الإرث الثقافي العثماني: جولة جديدة مع ديانا دارك عبر جسور الشرق والغرب

By العربية الآن


إرث العثمانيين الثقافي.. ديانا دارك وتجوال جديد على جسور الشرق والغرب

المؤرخة والأكاديمية والمستعربة البريطانية ديانا دارك في كتابها الجديد "العثمانيون: إرث ثقافي"
كتاب “العثمانيون: إرث ثقافي” يهدف إلى تقديم نظرة شاملة عن العثمانيين وتأثيرهم العميق بالتاريخ (الجزيرة)

مرت أكثر من مئة عام على انهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وما زال الإرث العثماني بحاجة إلى إعادة تقييم تتماشى مع العصر الحالي الذي يختلف كثيراً عن عوالم العثمانيين. إذ ترك هؤلاء العثمانيون وراءهم دروساً هامة يمكن أن تسهم في واقعنا ومستقبلنا، لاسيما في المجتمعات المعاصرة المتعددة.

تبحث المؤرخة البريطانية ديانا دارك، التي تخصصت في تاريخ الشرق الأوسط والثقافات الإسلامية، في تلك الدروس من خلال كتابها الجديد “العثمانيون: إرث ثقافي”. تُعرف دارك بكتابتها التي تسلط الضوء على التأثير الكبير للعمارة الإسلامية على الطراز القوطي في أوروبا، وكذلك بتاريخ سوريا الحديث والتفاعل الحضاري بين الإسلام وأوروبا.

الإمبراطورية العثمانية: إرث متنوع

تعتبر دارك الإمبراطورية العثمانية، التي استمرت ستة قرون وشملت مناطق تمتد عبر ثلاث قارات (أوروبا وآسيا وأفريقيا)، بمثابة تجمع شعوب متنوعة. مثل أي إمبراطورية كبرى، شهدت إنجازات ومآسي، مما يجعل تقييمها موضوعاً معقداً مليئاً بالتناقضات.

لفهم إرث العثمانيين بشكل دقيق، يجب وضع هذا الإرث في سياق عالمي، وهو أمر ليس سهلاً. يشير المؤلف أن تركيا الحديثة، التي تعد الوريثة للإمبراطورية العثمانية، تسعى لتحقيق توازن بين حبها وكرهها لماضيها العثماني. تحكي المؤلفة أيضاً عن تجربتها في شراء منزل يعود للقرن السابع عشر في دمشق، والذي أثرى كتابها “منزلي في دمشق: رؤية من الداخل لأزمة سوريا”.

تحديات فهم التاريخ

توضح دارك أنه من الخطأ استخدام مصطلحات العصر الحديث لتفسير أحداث الماضي؛ إذ إن تعبيرات مثل “النير التركي” و”التعددية الثقافية” تعكس رؤى معاصرة لا تعكس السياق التاريخي للعهد العثماني. تشمل الأمثلة حضارة البلقان حيث استخدام كلمة “عثماني” نادراً في المناهج التعليمية، وعندما تظهر، يُشار إليها بسياقات سلبية تتعلق “بالهيمنة التركية”.

في المناطق العربية، يبرز تعقيد أكثر في فهم الحقبة العثمانية. اللغة التركية العثمانية كانت لغة الإدارة الرسمية حتى أوائل القرن العشرين، بينما استمرت اللغة العربية في استخدامها كلغة رسمية وأدبية في عدة مناطق.

في شمال أفريقيا، تأثرت المجتمعات العثمانية ولكن مشاعر الولاء انبثقت في لحظات تاريخية مختلفة، مثل الاحتلال الفرنسي لتونس عام 1881.

وفي المشرق، انقسمت الآراء حول العثمانيين بسبب التحولات السياسية؛ ففي سوريا كانت النظرة إيجابية في فترة التعاون، لكنها تغيرت بعد 2011 لتُعتبر فترة “الاحتلال العثماني” بدلاً من “العصر العثماني”.

خريطة الإمبراطورية العثمانية بالقرن السادس عشر (غيتي)

من الناحية الجغرافية، يمكن ملاحظة أن العثمانيين كانوا يمتلكون مناطق أوسع من البيزنطيين، واستمروا لفترة أطول من الرومان، وكانوا في كثير من النواحي استمراراً للإمبراطورية البيزنطية التي ورثت إرث روما.


## التعريف بالإرث العثماني المنسي

تتناول المؤلفة في كتابها “السرقة من السراسن.. كيف شكلت العمارة الإسلامية أوروبا” الثقافة العثمانية وتأثيراتها العميقة، مشيرة إلى التعدد العرقي والديني في المجتمعات العثمانية، الذي يختلف بشكل كبير عن نموذج الدولة القومية الحديثة. وتحظى الإمبراطوريات التاريخية الأخرى، مثل الرومانية والبيزنطية، بنصيب أكبر من الاهتمام، بينما يغيب التركيز على التراث العثماني في الدراسات التاريخية.

### لجبهة البحث الأكاديمي

تشير المؤلفة إلى أن المؤرخين الأوروبيين نادرًا ما يعالجون الإرث الثقافي العثماني بعمق، بل يتم تجاهله أو التقليل من قيمته. وتنشأ هذه الفجوة أيضًا عن تركيز الأكاديميين على فترات زمنية أو مناطق معينة، مما يؤدي إلى وجود معلومات مجزأة. فبعض الأكاديميين يهتمون بالولايات العربية، بينما يركز آخرون على البلقان، كما يخصص البعض دراساتهم للغة التركية أو الدراسات البيزنطية فقط.

## العمارة والأدب والفنون

تسعى الكاتبة من خلال كتابها إلى تقديم لمحة شاملة عن العثمانيين وتأثيراتهم العميقة عبر مختلف المجالات كالتجارة والمجتمع والدين والعلوم والموسيقى والأدب وفنون الطهو، حيث يرافق الكتاب رسوم توضيحية تضفي طابعاً فنياً خاصاً عليه. وتؤكد المؤلفة أن هدف السرد هو “فهم أعمق لإرث ثقافي ما زالت أصداؤه تتردد في حاضرنا”.

كما يستعرض الكتاب الأدب العثماني الذي يجمع بين التركية والعربية والفارسية، موضحًا كيف أثرت تركيبة هذه اللغات في تنويع الأعمال الأدبية، بما في ذلك شعر السلاطين مثل سليمان القانوني.

لا تنسى الكاتبة تسليط الضوء على الموسيقى العثمانية المرتبطة بالقصور والمنازل والتكايا الصوفية، التي تعكس الأنغام والإيقاعات الخاصة بها.

### الابتكارات العلمية

يتناول الكتاب بعض الابتكارات العلمية المهمة، مثل مرصد الفلكي تقي الدين الشامي، الذي أنشأ مرصدًا في إسطنبول في القرن السادس عشر، ويستعرض تطورات في مجالات علمية متعددة مثل الطب والهندسة.

## روح تجارية متقدة

يستعرض الكتاب النظام الاقتصادي الواسع الذي بنى شبكة من الخانات، التي كانت تعد مراكز تجارية وثقافية، حيث وفرت مأوى وأماناً للتجار. وترتبط هذه الشبكة بنظام الأوقاف الذي أسهم في بناء المنشآت التعليمية والتعالجية والاجتماعية دون تمييز بين الدين والعرق.

![ديانا دارك مؤلفة “السرقة من السراسن.. كيف شكلت العمارة الإسلامية أوروبا”](https://www.alarabiyanow.com/wp-content/uploads/2025/01/1737090877_803_الإرث-الثقافي-العثماني-جولة-جديدة-مع-ديانا-دارك-عبر-جسور.png)
*ديانا دارك مؤلفة “السرقة من السراسن.. كيف شكلت العمارة الإسلامية أوروبا” (الجزيرة)*

كتبت المؤلفة عن العمارة العثمانية التي تجمع بين التأثيرات البيزنطية والفارسية والإسلامية، مع التركيز على أعمال المعماري الشهير سنان الذي أبدع في تصميم العمارة التي تعكس الرؤية العثمانية للتفاعل الاجتماعي والثقافي.

## استكشاف مشحون بالمفاجآت

يرى الكتاب أن استكشاف الإرث العثماني يشبه اللغز المعقد، حيث تفاجأت المؤلفة بكل ما اكتشفته عن القسطنطينية واستعمارها عام 1453. فقد كان الجيش في تلك الحملة مكونًا من مسلمين ومسيحيين، مما يبرز التعاون بين الثقافتين تحت ظل الدولة العثمانية.

وعلى الرغم من النزاعات، كانت هناك مساحات للتعاون والتعايش بين المسلمين والمسيحيين، حيث اختلطت الثقافات وتداخلت المصالح.

رابط المصدر

المرأة العثمانية احتلت موقعا فريدا في ذلك التاريخ فقد كانت تمتلك حقوقا أكثر مقارنة بنظيراتها في أوروبا (فايرفلاي-الجزيرة)

تاريخ التعايش بين الثقافات

يمكن مناقشة الإرث الثقافي الذي سبقت العثمانيين من خلال النظر في تاريخ تعايش اليونانيين المسيحيين والأتراك المسلمين على مدار قرون تحت حكم السلاجقة، وهم أسلاف العثمانيين. ففي ذروة السلطة السلجوقية في القرن الثالث عشر، كان تعداد اليونانيين المسيحيين يفوق تعداد الأتراك المسلمين بعشرة أضعاف، وفق ما أشار إليه وليام روبروك، المستكشف والرحالة الفلمنكي.

مقارنة بين معارك تاريخية

عقدت الكاتبة مقارنة بين حدثين تاريخيين هامّين: معركة هاستينغز التي حققت انتصار النورمان في غزو إنجلترا عام 1066، ومعركة ملاذ كرد عام 1071 التي سحقت الإمبراطورية البيزنطية بقيادة السلطان ألب أرسلان.

كما تطرقت الكاتبة إلى الزواج المختلط بين المسلمين والمسيحيين، مشيرةً إلى شيوعه في تلك الفترة، حتى أن العائلات الملكية كانت تسعى لإقامة علاقات أسرية فيما بينها. فعندما قام السلطان محمد الفاتح بفتح القسطنطينية، اعتبر نفسه وريث العرش البيزنطي.

حقوق المرأة العثمانية

توضح الكاتبة أن المرأة العثمانية قد تمتعت بمكانة فريدة، حيث كانت تمتلك حقوقا أكثر مقارنة بنظيراتها في أوروبا، مثل حقوق الملكية والطلاق وحضانة الأطفال. وكان من الشائع أن ترتدي النساء السراويل الفضفاضة (السلوار الفضفاض) كرجال، وقد شاركت العديد منهن في القتال إلى جانبهم.

مصطفى كمال أتاتورك أعاد تعريف الهوية التركية بشكل مختلف لا ينتمي لإرث العثمانيين بقدر ما ينتمي لزمن الحرب العالمية الأولى (غيتي)

تشويه الصورة السياسية والثقافية

على الرغم من إنجازاتهم، فقد تم تشويه صورة العثمانيين في الخطاب الغربي، الذي وصفهم مرارًا بالأتراك “البربر”. ويشير الكاتب إلى أن الإمبراطورية لم تعرف نفسها بهذه التسمية، بل استخدمت كلمة “ترك” بازدراء لوصف الفلاحين الأميين. وكانت المناصب العليا تمنح على أساس الجدارة، مما أضاف تنوعاً حقيقياً في الحكم.

الهوية التركية في العصور الحديثة

في تركيا الحديثة، أعاد مصطفى كمال أتاتورك تعريف الهوية التركية، بعيداً عن الإرث العثماني وبوقت مرتبط بالحرب العالمية الأولى. وقد تم طرد اليونانيين، وحظر اللغة الكردية، مما أدى إلى فرض وحدة لغوية وثقافية، وهي رؤية متعارضة تمامًا مع ما مثلته الدولة العثمانية من تنوع وتعايش.

أثر العثمانيين على أوروبا

تعتبر الكاتبة أن نظرة الأوروبيين إلى الأناضول العثمانية كانت تتمثل في “امتصاص فوضى الشرق الأوسط”، مثلما يحدث اليوم مع اللاجئين السوريين. وتتساءل: هل أدرك الأوروبيون أن العثمانيين لم ينظروا إلى أنفسهم كجسر بين الشرق والغرب، بل كقوة مستقلة ترفض الدور السلبي؟ وتؤكد أن تاريخهم يستحق الاستكشاف، فإرثهم متشابك ويتجاوز التصورات النمطية.

رابط المصدر

أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Exit mobile version