التاريخ القديم.. أعدمت الدولة الفاطمية من يؤديون صلوات التراويح وتأثرت بالأزمات، وكان من أئمتهم ابن القيم وابن موسى اليهودي والأطفال في المسجد الحرام
لقد تم ذكر في إحدى وعشرين من شهر رمضان أن أحد أبناء مكة ختم القرآن في تلك الليلة. وبعد انتهاء الختم، قام الصبي بإلقاء خطبة، ثم دعاهم أبو الصبي إلى وليمة في منزله. وفي ليلة الثالث والعشرين، قام أحد أبناء المكيين غلاما لم يتجاوز الخامسة عشرة من العمر بختم القرآن، وحضر الإمام الصغير وصلى التراويح وختم. وتجمع أهل المسجد الحرام -رجالا ونساء- حوله في المحراب!
لم تكن هذه الظاهرة محصورة في مكة فقط، بل كانت من عادات أهل الحجاز ومصر وعدد من الدول الإسلامية بشكل عام تشجيع الأطفال على إمامة التراويح. شرط أن يحفظ القرآن ويكمله قبل بلوغهم اثنتي عشرة سنة لكي يكونوا جاهزين لإمامة الصلاة النافلة.
إن توجُّه الناس نحو إمامة الأطفال يعكس العلاقة الحميمية التي يربط المسلمين بصلاة التراويح. إنها ليست مجرد صلاة للتقرب إلى الله فحسب، بل هي أيضًا منفذ للبهجة والسعادة الاجتماعية التي تضفيها أجواء رمضان على العبادات. كما أنها فرصة مثالية لتأهيل الأطفال للقيام بمسؤوليات الكبار.
ومن هنا، شهد العديد من العلماء إمامة الأطفال بتشجيع من المجتمع وبإشراف أهل العلم، كما الإمام ابن حجر العسقلاني الذي أم المصلين في التراويح بالحرم المكي وعمره اثنتي عشرة سنة.
بدأ عمر الفاروق رضي الله عنه تأسيس صلاة التراويح جماعية في المساجد، حيث قرر أن تُقام صلاة جماعية بدلا من الصلاة في البيوت، بهدف توحيد المسلمين تحت إمام واحد، وتم عمميذلك في بلاد الخلافة.
إذا كان عمر هو أول من شجّع على صلاة التراويح الجماعية، فإنّها أصبحت تقليدًا معمولًا به من قبل aمعظم المسلمين حتى يومنا هذا. كما كان أول من ربطها بأجواء البهجة والإنارة عندما علق المصابيح الرمضانية في المساجد، فأصبحت الصلاة والأنوار يجتمعان في وقتنا الحالي.
عمر الفاروق جمع المسلمين على قارئ واحد بهدف تحقيق الوحدة والتلاحم، ولكن عبر الزمن أصبحت التراويح من مظاهر الانقسام بين الفصائل والمذاهب، مما يؤشر على تفاقم التفاقم في الجسم الإسلامي.
شهدت المساجد في مكة والمدينة والقدس تعددية في صلاة التراويح كان هناك انحراف عن مبدأ وحدة المصلين وصفوف الصلاة، حيث بدلًا من أن تكون جماعة واحدة على قارئ واحد، كان لكل مذهب إمام له ولكل طائفة جماعة لها، على الرغم من التوحد في أروقة الكعبة كرمز لوحدتهم. هذه النهج يتعارض مع السنة العمرية التي تهدف لتعزيز عوامل الوحدة والتماسك، فكانت الفكرة الرئيسية وراء إقامة التراويح في المساجد.
على مدى تاريخ الإسلام، بقيت التراويح فضاء لإبراز المواهب المميزة في التلاوة، حيث كان يتم اختيار الأئمة بناءً على القدرات الصوتية والدقة في حفظ القرآن ومهارات التجويد. حتى الآن، تظل صلاة التراويح الفرصة المثالية للاستماع للأصوات الجميلة والأداء الرائع.
وقد شملُّ أئمة التراويح من جميع الفئات والمجتمعات، فكانوا من القراء الكبار وعلماء الدين، ورجال الأعمال والحكام العاملون في المساجد. من بين أشهر أئمة التراويح الإمام الطبري صاحب التفسير والتاريخ، والإمام ابن تيمية، حيث جمع كلاهما بين الصوت الجميل والعلم الوافر والإمامة بالدين، وسجلت مهاراتهم في كتب التراجم والتاريخ.
في هذا المقال سنقدم نظرة تاريخية عن صلاة التراويح والتلاوة والتأمل في القرآن الكريم التي ترتبط بها، والتجمع الاجتماعي للمؤمنين -بمختلف فئاتهم وأعمارهم- خلال أيام رمضان المباركة في مساجد يعمرها ذكر الله تعالى. فسنسرد بإيجاز كيف بدأت هذه العادة منذ الإسلام الأول، ونرى بعض التغيرات التي مرت بها على مر القرون، حيث تعرضت للعادات الاجتماعية التي كادت تحولها من دائرة العبادة إلى العادة!
كما سنكشف عن تأثيرها بتاريخ المسلمين وتأثيراتهم المختلفة عقائديًا وفقهيًا وسياسيًا واجتماعيًا، ونعرض بعضًا من العباقرة الذين شاركوا في إمامة ومشاركة التراويح. وسيتبين -خلال ذلك- أن العديد من التقاليد المرتبطة بهذه العادة العظيمة ليست حديثة، بل ورثت على مر العصور!
مبادرة عُمَرية
ذكر لنا العالم ابن المُبرد الحنبلي (ت 909هـ/1503م) -في كتابه ‘محض الصواب‘- شأن نشأة صلاة التراويح في الإسلام بقوله: “لا يتوهَّمْ متوهِّمٌ أن التراويح من وضع عمر (بن الخطاب ت 23هـ/645م) -رضي الله عنه- ولا أنه أول من وضعها، بل كانت مؤسسة من زمن النبي ﷺ، ولكن عمر.. كان أوّل من حشد الناس حول قارئ واحد فيها، فكانوا يصلون لأنفسهم ثم جمعهم على قارئ واحد…، وسُمِّيت ‘التراويح‘ [بهذا الاسم] لأنهم يسرحون فيها بعد كلّ أربع”.
وأشار ابن المُبرد إلى ما نقله الإمام البخاريُّ (ت 256هـ/870م) -في صحيحه- وغيرُه من شُهداء الحديث من أن الخليفة عمر الفاروق خرج “ليلةً في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع (= جماعات) متفرقون، يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيُصَلّي بصلاته الرهط، فقال عمر: «إني أرى لو حشدتُ هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل»، ثم قرر فجمعهم على أبَيِّ بن كعب (ت 22هـ/644م)” فصلى بهم.
فكان إجراء عمر هذا أولَ تنظيم للناس كلهم على صلاة التراويح في تاريخ الإسلام. ونصحنا الإمام الطبري (ت 310هـ/922م) تاريخَ صدور أمر عمر بتنظيم الناس لصلاة التراويح قائلا -في تاريخه- إنه كان في سنة 14هـ/636م “وكتب بذلك إلى البلدان وأمرهم به”.
كرّس عمر قارئا للصلاة بالرجال وآخر للنساء؛ ولكن يبدو أن أمهات المؤمنين لم يكنّ –نظرا لمكانتهن الخاصة- شاهدات تراويح النساء العامة، كما يُفهم ذلك من الأثر القائل إن “ذَكْوان (أبا عمْرو ت 63هـ/684م) مولى [السيدة أم المؤمنين] عائشة (ت 58هـ/679م) -رضي الله عنها- كان يؤمُّها في… صلاة التراويح [وهو يقرأ] في المصحف”؛ كما في رواية الإمام أبي القاسم الأصبهاني المشهور بقوام السُّنة (ت 535هـ/1140م) في ‘سِيَر السلف الصالحين‘.
وحفظت لنا كتب الفقه والتاريخ والتراجم أسماء القُرّاء الذين كلفهم عمر -في أوقات مختلفة- القيام بهذه المهمة؛ فذكرت من قُرّاء الرجال: أبيّ بن كعب الأنصاري (ت 22هـ/644م) الذي “كان يصلي بهم عشرين ركعة ثم يوتر بثلاث، وكان يخفّف القراءة بقدر ما زاد من الركعات”؛ وفقا لابن تيمية (ت 728هـ/1328م) في ‘مجموع الفتاوى‘.
ومن قُرّاء الرجال كذلك معاذ بن الحارث الأنصاري (ت 63هـ/684م). وأما قُرَّاء النساء فهم: تميم بن أوس الداري (ت 40هـ/661م) الذي ورد أيضا أنه صلاها بالرجال، وكذلك سليمان بن أبي حَثْمَة القرشي (ت بعد 43هـ/664م)، وعمرو بن حُرَيث المخزومي (ت 85هـ/705م).
أوليات وآراء
ومن الأوّليات المتعلقة بتاريخ التراويح تقديمُ تدوير الصفوف حول الكعبة؛ فأبو عُبيد البكري الأندلسي (ت 487هـ/1094م) يروي -في ‘المسالك والممالك‘- عن الإمام سفيان بن عيينة (ت 198هـ/814م) أن “أول من دار الصفوف حول الكعبة عند بداية رمضان [والي مكة الأموي] خالد بن عبد الله القَسْري (ت 120هـ/739م)، وكان الناس يقومون في أعلى (= بداية) المسجد؛ [فـ]ـأمر.. الأئمةَ أن يتقدموا ويصلّوا خلف المقام، ودار الصفوف حول الكعبة”.
وقد حسم حكم التراويح الفقهي -عند علماء أهل السُّنة- على أنها “سُنّة” لا “فَرْض”، وساقوها مثالا نموذجيا على “البدعة الحسنة” شرعا عند القائلين بها منهم؛ ولكن بعض هؤلاء العلماء ذهب إلى أنه “لا يجوز تركها في المساجد… لكونها [صارت] شعارا [للمسلمين]، فتلحق بفرائض الكفايات أو السُّنن التي صارت شعارا… كصلاة العيد”؛ وفقا لخلاصة فقهية قررها الإمام تاج الدين السبكي (ت 771هـ/1370م) في ‘طبقات الشافعية‘.
وأحب العلماء -حسب الإمام أبي بكر البيهقي (ت 458هـ/1067م) في ‘شُعَب الإيمان‘- أن “يُضاف في شهر رمضان في أنوار المساجد” بتعليق المصابيح فيها؛ قائلين أيضا إن “أول من فعله عمر بن الخطاب لما جمع الناس في التراويح”؛ طبقا لمؤرخ المدينة المنورة نور الدين السمهودي (ت 911هـ/1505م) في ‘وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى‘.
وفي ذلك روَى الإمام النووي (ت 676هـ/1277م) -في ‘تهذيب الأسماء واللغات‘- أن علي بن أبي طالب (ت 40هـ/661م) رضي الله عنه “مرّ على المساجد في رمضان
وفيها تتفتح الفانوسات، فقال: أنار الله على قبر عمر بن الخطاب كما أضاء علينا مساجدنا”!!
ورغم سلوك جموع المسلمين على نهج الصحابة في أداء شعيرة التراويح في شهر رمضان؛ إلا أن ظهرت آراء تنفي شرعية ذلك باعتباره “ابتداع عمري”؛ على ما يرى جماعات الشيعة باستثناء بعض أئمة الزيدية. ويرجع المقريزي (ت 845هـ/1441م) -في ‘المواعظ والاعتبار‘- إلى الجماعة الراسخة من المعتزلة قولها إنها “لا تجوز صلاة التراويح”.
تنوعت الأوساط والطبقات الاجتماعية التي نشأ منها أئمة التراويح عبر عصور التاريخ الإسلامي؛ فكان من بينهم أساطين العلماء وأهل القراءة الكبار، ورموز المسافرين والتجار، وحتى الحكام بل والمسؤولون العاملون في المساجد. فقد تولى الإمام الطبري “شيخ المفسرين” إمامتها، وكان “شيخ المقرئين” في حينه أبو بكر ابن مجاهد البغدادي (ت 324هـ/936م)، فيما كان “شيخ الواعظين” الإمام ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) يؤدي الصلاة.
يروي الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1072م) -في ‘تاريخ بغداد‘- أن ابن مجاهد هذا شاهد ليلة صوت المعاصر الطبري -الذي كان يؤم الناس في صلاة التراويح بمسجده ببغداد- وقال لأحد تلاميذه: “كنت لا أظن أن الله تعالى خلق بشرا يتقن قراءة هذه القراءة”!!
ويذكر الإمام ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) -في ‘تاريخ دمشق‘- أن معلمه المقرئ أبو الفتح الأنصاري المقدسي (ت 539هـ/1144م) كان “يؤدي صلاة التراويح في مسجد علي بن الحسن” بدمشق.
وهذا أبو جعفر ابن الفَنَكي الشافعي القرطبي (ت 596هـ/1200م) “كان الناس يتلاحقون للصلاة خلفه رغبة في بركته واستماع صوته الجميل، وعند اقترابه من مكة.. كان يكون أحد المناوبين لتلاوة التراويح في رمضان…، وتلاوته تهز القلوب بخشوع”؛ حسب ابن جبير الكناني الأندلسي (ت 614هـ/1217م) في كتاب رحلته.
ومن أساتذة التراويح الذين تركوا بصمة في تاريخ العلم الإسلامي: شيخُ الإسلام ابن تيمية الحراني؛ فقد عبّر تلميذه المؤرخ ابن الوردي المعري الكندي (ت 749هـ/1348م) أثناء تسجيله له في تاريخه: “وقد صليت ورائه التراويح في رمضان فرأيت قراءته بخشوع، وأحسست برقة في صلاته تتأثر بأعماق القلوب”.
تنوُّع ملفت
ومن بين أئمتها الفقيه الرحال المشهور البشّاري المقدسي (ت 380هـ/991م)؛ فقد روى -في كتابه ‘أحسن التقاسيم‘- تجربته في اليمن حيث قال إن أهل عدن “يتميزون بختم قراءة القرآن في شهر رمضان ثم يصلون ويتضرعون، وقد صليت معهم صلاة التراويح في عدن وبعد السلام دعوت فعجبوا من هذا”!!
ويظهر أن بعض أئمة التراويح كانوا من فئة العلماء التجار كما ابن الدين والقاري؛ ومن بينهم الحارثي التاجر المقرّئ (ت 546هـ/1151م)، والتاجر الكبير جمال الدين ابن الشيخ علي الجيلاني (ت 824هـ/1421م) الذي “كان يحفظ القرآن الكريم ويصلي به التراويح في مسجد الحنفية [بمكة] لمدة سنة ست عشرة وثمانمئة”؛ وفقا للمؤرخ تقي الدين الفاسي المكي (ت 832هـ/1429م) في ‘العِقد الثمين في تاريخ البلد الأمين‘.
ويفيد الفاسي أيضاً بأن بعض أئمة التراويح كانوا من الـفرًاشين الذين كانوا مكلفين بخدمة المسجد الحرام، ومن بينهم أحمد بن عبد الله الفراش بالحرم الشريف [بمكة]، حيث كان يصلي التراويح مع الناس في رمضان.”
وبين الأمراء العلماء الذين أثرت تجاربهم في سجل أئمة التراويح: سلطان الهند عالمكير أورنكزيب (ت 1118هـ/1706م) ، الذي حكم الهند لخمسين سنة ووُصف بأنّه “لم يكن له نظير في معاصريه في حسن الأدب”، وفقا للمؤرخ المحبي الدمشقي (ت 1111هـ/1699م) في ‘خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر‘. وأضاف المحبي أن أورنكزيب “كان يأكل في شهر رمضان قطعة خبز من كسبه اليميني، ويصلي التراويح مع الناس، وكانت له نعم وخيرات كثيرة”!!
ويشير المؤرخ ابن شاكر الكتبي (ت 764هـ/1363م) -في ‘فوات الوفيات‘- إلى واقعة غريبة مع الحبر اليهودي الكبير موسى، المدير الديني لإحدىمشاهير الإمامة:
أبو حسن بن ميمون القرطبي، وُجد نفسه مُضطرًا للاعتناق الإسلام في المغرب أيام حكم الأندلس، حيث درس الفقه وحفظ القرآن. وبعدما وصل بحراً إلى فلسطين كلاجئ في عام 560هـ، قام بصلاة التراويح خلال شهر رمضان مع ركاب المركب الذين التقاهم أثناء رحلتهم.
في وقتٍ قصير، هاجر ابن ميمون من فلسطين إلى مصر، حيث وجد الاستقرار تحت حكم الدولة الأيوبية المعروفة بتعايش الأديان. بعد ذلك، عاد إلى ديانته الأصلية وتولى منصب رئيس لليهود في مصر وقاض لقضاياهم، وكان يُلقب بـ “الناجد”. كان ذلك خلال حكم صلاح الدين الأيوبي الذي اعتمده كطبيب في قصره، حيث كان يُعول عليه في العلاج وكذلك ابنه الملك المُحترم عليّ.
أبو علي الهلالي الحوراني، امام كل منتدى للصلاة في دمشق، حيث كان يقوم بصلاة التراويح وتلاوة القرآن بإقتدار باختلاف التلاوات، ليعكس التنوع والتميز في قراءته.
بعض الأئمة اعتادوا تلاوة القرآن بمختلف القراءات خلال صلاة التراويح، مثل أبو عباس البرداني البغدادي الضرير، الذي كان يستخدم التلاوات النادرة ليحظى بالشهرة. وكان المقرئ محمد بن أحمد المقدسي يتلاوم التراويح بتلاوة كاملة للقرآن في كل عشر ليالٍ من رمضان.
عند بعض أئمتها, يمكن أن يكون من الصعب الحفاظ على نقاء القراءة والانتباه الشديد من خلال مختلف القراءات لشهر كامل من التراويح.
كانت من التقاليد الاجتماعية المعتادة في رمضان اختيار أئمة فرادى -ذوي قِوَاعد قوية وأداء ممتاز وصوت جميل- ليلتقوا بالتراويح مع الحكام الرؤساء والشخصيات الاجتماعية.
ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الإمام الذهبي -في ‘سِير أعلام النبلاء‘- حيث قال إن الخليفة العباسي “المستظهر بالله (ت 512هـ/1118م) كلف شخصًا بالصلاة معه…؛ واختار القاضي.. ابن الدواس…؛ [و] لما أعجب بأدائه بدأ في الصلاة التراويح في أول رمضان وقام بتلاوة آية بعد آية في الركعتين الأولييْن، وبعد انتهائه قال له المستظهر: زدنا من التلاوة! فتلا آيتين آيتين، وقال له: زدنا! واستمر [في زيادتها] حتى كان يكمل قراءة جزء من القرآن كل ليلة.
وكان المقارئ أبو الخطاب الكاتب الشافعي البغدادي (ت 497هـ/1104م) ”يصلي مع أمير المؤمنين المستظهر باللَّه التراويح”؛ وفقًا للذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘. ويحكي الحافظ ابن عساكر عن أن زين القضاة سلطان بن يحيى القرشي الدمشقي (ت 530هـ/1136م) “أدى الصلاة التراويح في [المدرسة] النِّظامية [ببغداد]… وحضرت الخليفة” العباسي.
وذكر في ‘ذيل طبقات الحنابلة‘ للإمام ابن رجب الحنبلي (ت 795هـ/1393م) أن المقرئ أبا القاسم هبة الله بن الحسن الأشقر البغدادي (ت 634هـ/1237م) كان “يؤم الخليفة الظاهر (العباسي ت 623هـ/1226م)، وكان يقودهم في صلاة التراويح، وكان يؤذن للناس بالدخول للصلاة معهم في مسجد قصر الخليفة في بغداد.
وفي الأندلس؛ يترجم ابن عبد الملك المراكشي (ت 703هـ/1303م) -في ‘الذيل والتكملة‘- لابن مُقاتل القَيسي الغرناطي (ت 574هـ/1178م)؛ حيث يقول إنه كان “محافظا على كتاب الله تعالى، متقن لقراءاته، ومميز بصوته…، وانتقى للإمامة في التراويح في مسجد غرناطة الأعظم”.
يقول المراكشي أيضًا أن سلطان دولة الموحِّدين المنصور يعقوب بن يوسف (ت 595هـ/1199م) استمع ذات يوم إلى تلاوة المقرئ أبي الحسن الفهمي القرطبي (ت 617هـ/1220م) “فأعجب بصوته الحسن وجودته، فاقترب منه وأشاد به، وأمره بتعليم أولاده وتلاوة حزب من التراويح في رمضان”.
وكان أبو بكر الأنصاري القرطبي (ت 614هـ/1217م) “له صوت جميل، يستدعيه الأمير لصلاة التراويح”؛ وفقًا للذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘. ووُصف أبو الحسن ابن واجِب القيسي البلنسي (ت 637هـ/1239م) بأنه “من أجمل الأشخاص صوتًا في التلاوة، ولذلك كانوا يختارونه للصلاة بالتراويح مع الحكام”؛ حسب المراكشي.
قادة لزعماء
وفي ترجمة ابن الوزير البلنسي (ت 624هـ/1227م) ذكر أنه “صلى التراويح مع الحكام..، وكان من أهل التجويد والتحقق بالقراءة أحد الطُّيَّاب المتميزين من القُرّاء”؛ كما ورد في ‘التكملة لكتاب الصلة‘ لابن الأبار القضاعي البلنسي (ت 658هـ/1260م).
وتحدث الوزير الأندلسي لسان الدين ابن الخطيب (ت 776هـ/1374م) -في ‘الإحاطة في أخبار غرناطة‘- عن معاصره المقرئ محمد بن قاسم الأنصاري الجياني (ت بعد 776هـ/1374م) حيث قال إنه كان “مبدعًا في الطبقة الصوتية [فـ]ـاستحوذ على إعجاب القادة…، وأدى التراويح في مسجد قصر الحمراء” في غرناطة.
وأورد قاضي القضاة المؤرخ ابن خلكان (ت 681هـ/1282م) -في ‘وفيات الأعيان‘- أن الوزير الأيوبي صفي الدين بن شكر الدميري (ت 630هـ/1233م) “أراد تعيين قارئ للمدرسة التي أسسها في القاهرة المعزية لأداء التراويح، فاختار له شخصان اسم أحدهما زيادة والآخر مرتضى”.
وكان بعض العلماء الكبار يُفضلون أحيانًا ترك صلاة التراويح لأنفسهم وفي
منزلهم، لقد كان الإمام الشافعي (ت 2004هـ/819م) لا يصلي مع الجماعة صلاة التراويح في المسجد، بل يؤديها في بيته ويكمل ستين ختمة في شهر رمضان! هذا ما ورد في كتاب “تاريخ دمشق” لابن عساكر.
وقد كان جمال الصوت أحد المعايير التي كان يُفضّل بها الأئمة المتنافسون في قيادة صلاة التراويح في المناطق المختلفة؛ حيث يذكر شرف الدين بن يحيى الحمزي المعروف بـ كبريت المولوي (ت 1070هـ/1659م) في كتابه “رحلة الشتاء والصيف” أن “احتفالية إقامة ليالي رمضان وصلاة التراويح بأداء رائع يعزز النشاط، حيث يمتلأ المكبرين بالتكبيرات الجميلة، ابتداءً بالمقام العراقي وانتهاءً بالمقام العشاق”!
وكان من بين أئمة التراويح الذين كانت أصواتهم جميلة وأداؤهم متميزًا: المُقرئ أبو البركات بن العسّال الحنبلي (ت 509هـ/1115م) الذي كان يتمتع بجمالية الأداء، وحُسن النغمة، وكان يجذب الجماهير لسماع قراءته في صلاة التراويح في بغداد، وفقًا لابن رجب الحنبلي في كتابه ‘ذيل طبقات الحنابلة’.
كذلك، كان أحمد بن حمدي أبو المظفر المقرئ (ت 576هـ/1180م) يتميز بتلاوته المتقنة وكثرة القراءات التي كان يُقدمها، حيث كان يؤم الناس في مسجد ابن جردة في بغداد في صلاة التراويح، وكان الناس يحرصون على الحضور والاستماع إلى تلاوته، وفقًا للخطيب البغدادي في كتابه ‘تاريخ بغداد’.
وسجّل الحافظ ابن حجر العسقلاني في ‘الدُّرَر الكامنة في أعيان المائة الثامنة’ أن شمس الدين الزرعي ابن البصّال المقرئ (ت 738هـ/1338م) كان يتمتع بصوت جميل جدًا، وكان الناس يحرصون على الحضور والصلاة خلفه في صلاة التراويح في مسجده.
وكان المقرئ محمد بن علي الشِّيرَجي المكي (ت 827هـ/1424م) معروفًا بصوته الجميل خلال تلاوته في صلاة التراويح في المسجد الحرام، حيث كان يتجمع الناس للاستماع إلى تلاوته، وفقًا للمؤرخ الفاسي المكي في كتابه ‘العِقد الثمين في تاريخ البلد الأمين’.
إيقاعات ساحرة
ويروي المقريزي في ‘المواعظ والاعتبار’ قصة إمام “المدرسة البَقَرية” بالقاهرة، زين الدين أبا بكر النحوي (ت بعد 746هـ/1345م) الذي كان يستمتع الناس بتلاوته في صلاة التراويح خلال شهر رمضان بفضل جمال صوته ونغمته الرائعة وأدائه المتميز، وخبرته بالقراءات المختلفة.
ويقول الإمام السخاوي في ‘الضوء اللامع’ إن ناصر الدين أبا الخير محمد بن أحمد الخزرجي الأخمِيمي الحنفي (ت بعد 891هـ/1486م) كان يؤم في صلاة التراويح في جامع الحاكم بالقاهرة وغيره، وكانت الجماهير تزدحم لسماعه والصلاة خلفه.
ويذكر السخاوي أن أحمد بن محمد البُلْقَيْني الشافعي القاهري (ت 838هـ/1435م) كان يتمتع بصوت جميل جدًا في تلاوة القرآن، لذا كان الناس يتسابقون للاستماع إليه -خاصة خلال شهر رمضان- حتى كانت الطرقات تزدحم بالحضور لصلاة التراويح.
يبدو أن الأئمة الذين كانت لديهم أصوات مؤثرة قد أثروا في الجماهير بتلاوتهم الجميلة للقرآن، حتى وصل الأمر -حسب الخطيب البغدادي- في قصة الإمام علي بن عبد الله البَرَداني (ت بعد 375هـ/984م) الذي كان يُلقب بـ ‘مصطبانس’. وقد أوضح سبب لقبه الفريد بأنه كان يصلي صلاة التراويح مع قوم نصارى في رمضان، فأعجبوا بتلاوته وقالوا: “تلاوة هذا الرجل تشبه تلاوة مصطبانس!، مشيرين إلى قسّ لهم، فبات الناس يطلقون عليه هذا اللقب”!
ولم تكن الصوت الجميل هو العامل الوحيد في تفضيل أئمة التراويح، بل ربما كان تخفيف تلاوتهم يكون محببًا لبعض المصلين، كما حدث مع أحمد بن عبد الله الدُّوري المكي (ت 819هـ/1416م) الذي كان يُصلي صلاة التراويح في الحرم المكي ويتسم بتخفيف رمضاني جذاب لجمع الصائمين، وكان يطلق على صلاته لقب “المسلوقة”، وفقًا للفاسي في ‘العقد الثمين’.
وينقل الذهبي في ‘تاريخ الإسلام’ أن أبا بكر ابن حُبَيش البغدادي الضرير (ت 314هـ/926م) كان يتميز بتلاوته العاطفية التي كانت تلامس القلوب، وكان يؤم الناس صلاة التراويح في الجامع ببغداد.
تم الإشارة في السابق إلى الخلاف العقائدي بشأن جوازية القيام بصلاة التراويح؛ ولكن تأثير حظرها من قِبل السياسين كان أقوى من تلك الآراء الفِكرية التي ظلت محصورة في بعض الأوقات والأماكن. فقد كان الفاطميون – الذين أسّسوا دولة الإسماعيلية – يُعرفون بمنع صلاة التراويح خلال فترة حكمهم التي شملت الغرب الإسلامي ومصر والشام والحجاز.
قد وجه الفاطميون رسالة لأتباعهم – وهم لا يزالون في مرحلة التأسيس قبل تشكيل الدولة – يُخبرونهم عند حلول شهر رمضان الأول بعد بدء دعوتهم في تونس: “إن شهر رمضان قد حان، ومن مذهبنا عدم إقامة التراويح لأنها ليست من سنة النبي ﷺ ولكنها من سنة عمر، ونحن سنطيل القراءة في صلاة العشاء الأخيرة وسنقرأ من السور الطويلة، وذلك سيكون بديلًا عن التراويح”؛ وفقًا لما يرويه ابن عذاري المراكشي (ت بعد 712هـ/1312م) في ‘البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب‘.
ويروي سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) – في ‘مرآة الزمان‘ – أن الخليفة الفاطمي المنصور إسماعيل بن القائم بأمر الله (ت 334هـ/946م) تحدٍ بتقليب سياسة آبائه وأجداده في الحكم حيث “قام بإقامة التراويح والسنن” في تونس قبل تولي خليفته اللاحق منصبه في مصر في سنة 362هـ/973م.
ويذكر المؤرخ ابن سعيد الأنطاكي (ت 458هـ/1067م) – في تاريخه – أنه في سنة 370هـ/981م، قرر الخليفة الفاطمي الثاني في مصر، العزيز بالله (ت 386هـ/997م) حظر صلاة التراويح في مصر ما دفع بذلك استياء كافة أتباع أهل السنة من المسلمين”.
عكسه الحاكم بأمر الله (ت بعد 411هـ/1021م) سمح بإقامة التراويح مؤقتًا ثم حظرها لمدة عشر سنوات وأصبحت معاقبة من يصليها الإعدام؛ حيث قال المقريزي – في ‘اتعاظ الحنفا‘ – أنه في سنة 399هـ/1011م أمر الحاكم باـ”قتل رجاء بن أبي الحسين (ت 399هـ/1010م) بسبب صلاة التراويح في شهر رمضان”.
وفي المسجد الأقصى في القدس، تم ضرب الشيخ الصالح أبو القاسم الواسطي (ت القرن 4-5هـ/الـ10-الـ11م) حتى كاد يُقتل بسبب اعتراضه على “أوامر السلطان [الفاطمي] بقطع صلاة التراويح”؛ وفقًا لماورده ابن عساكر.
ثم سمح الحاكم الفاطمي بإقامة التراويح مرة أخرى في المساجد في سنة 408هـ/1018م، وأصدر بهذا الخصوص قرارًا رسميًا تمت قراءته في مساجد مصر وغيرها واستمرت القرارات بخصوص إقامة التراويح حتى وفاته؛ وكانت تلك الدورة بين الحظر والاذن للتراويح أحد الأمثلة لقرارات الحاكم العابرة للمعايير التي عُرف بها زمانه المتقلب الحالات والقرارات.
وفي المذهب الشرقي للاسلام، جُرم “الحشاشون” – الذين كانوا جماعة شيعية اسماعيلية مُنشقة عن الدولة الفاطمية الأم في مصر – بصلاة التراويح في المناطق التي تمتلكونها في فارس وخراسان، ثم سمحوا بها في نهاية فترة وجودهم هناك.
ذكر المؤرخ ابن تغري بردي (ت 874هـ/1469م) – في ‘النجوم الزاهرة‘ – أنه في سنة 608هـ/1211م “وصل رسول جلال الدين حسن (ت 618هـ/1221م) مبعوث من [قلعة] ألموت إلى الخليفة [الناصر العباسي (ت 622هـ/1225م)] يعلمهم بتبرئتهم من الباطنية، وبناء الجوامع والمساجد …، وأداء صلاة التراويح في شهر رمضان؛ مما أحدث فرحًا للخليفة والناس”.
رُبما تكون تدخل السلطة في شعائر العبادة في المساجد – بما في ذلك التراويح – نتيجة لاعتبارات الصراع السياسي مع الخصوم المحليين أكثر من اعتبارها قناعات دينية حقيقية بخصوص اختيار مذهب معين؛ فالإمام الذهبي يُخبرنا – في ‘تاريخ الإسلام‘ – أنه “في رمضان [سنة 494هـ/1101م] أمر المستظهر بالله بفتح جامع القصر [ببغداد] وصلاة التراويح فيه، والجهر بالبسملة، ولم يكن هذا مألوفًا؛ حيث ترك العباسيون الجهر بالبسملة في جوامع بغداد مُخالفين للفاطميين أصحاب مصر”.
ولم تكن قرارات الأزمات العامة سبب تعطيل صلاة التراويح بسببها فقط؛ حيث ترصد كتب التاريخ بعض الأوقات التي تزامن فيها الحروب أو الأوبئة مع وقوع تلك القرارات في بعض البلدان الإسلامية.مع دخول شهر رمضان، توقفت بسببها صلوات الجماعة -بما في ذلك صلاة التراويح- إما بالكامل أو جزئيا.
ورد عن ابن الجوزي -في سجلات سنة 439هـ/1048م- أن “في رمضان زادت أسعار السلع في بغداد، وتلقينا خبرا من الموصل يفيد بتصاعد الأزمة هناك حتى بدأوا بأكل لحوم ميتة، وكانت الوفيات متزايدة لدرجة أن حصر عدد المصلين في صلاة الجمعة فوجدوا أنهم أربعمئة نفس”. وفي حال تعطل صلاة الجمعة في رمضان -التي هي مناسك دينية إجبارية- من الأنسب أن يُوقف المصلون صلاة التراويح التي هي من النوافل.
وفي الغرب الإسلامي، كتب المؤرخ المغربي أبو العباس الناصري (ت. 1315هـ/1897م) -في كتابه “الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى”- عن تعطل صلاة التراويح بسبب الاضطرابات الأمنية؛ حيث ذكر أنه “عندما تم اغتيال السلطان عبد الملك بن زيدان (سلطان المغرب السعدي ت. 1040هـ/1629م).. تولى أخاه الوليد بن زيدان (ت. 1045هـ/1634م) العرش.. وتفاقمت الفتن في فاس حتى توقفت صلاة الجمعة والتراويح في جامع القرويين لفترة، ولم يؤدي الصلاة ليلة القدر إلا شخص واحد بسبب الفوضى والحروب”!!
ازدادت غرابة تنظيم صلاة التراويح في المسجد الحرام بمكة المكرمة بالتنوع بين المحاريب والجماعات وفقًا للمذاهب الشرعية، وهو مظهر آخر من مظاهر انقسام المسلمين تاريخيا بسبب التعصب الفكري والطائفي على الرغم من تجمعهم في مكة واتّحادهم حول الكعبة والقبلة الواحدة، وأداء مناسك دينية موحدة، وضمن تيار واحد (أربعة مذاهب سنية)!!
وكان من المعتاد في تلك الأيام أن “يصلي إمام الشافعية في مكان إبراهيم متجها نحو باب الكعبة، ثم إمام الحنفية مقابل حجر إسماعيل تجاه الميزاب، ثم إمام المالكية بين الركنين اليماني والشامي، وأخيرا إمام الحنابلة مقابل الحجر الأسود”؛ وفقا لوصف مجير الدين العليمي الحنبلي (ت. 928هـ/1522م) في كتابه “الأنس الجليل”.
وقد بدأت هذه العادة على الأقل اعتبارًا من سنة 497هـ/1104م، ولم تختفِ إلا بعد استيلاء آل سعود على الحجاز في سنة 1344هـ/1923م؛ ففي سنة 497هـ/1104م قاد الإمام أبو طاهر السلفي (ت. 576هـ/1180م) الحجاج ووصف تعدد المحاريب الفقهية في المسجد الحرام وترتيب أئمتهم في إداء الصلوات، مشيرًا إلى أن إمام الشافعية كان “الأول في الصلاة بين الأئمة.. قبل المالكية والحنفية والزيدية”؛ حسب الفاسي في “شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام”.
وبعد مرور قرون على شهادة السلفي؛ تحدث المؤرخ السمهودي عن اعتماد تعدد المحاريب الفقهية وانتشاره في المناطق، مشيرًا إلى أن تشكل هذه الظاهرة في المدينة المنورة بادرة من الفقيه الحنفي طوغان شيخ المحمدي (ت. 881هـ/1476م) “وزادت المظاهر الرسمية [الحكومية] بعد الستين والثمانمئة (860هـ/1456م)”، مُشيرًا إلى أنه “انتقل هذا الأمر إلى المدينة النبوية من مكة المشرفة”.
ورسم ابن جبير -في رحلته- لنا صورة عن تحلي رمضان في مكة من خلال مشاهدته؛ فقال إنه عند دخول شهر رمضان سنة 579هـ/1183م “كانت الاحتفالات تقام في المسجد الحرام بهذا الشهر المبارك.. مما جعل المسجد يتلألأ بالنور ويضيء بالضوء، وتوزع الأئمة لأداء صلاة التراويح بتنوع (حسب الفقهية).. حيث كل مجموعة نصبت لها إمام في إحدى زوايا المسجد…، وكاد المسجد أن يكاد يكون مكتظا بأصوات التلاوة من كل زاوية”. وقد يتعدد أئمة تراويح الفقهية الواحدة، فالمالكية مثلا أشاروا إلى أنهم “اختاروا ثلاثة قراء ليتناوبوا في القراءة”!
من المسجد الحرام بمكة انتقل التعدد في المحاريب إلى المسجد الأقصى وغيرها؛ حيث “اتبعت نفس النهج في القدس وجامع مصر”؛ وفقًا للسمهودي. كما انتقل هذا التعدد أيضا إلى مسجد الخليل -عليه السلام- في فلسطين؛ بحسب العليمي الحنبلي في “الأنس الجليل”.
يبدو أن ظهور هذه الظاهرة في المسجد الأقصى -بما يتعلق بصلاة التراويح تحديدًا- لم يتأخر كثيرًا عن ظهوره في المسجد الحرام بمكة المكرمة إن لم يكن متزامنًا معه، إذ شهد الإمام ابن العربي المالكي (ت. 543هـ/1148م) هذا الأمر في المسجد الأقصىعندما زاره في نهاية الثمانينيات من القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي.
في شرحه “تأويل القرآن” ، قال ابن العربي: ” رأيت عند بوابة الأسباط – تقريبًا – إمامًا من الإمامة الثمانية والعشرين، وكان يقيم صلاة التراويح خلال شهر رمضان مع الأتراك، يقرأ في كل ركعة سورة الفاتحة وسورة الإخلاص، حتى ينتهي من صلاة التراويح؛ احترامًا لهم ورغبة في فضيلتها”.
وحكى المسافر الأندلسي القاضي أبو البقاء البالوي (ت 767هـ/1365م) عن تجربته في رمضان في “المسجد الأقصى … أعظم المساجد في العالم” عند زيارته له خلال رحلته إلى الشرق، ووصف الكثير من الجماعات التي كانت تؤدي صلاة التراويح هناك؛ قائلاً: ” عددت الأماكن التي كانت تُقام فيها شفاعات وصلاة التراويح في شهر رمضان بالمئات، فوجدنا حوالي أربعين موضعًا”!!
وبعض الأحيان تتدخل السلطات لتنظيم “فوضى” صلاة التراويح المتعددة في المسجد الواحد، والتي قد تؤدي إلى تداخل الأصوات بين القراء والتشويش على المصلين القاعدين.
وبالتالي ، يسرد الإمام ابن كثير (ت 774هـ/1372م) – في كتابه “البداية والنهاية” – أنه كان هناك أماكن مخصصة للمداهب الأربعة لصلاة التراويح في المسجد الأموي في دمشق ، ولكن في عهده تدخلت السلطة لجمعهم “في صلاة التراويح، [حيث] توافق الناس على إمام واحد في المقدمة عند المنبر” ، كما أشار إلى تدخل آخر للسلطة حدث قبل ذلك بأكثر من قرن في عام 635هـ/1237م.
وجاء في كتاب “مواجهات الأصدقاء” لشمس الدين ابن طولون الدمشقي (ت 953هـ/1546م) أن حاكم دمشق العثماني أمر إمام المذهب الحنفي في المسجد الأموي بأن “يتبادل (= يصلي التراويح) في المحصورة ليلة … و[يشرف عليها الإمام] المشافعي ليلة، وقام بذلك وترك التراويح في محراب المذهب الحنفي، ولم يكن ذلك سهلا على أتباع المذهب المالكي الذين لم يقبلوا القرار بسهولة.
امامة الأطفال
ومن المظاهر المثيرة التي ارتبطت – على مر القرون – بشهر رمضان “امامة الأطفال” خلال صلاة التراويح في بعض الجوامع الكبرى وبخاصة في الحرم المكي ، على الرغم من أنه كان هناك اختلاف بين العلماء بشأن مشروعية ذلك؛ كما قال ابن الضياء الحنفي (ت 854هـ/1450م) في “تاريخ مكة المكرمة والمسجد الحرام”.
ومن أقدم أمثلة ذلك تاريخيًا ما ذكره المسافر المقدسي عن أن أهل شيراز “كانوا يصلون التراويح … وكانوا يختارون الأطفال للقيام بها” ، وما ذكره ابن الجوزي (ت 595هـ/1199م) – في “المنتظم” – عن اختيار سلطان البويهيين في بغداد في عام 395هـ/1006م لكل من أبي الحسين بن الر َفَّاء وأبي عبد الله بن الزجاجي وأبي عبد الله بن البهلول – وكانوا “من أحسن الناس في التلاوة”- ليصبحوا أئمة رسميين “لصلاة التراويح … وكانوا يغلب عليهم الصغُر ، وكانوا يتناوبون في الصلاة … وكان الناس يحبون صلاة التراويح بسببهم”.
وأصبحت العادة في الحجاز ومصر أن يقود الأطفال الناس في صلاة التراويح عندما يكملون حفظ القرآن ويبلغون اثنتي عشرة سنة من عُمرِهم ، ولذلك وجدنا في سيرة المسافر الأندلسي ابن جبير الكناني (ت 614هـ/1217م) – في رحلته – تفاصيل كثيرة حول إمامة الأطفال في التراويح في الحرم المكي والاحتفالات المصاحبة ، والتي جعلت بعضهم يستنتج أن من “ميزات الإسلام: يوم الجمعة في بغداد وصلاة التراويح في مكة” ؛ حسب قول القاضي أبي علي التنوخي (ت 384هـ/995م) في “نشوار المحاضرة”.
لقد ذكر ابن جبير أن ” في ليلة واحدة وعشرين قرأ أحد أبناء أهل مكة … ؛ لكن بعد الانتهاء قام صبي فيهم بإلقاء خطبة ، ثم دعاهم الصبي المذكور إلى [وليمة في] منزله.. ثم في الليلة التالية ، وكان الشاب الذي أتمها من أهل مكة يبلغ من العمر لم يتجاوز الخمس عشر سنة… ، وحضر الطفل الإمام وصلى التراويح وأتم الختم، وقد اجتمع رواد المسجد الحرام حوله من الرجال والنساء ، وهو في محرابه”.
وامتدت عادة إمامة الأطفال في صلاة التراويح بالحرم حتى عصر الرحالة ابن بطوطة (ت 779هـ/1377م) وبعده ؛ حيث قال – في رحلته – أن لكل مذهب فقهي محرابًا خاصًا بأتباعه ، وأنهم في كل ليلة من ليالي العشر الأواخر من رمضان يكملون قراءة القرآن ، وتحضرهم القضاة والفقهاء والعلماء الكبار ، ويقوم بالقراءة أحد أبناء الكبار من أهل مكة ؛ وعندما يكمل القراءة يُقام له منبر مزخرف بالحرير وتوضع الشموع ويُلقي خطبة ، وبعد انتهاء خطبته يدعو أبوه الناس إلى منزله لتناول الطعام والحلويات الشهية“.
وذكر في سيرة القاضي الشافعي جلال الدين البلقيني (ت 824هـ/1421م) أنه “حفظ القرآن وصلى به التراويح وهو طفل” ؛ حسبما في “رفع العبء عن قضاة مصر”
ابن فقير. بالإضافة إلى أن عالِم ابن حجر نفسه كان يُؤم الناس في تصليات الليل في المسجد الحرام بمكة وهو في سن الثانية عشرة عام 785هـ/1383م. “وفقًا للعرف” في من يُتم حفظ القرآن لدى الصغار؛ وفقًا للاشتهاد الذي قدمه السخاوي في ‘جواهر وكنوز في ترجمة شيخ الإسلام ابن فقير’.
وينقل السخاوي أن شيخه ابن حجر بعد أن أصبح إمامًا كبيرًا “حضر ليلًا من ليالي رمضان بجامع الحاكم لأداء صلاة التراويح بعد إتمام قراءة القرآن على نحو متعارف مع الأطفال”. بل ويُفيدنا الفاسي – في ‘العقد الثمين’ – بأن القاضي والمفتي في مكة محب الدين بن ظهيرة (ت 827هـ/1424م) “تمكن من حفظ القرآن الكريم… وأدى صلاة التراويح في العام 799هـ/1397م”، وكان عمره في تلك الفترة سبع سنين فقط نظرًا لولادته عام 789هـ/1387م.
أما عدد ركعات صلات التراويح تاريخيًا، فقد تباينت وفق اختيارات المذاهب الفقهية؛ وإذا نظرنا لما اعتمد في الحرمين الشريفين سنكتشف أن عدد الركعات ظل متباينًا فيهما على مدى ألف سنة، ولم يوحد الأمر فيهما حتى منتصف القرن الرابع عشر الهجري تحت حكم السعودية.
فكان أهل مكة – حسب ابن بطوطة – يصلون “صلوات التراويح الرائجة وهي عشرون ركعة” ثم يُتبعونها بركعات الوتر الثلاث، أما سكان المدينة فقد نسب النووي – كما نقله السمهودي في ‘وفاء الوفاء’ – إلى الإمام الشافعي قوله: “شاهدت أهل المدينة يقومون بتسع وثلاثين ركعة، منها ثلاث للوتر”.
ويخبرنا السخاوي في ‘التحفة اللطيفة’ بأنه في أواخر القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي كان المحدث الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي الكردي (ت 806هـ/1403م) من معلمي الحرم النبوي في المدينة، وعلى يديه تغيَّر منهج سكان المدينة في عدد ركعات التراويح؛ حيث كان “يُصلي التراويح مع الناس بعد صلاة العشاء عشرين ركعة ويُحرّم بثلاث، وفي وقت صلاة آخر ليلية يُصلي مع الناس ست عشرة ركعة. وقد وقف الأئمة بالحرم النبوي إليه في ذلك”.
أما عدد ركعات صلاة التراويح في مساجد مصر، فقد تراوح بين الاختيار الفقهي المذهبي والتحديد الحكومي الرسمي؛ وفي هذا السياق يقول المقريزي في ‘المواعظ والاعتبار’: “ولا زال أهل مصر يصلونها ستًا (= 6 ترويحات: 12 ركعة) حتى شهر رمضان سنة 253هـ/867م”، حيث عيِّنت السلطات العباسية ببغداد واليًا على مصر (بعد 254هـ/868م) و”أمَرَ بأن تُصلَّى صلاة التراويح في رمضان خمس ترويحات (= 10 ركعات)”.
هذا بالإضافة إلى كشف كتب الفقه وشروحات الحديث النبوي قوانين صلاة التراويح ومحتوياتها، وقد ألف بعض العلماء كتبًا خاصة بهذه الصلاة إلا أن مُعظمها لم يصلنا منها إلا العنوان. ومن تلك الكتب: كتاب “فضل التراويح” للحافظ أبي بكر محمد بن الحسن النقاش (ت 351هـ/962م)؛ و”كتاب التراويح” للإمام حسام الدين الشهيد (ت 536هـ/1141م)؛ و”كتاب التراويح” لمفتي خوارزم أبي العباس أَحْمد بن إِسْمَعِيل التُّمُرْتَاشِيّ الحنفي (ت قرابة 600هـ/1203م).
ويشتمل من بين تلك المؤلفات كتاب “صلاة التراويح” للمُحدّث ابن عبد الهادي الجمّاعيلي الحنبلي (ت 744هـ/1343م)؛ و”ضوء المصابيح في صلاة التراويح” و”إشراق المصابيح في صلاة التراويح” كلاهما للقاضي الأعظم تقي الدين السبكي الشافعي (ت 756هـ/1355م)؛ وإقامة البرهان على كمية التراويح في رمضان” لأبي الضياء الغيثي الشافعي (ت 975هـ/1567م).
إشادة واسعة
فهكذا على مر التاريخ الإسلامي؛ استمر اهتمام المسلمين بصلاة التراويح بشكل كبير وشامل كونها من أهم سمات احتفالهم بشهر رمضان، حيث نالت تقديرًا كبيرًا كونها جزءًا أساسيًا من تجليات إيمانهم جميعًا من فئات وشرائح المجتمعات الإسلامية سواء رجالًا أو نساءً أو أطفالً، حتى أن المسافر ابن بطوطة يُحدثنا عن “سوق المغنين” في الهند مشيرًا إلى أنه يوجد به مساجد، وأن “النساء المغنيات الساكنات هناك يصلين التراويح في شهر رمضان بتلك المساجد جماعات، ويُقام بهن الأئمة وعددهن كبير، وهكذا حتى الرجال المغنون”!!
<
p dir=”RTL”>وفي كتابه ‘المواعظ والاعتبار’ يصف المقريزي “سوق الشمّاعين” في القاهرة المملوكية والحياة النابضة به من معروضات ضوئية من الشموع والقناديلخلال ليالي شهر رمضان، يُذكر بأن كان هناك موسم عظيم لكثرة ما يتم بيعه وشراؤه من الشموع المزخرفة…. عندما يركب الأطفال لصلاة التراويح، تمر أيام شهر رمضان بما يصعب على الشاعر التعبير عنه بالكلام!
يحكي لنا أبو البركات السويدي البغدادي (ت 1174هـ/1760م) -في ‘النفحة المسكية في الرحلة المكية‘- ذكرياته الرمضانية في دمشق؛ حيث وصف صلاة التراويح في الجامع الأموي والأجواء الاجتماعية الحميمة التي ترافقها بشكل يصل إلى حد الضجيج: “من المثير للدهشة أن النساء يمزجن بين الرجال… وأثناء صلاة التراويح، انتبهت إلى الناس جالسين بين الصفوف يتحدثون، ويرتفع صوت الأطفال ولعبهم بحيث يشوشون على المصلين”!!
رغم أن صلاة التراويح كانت أحيانًا تتعرض لاضطرابات أكثر خطورة من صخب الأطفال وصياحهم في الأجواء الروحانية الخاشعة؛ إذ يسجل مؤرخ دمشق شهاب الدين البديري (ت 1175هـ/1761م) -في كتابه ‘حوادث دمشق اليومية‘- أنه في يوم “الاثنين [من سنة 1173هـ/1759م] ثبت وقوع زلزال خلال شهر رمضان المبارك، في الليلة الثالثة منه -والناس في صلاة التراويح-، حيث توقفوا عن الصلاة وتبايعوا هربًا، وتجاوزت بعضهم بعضًا، واندهشت عقولهم”!!
وبالرغم من أن الصفوف المكتظة بالمصلين لم تنجُ من بعض الاضطرابات الناجمة عن ضجيج الأطفال وتصرفاتهم في أثناء صلاة التراويح، إلا أن الشعراء استطاعوا تسليط الضوء على هذه المواقف بطريقة أدبية فكاهية؛ ومن ذلك ما يرويه المؤرخ قطب الدين اليُونِيني (ت 726هـ/1326م) -في ‘ذيل مرآة الزمان‘- حيث يحكي عن الشاعر جمال الدين المصري المعروف بابن الجزّار (ت 679هـ/1278م) الذي قال في ليلة من ليالي رمضان وقت صلاة التراويح في حضرة صاحبه بهاء الدين أحمد بن حنّا (الوزير المملوكي، ت 677هـ/1278م):
ما أقدر على قراءة سورة الأنعام ** خاصةً في ركعة واحدة
فلا تجعلوني حاضرًا إلا ** في ليلة “الأنفال” و”المائدة”!!