الثورة والانكسار: القضية الكبرى المتشابكة

By العربية الآن


القضية بين الثورة والانكسار

ملف السلطة - على امتداد تاريخ القضية الفلسطينية، كانت الحركة الطلابيّة مصنعًا للمقاومة (ميدجيرني-الجزيرة)
سيشرق فجر الأمة التي تتوق إلى التحرر فتعبر بأحلامها من ضفة اليأس إلى شاطئ الخلاص (ميدجيرني-الجزيرة)

يدرك كل حصيف يؤمن بمبدأ القضية الفلسطينية، أننا نعيش في زمن تنقلب فيه المعاني، ويختلط الحق بالباطل، وتتوارى المصطلحات مع اختلاف النوايا، فمن رمز الكرامة والهوية ترزح القضية في خيانات متعددة الأوجه، وتتلاعب القوى العظمى بها كما تتلاعب الرياح بأوراق الشجر في خريف عاصف، لتتبدل المسارات، وتتحول مفهومية الصراع من الكفاح في وجه الغدر والخيانة إلى حقائق تتوارى خلف الستار، فتُظهر وجهًا آخر للصراعات الأيديولوجية، وتتداخل الخطوط بين العدو والصديق، فيغدو الصديق خصمًا دون إعلان حرب.

تجليات الأحداث، وتبدُّل الولاءات، والتراجع عن القواسم المشتركة.. ذلك جدد آلام الخيانة التي لا تُنسى، فاختلطت التورية بالحقيقة والجناس بالدماء، وما بقي من التضحيات هو القشة التي نتعلق بها، وتكبر بها آمالنا لندوّنها في سجلات العزة والكرامة.

التواطؤ المفرط في هيئة التبني لم يُضعف صف الوحدة الفلسطيني فقط، وإنما أعطى “صك” الموافقة  للمحتل لزيادة التهجير وتمديد خطوط الاستيطان في الأراضي المحتلة تحت وابل القصف والتجويع، وهذا ما يعيدنا إلى مرحلة ما قبل النكبة

خيانة القضية

التحولات الزمنية عصفت بمركز الدائرة السياسية للقضية الفلسطينية، وهذا ما يبرهنه سياق الأحداث الجارية في غزة؛ إذ تكشف الحقائق المرة مدى الخذلان الذي تتعرض لها القضية على مستوى الأنظمة العربية والإسلامية، فمستنقع العجز هذا ليس وليد اللحظة بل له جذور تاريخية عميقة تؤرَّخ، من اتفاقية كامب ديفيد التي فصلت مصر عن بؤرة الصراع، مرورًا باتفاقية أوسلو التي قسمت الصف الفلسطيني، ووصولًا إلى المبادرات الحديثة التي تتحدث عن صفقة القرن، ليتدرج مسلسل التخلي عن القضية كأولوية، مقابل التركيز على المصالح الذاتية التي كانت الشمّاعة المعلقة عليها ولاءات الشعوب.

إن بصيص الأمل الذي تماسك قليلًا في الماضي كان يعد القضية الفلسطينية محورًا لا جدال فيه، ولا يمكن لأي كيان أو نظام عربي أو إسلامي الانفكاك عنه، أو التغاضي عن دعمه ولو ظاهريًا، بخلاف اليوم؛ إذ نجد أنفسنا محاطين بإطار فولاذي تتسابق من خلاله الدول إلى تكريس التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، وتتجاهل حقوق وآلام وآمال الشعب الفلسطيني وكرامة الأمة.

يشهد الجرح الإسلامي نزيفًا حادًا، وتتعمق السيوف في عضد التكامل لتصل إلى العظم وأبعد، لتحتل أحداث حرب غزة الأخيرة مكانة بارزة في سياق الوضع الفلسطيني الراهن، جراء ممارسات الاحتلال المغتصب، فتمثل هذه الحرب نقطة تحوّل جديدة تعكس حجم التواطؤ ضد القضية، التي لا يمكن أن تقف عند مستوى رغبة أحادية الجانب، مهما كانت قوة التسلط ضد الشعب الأعزل، ومهما كانت بجاحة التطبيع العلني – الذي يمثل ذروة سنام الخذلان – التي تلاعبت بالمصطلحات ومغزاها الفكري، فاستبدلت بالمبادئ المصالح الاقتصادية والأمنية، وهذا ما شهدته اتفاقيات “أبراهام”.

ذلك التواطؤ المفرط في هيئة التبني لم يُضعف صف الوحدة الفلسطيني فقط، وإنما أعطى “صك” الموافقة  للمحتل لزيادة التهجير وتمديد خطوط الاستيطان في الأراضي المحتلة تحت وابل القصف والتجويع، وهذا ما يعيدنا إلى مرحلة ما قبل النكبة، حيث كان التشابه يفضي إلى تواطؤ دولي يُجمع على تقسيم فلسطين، الذي أدى بدوره إلى تهجير ملايين من الفلسطينين.

يشتد ويكبر لدينا اليقين بأن الأبطال لا يموتون وإنما يورّثون خلفهم من أشد منهم قوة وبأسًا، وهذا يعود إلى البناء التنظيمي لحركات المقاومة، ومرونة تعاطيها مع مختلف الأحداث

اغتيالات قادة المقاومة

إن الإستراتيجية التي تعمل عليها الأنظمة المتواطئة والقوى العظمى تتجه إلى إضعاف الجبهة الداخلية وتفتيت وتفكيك الروح المعنوية للشعوب الإسلامية عن طريق مسلسل الاغتيالات التي تستهدف قادة المقاومة، وهو ما لم يكن جديدًا أو وليد لحظة رسمتها وأنتجتها الانتفاضات الشعبية؛ فتصفية رموز وقادة حركات المقاومة تسير في ملف مكتمل، ومدفوع الأجر مسبقًا لإسرائيل، ومن خزائن الأنظمة العربية.

ومهما كانت تلك الاغتيالات وشدة تأثيرها، فإن التماسك هو العنوان الذي يعقب تلك الممارسات، وهذا ما وجدناه منذ اغتيال خليل الوزير “أبوجهاد” في تونس عام 1988، واغتيال صلاح شحادة قائد كتائب عز الدين القسام عام 2002، واغتيال شيخ المجاهدين أحمد ياسين في عام 2004، إلى اغتيال مهندس طوفان الأقصى يحيى السنوار خلال هذا العام.

وعليه، يشتد ويكبر لدينا اليقين بأن الأبطال لا يموتون وإنما يورّثون خلفهم من أشد منهم قوة وبأسًا، وهذا يعود إلى البناء التنظيمي لحركات المقاومة، ومرونة تعاطيها مع مختلف الأحداث. فمن يعتقد بأن تلك الاغتيالات الغادرة تزعزع ثقة المقاومة فهو واهم، لأن اشتداد حالة التأزم يبني رجالًا يؤمنون بأن التضحيات هي دماء طاهرة في الأرض المقدسة.

تثير أهمية تبادل الأسرى  في كل مرحلة من مراحلها تطور النِّدِّية، التي أنهت أسطورة نمر الورق، وباتت تل أبيب تحت لهيب النار، ما يدل على أن المقاومة تبرز قوتها ومدى تأثيرها على مجريات الأمور عبر هذا الملف

تبادل الأسرى

الملف الآخر الذي يتزامن مع متغيرات الأحداث، ويضع صورة الكيان المغتصب في إطارها المتأزم والمهين، هو ملف تبادل الأسرى الذي سيكون حاضرًا وبقوة، خاصة مع اتساع حصيلة الأسرى الإسرائيليين الذين حركوا الداخل الإسرائيلي، وأشعلوا فتيل الخلاف الداخلي، ليكون ورقة تعيد التجارب ذاتها في قضية شاليط عام 2011، التي أدت إلى إطلاق 1000 أسير فلسطيني.

تاريخيًا؛ هذا الملف يشهد تطورًا كبيرًا، وتتضح قوته عبر ما يحدث على أرض المعركة، لا سيما سقوط كبار الضباط الإسرائيليين تحت قناص الغول، وأسر آخرين، فتلك الأحداث تدفع بالملف إلى طاولة المفاوضات.

وتثير أهمية تبادل الأسرى  في كل مرحلة من مراحلها تطور النِّدِّية، التي أنهت أسطورة نمر الورق، وباتت تل أبيب تحت لهيب النار، ما يدل على أن المقاومة تبرز قوتها ومدى تأثيرها على مجريات الأمور عبر هذا الملف، وتعزز ثقة الشعوب الإسلامية في استرداد الحقوق، دون الانجرار خلف السلام الخداع.

التواطؤ لا يقتصر على خذلان الأوطان، بل هو امتداد لمشهد تغلب عليه الضبابية وذر الرماد في العيون.. فتتماهى خيانة القضية مع اغتيال قادة المقاومة، وإخماد صوت الساحات والميادين

اغتيال الميادين

إن أشد الاغتيالات التي وقعت خارج أرض المعركة ولما نفِق منها بعد، اغتيالات ميادين التظاهرات والاحتجاجات في العالم العربي الإسلامي، حيث أصبحت أسيرة الخوف والتربص، فمع استحكام القمع والسيطرة عليها تهاوت أصوات الشعوب الحرة وتحطمت جسور الآمال.. فبعدما كانت تلك الميادين رمزًا للصوت الجماعي والحراك الشعبي، تهاوت وتشظت عبر القيود المشددة، وممارسات التضييق على حرية التعبير، المهدد الأكبر لخنق الأصوات وتعزيز سيطرة الأنظمة، خاصة بشأن ما يحدث في غزة ومحيطها العام.

ما زال الأمل معقودًا في انتظار ثوران الميادين، التي ستبني جسرًا روحيًا مع ساحة الشهداء في بيروت، التي ستهتف هتاف المقاوم ويتردّد صداها في ساحة العروبة في صنعاء، ليستفيق ميدان الفاتح في إسطنبول، وتنتشي ساحة الهاشمي في عمّان، فتتعالى الميادين والساحات الأخرى بروحها السلمية في كل بلد يتعلق قلبه بفلسطين.. لتكون الميادين والساحات وسيلة فاعلة لإحياء التضامن الشعبي.

إن الخيانة لا تقتصر على خذلان الأوطان، بل هي امتداد لمشهد تغلب عليه الضبابية وذر الرماد في العيون.. فتتماهى خيانة القضية مع اغتيال قادة المقاومة، وتضييع الحقوق في ملفات الأسرى، وإخماد صوت الساحات والميادين، لتتحول هويتها تدريجيًا إلى متاحف تُزار وشوارع تنهار يكسوها ذل الغبار.

طال الليل وطفح الكيل.. ومياديننا تشهد على صمت مخجل، وصوت يباد ويقمع، فتتداخل خطوط المد والإمداد بين أمل وألم.. وإن طال سبات العدالة فإن الساحات والميادين لا تفرق بين شرق وغرب أو شمال وجنوب.. وسيُفرز الحابل عن النابل، وسيشرق فجر الأمة التي تتوق إلى التحرر، فتعبر بأحلامها من ضفة اليأس إلى شاطئ الخلاص، وتثور القضية ثوران الأحرار، وترمم انكسارها مهما اندس حولها الخونة، وتاجر بها السماسرة والفجّار.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.



رابط المصدر

أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Exit mobile version