الإمام جعفر الصادق في يوم ذكرى وفاته السنوية.. مقاوم لانتفاضات الهاشميين المسلحة وإصرار على تحقيق حلم التغيير السياسي واستنكار لعلماء الحاكم
هذه العبارة
تم انهاء كتاب “الذخيرة” للإمام شهاب الدين القرافي المالكي (ت 684هـ/1285م)، وربما تكون أفضل ما نبدأ به هو هذه الدراسة التي تحاول تقديم تفسير سياقي لشخصية هذا العالم، بمعنى يسعى لإعادته إلى عصره ومحيطه والأحداث التي كانت تحدث فيهما، مما يولّد مواقف تتبلور وتفكير يسود، حيث يظهر فيها هذا الإمام جزءًا من التيار الرئيس المشترك لجميع قادة الأمة.
وبينما كان جعفر الصادق في مقدمة تلك القادة وقلبه، فإنه كان يعيش روح عصره (عصر التابعين) ويعكس شخصيته (المدينة النبوية)، وإذا كان له من سمة خاصة أو تميز، فإنه كان الشخصية الممثلة لعصره التي كانت له تأثيرها.
هذه العبارة التي بدأنا بها هذه السطور تُعتبر مفتاحًا ذهبيًا يمكن من خلاله فتح الكثير من أبواب فهم شخصية هذا العالم التابعي الشيخ من بني هاشم أبو عبد الله جعفر الصادق، كما أنها تشير إلى العديد من المواقف الفكرية والسياسية التي قرر هذا الإمام اعتمادها في حياته، إنها مبدأ جامع ومُؤسس لما يُسمى في أوقاتنا “فقه الأولويات”، وهو منهج من معالم الرشد السياسي والاستقامة العلمية التي تميزت بها حياة الصادق ونشرها بين شباب عصره.
إن هذه العبارة تُعبر أيضا عن التوازنات الدقيقة التي وضعها الإمام جعفر على أقواله وأفعاله وقراراته وتحليلاته، إنه يعرف حساسية حضوره ويدرك توجس خصومه وتفهم جمهوره كلمة تصدر عنه وموقف يأخذه، وقبل كل ذلك وبعده يدرك الحصاد الصعب للتجارب التي تجعل وعيه يتفتح عليها، إنه وريث الحسين بن علي بن أبي طالب (ت 61هـ/682م) الذي ذهب شهيدًا وواجهة غير المسلمة من يومها حتى الآن، ورفيق عمه زيد بن علي زين العابدين (ت 122هـ/741م) إمام الثائرين في عصرهما.
كان أيضا ابن دوحة المدينة النبوية التي تقاوم الظلم والطغيان، والتي كانت خضعت في ذلك الوقت لنفوذ السلطة الأموية، وكما كان جعفر يرصد حركات المتشددين الذين كانوا يرتفعون أعناقهم للاضطرابات والثورات والزعامة السياسية، وكانوا يتصاعد خطرها مع مرور الأيام الى تطرفهم العقائدي بالنسبة لقادة “أهل البيت”.
بالإضافة إلى كل ذلك، كان من كبار تاريخي الإسلام من أهل السنة يعتبرون الإمام جعفر أحد المرشحين لمنصب الخلافة كما كان والده محمد الباقر (ت 114هـ/733م)، ولذلك فهو من الشخصيات الكبيرة المتفق عليها والمرشحة لتولي الخلافة في أي فراغ سياسي، وهذا يكفي لتأجيج الأوضاع من حوله.
يروي الإمام شمس الدين الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في ‘سِيَر أعلام النبلاء’- أن الإمام جعفر الصادق قال: “العلماء هم حُفاظ الأنبياء، فإذا رأيتم العلماء قد انخرطوا في خدمة الحكّام فاشكوهم”! ومن خلال هذه الفقرة انتخب الإمام جعفر الصادق أن يضع الأساس لسلطة العلماء التي طبعها ونشأت في العصور التالية، وكانت حياته تطبيقًا عمليًا لهذا النموذج من خلال حضوره العلمي في أساطير معظم المذاهب الإسلامية.
لقد شكل جعفر واحدة من أهم الدعائم للانفجار العلمي الكبير في تاريخ المسلمين حيث تلقى العلم منه اثنان من زعماء المذاهب الفقهية الأربعة وتأثر به آخر، وبالتالي كان له إسهامه المقدر في تعزيز معرفة الإسلام، وزيادة تأثير الفقيه بالهيبة والكرامة والريادة؛ وبالتالي أصبح نموذجًا لسلطة الفقهاء على مر الزمان.
على عكس بعض زعماء “أهل البيت” من معاصريه؛ قرر جعفر الصادق عدم مواجهة السلطات القمعية سوء بين أموية أو عباسية، وكان يفضل أن يكون جزءًا من سياق السلام العام الذي شجعه معظم علماء العصر، وذلك بعد ثورات واضطرابات دامية عانتها الأمة على مدى حوالي تسعة عقود.
كان اختيار جعفر الصادق لنهج السلام الأهلي ناتجًا عن فهمه لانحرافات أوزاز القوى السياسية في عصره، وفهمه للمخاطر التي خلفتها الثورات على وحدة المسلمين، فقد قرر أن يرثي مذهب جده الحسن بن علي بن أبي طالب (ت 51هـ/672م) لتعزيز مبدأ “الجماعة” في حياة الأمة.
بذلك يعد من أحد المؤسسين لتيار الرشد السياسي في عصره، وأحد الرائد الذين افتقدوا المعركة في ساحة المعرفة والتأثير بعيدًا عن ممارسات الأعداء والتفاوض، مُؤثرا في الوقت نفسه أن يكون قريبًا من المجتمع بعيدًا عن السلطة، ولذلك نرى هذا الإمام يُصنّف ضمن رجال العلم الذين يمتلكون الحقيقة الروحية الإسلامية والزُهد والتزكية والتربية الروحية.
كثير من الأقلام سكبت في سيرة هذا الإمام، ولكن ما نريد فهمه في هذا المقال هو الوصول إلى فهم منطق الإمام جعفر وطريقة تفكيره واكتشاف مفاتيح شخصيته التي سنبحث عنها من خلال مداخل مختلفة؛ لأننا نعتقد أن هذه هي أقرب تجربة يمكننا الحصول عليها بعد قراءة هذا المقال الذي يهدف إلى تعريف القارئ بالإمام جعفر الصادق، ورسم صورة للبيئة التي نشأ فيها، وتأثيراته البارزة في الحياة العلمية، وأبرز مواقفه.في الأوضاع السياسية.
موئل جيد
تكوّن جعفر الصادق في بيت من جمال العلم والحِكمة، إذ كان والده هو محمد (المشهور بـ‘الباقر‘) بن علي زين العابدين (التوفي في 114هـ/733م) بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (التوفي في 40هـ/661م) الرفيق العظيم للنبي والرابع من الخلفاء الراشدين. ولا شهد علي زين العابدين (التوفي في 95هـ/715م) موقعة كربلاء مع والده الحسين (التوفي في 61هـ/82م) “الشهيد الذي استشهد في كربلاء” كما وصفه الإمام الذهبي (التوفي في 748هـ/1347م). بعد ذلك، اعتزل السياسة وانصرف إلى العبادة والمعرفة، حتى أُلقب بـ”السجّاد” بسبب كثرة سجداته.
كان لزين العابدين شعبية بين المؤمنين وشهرة بسبب علمه وفضله، كما يدل على ذلك القصة التي رواها ابن الجوزي الحنبليّ (التوفي في 597هـ/1201م) في ‘المنتظم‘. فقد قال: “ذهب هشام بن عبد الملك (التوفي في 125هـ/744م) للحج ولم يُعلَن حكمه، فطاف بالكعبة وحاول التقرب إلى الحجر الأسود لاستلامه ولكنه لم يستطع ذلك، فوضع له منبر صغير وجلس عليه يراقب الحجاج.
وفي ذلك الوقت، جاء علي بن الحسين وأدى طوافه، فلما وصل إلى الحجر الأسود، تراجع الناس ليسلم الحجر له، وسأل رجل من أهل الشام: من هذا الذي ظهر للناس بهذه العظمة؟! فقال هشام: لا أعرفه! مخافة من توجيه أهل الشام، وكان الفرزدق (التوفي في 114هـ/733م) يشاهد الوضع، فرد الفرزدق: ولكني أنا أعرفه، فقال الشامي: من هذا أيها أبا فراس؟، فأجاب:
هذا الرجل الذي تعرف العرب ** بمكانته وعظمته والحرم
هذا إنسان الله الذي يتفضل ** هذا الوريث النقي الصافي الذي ** يحمل العلم
ولا يقولنّ: من هذا؟ بجلاله ** وأثباته، فكل العرب تدرك من هو وتنكر”
ورغم موقعه الرفيع في المجتمع والمعرفة، اشتهر الإمام زين العابدين بالتواضع وتواضعه أمام الناس، فالذهبي يسرد -في ‘تاريخ الإسلام‘- عن جعفر الصادق أن أجداده زين العابدين “كانوا إذا ساروا في شوارع المدينة على جمالهم لم يطلبوا من أحد الرحيل، بل كانوا يقولون: الشارع مشترك، لا أملك أن أنحني لأحد”. من المعروف أن علي زين العابدين وحفيده جعفر الصادق توفيا في سن مبكرة، لذا من المحتمل أنهما تأثرا بعضهما بعضا في هذا العلم.
وكان جعفر الصادق فرعا من فروع شجرة النبوة الطيبة نبت في جنة الصديق أبو بكر (التوفي في 13هـ/635م)؛ فزوج أبوه محمد الباقر من أم فَرْوَةَ بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق (توفي القاسم في 107هـ/726م) ولدت له جعفر الصادق؛ كما رواه ابن الجوزي في ‘المنتظم‘. جده الصديق من جانب الأم هو القاسم بن محمد بن أبي بكر، أحد “فقهاء المدينة السبعة” الذين كانوا مرجعية للمعرفة والفتاوى هناك، وتوفي القاسم وجعفر في سنوات شبابهما، لذلك من الوارجح أنه تعلم عنه.
جمع الصادق بين شرف النسب من جهة الأب كنسل علي، والنسب المرتبط من جهة الأم بنت أبو بكر الصديق. يقول الشهرستاني (التوفي في 548هـ/1153م) في ‘الملل والنحل‘ إن جعفر الصادق: “من جهة الأب ينتمي إلى النسب النبوي، ومن جهة الأم ينتسب إلى أبو بكر الصديق… وقد قطع الشهرستاني علاقته ببعض المتطرفين وبرأ منهم”. خاله هو عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق (التوفي في 126هـ/747م)، وهو أيضا -حسب الذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘- من أبرز فقهاء المدينة.
مصدر إمامة
كان جعفر معقدًا لتلاقي هذه الأنساب النبيلة، إذ انتمى إلى أول رجلين آمنا برسالة جدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم: أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب. ووصف الذهبي -في ‘سير أعلام النبلاء‘- لقاء الأنساب المبارك هذا بأروع العبارات؛ فوصف جعفر بأنه:
“ابن الشهيد أبي عبد الله، الزهرة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، والحفيد والحبيب للحسين بن الإمام علي بن أبي طالب، الإمام الصادق الشيخ لعائلة الهاشم، أبو عبد الله القرشي الهاشمي العتيق النبوي المديني، واحد من الرموز، وأمّه: فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر التيمي، وجدته: أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر؛ لذا كان [جعفر الصادق] يقول: ولدني أبو بكر الصديق مرتين”!!
والده هو محمد الباقر، وقد وصفه الإمام ابن كثير (التوفي في 774هـ/1372م) -في ‘البداية والنهاية‘- بأنه “تلميذ عظيم القدر، غني بالعلم، أحد رموز هذه الأمة في المعرفة والعمل والتقوى والنسب”.وباعتبار الرائع طُلِيَ الباقر بعِلمه الوفير وفهمه العميق. وقد نقل عن مصادر متعددة من الصحابة، ورواه جماعة من التابعين الكبار، وذكر الإمام سفيان بن عُيَيْنة (ت 198هـ/814م) عبارة عن شيخه جعفر الصادق قائلًا في والده الباقر: “أخبرني أبي وكان خير محمدي على وجه البرّر”!
وأصدر الذهبي حكمًا بأن الباقر كان مُؤَهَّلًا لتولي الخلافة، وكان هذا الحكم لديه دليل من إمام سلفي ومحدث كبير متقن لعوالم الإسناد وتقييم الرواة كما فعل الذهبي في كتابة ‘تاريخ الإسلام‘: “وكان أحد الذين جمعوا بين العلم والفقه، والشرف والديانة، والثقة والصدق، وكان مؤهلاً للخلافة”. وقد توفي الباقر وابنه جعفر في السنة الرابعة والثلاثين من عمره، بعد أن تلقى علومًا وروايات وأصبح من كبار العلماء في عصره.
أما عم جعفر زيد بن علي زين العابدين (ت 122هـ/741م)، فقد كان رفيقًا لأخيه وقريبًا منه في السن، وتلقى تعليمه بجدارة من والدهم زين العابدين بعد وفاته. لذا كانت البيت مركزًا للمعرفة والحكمة، وكان من المناسب أن يصبح جعفر من أئمة التابعين والعلماء المرموقين بعد أن أتقن مبادئ العلم والورع، ولذلك قال الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- عن جدارته للخلافة كما قال عن أبيه الباقر: “مناقب جعفر متعددة، وكان مؤهلاً للخلافة بفضله وأخلاقه ومعرفته وكرامته، رحمه الله”.
إضافة جديدة
لم يكن الإمام جعفر -في ظل المناخ السياسي المظلم الذي عمّ مجتمعه وتسمرت فيه الصراعات السياسية في آخر حقبة الدولة الأموية والبداية القوية للدولة العباسية- ينحاز إلى مواقف سياسية مختلفة عن الاتجاه السائد في زمانه بين العلماء، وتجسد هذا التوجه في المدرسة التي اعتمدها وابتعد عن التصادم المسلّح مع السلطة الذي تبنته جماعات ثورية اختارت مواجهة سلطة النظام.
وشهدت تلك الفترة محاولات لتغيير جذري في النظام بغض النظر عن قوة الفرق وتباين القوى بينها وبين السلطة. ولم يخرج الصادق عن النهج العام المعتمد من قبل أغلب أهل المدينة آنذاك، حيث رفض الثورة واختار التركيز على التعليم لبناء قاعدة معرفية قوية.
وحتى نتفهم جوانب معقدة من التوجه السياسي لهذا التيار السني الذي كان ينتمي إليه جعفر، علينا عَرض المشهد الصاخب بعد استشهاد الحسين بن علي (ت 61هـ/682م) في مأساة كربلاء، والتي أسفرت عن حالة من الحزن الشديد أكلت من جوانب العواصم الإسلامية الرئيسة في ذلك الوقت، وهي مكة والمدينة والكوفة والبصرة.
وقد أشعلت تلك الأحداث -بجانب عوامل أخرى- اندلاع ثورات غاضبة ضد حكم الأمويين، فحاول أهل المدينة -ومعظمهم من الصحابة وأبنائهم– إزاحة يزيد بن معاوية (ت 64هـ/685م) في عام 63هـ/684م، وانتهت ثورتهم بمأساة الحَرّة والتي تسببت في الكثير من الدماء وانتهاك لحرمة المدينة المنورة، ولكنها سببت الطريق لـثورات متلاحقة بقيادة علماء وحديثين.
وفي عام 64هـ/685م نشأت حركة “جيش التائبين” في العراق بقيادة الصحابي العظيم سليمان بن صُرْد الخزاعي (ت 65هـ/686م)، وكانت إحدى مطالبها الرئيسية هي محاسبة قتلة الحسين بن علي؛ ومن ثم جاءت مواجهة بين الأمويين والصحابي الكبير عبد الله بن الزبير التي انتهت بمصرعه في عام 73هـ/693م بعد حصار كبير للكعبة وقذفها بآلات حرب.
ثم اندلعت في عام 81هـ/701م “ثورة الفقهاء” بقيادة عسكرية أموية عبد الرحمن بن الأشعث الكندي (ت 84هـ/704م)، لكنهم تعرضوا لهزيمة كبيرة في معركة دير الجماجم في عام 83هـ/703م. وبهذا فقد فشلت جميع هذه الثورات في تحقيق أهدافها المعلنة في استعادة الولاء والشورى للأمة وأهل الحل والعقد.
وبالتالي، كان هذا التقمُّر المستمر والتصفيات المتواصلة لجميع المعارضين -منذ استشهاد الحسين- سببًا في تشكيل توجه ثقافي واسع، بات ينظر إلى القضية السياسية بحذر وريبة موجَبًَا التحليل العميق للوضع خشية من إراقة المزيد من الدماء، ولربما رأى أيضًا في تعزيز التعليم -سواء التحصيلي أو التوجيهي- وسيلة تصحيحية تدريجية لتغيير الحالة السياسية، خصوصًا إذا توقع الضرر من سفك دم المسلمين دون تحقيق أي تقدم يبرر ذلك.
وبناءً على ذلك، جسدت هذه المدرسة فكرة كبرى هي “توحيد المسلمين”،وهي مُقتنعة تمامًا بفكرة حسنة تم ذكرها من قبل النبي (صلى الله عليه وسلم)، وتوقعت بأن المسلمين سيتمتعون بها عندما يأخذها سبطه الحسن بن علي (ت 49هـ/670م)، الأمر الذي حدث فيما يسمى بـ “عام الجماعة” سنة 41هـ/662م.
تدبر تدريجي
والحقيقة أن هذه النهج، التي التحق به عدد من باحثي علم الأهل البيت، امتدت واستقرت لتهيمن على الفكر الإسلامي على مر العصور. وبينما يوجد توازن دقيق بين الانقياد للنظام الطاغي والحكم الصالح لمواجهته، ينطلق الحكم من الحفاظ على القيم والمبادئ الرفيعة وتماسك الصف، مع المقاومة ضد الظلم والاستبداد من خلال بناء مجتمع واعٍ يمكنه التغلب عليه بأقل الأضرار.
وهكذا، لم يكن جعفر الصادق -كإمامٍ من أئمة المدينة النبوية- من أنصار الثورة المجازفة، بل كان يتجه للتدريس باعتباره خطوة نحو التغيير السياسي الذي يدوم طويلاً.
ووضّح الشهرستاني نظرة جعفر ببيان دقيق قائلا: “قد أستقر في المدينة مدة تشير إلى الشيعة المنتسبين إليه..، ثم دخل العراق وأقام به فترة لم تمر مرور الإمامة، ولم يتنازع أحد حول الخلافة أبدًا”.
موقف جعفر الصادق الرافض للثورات – كوسيلة للتغيير السياسي – كان عامًا وليس انتقائيًا، حتى لو كانت دعوتها تأتي من الداخل الهاشمي الذي يشترك به. ولذلك، رفض المشاركة في الثورة التي قادها عمه زيد بن علي زين العابدين – المرتبط بالمذهب الزيدي الفقهي – في الكوفة سنة 122هـ/741م ضد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك (ت 125هـ/744م).
وكان ضد الانخراط في ثورة مشابهة قام بها ابن عمه محمد بن عبد الله – الذي اُشتهر باسم “النفس الزكية” – ضد حكم المنصور العباسي (ت 158هـ/776م) في المدينة سنة 145هـ/764م، ولعل من أسباب ذلك تردده على كفاءة زعيم الثورة المرشح للخلافة.
وعندما التقى بنو هاشم لإجراء البيعة للنفس الزكية، رفض الصادق الحضور وقال لوالد النفس الزكية: “أنت كبير، وإذا أردت أبايعك، أما ابنك فلا، وسأتركه وحده”، كما أخبرنا أبو الفرج الأصفهاني (ت 356هـ/967م) في كتابه “مقاتل الطالبيين”.
وذكر الذهبي في “تاريخ الإسلام” موقف جعفر من ثورة “النفس الزكية” قائلا إنه كان ينصح كل من أراد الانضمام لها من أفراد بيته و “يقول له: هو والله ميت”!
عندما نشبت أحداث الثورة، “اختفى جعفر الصادق وذهب إلى مال له بالفرع (= بلدة كانت تابعة للمدينة) متجنبًا الفتنة”، على الرغم من أنه كان “سيد العلويين في عصره”، كما جاء في كتاب الذهبي “العلوّ للعلي الغفار”. وكان هذا الموقف مختلفًا عن “الجماعة الكبيرة من الفقهاء وأهل العلم” الذين شاركوا في تلك الثورة؛ كما ذكر الطبري (ت 310هـ/922م) في تاريخه.
بقدر ما كان جعفر معارضًا للثورة المسلحة، كان غاضبًا من فكرة التدخل في شؤون الحكام حتى لو لمستجيرهم. ويمكن القول إن تجنب جعفر للسلطة جاء نتيجة للنزاع الحاد الذي حدث بين المسلمين، وأثر هذا الموقف في الاتجاه العام للأمة – السنة والشيعة – بعدما تبلور مسارهما المتباين بعد عهد جعفر الصادق بعقود
ونقل الإمام الشافعي الإشارة إلى تقارب منهج جعفر الصادق – كواحد من أئمة المدينة – مع ما رآه الصحابي الكريم عبد الله بن عمر (ت 73هـ/م)، الذي يُعتبر مؤسسًا للمدرسة المدنية المعتدلة في التعامل مع السلطة؛ فقد قال الشافعي في كتابه “الأم”:
“صلّى أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – خلف من لا يذم فعله من السلطان وغيره. نقل لنا مسلم بن خالد الزنجي (المتوفى 180هـ/م) عن ابن جريج (ت 151هـ/م) عن نافع (ت 117هـ/م) أن عبد الله بن عمر اعتزل بمنى أثناء قتال ابن الزبير والحجاج في منى، فصلى مع الحجاج…، قال (= الشافعي): نقل لنا حاتم عن جعفر [الصادق] بن محمد [الباقر] عن أبيه أن الحسن والحسين.. كانا يصليان خلف مروان (بن الحكم المتوفى 65هـ/م)، قال فقال: هل كانا يزيدان على صلاة الأئمة؟ فقال: لا والله، لم يزيدا إطلاقاً على صلاة الأئمة”.
وكما تيرة جعفر في معارضة الثورة المسلحة؛ كان مُناضلاً ضد الدخول في الأمور السياسية للحكام حرصًا منه على استقلالية مواقف العلماء. ويمكن القول إن تجنب جعفر للسلطة نابع من النزاع العنيف الذي وقع بين المسلمين، وقد أثّر هذا الموقف في الاتجاه الرئيسي الذي شكّل الرأي العام للأمة – السنة والشيعة – بعد عهد جعفر الصادق بعدة عقود.
علاوةً على ذلك، كان دعم جعفر لسلطة الفقهاء – بدلًا من سلطة الحكام – واضحًا حتى عهد الإمام أبيسماحة الهواء الوني (ت 478هـ/1185م) الذي قام بهذا التوجه دافع نظري أكبر في كتابه ‘معين الأمم في الْمعين الظلم‘؛ إنَ الذهبي يحكي -في ‘السير‘- عن الإمام الصادق قوله: “الأستاذون حراس الرسل، فإذا رأيتم الأستاذين قد مخلوا بالأمور السياسية فانتقدوهم”.
وبسبب ذلك نرى أن أقران جعفر وتلامذته والمتأثرين بموقفه اتخذوا نفس النهج في العلاقة بالحكم؛ فموقف الأمام أبو حنيفة (ت 150هـ/768م) -وهو أحد تلامذة والده محمد الباقر- الرافض لتولي وظيفة القضاء للعباسيين أو أخذ أي من هدايا الدولة من موارد بيت مال المسلمين.
ثم تعزز هذا النهج أكثر حتى وجدنا الإمام الغزالي (ت 505هـ/1111م) ينتقد ذهاب علماء زمانه لقصور الحكام، ويصف معظمهم -في ‘تحية علوم الدين‘- قائلا: “تقدموا بطلبات للخرائط الدينية، وأظهروا أنفسهم للوصاة، وتعرفوا علىهم، واطلبوا الوصايا والعلاقات منهم، فأصبح الأستاذون بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أشرفاء بالابتعاد عن الحكام أذلاء بالانصياع لهم”.
تمام للجفو
لقد رأينا في مسيرة جعفر الصادق أنه كان عالم ونزاهة وإصلاح، وهو ما ساهم في جعله مرجعية علمية في عصره، كما يفسر محاربته للجفاة والمتطرفين الذين اتهمهم بوضع الحديث عليه وعلى علماء وأئمة آل البيت عموماً؛ لذلك كان يقول مخاطباً تلامذته وحضور مجالس علمه: “لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافقَ الكتاب والسنة”؛ كما يروي عنه العلامة الشيعي أبو القاسم الخوئي (ت 1413هـ/1992م) في ‘قاموس رجال الحديث‘.
بالإضافة إلى ذلك، القاضي المؤرخ ابن خلدون (ت 808هـ/1405م) يقول -في تاريخه ‘العُبور‘- إن بعض هؤلاء “المتطرفين تجاوزوا حد العقل والإيمان في القول بألوهية هؤلاء الأئمة…، ولقد حرّقت -رضي الله عنه- بالنار من ذهب فيه إلى ذلك منهم؛ وسخط محمد بن الحنفية (= محمد بن علي بن أبي طالب المتوفى 81هـ/701م) المتصور بن أبي عبيد (الثقفي المتوفى 67هـ/687م) لما بلغه مثل ذلك عنه، فصرّح بلعنته والبراءة منه؛ وكذلك فعل جعفر الصادق -رضي الله تعالى عنه- بمن بلغه مثلُ هذا عنه”.
ومن الحقيقة أن المصادر الشيعية نفسها تعج بوصف العنت الذي تعرض له الإمام جعفر من المتطرفين في آل البيت، وهنا نترك روايات أهل السنة ونتجه نحو المصادر الموثوقة عند الشيعة ليتحدثوا عن الإرهاق الذي واجهه الصادق من بعض أتباعه. فبسبب غضبه من المتطرفين تردد -كما في كتاب ‘رجال الكَشِّي‘ للعلامة الكَشِّي الشيعي (ت 340هـ/951م)- قوله: “فعلاً والله لم أجد أحداً يطيعني ويعتمد على قولي إلا رجلاً واحداً رحمة الله عليه: عبد الله بن أبي يعفور (ت 131هـ/750م)”.
وكان عبد الله بن أبي يعفور رئيس التعقل ضد المتطرفين، وكانت مقولته الرئيسية حسب الكَشِّي: “إنّ الأئمة علماء أبرار أتقياء”. وهو يقصد بذلك أنّ أئمة آل البيت كانوا علماء في الدين وأتقياء زاهدين، لكنهم ليسوا معصومين.
واشتبك جعفر أيضاً مع فرقة ‘الخطابية‘ التي تُنسَب إلى أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي (ت 138هـ/756م) وكانت تزعم أنّ أئمة آل البيت “أنبياء”، وذهب بعضهم -كما سبق ذكره- إلى أن الأئمة “آلهة”، وقد قال الصادق: “أبرأ إلى الله من قائل إنّا نحن أنبياء”؛ كما يرويه الكَشِّي الذي نجد الحافظ ابن حجر (ت 852هـ/1448م) يكثر من النقل عنه في ‘قاموس الميزان‘.
فهم الإمام جعفر أيضًا أن المتطرفين كانوا سببًا في تفكيك الأمة الواحدة، بسبب ادعائهم بمحبتهم لآل البيت وهاجمهم بعض الصحابة، مما دفعه لمواجهتهم بقوة؛ إذ جاءت روايات كثيرة تكشف عن احترام جعفر للصحابة كما كان يفعل والده محمد الباقر. والإمام ابن الجوزي يروي -في ‘المنظم‘- عن الإمام أبو حنيفة أنه التقى الإمام الباقر فسأله عنه: “ما رأيك في أبو بكر وعمر؟ فأجاب: رحم الله أبو بكر وعمر”
ومازال الإصلاحيون الشيعة -إلى يومنا هذا- يطلعون على تلك الروايات التي تعكس منهجية الإمام التابعي جعفر الصادق، إذ قام مثلًا حجة الإسلام محسن كديور بكتابته ‘القراءة المنسية‘ لإحياء مواقف الأئمة وعلماء التشيع القدامى التي تؤكد على الاعتدال في التعامل مع الأئمة كعلماء تقيين أتقياء فقط.
ومن الملاحظ وجود هذه النهج المعتدل لدى عدد كبير من مراجع الشيعة المعاصرين، مثل آية الله حسين منتظري (ت 1430هـ/2009م) والعلامة حسين فضل الله (ت 1431هـ/2010م) وآية الله يوسف صانعي.
وقد أدرك الإمام جعفر أيضًا أن المتطرفين كانوا سببًا في تفكيك الأمة الواحدة، بسبب كذبهم عليه وهجومهم على بعض الصحابة بذريعة محبتهم لآل البيت، وهو ما دفع قوته في الرد عليهم؛ فقد ردتهناك العديد من القصص التي تبرز احترام جعفر للصحابة تماماً كما كان يحترم والده الباقر محمد.
يكشف الإمام ابن الجوزي في كتابه “المنتظم” عن لقاء الإمام أبي حنيفة بالإمام الباقر وأنه سأله: “ما رأيك في أبي بكر وعمر؟” فأجاب: “رحم الله أبا بكر وعمر”، ثم أوضح أن علي بن أبي طالب زوج ابنته أم كلثوم – الابنة الصغرى لفاطمة بنت النبي محمد صلى الله عليه وسلم – لعمر بن الخطاب.
ويذكر ابن الجوزي أن الثقة عروة بن عبد الله الكوفي سأل جعفر الصادق عن حكم زخرفة السيوف؛ فأجاب: “لا بأس به، قد حلَّى أبو بكر الصديق سيفَه”، وأكد على صدقية أفعال أصحاب النبي مثل أبي بكر.
ويذكر الذهبي في كتابه “سير أعلام النبلاء” أن جعفر قال: “ما أرجو من شفاعة علي شيئا إلا وأرجو من شفاعة أبي بكر مثله”، مما يظهر أهمية دور أبو بكر بالنسبة له.
يتبين من هذه القصص أن جعفر كان يحمل همّ قيادة العلماء لتحقيق الإصلاح الديني والسياسي؛ حيث كان يبتعد عن التشدد في الدين ويحافظ على وحدة المسلمين، خاصة بعد فشل ثورات زمانه.
وبالتالي، كان يعمل على تعزيز المستويات العلمية والثقافية، كما يشير تلميذه الإمام مالك بن أنس إلى أنه كان دائم الصلاة والصيام وتلاوة القرآن، دون التحدث فيما لا يعنيه.
ويُظهر القول السابق أن منهج جعفر السياسي والفقهي كان محاكاة لمنهج أئمة التابعين الكبار وفقهاء المدينة، وقد استمر هذا النهج بعد واقعة الحرة سنة 684م حتى عهد النفس الزكية سنة 763م.
وكانت روايات جعفر تؤثر على شخصيات مؤسسي المذاهب الفقهية الكبرى مثل أبو حنيفة ومالك والشافعي، مما يظهر أهمية تأثيراته في الفقهاء عبر العصور.ياقوت الحموي (ت 626هـ/1229م) وفي كتاب ‘معجم الأدباء’، وصفه بأنه الحافظ المحترف في النحو واللغة، وكان إماماً في علم الحديث. سمع العديد من المعارف من جعفر الصادق، وقد جمع له البخاري في ‘صحيحه’، واتفقوا جميعاً على صحة رواياته.
فيما يتعلق بفقهه، فقد نقل آراءه الفقهية الكبار مثل أبو حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم. تعكس روايات جعفر ومواقفه تأثيرها على تشكيل الهوية العلمية لمؤسسي المذاهب الشرعية الكبرى. وكما نرى، كانت رواياته تحظى بمتابعة كبيرة وتنقل فتاويه في كتب الفقه. كان أبو حنيفة يروي العديد من الروايات من جعفر وكان يلتمس الدليل في صوغ قضاياه.
تجدر الإشارة إلى أن الإمام جعفر كان يستمد علمه من سعيد بن جبير وكان يروي عنه، وكان ابن النعمان من فصحاء أهل المدينة، وكان تأثيره مثل تأثير سعيد بن جبير وجعفر.
لا يمكن نسيان أن جعفر الصادق كان تلميذاً أيضاً لجده القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، الذي كان أحد فقهاء المدينة السبعة كما ذُكر. اعتبر من قبل فقهاء أهل المدينة، وكان علماء آل البيت في تلك الحقبة يعيشون في المدينة مكرسين أنفسهم للمعرفة والعبادة. إذًا، كان جعفر من فقهاء المدينة البارزين، ولم يكن معروفاً بالابتعاد عن المدرسة العلمية المدينية.
تناول العالم محمد أبو زهرة (ت. 1394هـ/1974م) يلاحظ في كتابه ‘الإمام جعفر’، أن هذه الرواية تظهر أن الصادق كان يتبع فتوى أحد الصحابة. والرواية لم يشير فيها إلى النبي (ص)، مما يدل على أنها كانت فتوى صحابية. والالتزام بفتوى الصحابة كان متفقاً عليه بين أغلب الفقهاء من الأئمة الأربعة وفقهاء الأمصار. ومن خلال رواية جعفر هنا، يظهر تواءم فقهه مع فقههم في السلوك.
احتفاء واسع
أما الإمام مالك بن أنس، فقد تأثر بمعلميه من علماء المدينة العظماء، وكان ينقل في كتبه الحديثية ‘الموطأ’ والفقهية ‘المدونة’ آراءه ورواياته عن آبائه من أهل البيت وغيرهم من الصحابة. في كتبه هاتين، نجد سلاسل كثيرة من تلاميذه: “عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه”، أو “عن مالك عن جعفر عن أبيه”. كما عكف مالك على احترام شيخه جعفر في تواضعه وتقديره للسنة وحديث النبي في جلساته العلمية.
على سبيل المثال، يقدم الإمام الشافعي الكثير من الروايات عن الإمام جعفر من خلال شيخه سفيان بن عيينة، والذي كان من تلامذته الكبار. على سبيل المثال، نقل عنه في باب ‘من نسي المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة’ القول: “أخبرنا سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن النبي كان يغسل رأسه ثلاث مرات”. وفي مسألة تحديد وقت الصلاة في السفر؛ ينقل الشافعي عن جعفر عن أبيه عن جابر، وكذلك في باب ‘الأذان والإقامة لجمع الصلوات’.
ويمكن العثور أيضًا على روايات جعفر مع الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ/855م) في ‘المسند’، وفي ‘السنن’ للترمذي (ت 279هـ/892م) والنسائي (ت 303هـ/915م)، حيث يورد الترمذي آراء الفقهاء وأتباع الأئمة الكبار بما في ذلك جعفر الصادق.
يقول الترمذي على سبيل المثال: “وفي ذلك يتفق مع الجمع الأكبر من العلماء من أصحاب النبي ومن بعده، ومنهم جعفر بن محمد، وسفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وهشام بن راهويه، وقد رأيت مسح الرأس مرة واحدة”.ونقل الإمام الترمذي بسنده عن سفيان ابن عيينة -وهو من قادة الحديث الكبار- قوله: “سألت جعفر بن محمد عن مسح الرأس أيجزئ مرة؟ فقال: إي والله”.
وها نحن نجد الشيخ ابن حجر العسقلاني (ت 728هـ/1328م) ينقل بعض الآراء الفقهية لجعفر الصادق وأبيه الباقر معتبرا لها على ما غيرها من الآراء؛ فهو يعرب في مسائل الطهارة من ‘مجموع الفتاوى‘: “وعن أبي جعفر الباقر ونافع مولى ابن عمر أنهـ[ـما سُئلا عمن] أصابت عمامته بول بعير فقالا: جميعا لا بأس؛ وسألهما جعفر الصادق، وهو أشبهُ بالدليل”، أي أن هذا القول هو الأقرب صحة لموافقته للدليل الشرعي.
وفي مسألة اختلاف العلماء في حكم ‘الطلاق البدعي‘؛ يرد ابن حجر على رأي الإمام جعفر ضمن القائلين -من رؤساء السلف والمذاهب الفقهية– بأنه “محرّم ولا يلزم منه إلا طلقة واحدة. وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم..، وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم..، ويروى ذلك عن أبي جعفر محمد [الباقر].. وابنه جعفر [الصادق]..، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل”.
ولم يقتصر الأخذ بمرويات جعفر الصادق على المذاهب الفقهية الأربعة؛ بل تعداهم إلى مذهب أهل الظاهر، فها هو الناطق الأشهر باسمهم الشيخ ابن القيم الأندلسي (ت 456هـ/1065م) ينقل روايته في أبواب من كتابه ‘المُحَلَّى‘، مثل قول: “ومن طريق سفيان بن عيينة عن جعفر [الصادق] بن محمد [الباقر] عن أبيه قال: اعتلّ (= مرِض) عثمان وهو بمنى، فأتى عليّ فقيل له: صلِّ بالناس؟ فقال: إن شئتم صليتُ لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني ركعتين، قالوا: لا، إلا صلاة أمير المؤمنين -يعنون عثمان- أربعا، فأبى عثمان”.
مقولات واعية
كانت الحكمة تتدفق من لسان جعفر الصادق كحصاد كريم لورعه وعلمه وزهده، فكانت مواعظه الواعية تتسلل إلى القلب وتشمل الروح قبل أن تهبط على الجوانح. ومن بين وصاياه التي انصت لها ابنُهُ موسى الكاظم تلك الوصية المليئة التي جمعها الإمام الذهبي في ‘السِّيَر‘؛ وقال:
“يا بني! من رضي بما وُزِع له استغنى، ومن تجَشَّأَ عينيه نحو ملك غيره مات فقيرا، ومن لم يَرُض بما وُزِع له اتهم الله في قضائه، ومن انحاز لخطأ غيره استجلب لنفسه عمق الخطأ، ومن نَزَع حجاب رجل فتحت عورته، ومن أشعل سيف الجور أُبِيَ بذلك، ومن حفر بئرا لأخيه نَشَره الله فيها، ومن تخالط الجهال منعتهم زخرفتهم، ومن اصطحب المتعلمين أكرَم، ومن دخل فيما لا يعنيه قهره تلك الدخول. يا بني! اقنع بالحق لك وعليك واستعن دائمًا بأعيان أُهْلِك، عُمَّ القرآن طول الوقت، واهجروا الفتنة ومعروفون، وابتعدوا عن الباطل وانصرفوا عنه، وإياكم أن تستأثروا بمراءة الآخرين فتستأثروا، وإياكم أن تدخلوا في قضايا لا تعنيكم فتخضوا بسببها. يا بني! قضيا الحاجة الحقة بنفس التروٍ، والتساؤل عنها يُفتح لأقرباءك، كونوا طلاب العلم الحق، وناشروا السلام ومعززي الحقوق، وللمشيئة اللهجة التحقر، وعن الشر مبتدئين، ولمن قاطعكم وفصلوا لهم الأوصال، ومن سكت عنكم فابتدؤوا عليه، ومن سألكم فوفروا، واحترزوا من نقل المذمومات لأنها تثير الفتنة في القلوب. وتجنبوا التعرض لعيوب الناس لأن ذلك مثل العين التي تصيب هدفًا، عندما تطلبون السخاء تختارون أفضل النفائس؛ لأنها تملك نفائس، وللنفائس أسس وفروع، ومن الفروع تنبت الثمار ولا يتذوق ثمر إلا بفرع، ولا بفرع إلا بأساس ولا بأساس إلا بمعدن نقي، ابحثوا عن الصالحين واتركوا الأشرار لأنهم كالصخرة التي لا ينبت ماءها والشجرة التي لا تخضرّ أوراقها والأرض التي لا تنمو عشبها”.
ومن بين حكمه التي لا يشط حُكمها إلا من أفواه الأنفس الكبار الذين يعبرون عن تحيزهم عن سفه العيش وحب التشويش؛ كلماته التي تحث على ترك الجدل والخصومة في الدين، ومنها ما ذُكر منه -في ‘تاريخ الإسلام‘- قوله: “إياكم والجدل في الدين؛ لأنه يشتت القلب ويولد النفاق”. وقوله: “لا شيء أنفع من التقوى، ولا شيء أحسن من الصمت، ولا منافس أخطأ من الجهل، ولا داء أخطر من الكذب”.
وفي ختام هذا السير في حياة الإمام جعفر الصادق وتأثيره في الحياة الفكرية والتربوية في الإسلام؛ فإن أفضل ما نختم به هذا المقال هو حكمته التي ختم بها الإمام شهاب الدين القرافي المالكي (ت 684هـ/1285م) كتابه الضخم في الفقه ‘الذخيرة‘، وهي: “عن جعفر الصادق رضي الله عنه (قال): ما كلُّ ما يُعلم يُقال، ولا كل ما ُيقال حَضَر أمده، ولا كل ما حضر أمده حضر إخوانه، ولا كل ما حضر إخوانه حضرتْ أحوالهم، ولا كل ما حضرت أحوالهم أُمِنَ عَوَارُهم؛ فاحفظ لسانَك ما استطعت، والسلام”!!