ابتدأت في الفترة النبوية واستخدمت مؤقتًا لوجبة السحور وشكّلت مصابيحها ثروات أنتجها حكام الظلم والصليبيون.. إظهار الجوامع في شهر رمضان

By العربية الآن



ابتدأت في الفترة النبوية واستخدمت مؤقتًا لوجبة السحور وشكّلت مصابيحها ثروات أنتجها حكام الظلم والصليبيون.. إظهار الجوامع في شهر رمضان

صور من التاريخ الإسلامي - 2
عرض الصحابي الشريف تميم بن أوْس الضاريّ (ت 40هـ/661م) يومًا من رحلته “نقل معه من البلاد إلى المدينة مصابيح وزيتًا وحبلًا، فعند وصوله إلى المدينة كانت يوم الجمعة فأمر خادمًا له -يدعى أبو البَرّاد- فقام فشد الحبل..، وعلق المصابيح وصب فيها الماء والزيت، وضع فيها الفُـتُلَ، فعند غروب الشمس أشعلها، فخرج نبي الله ﷺ إلى الجامع فإذا هو يُضيء بشدة؛ فقال: «مَن هو القائم بهذا»؟! قالوا: تميم يا نبي الله؛ قال: «سلمتَ الإسلامَ، سلم الله عليك في الدنيا والآخرة»!!

هذا التعبير النبوي المجازي الذي وصف إظهار الجوامع بأنه “إنارة للإسلام” يرسم أركان فلسفة الهندسة المعمارية الإسلامية، ويؤسس للعلاقة بين الجانب المادي والروحي في عمليات البناء والتشييد في ميدان العمارة الإسلامية. وربما كانت أحد أسباب

سُرور النبي محمد صلى الله عليه وسلم بإضاءة المساجد يأتي من توسيع نطاق الأنوار وتبديد الظلمات من حول المصلين، حيث ينعكس النور على وجوه بعضهم البعض، مما يرفع من حالتهم النفسية ويزيد من طمأنينتهم. بارتفاع الأنوار، تنعكس الراحة والفرح في نفوس المصلين داخل بيت الله الحرام.

في الصحراء، يكتسب النور قيمة خاصة لسكانها الذين يتمتعون بقوة استثنائية في فهم أهميته. وقد نزل القرآن الكريم على بلاد العرب كنور يُخرجهم من الظلمات إلى النور، حيث وصف الله نفسه بأنه “نور السماوات والأرض”. وتحدثت سورة النور عن النور كواحدة من صفات الله العظيمة.

في العصور الأولى، ارتبط النور بالأعمال الجليلة، وعمّت حبه القلوب، حيث أنار المساجد منذ سنوات عديدة. تطوّرت فنون الإضاءة عبر العصور، حيث تفنّن المسلمون في صنع القناديل والفوانيس، وخصوصاً في أوقات العبادة الدينية.

أما في العصر الحديث، فقد ازدادت أهمية الإنارة في المساجد بفضل رعاية الدولة واهتمامها بها على غرار خليفة عمر بن الخطاب. وعبر العصور، تطوّرت تقنيات الإضاءة وازدادت تعقيداً، لتصبح الفوانيس وسائل تعبير عن التقاليد والثقافة.

ومع تطوير تكنولوجيا الإنارة، أصبح للفوانيس استخدامات أخرى في شهر رمضان كمساعدة لمعرفة وقت السحور وإعلام الناس بدخول شهر رمضان.(يتوهج بشكل قوي)؛ فقال: «من أنجز هذا»؟ قالوا: تميم يا سفير الله. قال: «سطعتَ الإسلام، سطع اللهُ عليك في الدنيا والآخرة»!

حكى قصة تميم الداري هذه -بأسلوبٍ مختلف- الحافظ ابن عبد البر الأندلسي (ت 463هـ/1071م) في كتابه ‘الاستيعاب في معرفة الأصحاب’، والإمام المؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) في بعض أجزاء من كتابه ‘أسد الغابة في معرفة الصحابة‘، ونص الحكاية الذي قدمناه هنا نقله ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) -في كتابه ‘الإصابة في تمييز الصحابة’- موضحاً أن سندها “ضعيف”، دون أن يمنعه ذلك من ذكرها كسرد تاريخي يتعلق بحياة أحد أعلام الصحابة. وقد سبقه شمس الدين الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في ترجمة تميم الداري من ‘سير أعلام النبلاء‘- إلى تقديم محتواها على الرغم من ضعف سندها؛ فقال: “حديث ابن ماجه (ت 273هـ/886م) -بسند ضعيف- عن أبي سعيد الخُدْري (ت 74هـ/694م) يقول: أوَّل من أسرج في المساجد تميم الداري”.

وما يستحق الانتباه هو أن أنوار النور كانت رافقت ظهور شهر رمضان -كونه شهرًا لنزول آيات القرآن- منذ عهد عمر بن الخطاب (ت 23هـ/645م)؛ إذ خرج الفاروق “ليلاً في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقين، يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: «أرى لو جمعتُ هؤلاء تحت إمام واحد سيكون ذلك أفضل»، فقرر أن يجمعهم عند أبي بن كعب (ت 22هـ/644م)” وصلى معهم. وهذا كان أول تجميع للناس كلهم لصلاة التراويح؛ كما روى البخاري (ت 256هـ/870م) في صحيحه، وغيره من أئمة الحديث.

ومع تحول إقامة ليل رمضان إلى نشاط جماعي؛ احتاج الناس إلى إضاءة استثنائية فسطعت ليلة المدينة النبوية بنور لم يشهده في باقي الشهور. فذكر الإمام ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) -في كتابه ‘المنتظم‘- بسنده عن عمرو بن عبد الله الهمدي المعروف بـ”أبي إسحق السبيعي” (ت 127هـ/746م): “قال: خرج علي بن أبي طالب (ت 40هـ/661م) في الليلة الأولى من شهر رمضان، فسمع القراءة في المساجد ورأى القناديل تضيء، فقال: سطع الله على عمر بن الخطاب قبره كما سطع أماكن الله تعالى بالقرآن”.

وهكذا كان فعل عمر هذا أول ربط بين الإضاءة الاستثنائية والقناديل المعلقة وبين ليالي رمضان؛ ولهذا قال المؤرخ السمهودي (ت 911هـ/1505م) في ‘خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى‘: “أما مصابيح المسجد فقيل أول من علق المصابيح بالمسجد كان عمر بن الخطاب عندما جمع الناس في التراويح تحت إمام واحد”.

وفي سياق أنوار الحرمين الشريفين تاريخياً؛ يقول الأزرقي (ت 250هـ/864م) في ‘أخبار مكة‘: “أول من أضاء لأهل الطواف والمسجد الحرام جَدِّي عقبة بن الأزرق بن عمرو الغساني، كان يضع مصباح كبير على جانب منزله يضيء لأهل الطواف والمسجد، وكان منزله ملاصقًا للمسجد..، وظل يضع ذلك المصباح.. حتى وصلت سلطة خالد بن عبد الله القسري [على مكة]، فوضع مصباح زمزم مقابل الركن الأسود في عهد عبد الملك بن مروان (ت 86هـ/706م)، فمنعونا من تعليق المصباح فرفعناه”.

تقليد مستقر
وبحسب العديد من عادات الإنسان؛ تحولت القناديل الرمضانية من تصرف ضروري إلى تقليد مستقر، فأصبحت الإضاءة الاستثنائية في ليالي رمضان جزءاً من تقاليد هذا الشهر المبارك التي يميزها. وتناقل الإمام القرطبي (ت 671هـ/1269م) -في تفسيره- عن العلماء قولهم إنه “من الأفضل.. يزاد في شهر رمضان في إنوار المساجد”.

ثم لم تمض وقتاً طويلاً حتى صارت القناديل جزءاً من نفقات المسجد التي تُصرف من خزينة الدولة؛ إذ أشار ابن الفقيه الهمذاني (ت 365هـ/977م) -في كتابه ‘البُلدان‘- إلى أن الخليفة الأموي “معاوية (ت 60هـ/681م) كان أوَّل من زان الكعبة بالزعفران والبخور، ووجه الزيت لقناديل المسجد من بيت النفقة العامة”.

وفي بدايات الدولة العباسية؛ بدأ الناس يتوسعون في تعليق القناديل في المساجد بمناسبة دخول رمضان، وبتوجيه رسمي من قادة الدولة؛ فـ”في الأول من نظم قناديل في المساجد في شهر رمضان كان الفضل بن يحيى البَرْمَكي (ت 192هـ/808م)” عندما كان واليًا للخلفاء العباسيين في الشرق؛ حسب ما ذكره النَّرْشَخيّ البخاري (ت 348هـ/959م) في ‘تاريخ بُخارَى‘.

وليس واضحًا ما إذا كان النَّرْشَخيّ يشير هنا إلى الأولية في العموم أم حسب اعتبار مدينة بخارى (التي تقعاليوم في أوزبكستان والمناطق الشرقية الإسلامية، يؤكد الأزرقي بأن “الثريّات التي تستخدم في إنارة شهر رمضان.. ثماني ثريّات: أربعة صغيرة وأربعة كبيرة، تُستخدم الكبيرة منها في شهر رمضان”. من الممكن أن تكون عادة توجيه الأضواء الكبيرة لرمضان قديمة في مكة قبل ظهور فضل بن يحيى، كما رأينا زيادة في إضاءة المسجد النبوي في رمضان أثناء فترة حكم الفاروق؛ ومن الممكن أن تكون هذه العادة قد انتقلت إليها من بُخارى.

يبدو أن البرامكة كانوا معروفين بالاهتمام بإنارة المساجد خلال المناسبات الدينية الشعبية، ولذلك لم يكن اهتمامهم بإشعال القناديل مقصورًا على رمضان فقط؛ إذ يشير ابن دحية الكلبي الأندلسي (ت 633هـ/1236م) -حسب ما رواه ابن مفلح الحنبلي (ت 763هـ/1362م) في كتابه ‘الفروع‘- إلى أن “البرامكة كانوا أوائل من ابتكروا ليلة الوقود (نصف شعبان) التي يطلق عليها الجمهور “ليلة الوقيد”؛ ويرجع ذلك لأنهم كانوا مجوس يعبدون النار”! وهناك بعض العلماء الذين خالفوا ابن دحية في هذا الرأي؛ حيث دافعوا عن البرامكة وصفوهم بأنهم “حنفية، سيرتهم حسنة ودينهم صحيح، وأمروا بذلك لإظهار رمز الإسلام”.

بصرف النظر عن ذلك، يعتبر ذكر قناديل رمضان في العصور القديمة دليلاً على عدم صحة الروايات التي يرويها العديد من الباحثين المعاصرين، التي تقول إن أصل فوانيس رمضان بدأ مع حكم الخليفة المعز لدين الله (ت 365هـ/977م) للقاهرة بمصر، إذ بدأ إضاءة القناديل في رمضان منذ عهد عمر كما ذكرنا سابقًا، وتخصيص قناديل معينة لرمضان مذكور في كتب ‘أخبار مكة‘ للأزرقي و‘أخبار مكة‘ للفاكهي (ت 272هـ/885م)، وكلاهما توفيا قبل وصول المعز بزمن. وإذا اعتمدنا على قول النرشخي بأن الفضل البرمكي كان أول من أمر بقناديل رمضان، فإن الفاصل بينه وبين وصول المعز للقاهرة يبلغ حوالي قرنين!

خصوصية مصرية
وعلى الرغم من الأدلة القاطعة على انتشار قناديل رمضان في العالم الإسلامي، وخاصة في مكة المكرمة والبيت الحرام قبل ظهور الدولة الفاطمية بأصلها؛ فإن لمصر خصوصية لا يمكن إنكارها فيما يتعلق بالأضواء الرمضانية، ومن هذه الخصوصية “الفانوس”.

والفرق بين “الفانوس” و”القنديل” يكمن في أن القنديل يوقد بالزيت (أو النفط حديثًا)، وعادة ما يصنع من الزجاج. بينما يوقد “الفانوس” بالشمع، وقد وصفه المستشرق الهولندي رينهارت دوزي (ت 1300هـ/1883م) كـ “مصباح خفيف الوزن مصنوع من القطيفة المشمعة، مرتبط بحلقات من الأسلاك المطلية بالقصدير”.

وفيما يتعلق بإضاءة الفوانيس بالشمع، يتحدث المؤرخ المقريزي (ت 845هـ/1441م) -في ‘المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار’- عن الاحتفالات المسيحية بعيد الميلاد: “وجدنا أعياد الميلاد في القاهرة.. -وباقي مناطق مصر- فصارت مواسم بارزة، حيث يتم بيع الشموع المزينة بألوان جذابة، والتماثيل الرائعة، بأموال لا تحصى، حتى لا يتبقى أحد دون شراء شيء لأطفاله وأسرته، وكانوا يطلقون عليها: الفوانيس -واحد منها فانوس- ويتم تعليقها في الأسواق بالحوانيت بشكل رواج يصل إلى الإسراف، مما يتسابق الناس في المبالغة في أسعارها، لقد وجدت شمعة واحدة تكلفت ألف درهم وخمسمئة درهم فضة (= تقريبًا 2000 دولار أمريكي اليوم)”.

ولقد سبق للمقريزي أن ذكر استخدام القبط للشمع والمشاعل في احتفالاتهم المؤرخ المسعودي (ت 346هـ/957م)؛ حيث تحدث -في ‘مروج الذهب‘- عن مشاركته في “عيد الغطاس” (الذي يُقام سنويًا في يناير/كانون الثاني) في سنة 330هـ/942م، حيث شارك المسلمون الأقباط في احتفالاتهم رسميًا وشعبيًا. وأشار المسعودي إلى أن الأمير المصري آنذاك الإخشيد محمد بن طغج (ت 334هـ/955م) “أمر بإشعال ألف مشعل بالإضافة لما يشعله أهل مصر من مشاعل وشموع، وحضر النيل في تلك الليلة مئات آلاف من الناس من المسلمين والمسيحيين، دون تفرقة دينية، حيث قدموا كل ما يمتلكونه من أطعمة ومشروبات وتسالي ومواويل.. في أفضل ليلة في مصر مليئة بالفرح، لا تغلق فيها الطرق”.

يبدو من نص المسعودي هذا أن مسلمي مصر زادوا على إضاءة القناديل الزيتية في رمضان تأثرًا بجيرانهم الأقباط، وأصبحوا يتنافسون فيحركتها واقتنائها واكتسابها -قرب حلول شهر رمضان كما يحدث في الاحتفالات بعيد الميلاد والغطاس- كانت تُعد كالمنافسة بين الأديان. ونظرًا للجودة العالية والمهارة والجمال التي وصفها المقريزي؛ فلا عجب أن حظيت بشهرة وانتشار وتطور سنة بعد أخرى، حتى سيطر عليها المسلمون لدرجة أصبحت تُرتبط ارتباطًا وثيقًا بشهر رمضان بشكل حصري تقريبًا.

سجل لنا المقريزيّ تزامن فعاليات المسلمين والأقباط في احتفالاتهم بأعيادهم وفصولهم بواسطة الشموع والفوانيس؛ إذ ذكر في كتاب ‘المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار’: “وكان يُعلق بهذا السوق (= سوق الشماعين) الفوانيس في موسم الغطاس، فتصير رؤيته في الليل من أنزه الأشياء، وكان به في شهر رمضان موسم عظيم لكثرة ما يُشترى ويُكترى من الشموع الموكبية، التي تزن الواحدة منهنّ عشرة أرطال فما دونها، ومن المزهرات العجيبة الزيّ المليحة الصنعة، ومن الشمع الذي يُحمل على العَجَل (= العربات)، ويبلغ وزن الواحدة منها القنطار (= بمصر 44.9 كغ) وما فوقه”.

علامة رمضانية
وبالرجوع إلى قناديل رمضان في المساجد؛ فقد تحوّلت عبر الزمن إلى علامة تميز رمضان عن باقي أشهر السنة وفصولها. ومن ذلك ما ورد في وصف ابن جُبَير الأندلسي (ت 614هـ/1217م) -في رحلته- للمشاهدات الرمضانية في المسجد الحرام عند زيارته لمكة، حيث وصف لنا احتفال سكان مكة ببداية رمضان لعام 579هـ/1183م بالقول: “ووقع الاحتفال في المسجد الحرام لهذا الشهر المبارك.. من تجديد الحُصُرِ وتكثير الشمع والمشاعيل.. حتى تلألأ الحرم نورا وسطع ضياءً”.

وأشار ابن جبير إلى المنافسة بين جماعات المصلين من أتباع المذاهب الفقهية الأربعة في إشعال الشموع خلال ليالي رمضان، وتفوقت مذهب المالكية في هذه المُنافسة؛ حيث قال: “وأما المالكية فاجتمعت على ثلاثة قرّاء يتناوبون القراءة، وهي في هذا العام أحفلُ جمعًا وأكثر شمعًا لأن قومًا من التجار المالكيين تنافسوا في ذلك، فجلبوا لإمام الكعبة شمعًا كثيرًا، من أكبره شمعتان نصبتا أمام المحراب فيهما قنطار، وقد حفّت بهما شمع دونهما صغار وكبار، فجاءت جهة المالكية تروق حُسنا”.
ومن بين الذين ذكروا استقبال رمضان بالمشاعل والفوانيس والشمع كان ابنُ بَطُّوطَة (ت 779هـ/1377م) في رحلته؛ قصة وصوله إلى مدينة أبيار شمال مصر، ومشاهدته لـ “يوم الركبة”، وهو اليوم الذي يجتمع فيه قاضي المدينة والأعيان والشعب “في موقع مرتفع خارج المدينة.. وقد فُرِش.. بالبُسط والفُرُش، فينزل فيه القاضي ومن معه ليراقبوا الهلال، ثم يعودون إلى المدينة بعد صلاة المغرب وبأيديهم الشمع والمشاعل والفوانيس، ويضيئون الحانات بشموعهم…، وهكذا تكرر كل عام”!

وبهذه الطريقة، أصبحت الأنوار رمزًا حقيقيًّا لبداية ونهاية شهر رمضان؛ فعندما يحل، تضيء وتزهر، وعندما يرحل، تخمد وتنطفئ؛ كما ذكره شمس الدين ابن خُمارَوَيْه (ت 953هـ/1546م) -في كتابه ‘مفاكهة الخلان في حوادث الزمان‘-، حيث أشار إلى أنه في أخر ليلة من شهر شعبان لعام 895هـ/1490م “استعد أهل دمشق لصوم اليوم التالي، وصنعوا الأقراص المشبكـ[ـة] والبسيس (= كعك) وأنواع أخرى من المأكولات، وعُلقت القناديل المضاءة بعد صلاة المغرب خارج الجامع الأموي، وقال المُفلقُون (= أهل الفلك) إن رؤية هلال رمضان آنذاك صعبة..، وعندما حضر القضاة إلى الجامع -كالعادة- لم ير أحد الهلال، فعومل الشخص الذي أضاء القناديل بانتقاد من أهل ‘جامع يَلْبُغا‘، فأخبروه بذلك وأطفأوها.
ثم حضر شخص آخر وأشهد أن أول يوم من شهر شعبان كان السبت وأنه شاهد الهلال ليلة السبت، وجاء آخر وشهد أنه رأى هلال رمضان بعد صلاة المغرب في تلك الليلة وكان صاحب الشهادة موثقًا؛ وقررت السلطات قبول الشهادته وأُعيدت القناديل، لتبدأ الناس الصيام”. وأضاف أن هذا التكرار وقع أيضًا في دمشق لعام 923هـ/1517م في الليلة الأخيرة من شهر شعبان، حيث “حدث تختلف حول بداية شهر رمضان، ولم يتمكن أحد من رؤية الهلال، فتم إطفاء قناديل ‘مئذنة العروس‘ في الجامع الأموي بعد تشغيلها، ثم تم تثبيت [ظهور الهلال] بقرار من بعض القضاة، فأُعيدت القناديل وأصبح الناس يتبعون الصيام”. وقد أُطلق اسم ‘مئذنة العروس‘ على تلك القناديل بسبب كثرة الشموع وأنوار الزينة التي تُعلق عليها!!

وقبل ابن خُمارويه بمائتي عام، أشار ابن كثير (ت 774هـ/1372م) -في ‘البداية والنهاية‘- إلى أن تعليق القناديل كان علامة متفق عليها بين الناس؛ فقد “تُثبت (= تُحدد) السلطات شهر رمضان..، القاضيتقي الدين الحنبلي (و. 715هـ/1315م)، حينما كانت السماء ملبدة بالسحب، تم تعليق القناديل وأقيمت صلاة التراويح، مما جعل الناس يتفائلون بقدوم شهر رمضان المبارك وبركاته”. وقد أصدر عدد من العلماء فتاوى تفيد بوجوب الصيام لمن رأى إنارة القناديل كدليل واضح على حصول هلال رمضان، ولهذا اعتبروا “رؤية القناديل المعلقة في أعلى المنارات في أواخر شهر شعبان في صدد الرؤية [لهلال رمضان]؛ كما ورد ذلك في مصنف الشربيني الشافعي (و. 977هـ/1569م) في ‘المحتاج’.

تقليد ثابت

لم تقتصر عادة اشعال القناديل على شهر رمضان فقط، بل امتدت إلى الاحتفالات بمناسبات أُخرى غير “المواسم” على حد قول الأزرقي في ‘أخبار مكة’. تضمنت هذه العادة اشعال القناديل في ليالي منتصف شهري رجب وشعبان، وفي ليالي أخرى مرتبطة بالمواسم. وكان لليلة منتصف شعبان في جامع الأموي أهمية خاصة، حيث كانت -كما ذكرنا- تُعرف بـ “ليلة الوقيد”، وسجل ابن كثير -في ‘البداية والنهاية’- استمرار اشعال القناديل في تلك الليلة لمدة تفوق الثلاثمئة سنة! حتى وصل الناس إلى قناعة “بأنه عندما تُطفئ هذه القناديل في عام ما يكون سيد العصر (= الحاكم حينها) مهددًا بالموت، وهذا الاعتقاد ليس له أي أساس حقيقي سوى الخيال والوهم”!

وفي مصر؛ أورد المقريزي -في ‘اتعاظ الحنفا’- أن “في ليلة منتصف شهبان (و. 402هـ/1012م) كثّرت عمليات اشعال القناديل في المساجد، وتنافس الناس في هذا”. وأشار في أحداث شهر رجب سنة 415هـ/1025م: “شهدت ليلة منتصف شهبان حضورًا كبيرًا، حضرها الخليفة الظاهر (و.427هـ/1037م) بالإضافة إلى السيدات والخدم الخاصين.. وعدد كبير من الناس العاديين والمواطنين، وكانت ليلة تاريخية لم يشهد مثلها من أيام الخليفة العزيز بالله (و. 386هـ/997م)، وأُضيئت جميع المساجد بشكل جيد والقناديل شُعلت بكثافة”. وأفاد كذلك بأن الأمور تجري في تلك الأيام المباركة بنفس النمط المتبع في تجديد بناء المساجد والجوامع، وتعزيز عادة اشعال القناديل واستعمال الزيت وتكثيف الإضاءة.

يبدو أن عادة زيادة إنارة قناديل المساجد في الليالي الموسمية كانت متفشية في البلدان الإسلامية في عهود مختلفة، لا سيما في زمن الدولة العثمانية حيث تألقت هذه الرواج بقوة؛ فذكر ابن خُماروي في ‘مفاكهة الخلان’ بأن “في.. ليلة منتصف شهبان [و. 926هـ/1520م] تم اشعال قناديل جامع ابن عربي في دمشق وجامع الأموي بالكامل بطريقة اعتيادية معتادة في تلك الدولة الرومية (= العثمانية)، إلا أنهم قاموا بإنارة منارتيها فقط في تلك الليلة”. ولذلك ليس غريبًا أن يُطلق الأتراك اسم “ليالي القنديل” (Kandil Geceleri) على الليالي الموسمية -ليلة المولد ومنتصف شهبان وليلة الإسراء- نظرًا لكثرة اشعال القناديل فيها!

بالإضافة إلى هذا، فإن أغرب سبب لاشعال قناديل المساجد حدث عندما قام متولي أوقاف الجامع الأموي الشيخ إبراهيم الجباوي (و. 1170هـ/1756م) بتزيين الأسواق بالقناديل والشمع بمناسبة حفل زفاف أحد أحفاده في 10 شهبان 1161هـ/1748م “حيث طلب تزين الأسواق بالقناديل والشمع، وأمر بإضاءة منارات الجامع الأموي”. وقد تبوأت هذه الحادثة مكانة خاصة عند بُدَيري الحلاق (و. بعد 1175هـ/1761م) في كتابه ‘حوادث دمشق اليومية‘.

الإضاءة في ليالي السحور
لم تكن وظيفة قناديل رمضان مقتصرة على إضاءة المساجد وتجميلها، بل تبوأت مهامًا واستخدامات أخرى، من أبرزها استخدامها لمعرفة وقت السحور وأيضًا لتنبيه الناس برؤية هلال رمضان. ومن بين الأمثلة ذلك الذي ذكره ابن جُبير في رحلته: “المؤذن الزمزمي كان يقوم بتوقيت السحور في المئذنة التي في الناحية الشرقية من المسجد نظرًا لقربها من إقامة الأمير، حيث كان يقوم بذلك في وقت منتصف

تحقيبا ونبذة ومُستفسرًا عن السحور وبجواره أُخوةٌ صغارٌ يرددانهاما يقول..، وتُركب في أسفل المئذنة لوحًا طويلًا في رأسه عصا كشاب، وبذراه بكارتين صغيرتين يُرتفع عليهما كأسين زجاجيين كبيرين لا زالا يمتطيان فترة التجهيز للصيام، حين يقترب طلوع مُعدلٍ الفجر وينطلق الشارة بالتوقف، تُوقف المؤذن المُذكور الأكواب من قِمة اللوحة ويبدأ بالإذان..، فمن لم يسمع نداء التجهيز -من غير المقيمين بالقرب من الجامع- يُبصر الأكواب يمتطيان في قمة المئذنة، وإذا لم يُرَهما يتأكد أن الوقت قد قُطِع”.

يشير ابن الأشقاء القرشي المُحتسب (ت 729هـ/1329م) في ‘علامات الأقربة في مطالب الحسبة‘ إلى شدة ارتباط إضاءة الشمعة لدى الصائمين بالتعيين على جداول الإمساك؛ إذ قال إن مؤذن جامع الحي إذا “عجز عن إيقاف الشمعة القليلة، فإنّ من سمع الإذان لركوبه بتناوله على رؤية الشمعة وتشغيله وإيقافه”.

وهكذا كانت إضاءة الشموع أحدى وسائل تركيز الناس على السحور ووقته بقاءً أو انقضاءً، مع النداء بالتجهيز الذي كان يحيط به المؤذنون. ويُعود تاريخ التجهيز إلى زمن حكم خالد بن عبد الله الخاسري (ت 126هـ/745م) على مكة وفقا لما ذكره الفاكهيّ -في ‘حبريات مكة‘- الذي يقول: “فهناك بعد الليلة الكاملة -وهذا قدر الإذان الأول أو الأكثر- حضر المؤذن إلى البرج الملاصق لأجياد (= منطقة بمكة المكرمة)، وقد تجمع المؤذنون المتفرقون تحت البرج سابقًا من خارج الوادي، فرفع أعلى صوت له: السحور رعاكم الله، تناول رعاكم الله، فينفذ هذا مرتين أو ثلاث مرات، فيجيبه المؤذنون المجتمعون تحت البرج ويهتفون: تناولوا، ويتفرقون في أزقة مكة يُعلنون على الناس بالسحور إلى قُرْب ال فجر”.

علامة موسّعة
أما استخدام الشموع في التعيين على وقت السحور فلم أجد معلومات عن بدايته، لكنه لم يكن مقيّدًا بمكة وحدها بل كان شائعًا في مصر وغيرها من بلاد المسلمين، حتى أصبح عندهم ما يعرفون ب ‘شمعة السحور‘. ذكره ابن ظافر الأزْدي المصري (ت 613هـ/1216م) في كتابه ‘بدائع البدائه‘؛ فقال: “اجتمعنا ليلةً في رمضان بالجامع فجلسنا بعد إنتهاء الصلاة للحديث، وقد أضيء ‘شمعة السحور‘”، فصنع هو وأصدقاؤه -بشكل مبتدئ- شعرًا خيالية في ‘شمعة السحور‘ هذه، وهنالك قصص مشابهة ذكرت في كتب الأدب.

وسجّل الحافظ ابن حجر حوارًا بينه وبين السلطان الأشرف بَرْسْبَاي (ت 841هـ/1437م) يدل على إرساء عادة استخدام الشموع في التعيين على وقت السحور بين الأفراد؛ فقال: “حديثت السلطان بضرورة عدم إطفاء الشموع في رمضان إلا قبل شروق الفجر، نظرًا لتفادي الإختلاس الذي يتسبب من خلاله بعض الناس ينامون ثم يستيقظون جائعين لا يجدون الشموع مُتَّكأة، فيعتقدون أن الأكل والشرب حرام، وليس الأمر كذلك؛ فوافق السلطان على هذا الأمر”.

ومن دال على تأصل هذه العادة أن المراجع تشير إلى استخدام الفوانيس في التعيين على السحور حتى في الصيام خارج شهر رمضان؛ فقد جاء عند تاج الدين الفاكهاني (ت 734هـ/1333م) في كتابه ‘رياض الأفهام‘: “ولقد وصلتني معلومات بأن بعض الدول الأجنبية يتسحرون لها (= الأيام الستة من شوال) كما يتسحرون لرمضان، والفوانيس على الطريقة ذاتها كما هي في رمضان، وأنهم يحتفلون في اليوم السابع بعيدٍ ويتسمونه: عيد الستة”!!

وقطع أنوار فوانيس السحور مرةً بعد مرّة -الذي ذكره ابن جبير في رحلته- شاركه ابن الحاج المالكي (ت 737هـ/1336م) في كتابه ‘الوقوع‘؛ فذكر أن الناس عادوا إلى “تَثبيت الفوانيس التي جَعَلوها مؤشرًا على جواز الأكل والشرب ومعهما ما دامت معلقة مضاءة، وعلى تحريم تلك الأمور إذا أُنزلوها سبع مرات، ثم يعاقبون بالبوق سبع مرات أو خمس مرات، فإذا قطعوا حرم الأكل في ذلك الوقت عندهم”.

وبقي استخدام الفوانيس في التعيين على وقت السحور حتى في زمنٍ قريب، إذ ذكر ذلك علي بن موسى الأفندي (ت بعد 1303هـ/1886م) في كتابه ‘وصف المدينة‘، الذي كتبه سنة 1303هـ/1886م وهو “رئيس القلم العربي” بديوان حاكم المدينة المنورة نهاية فترة حكم العثمانيين. قال الأفندي: “وأما المنارة الرئيسية فقد انشأت فوقها منبر من نوع بناء المنارة، ووضع فوق المنبر الراية، وأسفل الراية ثلاثة بكرات لرفع الفوانيس الثلاثة ونزولها، وهذه الفوانيس تُرفع على المنارة إشارة إلى استمرار وقت السحور، فإذا أنزلت يُطلقون ‘مدافع الإمساك‘ في

شهر رمضان.

ثراء حقيقي
وأضاءة، بل كانت زينة عظيمة خرجت مستوحاة من معنى الرفاهية إلى معنى الثروة المالية والنقد! والأمويين المسلمين سارعوا لتجهيز المساجد بما يليق بها من تنوير وتزيين، انما اختاروا بذل الزينة الفاخرة في المساجد، متبوعين بتقليد الحاكم معاوية كمثال.” ولربما ياتي هذا لان ملكهم نشأ في المنطقة الشامية التي كانت تتمتع بالحضارات السابقة، أو لأنهم كانوا من أولى ملوك الإسلام بالتبذل في حياتهم، فلم يترددوا في تزيين وإضاءة المساجد.

وأيضًا عمر بن عبد العزيز اعتبر الزينة الموجودة في الجامع الأموي كثيرة فباع شيئًا من ذهب الزينة وأعاد ثمنه إلى خزينة الدولة. وذكر ابن خلدون أن الجامع الأموي في دمشق كان يحتوي على ستمئة سلسلة من الذهب لتعليق القناديل، حيث كانت تلمع في عيون الناظرين وتفتن المسلمين. إذا انتزعها عمر بن عبد العزيز وأعادها إلى خزينة الدولة.

ابن كثير وصف زينة الجامع الأموي وزخرفته بدقة، حيث يقول أنهم صوروا بزخرفتهم كل البلدان المعروفة، بما في ذلك الكعبة، وغطوا السقف بألمع الألواح المرصعة بالذهب، وصنعوا سلاسل معلقة من الذهب والفضة، وأنوار الشموع كانت موزعة بانتظام. وكانت هناك حجرة مُذهبّة مع بلورة في المحراب، وعند إطفاء القناديل، كانت تضيء بقوتها.

وذكر شمس الدين الأسيوطي أن في المسجد الأقصى 400 قنديلا، منها 230 في المسجد والباقي في قبة الصخرة، وكان وزن السلاسل 43 ألف رطل، وكان هناك 5000 قنديل يوقد في ليالي الجمعة وفي ليالي رمضان والعيدين.

وقد بنى عبد الملك بن مروان قبة الصخرة في المسجد الأقصى. خصصت لها خُدَّام بأنواع الطيبات والأعشاب النافعة، ويقومون بحقن المحبة والإنشراح في الصلوات بالليل. ووضعوا فيها قناديل وسلاسل من الذهب والفضة بكثرة بحسب ابن كثير.

اكتشاف كبير
وفي عصور الدولة العباسية، كان هناك اهتمام كبير بتزيين المساجد وإنارتها، وبشكل خاص الحرمين الشريفين. فأبو عبيد البكري يذكر أن عدد قناديل المسجد النبوي كان 290 قنديلا.

وكانت إنارة المسجد النبوي تزداد كل يوم، إلى درجة أنه كان يضيء بالشموع والقناديل بشكل يتجاوز الوصف. وفي هذا الإطار، يقول الأفندي في كتابه ‘وصف المدينة‘: “يُضاء الحرم النبوي الشريف كل ليلة بنحو ستمئة قنديلا وثلاثمئة شمعة، وهذا بالإضافة إلى الإنارة الخاصة بالأبواب الداخلية والخارجية، وشموع المصاحف وغرف العبادة وقناديل الحجرة المعطرة والشموع.”

وكان عدد قناديل المسجد الحرام في مكة 465 قنديلا، ولكن يبدو أن العدد قد تغير فيما بعد. ابن الضياء المكي لاحظ هذا الاختلاف وقال إن عدد القناديل في المسجد الحرام الآن يقترب من ثلاثمئة وتسعين قنديلا، وقد يزداد في شهر رمضان، خاصة في العشر الأواخر منه وفي موسم الحج.بغض النظر عن ما تحدّث عنه الأزرقي في موشَّح المسجد”.

وأكّد مؤرخ مكة المعاصر تقي الدين المكي الحسني الفاسي (ت 1429م / 832هـ) -في كتاب ‘القدرة على الحكم بأخبار المكة‘- أن الانقشاع الكبير في إضاءة المسجد الحرام في مكة لم يتجنبه حتى الكعبة نفسها، موفِّراً تبريرًا واضحًا يرجع إلى فساد حكَّام مكة وجشعهم؛ إذ أشار إلى أن “لا يوجد الآن في الكعبة أي من قناديل أوردها الأزرقي، ولا ما لم يُورد منها إلا الستة عشر مصباحاً، ولا تزال تفتقر إلى حلية الذهب والفضة التي كانت في جدرانها وأسقفها، ويرجع سبب ذلك إلى التعاقب عليها من قبل الولاة وغيرهم، على ما ذكره الأزرقي في تاريخه، وحدث ذلك بعد ذلك أيضًا”!!

وفي الأندلس بالغرب الإسلامي؛ كان جامع قرطبة الكبير الذي ورد عن الجغرافي الإدريسي (ت 1165م / 560هـ) -في كتاب ‘رحلة المتيّم‘- وصفًا لعظمة بنيانه وضخامة إضاءته؛ حيث يقول: “المسجد الكبير فيها (= قرطبة) الذي لا يوجد مثله من مساجد المسلمين من حيث الهيكل والزخرفة والأبعاد، ويضم مئة وثلاثة عشر تعليقة مصباح، أكبرها تحمل ألف مصباح وأصغرها تحتوي على اثني عشر مصباحًا”!

عندما نقل المؤرخ الدمشقي المحبّي (ت 1699م / 1111هـ) -في كتاب ‘استنبط المختصر‘- للسلطان العثماني أحمد الأول (ت 1618م / 1027هـ)؛ ذكر أن “من بين الآثار التي تزخرف قسنطينية (= إسطنبول) الجامع الذي لم يحدث مثله من حيث البناء والتصميم والحرفية..، ويتمتع بستة منارات متميزة في التصميم والتفاصيل، ومن الداخل تزيَّن بمجموعة واسعة من القناديل المصنوعة من الكريستال والنحاس..، وعند افتتاحه (في عام 1617/1026هـ) قدَّمه ملوك الإقاليم هدايا من قناديل ذهبية وغيرها لتُعلَّق فيها”!

مهنة نظَّمت
وكان الحكَّام والأمراء والملوك يهبون الفوانيس والقناديل إلى المسجد الحرام والمسجد النبوي حتى تُعلَّق على سقفيهما، وتصبح علامة مميَّزة تشهد على شهامة المهديِّين منهم؛ إذ ذكر السمهودي أن هذه القناديل كانت “تصل إلى البلدان من الحكَّام وأصحاب الكرم والثروات.. وظلت عادة حكَّام وأصحاب الكرم -حتى أيامنا هذه (= في القرنين التاسع والعاشر الهجرييْن)- على تقديم هدايا من القناديل الذهبية والفضية لقبة الصخرة”، وعند ترجمة ابن شاهين المالنقشي (ت 1514م / 920هـ) -في كتابه ‘إنجاز الأحلام‘- لسلطان الدولة الجلائرية بالعراق أويس بن حسن الجلائري (ت 1374م / 776هـ) زعم أنه: “أُلقيت خطبة في صحن مكة المباركة، وكانت هناك عدة قناديل ذهبية معلَّقة على الكعبة المشرّفة”.

وكان هناك في المسجدين المكي والمدني صندوق خاص لحفظ القناديل والفوانيس؛ إذ وصف الرحال الفارسي ناصر خُسْرَوْ (ت 1087م / 481هـ) -في مذكراته ‘رحلة الأحلام‘- أنه شاهد في الجهة الشرقية من المسجد الحرام بمكة “بناءً مستطيلًا معلَّقَ عليه ثلاث قبب يعرف بـ ‘الخزانة الزيتيّة‘، يحتوي على شمع وزيت وقناديل”. وبعد أربعة قرون، عندما يروي السمهودي “في جهة الشرق من المسجد النبوي.. هناك خزانتان إحداهما تخصص للفوانيس والقناديل التي تُعلَّق في المسجد وما شابهه”.

ووصل الاهتمام بإضاءة المساجد إلى درجة أن كانت هناك شخصية معيّنة تعتني بذلك وتزوّد الفوانيس والقناديل بالزيت وتحتفظ بها بنظافة، وكانوا يطلقون عليها: “حارس القناديل” أو “حارس زيت المسجد”؛ حيث تحفظت لنا سجلات السير على أسماء بعض من تولَّوا هذا “المنصب” منذ عهد الصحابة مما يدل على عمرها وقدمها. فالذهبي يوثق -في كتاب ‘تاريخ الإسلام‘- لتلميذ لأبي هريرة اسمه “أبو مريم الأنصاري.. الشامي”، ويردفه بأنه كان “حارس القناديل ومشرف على مسجد حمص”.

والحجر -في كتاب ‘إقتراب الترتيب‘- أشار إلى قوله: “نُشير إلى أن اسمه عبد الرحمن بن ماعز، كما أُطلِق عليه أيضًا: هو عبد أبي هريرة، وكان مُوثَقًا”. وكذلك ورد اسم أحد شيوخ الإمام الأوزاعي (ت 776م / 158هـ) في كتاب ابن عساكر (ت 1175م / 571هـ)، وهو خالد بن دهقان القرشي (ت 719م / بعد 100هـ)، وقد وصف بأنه “كان يعتني بقناديل المسجد الأموي في دمشق”.

وراتبًا شهريًا سخيًّا كان مخصّصًا للمسؤول عن إضاءة المساجد مقابل عمله، إذ يشير المؤرخ النبوي السمهودي -في ‘استنبط المدونة بأخبار دار المختار‘- إلى أن “ما زالت مرتبات حارس زيت المسجد تبلغ ثلاث دنانير (= حوالي 600 دولار أميركي اليوم) يتم صرفها له شهريًا من بيت المال، وذلك ليمسح قطع القناديل”، وتم إعتماد تكاليف صيانة هذا الإنارة، حتى ما زال المقريزي يسجّل -في كتاب ‘العظات والنصائح’- بنودًا في واحدة من الوقفيات المسجدية تشمل مبلغًا “لتنظيف القناديل [بمقدار] نصف دينار”.

<imgجلود الحيوانات وأقمشة الملابس حتى أمتلؤوا بها. وقد استعانوا بمكحلي سكان بيت المقدس لاجتياح القناديل الذهبية والفضية التي كانت تزين سقف المسجد! وبالفعل؛ كما يذكر القضاة فارس الدقوري وقاضي القضاة سويلمان بن الحكم (ت 805هـ/1402م) في ‘سروة المحقق‘، أن “من يُروى جرماً حفنة من القناديل المذكورة نقودًا”.

ومع تنوّع الطرق التي تم من خلالها استغلال قناديل الجوامع وتهجم عليها، فإن الرقابة الدينية والقانونية عادت الأمور إلى نصابها من جديد، وأصبح من السابق لأوانه التسيهل في استبدال القناديل والتلاعب بها. إنه لأمر محزن حقًا أن يُجتهد اللصوص في اقتحام دور العبادة والاستيلاء على موروثاتها الثمينة، وهو أمر لا يُبرره أي مبرر منطقي أو ديني.

وبهذا الإطار، تظل مناقشة حماية قناديل المساجد والحرمين الشريفين من الاستغلال والاعتداء موضوعًا حيويًا يتطلب تعزيز الوعي الجماعي وتفعيل الرقابة والرقابة الشديدة. إنها تجدر الإشارة إلى أن سلامة تلك القناديل ليست فقط مسؤولية المسؤولين وخدام الجوامع، بل تتطلب تضافر الجهود بين الحكومات والمجتمع المدني للحفاظ على هذا التراث الثقافي الإسلامي العظيم.

ما يمتصه الإحصاء”. ويظهر هنا أن الشاب ابن الأثير كان يذكر وزن الفانوس وكأنها انتقادٌ أو تأثير الانتقاد!!

وبين العدوان الشهير على فوانيس المسجد النبويّ الذي ذكره السخاوي (ت 902هـ/1496م) -في ‘التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة المباركة’- في سيرة أمير المدينة حسن بن زبيري (ت بعد 901هـ/1495م)، حيث أنه في 901هـ/1495م “جمع فريق مسلح بالأسلحة ودخل المسجد النبوي قبل الظهر، واستدعى خازن الحرم، وطلب منه مفاتيح القبة وأملاك الحرم..، وتوجه نحو باب الحاصل المشار إليه فكسره بالفأس، واستولى على ما به من النقود وجميع فوانيس الذهب والفضة، ثم أحضر الصاغ لصهرها فساليها”!!

إذا كانت فعلة ابن زبيري سرقة مسلحة في وضح النهار لممتلكات المسجد النبوي؛ كان هناك أمراء آخرون انتهجوا سبيل السرقة الليلية السرية، حيث كتب الملطي -في ‘نيل الأمل’- أنه في 861هـ/1457م “وصل الخبر من المدينة المباركة بحادثة غريبة نادرة، حيث شخص من الأشراف يدعى الشريف برغوث تسلق معه [آخر يدعى دبوس بن سعد الحسيني] سطح الحجرة النبوية التي كان يعيش بها خير البرية، وسرق مجموعة من فوانيسها الذهب والفضة، ثم هرب بها نحو ينبع، وأُسفرت هذه الحادثة عن أحد شجاعاتهم وأكبر تفشياتهم وأشد أعمالهم القبيحة”.


وتم إعدام برغوث بسبب تصرفه الشنيع كما ذكر السخاوي في ‘التحفة اللطيفة’، وذكر أن قريبا لبرغوث يدعى “ركاب” قام بنفس الفعل بعد شهور قليلة فتم إعدامه أيضًا!

عقوبة قاسية
ويبدو أن عقوبة الإعدام كانت شائعة -قديماً- لمن يسرق فوانيس المساجد والمعالم الكبرى! فذكر المؤرخ ابن دُقْمَاق (ت 809هـ/1406م) -في ‘نزهة الأنام’- أنه في سنة 638هـ/1240م اقتحم “خمسة لصوص ليلاً مسجد السيدة نفيسة.. [بمصر]، وسرقوا منه ستة عشر فانوس من الفضة، وكان نزولهم من النوافذ الزجاجية”. فتم القبض على اللصوص واعترف أحدهم بأنه كان الشخص الذي دخل البيت وسرق الفوانيس وبرى الباقين، فتم إعدامه عند بوابة المعبد “أمام المعبد”!

وكانت فوانيس المسجد الأمويّ في دمشق تعرضت لحوادث السرقة؛ فذكر ابن كنان الحنبلي (ت 1153هـ/1741م) -في ‘يوميات شامية’- أنه في سنة 1134هـ/1722م “تمت سرقة أربع فوانيس من النحاس الأصفر من فوق المحراب، وكانت تتميز بأسلوب النقش والجفاف، لا يوجد مثلها من التقنية والحفر”.

ولقد تنوّعت الألوان في سلسلة العُدوان على فوانيس إنارة المساجد حسب قول ابن الحاج المالكي -في كتابه ‘المدخل’- إن هناك أشخاص “يقومون بأمور أكثر شراسة مما تم ذكره (= نقل الفوانيس من مسجد لآخر)، حيث كان هناك من يمتلك باحة خلال العام يستعير الفوانيس من المسجد، وكان يستخدمها في منزله للترفيه والموسيقى وأمور مشابهة”!!

أصدر ابن الحاج حكمًا بتحريم نقل الفوانيس من مسجد إلى آخر، لأنها كانت وقفًا عليها عينًا. وليس من العجب أن تواجه مشاكل كبيرة عندما عُلِم أن جماعة من “النصارى استعاروا فوانيس جامع عمرو بن العاص (ت 43هـ/664م) في مصر ووضعوها في مبنى بالكنيسة”.

وكان ذلك في محرم سنة 714هـ/1314م وفق ما ذكره الحافظ ابن حجر في ‘الدُّرَر الكامنة في أعيان المئة الثامنة’؛ مما أدى إلى معركة كبرى بقيادة أحد الفقهاء، لم يتهرب منها الأقباط الذين استعاروا الفوانيس، ولا خطيب جامع عمرو الذي قرضهم الفوانيس، ولا خدام المسجد الذين اتهموا بالتواطؤ معه.

وكانت حوادث الحريق والاشتعال من بين أخطر المصائب التي كانت تحل بفوانيس المساجد؛ ومن أكبر هذه الحوادث كان في أول أيام رمضان المبارك سنة 654هـ/1256م عندما اندلع حريق كبير في المسجد النبوي المشرف، وكما ذكر السمهودي في ‘خلاصة الوفا’- بأن “أبو بكر بن أوحد الفرّاض (ت بعد 654هـ/1256م) [دخل إلى خزانة] الحاصل في الزاوية الغربية الشمالية ليأخذ فوانيس منارات المسجد، وترك الشمعة في يده فوق قفص من قفصي الفوانيس..، فاندلعت النيران فيه ولم يتمكن من إخمادها، ووصلت إلى السقف وعلقت بالستائر وما في الحاصل واحترقت معظم مكوناته”.

وأضاف السمهودي أن “الحريق انتشر سريعًا، وجمع الناس حوله بعد وصول أمير المدينة واجتماعه مع العديد من سكان المدينة ولم يتمكنوا من إخماده، وحُرق جميع سقف المسجد، ومحتوياته من المنبر النبوي والأبواب والخزائن والصناديق، ولم يتبق أي جزء كامل -أي كله- من الأخشاب، بل كذلك الكتب والمصاحف والزي الذي كان معروفًا بالحجرة المباركة”!!

المصدر : الجزيرة



أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Exit mobile version