أسرار الحروف العربية.. عبيدة البنكي خطّاط مصحف قطري
مثل حرف “ألف” المكتوب بالخط الفارسي، كان عبيدة البنكي، رجل في الستينات من العمر، يرتدي بدلته الغامقة وقميصه الأبيض، مستنداً على باب منزله في تمام الساعة التاسعة، ينتظر صحفيًا من قناة الجزيرة نت الذي كان قد حدّد لقاءً معه.قبل أسبوع، لما نزلت من السيارة على الفور بدأ يرحب بي.
حين عبرت الباب الخارجي، أشار البنكي إلى الاتجاه الصحيح نحو بيت الشعر في فناء منزله. لا يزال العرب في شبه الجزيرة العربية يحتفظون بتقاليد الحياة البدوية، ويرمزون إلى الكرم من خلال بيوت الشعر التي يصممونها في فناء منازلهم، بعد أن اضطرتهم الحضارة للعيش في المدن. وعندما دخلت، كانت صور البنكي مع الزعماء تزين زوايا مجلسه، على اليمين صورة تكريمية تحملها من سمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وفي الجهة المقابلة صورتان للبنكي مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
لا يجمعني بالخط سوى حب للحروف العربية. لكن خطي تقريبًا لا يكون سهلا للقراءة. في عام 2018، رأيت فتاة في مكتبة الشبكة العربية في اسطنبول تكتب بخطٍ رقيق وأنيق. قررت أن أحسن من خطي عن طريق أخذ دروس منها. وبعد أشهر من الدروس، تزوجت من مدرستي، لكن لم يتحسن خطي.
ما إن استويت على الجلسة المنخفضة ووضعت مذكرتي وقلمي، وقربت هاتفي للتسجيل، حتى توجهت إليه وأنا ألقي نظرة على اللوحات المعلقة على جدران المجلس، “ما هي أول لوحة قمت برسمها؟” رفع رأسه الشيبي الواقف بكرامته ليتذكر “كانت أول لوحة قمت برسمها في عام 1975، في دير الزور. كتبت الآية الكريمة “إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم”.
“كانت بداية مبكرة بالتأكيد، فعليك أن تكون كنت في التاسعة من عمرك حينها! هل تذكر بدايتك في فن الخط؟” سألته بينما اقتربت من مقعدي إلى جانبه.
“منذ طفولتي أحببت الخط والرسم، كانت والدتي تقول: إذا أردت أن تلتفت عندك، أعطيتني أوراق وأقلام، لأنشغل بها وأغيب عن العالم. وفي المدرسة، حيث كان والدي مديرًا لها، كان هناك أستاذ يُدعى حسن خاطر، وكان يمنحني أقلام فلوماستر لأتداعى بها”، قال العبارة الأخيرة بلهجة ديرية ثقيلة. ثم واصل بلغته العربية الفصحى “وأنا في الصف الثاني، جاءنا وفد من وزارة التعليم، فطلب الأستاذ مني الكتابة على السبورة. لا أذكر ما كتبت، لكن أذكر تصفيقهم لي!”
في عام 1977، زار السادات الكنيست الإسرائيلي، وأثارت الخطوة التطبيعية ضجة في العالم العربي. كان البنكي وقتها في الصف السابع، وكان نشطًا في كتابة اللافتات المنددة بزيارة السادات خلال المظاهرات. منذ ذلك الوقت، بدأت المناسبات الوطنية تكون أعيادًا للخطّاط الشاب، قال لي وهو يستحضر تلك الأيام “فأصبحت على ما يبدو مشهورًا” (= اشتهر).
ولكن هذا النشاط لم يحوله إلى محترف في الخط، لا يزال هاويًا.
في الصف التاسع، تعلم البنكي لعبة كرة الطاولة وأصبح محترفًا فيها، وأصبح مندوبًا للبلاد وشارك في بطولات دولية.
“هل كانت كرة الطاولة سببًا في انشغالك عن الخط؟” سألته
“على العكس، كانت مفيدة جدًا بالنسبة لي. لم تكن مضيعة للوقت، بل كانت تدريبًا، وذهبت للمسابقات ورأيت أبطال البلاد وبدأت التدريب مثلهم.. الانضباط والنجاح اللذان حققتهما في الرياضة تأثرا إيجابيًا على خطي. علمت من كرة الطاولة أن الأمر لا يتعلق بالموهبة فقط، بل بالتأني والتدريب المتواصل، فتحكمت في اعصابي وطورت مهاراتي. كل هذه الدروس كان لها تأثير إيجابي على خطي. ربما دفعني الله نحو هذه الرياضة لأطور موهبتي في الخط!” كانت عيناه تلمعان وهو يتحدث عن كرة الطاولة.
“هل لديك طاولة في المنزل؟” سألته مسعى لدعوته لجولة كرة الطاولة، فأنا لست ماهرًا طبعًا، ولكن سنوات تدريبي على هذه اللعبة تجعلني أتقبل الهزيمة أمام البارع بعد بذل بعض الجهد.
“لا، خشيت أن تمتص وقت الأولاد من دراستهم، ويجب أن تتحدى من هو أفضل منك أو أقوى لتتطور. إذا تحدى أقرانك ستتراجع مستواك!” بعد هذا، أشار إليّ لأخذ قطعة من حلوى تيراميسو الموجودة في صحن بجانبي قائلا “تفضل قطعة من الحلوى”.
“كان غيابي عن التمرن خطأ قاتل! بدأت يدي ترتعش، لكن بسبب التدريب اليومي المنتظم على الخط لم أعد أشعر بهذا الارتجاف.”
“هل تكتب يوميًا؟ ألا تأخذ استراحة ليومين مثلا من التدريب؟” سألته سائلة بدهشة.
“يومين”
“عندما-وصلنا-خط-ابن-البواب،-لديّ-مصحف-طبعته،-أصله-في-مكتبة-دبلن-تشستر-وهو-طبعة-خاصة-لدي-اهتمام-خاص-بالمصاحف،-وعندي-مجموعة-رائعة-منها.”
-“كيف-وجدت-الخط؟”
“مذهل،-في-يده-سر-من-أسرار-ربِّنا،-كما-ذكر-الجيلاني-ولكن-مدرسته-مختلفة،-أثرَ-بها-المصريون-أكثر-من-العثمانيين”
دخل-فتى-وسيم-وطويل-حاملًا-القهوة-والمشروبات-“هذا-ابني-عبدالرحمن،-ولد-عام-2010-ولم-نزر-سوريا-منذ-ذلك-العام”
-“هل-لديه-اهتمام-بالخط؟”،-سألته-بنكهة-مرحة
“حاولتٌ معهُ-لكن-بدون-جدارة،-بناتي-لديهن-اهتمام-بالخط-بعضًا”
امتددت-يدِي-لآخذ-فنجان-القهوة-من-يدِ-عبدالرحمن-الذي-يعرف-الضيافة-ليُسكب-القهوة-بيساره-ويقدّمها-بيمينهً-من-دون-أن-يَفيض-الفنجان
-“كان-نحاور-عن-المصريين-والأتراك،-ما-هي-حال-الخط-العربي-اليوم-في-تلك-البلدان؟”
“ولولا-إرسيكا-لمات-الخط-العربي!-أحيته-تركيا-من-خلال-المسابقات-التي-تُعقد-بواسطتها-إرسيكا.-تُنظم-تركيا-المسابقات-في-الخط-على-مستوى-البلديات.-تأسّس-مركز-بحوث-للتاريخ-والفن-والثقافة-الإسلامية-إرسيكا-في-عام-1979-كفرع-منظمة-التعاون-الإسلامي-تقدمت-تركيا-بمشروع-المركز-خلال-مؤتمر-المنظمة-الإسلامية-العجيب-ووافقوا-عليه”>
أرشفة-من-الفنجان-الخاص-له-ثم-عاد-ليقول-“اكتشفتُ-إرسيكا-عام-1990-في-أول-رحلة-لي-إلى-إسطنبول،-شاركت-بعدها-في-أربع-مسابقات-وفزت-بعدد-كبير-من-الجوائز،-ثم-صبحت-حكمًا-فيها،-وبسبب-كثرة-المسابقات-غابت-أحيانًا-عني-بعضُها،-هناك-مسابقة-في-ولاية-قونية-الشهر-المقبل-ولم-أعلم-أني-أحد-الحكام-إلا-عبر-الإنترنت” وانفجر-بالضحك.
“ألم-تلاحظ-أنك-غزي-على-موقع-إكس-بتغزلك-بالشاي،-يبدو-أنك-تعشق-إسطنبول؟”
“بالمرة،-أذكر-أن-بالشاي-كثيرًا.-الشاي-مشروب-الحكماء.-نحن-في-دير-الزور-مثل-العراقيين-والأتراك،-وهم-يمجِّدون-الشاي،-لكن-طقسنا-في-الدير-أن-نضع-الورق-بعد-غليان-الماء-ونُغطيه-ربع-ساعة-عالأقل-في-العادة،-يجب-أن-يُغطى-حتى-يطهو-بثوانٍ”>
أما-تجرب-الشاي-التركي-المُغرْق-بموية-السماور؟
“بالطبع،-لكن-الشاي-التركي-المُغرْق-في-موية-السماور-لعد-التواء،-يكون-لي-شاي-من-ريزا-المدينة-التركية-له-لون-فاتح-أعجبني-وأمتزجه-بالسّيلاني-لأجمع-بين-لون-السّيلاني-ونكهة-التركي!”
عندما-شعرتُ-بأن-رحلته-بالحديث-عن-الشاي-أصابت-درجة-عالية-من-الغطس-أردتُ-أن-ينتقل-هذا-التدفّق-لقصة-كتابته-للقرآن-فاستهللته-بكلمات:
“هل-تروي-لي-تفاصيل-كتابتك-للقرآن؟”
“في-بداية-الألفية-2001،-أطلقت-وزارة-الأوقاف-في-قطر-مسابقة-لكتابة-المصحف،-تقدم-120-خطاطًا،-طُلب-منهم-في-المرحلة-الأولى-كتابة-خمس-صفحات،-صعد-سبعة-منهم-إلى-المرحلة-الثانية،-تضمَّنَت-التحدِّي-كتابة-جزئين-الثاني-والثامن-والعشرون-لاختبار-مهارتهم-في-معالجة-الآيات-الطويلة-والقصيرة،-تقدّمنن-به-اثنين-لم-أكُن-واحدًا-منهما،-بدأا-الانطلاق-بكتابة-المصحف-كاملًا.-في-2004-تركتُ-سوريا-إلى-قطر-للالتزام-بكتابة-المصحف،-ولازمني-الكتابة-ثلاث-سنوات-ونصفًا.-أنعزل-أقدم-جهدي-يوميًا-بلا-انقطاع.يفصلني شيء غير الصلاة، كنت بين عبادة وتأليف. بعد الإتمام، قمت بالسفر إلى مصر لمراجعة القرآن في الأزهر، فحققته ثلاث مرات قبل الطبع. ثم جهزت إلى اسطنبول لطباعته هناك.
“كيف كانت طقوس التأليف؟”
“الخط من أساسياته الروح، عليك عند جلوسك لتأليف الوحي، أن ترتقي بنفسك من الكبرياء والغطرسة، لأن ذلك يتداخل مع الحروف، وينبغي عليك أن تستمطر رحمة الله أثناء الكتابة، تشعر بأن الله هو خالقك وخالق فعلك، يمده بتلك النبضة، وعليك أن ترافق الأذكار وأنت تكتب، هناك أذكار خاصة تنقلب بها لغتي أو ترددها في قلبي أثناء كتابتي.”
“هل تختلف إحساسك عند تأليف آية أو بيت شعر؟”
“الآيات تحمل حالة قدسية وبهاء، إنها كلام الله! وأنت مبتدأ من الله وليس من البشر. لو عرفت الملوك هذه الحقيقة لمحاربوك عليها بالسيوف، فعندما تشاهد وأنت في هذا الحال أحد لا يملك نعمة توازي نعمتك فقد تستصغر حقيقتك وتقدّر قدرته، إن الله اختارك لتأليف كلامه. وهذا عطاء من الله.
في القرآن، تترابط الجودة مع التأليف والعلم، “اقرأ وربك الأكرم”، لم يقل الأعلم! وفي آية أخرى “كرامًا كاتبين”، حيث تتبين لك أن العلم والتأليف في القرآن هبة إلهية. تلك الحروف هي أرواح، ويجب أن توجّه كل حواسك نحوها. يقول ابن عربي إن الحروف أمة من الأمم مسؤولة بشكل كامل مثل البشر!. هذا تجربة تعيشها؛ تجد حرفاً منظماً ولكنه محزن، وآخر يبرق بالنور. تتباين تفاعلاتك معها من الانقطاع والقبول، وهذا بناءٌ على مقامها.”
“هل تشعر أن هذا العمل سيرث على شكل صدقة جارية لك لآجال طويلة وعدد قارئين؟”
“تذكرت هذا المعنى فيما بعد. كنت ناوياً على تأليف المصحف، كل خطاط يطمح لكتابة مصحف، فحقق لي الله تلك المراد، وفي مسابقة دولية، وتم طباعة ملايين النسخ. هذا الاختيار ليس بفعل أو تصرف منّي، بل إنه كرم من الله.
في عام 1983 قال أحد زملاء البنكي له “لماذا لا تتعرف على مصطفى طلاس؟”، كان وزير الدفاع السوري حينها شغوفًا بالخط العربي، ومن هوايته دعم الخطاطين، “نصحت مصطفى طلاس بخطاط دمشقي، فكلّفه بكتابة مصحف، ولو كنت أعرفك لترشحت له”. روى له الزميل.
“في ذاك الزمان كانت البلاد في حالة فوضى سياسية، صممت لوحة كبيرة، كتبت عليها البسملة بخط محكي، وتحتها كتبت بالنسخ: واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا. حملت اللوحة وغادرت إلى دمشق، وحضرت إلى بيت طلاس، صهلت الجرس، فأبلغوا عن غيابه عن مسكنه ونوهوا بتواجده في مكتبه الأركان. في اليوم التالي حضرت إليه في مكتبه، وأعلم من الموظفين: إنه في لقاء مع مونتي كارلو، لويس فارس، تستطيع العودة غدًا. فعلمت أنني مرفوض منه، وأن الطامح لرفع الأشخاص لتأليف كلام الله، لن يرتفع بالفعل، فأخذت اللوحة وأهديتها لأحد المساجد. ثم عدت إلى بيتي.”
مددت يدي لأوقف التسجيل، وأعربت عن شكري له على الضيافة وإجراء المقابلة.
سألني: “هل لديك زيارة قادمة قريبة لإسطنبول؟”
“نعم، بعد أيام.”
“أودّ إرسال إحدى لوحاتي لأحد أصدقائي هناك ليقوم بالتذهيب عليها، هل يمكنك حملها معك.”
“بالتأكيد، أنا سعيد بذلك أيها السيد”
بعد غياب قصير، عاد بلفافة عرضها نصف متر تقريبًا، “ها هي!” أخرج اللفافة من الصندوق الأسطواني وفكها، ورأيت في داخلها عبارة رائعة مكتوبة بخطّ جميل:
” سئل غجرية: ما الجرح الذي لا يندمل؟ ردت: حاجة الكريم للخائن ثم يرده”
أخذت اللفافة فرحًا بنجاحي في تلبية طلب الخطّاط الكريم.