين محمود من توحيد جانبي الشام، حلب ودمشق والمناطق الواقعة بينهما. نجح في حصار دمشق مرتين وفتحها في المحاولة الثالثة خلال هذا العام، حيث “امتنع الناس والقوات فيها عن المقاومة بسبب حبهم وإعجابهم بنور الدين وعدله وسمعته الطيبة. وبدأ بعض حطابي الأشجار بفتح باب دمشق الشرقي بفأسه، مما أدى إلى دخول الجيش منه وصعودهم بالرغبة من أهلها… ثم دخل الملك نور الدين وجنوده، فتح معهم جميع الناس بسبب الجوع وغلاء الأسعار وخوفهم من احتلال الفرنجة الكفار”، وفقًا لابن القلانسي.

وأضاف نور الدين بعناصر جديدة حيوية إلى استراتيجيته التحريرية، من خلال البعد الاصلاحي الشامل للجوانب الخدمية والبنية التحتية والاجتماعية والتربوية، بالإضافة إلى إحياء الروح الدينية في المجتمع بعد قرون من الانهيار الفكري الذي ضرب بلاد الشام، وتحديدًا منذ تولي الفاطميين للحكم في الستينيات من القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي.

كان نور الدين يدرك حقيقة أن الصراع – في جوهره – هو صراع فكري وحضاري، ولكي ينتصر المسلمون فيه، يحتاجون إلى مشروع تحولي كبير وشامل وقاعدته الصلبة وانتشاره، مشروع يركز على جوانب الإصلاح الكبيرة للمجتمعات وليس على معارك الحروب بين الفصائل، ويديرها دولة مركزية ينبثق قادتها من أساسات هذا المشروع إلى معارك تحرير الوطن.

يوضح لنا ابن عساكر جهود نور الدين في هذا المجال بقوله إنه عندما تولى السلطة “أظهر في حلب المرتدين… حتى أقام شعار الدين…، ونشر فيها المذاهب السنية الأربعة… وأنشأ بها المدارس، ووقف الأوقاف، وأظهر العدل والانصاف فيها”. وكذلك فعل في دمشق عندما ضمها “قام بتنظيم أمورها وتحصين أسوارها، وأنشأ بها المدارس والمساجد وسهل على أهلها الحصول على المنافع، وأصلح طرقها ووسع أسواقها…، ومنع ما كانوا يتقاضونه منهم من الجبايات.. وغير ذلك من الظلمات” التي أحدثها حكم البوريين.

ويؤيد ذلك ابن الأثير – في “الكامل”- بقوله: “وأما ما قام به من إصلاحات؛ فقد بنى جدران مدن الشام جميعها وقلاعها…، وأنشأ المدارس العديدة…، وأنشأ المستشفيات ومحطات الراحة على الطرق، وأنشأ دور الصوفية في جميع البلاد، ووقف على جميع الحقول الزراعية، وكان يعطي العلماء وأهل الدين حقهم ويحترمون.”

مرحلة حاسمة
كانت الأسرة الأيوبية قد انضمت إلى خدمة عماد الدين زنكي منذ عام 532 هـ/1138م، بعد أن بنت علاقة قوية مع حاكم قلعة تكريت، نجم الدين أيوب (والد صلاح الدين الذي توفي في 568 هـ/1173م) بسبب دور الأخير في إنقاذ عماد الدين زنكي، وفتح الممرات أمامه للوصول إلى مقر حكمه في الموصل بعد هزيمته – مع السلطان السلجوقي محمود- في بغداد خلال جهود صراع السلطنة الداخلية على السلطة في 526 هـ/1132م. عمل نجم الدين أيوب كوسيلة للاتصال بينه وبين عماد زنكي والذي أدى بهم الحال إلى استيلائهم على حكم مصر والشام ومناطق أخرى”، كما ذكر ابن الأثير في ‘الكامل‘.

مع مرور الزمن، أصبح نجم الدين أيوب وأقاربه أسد الدين شِيْركُوه (الذي توفي في 564 هـ/1169م) وابنه صلاح الدين (الذي توفي في 589 هـ/1193م) من المقربين لنور الدين محمود، حتى جاءت الفرصة لدمج مصر بشكل نهائي في المملكة الزنكية مع الشام من خلال القضاء على حكم الفاطميين ووزيرهم شاور السعدي (الذي توفي في 564 هـ/1169م) الذي كان يتحالف مع الصليبيين ويخطط لتسليمها لهم.

تمامًا، عرف نور الدين أنه لا بد من “طرد الأجانب عن الأراضي المصرية [لأن] لهم تأثير سلبي كبير على الدين بشكل شامل”، وفقًا لابن واصل الحموي (الذي توفي في 697 هـ/1201م) في ‘مفرج الكروب في أخبار بني أيوب‘. ولهذا السبب، أرسل صلاح الدين مع عمه وقائد الجيوش أسد الدين في حملة ثالثة إلى مصر في عام 564 هـ/1169م، لتحقيق هدفه هذه المرة بإخضاع البلاد لسلطة الزنكيين مباشرة وقطع الطريق بشكل نهائي أمام طموحات الصليبيين.

يبدو أن صلاح الدين كان مترددًا في تنفيذ الخطة التي وضعها نور الدين لإنقاذ مصر، خاصة بعد تجربته هذا النهج مرتين من قبل؛ ولهذا يروي لنا كاتبه ومؤلف سيرته القاضي ابن شداد الموصلي (الذي توفي في 632 هـ/1235م) – في ‘النوادر السلطانية‘ – قول صلاح الدين: “قال لي نور الدين: يجب أن تصطحب مع عمك [أسد الدين]، فشكوت من نقص التمويل، فأعطاني اللازم، وكأني أرسلت إلى الموت”!!

استطاع

صلاح الدين حكم مصر بعد أن تولى منصب وزيرها بديلاً لعمه شيركوه، تحقق حلمه بتوحيد مصر مع الشام وإنهاء حكم الفاطميين الذي دام 210 سنة، ويشرح المقريزي في كتابه “السلوك” كيف تحقق ذلك؛ حيث وكل الخليفة الفاطمي آخر الأمور إلى صلاح الدين وأُعلن ملك الناصر، وقام بإزالة الدولة الفاطمية وأمر بالدعاء للخليفة العباسي ببغداد.

توفي السلطان نور الدين محمود بعد أن نجح في فتح الحصون والقلاع، وتوحيد البلدان، وفي هذه الأثناء كانت تتفاقم مشكلة وراثة العرش بين القادة المشاركين في مشروع التحرير من الصليبيين، وحتى نهاية الدولة الأيوبية.

صلاح الدين سعى لإزاحة السيطرة الصبي العابثة عن البلاد التي كانت تحت سيطرة والده نور الدين، وأراد أن يتسلم راية مشروع التحرير باعتباره وريثاً لجهود نور الدين الذي كان قدوته؛ فكان يتبع رأيه ويعمل بجد، وكان يُعَتد به في كل شيء.

صلاح الدين واصل استراتيجية زنكي ونور الدين في توحيد الجبهة، وهذه المرة كان الهدف توحيد مصر والشام لمواجهة الصليبيين، والقادة في دمشق كانوا يعرفون هذه الضرورة وأرسلوا مبعوثين إلى صلاح الدين ليتولى القيادة.

نجح صلاح الدين في توحيد مصر والشام والجزيرة الفراتية والحجاز وحتى اليمن وإقليم برقة بأكملها، وقد نال إعجاب الناس بسماته القيادية واستراتيجيته الحازمة، واستمر في مواجهة الصليبيين منذ عام 1179م وحتى حطين في عام 1187م.

تحدى الكامل المستمر من قبل صلاح الدين لمدة عشر سنوات، ونجح في توحيد مصر والشام وتحرير القدس في1441م، وهذا الإنجاز أدى إلى انتشار الاحتفالات في بلاد الإسلام.

افتتاح واضح
إذا اعتبر ابن واصل بثقة أنه “منذ استولت الفرنج على السواحل والبلاد الساحلية فلم تشهد المسلمين مواجهة مثل موقعة حطين”؛ فإن المؤرخ سهيل زكّار (توفي 1441هـ/2020م) في الجزء رقم 38 من ‘الموسوعة الشاملة في تاريخ الحروب الصليبية‘ ينقل لنا -في كتاب رحلة الراهب الدومينيكاني فيلكس فابري (توفي بعد 888هـ/1483م)- حكايته الذي يقول فيه:

“لم تشهد أية معركة مثل تلك التي قتل فيها الصليبيون بشكل كبير في زمان وجود المملكة اللاتينية في الشرق؛ حيث انهارت في ذلك اليوم كل أقوى الفرق الصليبية وجرفتهم.. وفي تلك الكارثة مات جميع النبلاء ورجال الحروب، باستثناء القليل الذين أُسروا من بينهم الملك” الصليبي غي دي لوزنيان (توفي 590هـ/1194م)”!!

وعرف صلاح الدين أن جوهر الفعالية الصليبية يكمن في فرسان تابعين لتنظيمات دينية عسكرية وهما: “الداوية” (رهبان المعبد) و”الإسبتارية” (فرسان القديس يوحنا)؛ وهما شبيهان بـ”قوات خاصة” أو “قوات تحرير” صليبية شكلا مشقة للمسلمين وسببت في قتلهم واسرهم على مدى سنوات عديدة.

وأيضاً، كان ردّ فعل صلاح الدين حازمًا مع هذين التنظيمين هو ما سجله المستكشف الأوروبي فيلكس فابري -الذي سبق ذكره- بأن أشجع الفرنجة في معركة حطين كانوا الإسبتارية والداوية”!، ومع قتل قائد الإسبتارية، كان “زعيم الداوية” ضمن الأسرى مع الملك. هذا نفس الفكرة التي ذكرها ابن الأثير عندما قال إن صلاح الدين -رغم شهرته حتى بين الصليبيين بالرحمة والعفو- “وفقًا لتقاليد القتال كان يكون قتل الداوية والإسبتارية نظرًا لعدائهم وشجاعتهم”!!

لذلك، بعد انتصار حطين “أدرك السلطان [صلاح الدين] أن الحاجة الحاسمة تكمن في تطهير الأرض من هذين الطائفتين الأشرسين؛ فأمر باعتقال جميع أتباع الداوية والإسبتارية ليكونوا تحت وطأته الحديدية، وجعل لكل من يجلب له أسيرًا منهم خمسين دينارًا (= ما يعادل حاليًا حوالي 10 آلاف دولار أمريكي)، فأحضر في الحال مئتين منهم”؛ وفقا للمؤرخ ابن واصل.

فعزز صلاح الدين نصر حطين والقدس بفتح الكثير من المدن والحصون التابعة للصليبيين على الشواطئ السورية، عرضها الذهبي -في ‘السير‘- على أكثر من ثلاثين مكان؛ وكان حلمه الدائم هو تطهير الأراضي بأسرها منهم، ثم نقل المعركة من جديد إلى أوروبا التي جاؤوا منها!!

فذكر كاتبه ابن شداد الموصلي -في ‘النوادر السلطانية‘- حوارًا جرى بينهما على شواطئ البحر المتوسط؛ ومن أقوال صلاح الدين: “هل أحدثكم عن شعوري الشخصي! إن الله سيسهّل علي فتح باقي الشواطيء.. سأبحر هذا البحر إلى جزره، وسأطاردهم (= الصليبيين) هناك.. أو سأموت”!! ولكن وافته المنية قبل أن يحقق هذا الحلم ليسفر الناس -حتى الفرنج- بحزن على براءته ووفاءه”؛ حسب الذهبي.

انحدار مؤقت
اسطان الأيوبيون مصر والشام -بعد وفاة صلاح الدين سنة 589هـ/1193م- في نزاعات شارك فيها أبناؤه الثلاثة ضد بعضهم، ثم ضد عمهم أبو بكر بن أيوب (توفي 615هـ/1218م) المعروف بلقب “العادل” بعد توليه الحكم في مصر، ومع ذلك، بحسب الذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘، كان لعل من “سيئات العادل [هو أنه] يستند إلى التحالف مع الفرنج ضد المسلمين”!!

وعقب وفاة العادل؛ بادرت الصراعات من جديد على العرش لكن هذه المرة بين أبنائه الثلاثة: المحترم عيسى (توفي 624هـ/1227م) والشريف موسى (توفي 635هـ/1238م) في الشام، والكامل محمد (توفي 635هـ/1238م) في مصر؛ وكانت هذه معارك مريرة ملأتها الخيانة والتعاون مع الصليبيين ضد بعضهم البعض!!

هذه الصراعات الداخلية أعيت طاقات ملوك الأيوبيين، وأبعدتهم عن المسار الذي اتبعته الأحداث من عهد عماد الدين زنكي حتى وفاة صلاح الدين، وبالتالي نقصت جهودهم الجهادية -بشكل عام- من الروح المبادرة وأصبحت مجرد تفاعلات لهجمات الصليبيين على الأراضي الإسلامية في إمبراطوريتهم المنتشرة، حيث استفاد الصليبيون من هذه الصراعات لاستعادة نشاطهم على طول الساحل السوري.

وبالإضافة إلى ذلك، بدأ الفرنجة في استغلال الفرصة لهجوم على ثغرة دمياط في شمال مصر فيما عُرف بالحملة الصليبية الخامسة (615-618هـ/1218-1221م)؛

حسبما يحكي جرجس ابن العميد (ت 671هـ/1272م) -في كتابه ‘أخبار الأيوبيين‘- أنه في سنة 615هـ/1218م “تقدمت الفرنج على دمياط وأراحموها بأشد حصار واحتلوا برج دمياط، فانسحب السلطان الملك الكامل عن دمياط ونزل بالقرب منهم، وحدثت بينهم أحداث كثيرة ومعارك هائلة..، فواجههم الملك الكامل بجنوده.. فانهزمهم وأسر جماعة كبيرة”.

إلا أن الكامل هذا قد فقد سمعته الطيبة في دمياط بارتكابه خطأ سياسي كبيرا بتحالفه مع الصليبين، بهدف دعم موقفه السياسي أمام أشقائه في الشام؛ حيث قام في سنة 626هـ/1229م بتسليم بيت المقدس إلى الإمبراطور الألماني فريدريك الثاني (ت 648هـ/1250م) في إطار ما يعرف بالحملة الصليبية السادسة.

تحدث المؤرخ ابن الأثير عن تأثير تلك الخطأ في نفوس المسلمين آنذاك؛ فقال: “واستولى الفرنج على بيت المقدس، واحتقروه المسلمون وكبروا عليه، وواجهوا من الضعف والألم ما لا يمكن وصفه؛ كان الله يسهل فتحه وعودته للمسلمين”!! ثم أعقبه في وصف هذا التأثير المؤرخ الواعظ سبط ابن الجوزي في ‘مرآة الزمان‘؛ فقال: “ووصلت الأخبار بتسليم القدس للفرنج، فحدثت الكوارث في بلاد الإسلام، وتفاقمت الأزمات لدرجة أنه أحييت المآتم…؛ [فـ]ـيا خزي ملوك المسلمين”!!

والغريب أن السلطان الكامل كان عارفا بالعواقب الكارثية لتصرفه هذا؛ إذ قام -قبل وقت قليل من توقيع اتفاقه مع فريدريك- بمراسلة أخاه الملك الأشرف موسى، مبررا له اهتمامه بالشام من خلال تحالفه مع الصليبيين، بحجة دعم موقفه السياسي بمصر؛ إذ قال وفقا لابن الأثير: “جئتُ إلى هذه البلاد (= الشام) بسبب الفرنج، إذ لم يكن هناك في البلاد من يعرقلهم عن إحراز أهدافهم…، وأنت تعلم أن عمي السلطان صلاح الدين فتح القدس، فأصبح لنا على ذلك عرض جيد بمواجهة التحديات وتقدير الزمان، وعندما أخذه الفرنج كان لنا عار وخزي ينافي ذلك العرض الجيد الذي سبقه، وما الوجه المتبقي لنا أمام الناس وأمام الله”؟!!

وبعد وفاة هذا الثلاثي المتناقض والمتصارع؛ ارث بعض إخوتهم وأبناؤهم تنافسا سلطويا ونزاعا مشينا، فوقع العديد منهم في خطأ خيانة الأمانة بالتحالف والتعاون مع الصليبيين، وهي ظاهرة أضرت بشدة بمشروع المقاومة طوال مختلف مراحلها حتى قيام دولة المماليك، وتضمن خروجا خارجا عن التكاتف العام في المقاومة الذي ضم الجميع بمن فيهم -أحيانا كثيرة- المسيحيون من شعبان البلدان الإسلامية.

كان أحد هؤلاء الأمراء الانخدعون الذين خانوا المقاومة الإسلامية ضد الصليبيين: الصالحُ إسماعيل بن العادل (ت 648هـ/1250م) الذي تولى حكم دمشق وجنوب الشام بعد وفاة أخيه الأشرف موسى سنة 635هـ/1237م. ولخص لنا الذهبي -في ‘السِّيَر‘- سلوك هذا الملك المخادع وسياساته المدانة؛ فقال: “إسماعيلُ تعاون مع الكفار وتسلم لهم القلاع، واحتل دمشق بسرقة، وخن بوعده، وقتل من الملوك والأمراء الذين كانوا يمكنهم المساهمة في الجهاد”!!

ومن تصرفات هذا الأمير الفاسد تقديمه -في سنة 642هـ/1244م- تحالف ملوك دمشق وحمص والكرك الأيوبيين مع الصليبيين ضد ابن عمهم سلطان مصر نجم الدين أيوب بن السلطان الكامل الأيوبي (ت 647هـ/1249م)؛ فذهبت جيوشهم بقيادة المنصور إبراهيم بن أسد الدين شِيرْكُوه الأيوبي (ت 644هـ/1246م) “تحت أعلام الفرنج وعلى رؤوسهم الصُّلْبان”! حسب تعبير الإمام سبط ابن الجوزي في ‘مرآة الزمان‘.

وفي مثل هذه اللحظة الهامة والمثيرة؛ ظهرت غزة بجرأتها وتصميمها كعادتها في عدد كبير من فصول تاريخنا، لا سيما مع الغزاة وحلفائهم الذين يتخفون في صفوفنا. فجرت بالقرب من مدينة غزة معركة هائلة عُرفت لدى العلماء بـ”معركة غزة”، وسميتها بعضهم “حطين الثانية” لتأثيرها الكبير في حماية غزة لمصر وعدم سقوطها في أيدي الصليبيين، بل جمعت بينها وبين الشام مرة أخرى تمهيدا للانتصار المدوي عليهم في “معركة المنصورة” بعد خمس سنوات فقط.

ودعونا الإمام الذهبي يروي لنا عن هذه المعركة الهامة وتبعاتها الضخمة والمفرحة؛ وقال في ‘تاريخ الإسلام’: “جرت المواجهة بجوار غزة، فهزم المنصور [إبراهيم] بشدة وانشدت القتال مع الفرنج..، وأسر جنود المسلمين الفرنج فقتلوهم وأسروهم ولم يفلت منهم إلا الهارب..، ووصلت جيوش دمشق.. [المتحالفة مع الفرنج] إلى حالة سيئة؛ وبالقاهرة تمتعت بليالي سعيدة، وجرت الاحتفالات [بالنصر]، ودخل الأسرى الفرنج والأمراء، وكان يوما مشهودا بالقاهرة”!!

جيل مبهر
مع صعود سنوات حكم الصالح نجم الدين أيوب، ابن السلطان الكامل الأيوبي (رحمه الله)، تكمن بداية حقبة جديدة يعتمد فيها على القوى العسكرية التركية ضمن هيكل جيش الأيوبيين، مما جعل مصر تعود إلى قوتها السابقة في زمن جده صلاح الدين. جمع الصالح “أكثر الضباط العسكريين من السلالة التركية، مما لم يحدث لأحد غيره من أفراد عائلته، حيث كان معظم ضباطه من العسكريين الذين ينتمون له”؛ كما ورد في كتابات قريبه المؤرخ الملك المؤيد الأيوبي (رحمه الله) في ‘المختصر في أخبار البشر‘.

وفي معركة المنصورة بمصر في عام 647هـ/1249م، نجحت المماليك -بفضل تدريبهم العسكري والديني الصلب– في الثبات القوي أمام القوات الصليبية التي قادها ملك فرنسا لويس التاسع (رحمه الله)، مما أدى إلى هزيمته واسره ومقتل نحو نصف جيشه الذي شارك في الحملة الصليبية السابعة (647-648هـ/1249-1250م).

يروي الأمير المملوكي المؤرخ ابن أيبك الدَّوَاداري (ت 736هـ/1335م) -في ‘كنز الدرر‘- حدثا شاهده في معركة المنصورة الحاسمة؛ حيث قال: “أظهرت المماليك تألقا في ذلك اليوم لدرجة إعادة تنشيط الروح الإسلامية، حيث كانت قلوبهم أقوى من الحديد؛ لم يمر سوى وقت قصير حتى وجد الفرنجة أنفسهم هاربين، والترك واقفين وقد انقلبت أوضاعهم”!!

منذ تأسيس دولتهم الحقيقية تحت حكم السلاطين المماليك، ابتداءً من بيبرس (رحمه الله) في عام 676هـ/1277م، أشعلوا نار الجهاد المستمر ضد الصليبيين من أجل طردهم بالكامل من الساحل السوري؛ باستنادهم على قوة وتماسكهم في السيطرة المركزية على الأراضي المصرية والسورية.

وخلال الفترة 659-690هـ/1261-1291م، نجحت المماليك في تحرير جميع المدن والقلاع والموانئ الإسلامية من سيطرة الصليبيين، وهو إنجاز لم تستطيع أجيال سابقة تحقيقه في محاولاتها لتحرير تلك الأراضي من سيطرتهم، مما أعاد النشاط والحيوية لمشروع التحرير الذي فقد زخمه خلال نصف القرن السابع الهجري/القرن الثالث عشر الميلادي.

يقول المؤرخ المملوكي ابن تَغْري بَرْدي (ت 874هـ/1469م) في ‘المنهل الصافي‘: “الملك الظاهر [بيبرس].. كان ملكا شجاعا وبطلا، عارفا بالحروب والاستراتيجية والسياسة والمعرفة. كان حريصا وسريع الحركة.. نال الفوز والنصر في معظم معاركه، وفتح العديد من الحصون من يد الفرنجة”؛ ثم اورد المؤرخ أكثر من 14 منطقة سورية تعتبر معاقل للصليبيين من المناطق التي تم التحرير منهم.

ولكن يعتبر الإنجاز الأبرز لبيبرس -الذي بدأ حماسة مطاردة الصليبيين في عام 663هـ/1265م- هو سقوط إمارة أنطاكية الصليبية في عام 666هـ/1268م، وهي ثاني إمارة صليبية تم تأسيسها، وكانت استعادتها إنجازا هاما للمسلمين بعد استعادة القدس على يد صلاح الدين قبل ما يقارب قرن من الزمان.

لفت المؤرخ ابن واصل إلى الإنجازات الكبيرة التي تحققت في عصر بيبرس مقارنة بأعمال نور الدين وصلاح الدين، وأشاد بتفوقه عليهما في ظل الضغوط التي تعرضوا لها بسبب هجمات المغول؛ فقال: “رحم الله الملك الناصر صلاح الدين.. لم تشهد الأمة مثله بعد الصحابة.. أو رجلا مثله ونور الدين محمود بن زنكى..؛ إذ جددا الإيمان بعد مرورهما..، وبعد ذلك جاء الله بالظاهر ركن الدين (= بيبرس) لتعزيز الإيمان، وكانت إنجازاته أكثر! إذ جاء بعد أن تمكن التتر(= المغول) من السيطرة على معظم الأراضي الإسلامية، وانقسم الناس على انعدم فرصة نهضة الأمة؛ لكنه استطاع هزيمة المغول، وحفظ الأراضي الإسلامية، واستولى على الحصون الساحلية من الفرنجة”!!

تحطيم كامل
وبعد وفاة بيبرس؛ تولى خليفته السلطان المنصور قلاوون الألفي (رحمه الله) مبارزة البقايا الصليبية في بلاد الشام، حيث استولى على عدة حصون صليبية، وواصل حملته بنجاح بإسقاط رابع إمارات الصليبيين تأسيسا وهي طرابلس الشام التي تم تحريرها في 688هـ/1289م. بتحقيق هذا الفوز، أكمل المنصور قلاوون فك تشابك إمارات الصليبيين الأربع التي نشأت عنها “المملكة اللاتينية في الشرق” أو “المملكة المقدسة” في بلاد الشام لقرنين تقريبا!!

المسلمون تحصيل عظيم”.

بعد ذلك، قام الحاكم قلاوون بالتحضير لاستعادة أحد أكبر حصون الصليبيين في بلاد الشام في عهده، وهو إمارة عكّا التي في الأصل لم تكن ضمن إماراتهم الأربع الأولى، بل كانت تشكل من فلولهم التي سمح صلاح الدين بانسحابها من القدس وغير الحصون الأخرى التي فتحها على الساحل.

ثم التقت هذه الفلول فيما بعد في صور كما ورد في كتاب ابن الأثير “اجتمع بها من جنود الفرنج وشجعانهم كل أمين، فزادت قوتهم”؛ بعد ذلك اعتدوا على عكا بدعم من زعماء الحملة الصليبية الثالثة التي وصلت عكا في سنة 587هـ/1191م بزعامة الملك الإنجليزي ريتشارد القلب الأسد (ت 596هـ/1199م)، واحتلوا المكان بعد حصار طويل وارتكبوا مذابح بحق سكانها وعذبوهم، وأقاموا فيها إمارة صليبية خامسة استمرت لقرون كاملة.

وفارق الحاكم قلاوون الحياة سنة 689هـ/1290م وهو في رأس جيشه في طريقه من القاهرة إلى عكا لتحريرها، فتولى مهمة تحريرها بعده ابنه الحاكم الأشرف خليل. وفي فجر 17 جمادى الأولى 690هـ/17 مايو 1291م، وبعد حصار استمر لأسبوعين؛ شن هجوم ضخم على أسوار المدينة وكانت الحرية والنصر الباهر.

ويصف الدواداري -في ‘كنز الدرر‘- جوانب هذا الحدث التاريخي الحاسم؛ حيث يقول إن الأشرف “انتقل إليها (= عكا) بالجيوش في فجر النهار قبل طلوع الشمس، ودوت الطبول النحاسية بشدة لإرهاب الأعداء مع طبول الأمراء، مع صيحات الأبطال وهدير الخيول وصوت الأسلحة؛ حتى بدا لسكان عكا [من الفرنج] كأن القيامة قد بدأت في ذلك الوقت!! ولم تشرق الشمس من برجها إلا والأعلام السلطانية الإسلامية على الأبراج، وهرب الفرنج وجهوا إلى الفرار”!!

وبالانتصار على الصليبيين في عكا في جمادى الأولى سنة 690هـ/1291م؛ انتهت صفحة دموية استمرت قرنين من الحروب الصليبية فـ”اكتملت بذلك استعادة جميع السواحل الإسلامية، وتطهرت بلاد الشام من الفرنج بعد أن كانوا حاكمين لدمشق ومصر”؛ وفقا للمؤرخ ابن الوردي (ت 749هـ/1348م) في كتابه التاريخي.

المصدر : الجزيرة



أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Exit mobile version