الجزيرة نت تحاور “الأب الروحي” للباحثين العرب في ماليزيا

By العربية الآن



الجزيرة نت تحاور “الأب الروحي” للباحثين العرب في ماليزيا

البورفيسور العراقي ناصر الراوي (الراوي)
البروفيسور ناصر الزاوي من داخل معمله بجامعة العلوم الماليزية (الراوي)
خلف قصص النجاح الكبيرة جنود مجهولون، لولا إخلاصهم ودأبهم وعشقهم لعملهم، ما اكتمل العمل الذي يجذب الأضواء نحو بطل القصة، ويبقى هؤلاء خلف الستار سعداء، بدعم المزيد من الأبطال.

يتحلى بعض الأبطال بالمروءة والعرفان بالجميل، فيعترفون بفضل هؤلاء الجنود، الذين لولاهم ما خرج العمل إلى النور، وكان من بين هؤلاء باحث الدكتوراه بالجامعة الماليزية للعلوم الشاب الغزاوي أنس القانوع، الذي أصبحت قصته حديث العالم بعد أن ناقش أطروحة الدكتوراه عن بعد من داخل غرفة منزله شبه المهدمة بقطاع غزة، والتي طالها آثار القصف الإسرائيلي.

لم ينس القانوع، وهو يعبر عن سعادته بعد أن أصبحت قصته عنوانا للصمود والتحدي، أن يذكر فضل أستاذه ومشرفه بالجامعة البروفيسور العراقي ناصر الراوي، ليلفت انتباهنا نحو هذا العالم العربي، الملقب في الجامعة بـ”الأب الروحي للطلاب العرب”، لنكتشف بعد مراجعة سجله البحثي، الذي يضم في عام 2024 وحده، الذي لم ينته بعد، 22 دراسة بحثية نشرت في دوريات علمية مرموقة.

أرسلنا له طلبا لإجراء الحوار، عبر صفحته الشخصية بموقع “فيسبوك”، فلم يتردد في الموافقة، مبديا استعداده للإجابة عن أي تساؤلات، وكانت هذه هي تفاصيل المقابلة التي امتدت لمدة ساعة كاملة عبر تطبيق زووم.

البروفيسور ناصر الزاوي بجوار تلميذه أنس القانوع (الثاني من اليمين) ومعهما طالبان آخران (الراوي)

بداية: هل يمكن أن تعطيني نبذة مختصرة تلخص فيها مسيرتك البحثية؟

حصلت على البكالوريوس والماجستير من بغداد، حيث كان الأول من الجامعة المستنصرية، والثاني من الجامعة التكنولوجية، ومن ثم التحقت بعد ذلك بأحد مراكز أبحاث التصنيع العسكري، وكان تخصصي في تصنيع الليزر، وتعلمت كثيرا خلال تلك الفترة.

لكن مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، وما تبع ذلك من تدهور في الظروف المعيشية، انتقلت إلى ليبيا، وعملت هناك 5 سنوات بجامعة ناصر، وأحد معاهد المعلمين العليا.

وبعد ذلك، فكرت في السفر إلى ماليزيا، لاستكمال الدراسات العليا، وبالفعل حصلت في 2006 على الدكتوراه من جامعة العلوم الماليزية، وكانت عن تحسين الإضاءة بواسطة تقنيات النانو تكنولوجي، ثم انتقلت بعد الدكتوراه إلى شمال ماليزيا، وتحديدا جامعة برليس، التي بقيت فيها 3 سنوات، قبل أن أحصل مجددا على فرصة للعمل بالجامعة التي حصلت منها على درجة الدكتوراه، وبقيت فيها 23 عاما أعمل أستاذا مشاركا في قسم الفيزياء.

ومؤخرا عدت إلى العراق للعمل رئيس قسم هندسة الليزر والإلكترونيات البصرية بجامعة دجلة.

لكنك تحدثني الآن من ماليزيا، فهل تتنقل في عملك بين جامعة دجلة وجامعة العلوم الماليزية؟

أعمل حاليا بين الجامعتين، لأني ما زلت أشرف على 14 طالبا من طلاب الدكتوراه في جامعة العلوم الماليزية، فقد تخرج تحت إشرافي أكثر من 35 طالبا من طلاب الدكتوراه، وأكثر من 40 طالبا من طلاب الماجستير، وهو نشاط علمي أعتز به كثيرا، إلى جانب أنشطتي الأخرى التي تشمل 11 كتابا علميا باللغة العربية والإنجليزية، وسلسلة من الكتب أعمل حاليا عليها حول تصنيع الأجهزة النانوية، ولدي 3 براءات اختراع، ونشر بحثي غزير يتراوح ما بين الـ20 و40 بحثا في السنة.

إنتاج بحثي غزير

في الحقيقة إن نشرك البحثي الغزير كان من الأشياء اللافتة عند التجهيز للحوار، حتى إني خشيت لبعض الوقت أن تكون من المتعاملين مع “مصانع إنتاج الأوراق البحثية”؟

(بعد إطلاق ضحكة عالية) بالطبع، فإن مكاتب إنتاج الأوراق البحثية، التي يسميها البعض بـ”بمصانع إنتاج الأوراق البحثية”، أصبحت تمثل خطرا على البحث العلمي، وقد يثير الإنتاج العلمي الغزير لأي باحث شكوك حول التعامل مع تلك المكاتب، لا سيما عندما يصل النشر في أحد الأعوام، كما حدث معي ، إلى 80 بحثا.

لكن بالنسبة لحالتي، فأسباب النشر الغزير معروفة، فأنا أقبل الإشراف على كثير من طلاب الماجستير والدكتوراه العرب الذي يأتون إلى الجامعة الماليزية للعلوم، لا أفرق بين طالب جيد أو غير جيد، كما يفعل الآخرون، لأن لدي قابلية لتعليم الطلاب، واستخراج أفضل ما عندهم، لذلك يتم نشر اسمي في الأبحاث التي تنشر من رسائل الماجستير والدكتوراه الخاصة بطلابي.

كما أني عندما أشرف على طلاب البكالوريوس في مشروعات تخرجهم، أحرص على النشر البحثي لهذا المشروع، هذا فضلا عن أن لدي علاقات مع فرق بحثية كثيرة حول العالم، وأعمل معهم في مشروعات بحثية مشتركة، يتم نشر أبحاث منها، ولكل هذه الأسباب لدي نشر بحثي غزير.

وهل كانت الجامعة تقبل أن يسجل معك كل الطلاب العرب؟

أغلب طلابي من العرب، لكني أشرف أيضا على طلاب من أفريقيا وباكستان والصين وغيرها من الدول، والحقيقة أن الجامعة كانت تستجيب لطلب أي طالب عربي يرغب في التسجيل معي، وأنا بطبيعتي لم أكن أرفض.

إذن أنت صديق للطلاب العرب؟

(بعد ابتسامة عريضة ترتسم على وجهه) يطلقون علي هناك لقب “الأب الروحي للطلاب العرب”، فعلاقتي مع طلابي لا تقتصر على حدود المعمل والجامعة، فأنا أقضي معهم ساعات طويلة خارج المعمل نتناقش ونتبادل الأفكار التي نقوم بتحويلها في اليوم التالي لمنتج بحثي.

البروفيسور ناصر الزاوي يتابع نتاج إحدى التجارب البحثية مع أحد طلابه داخل مختبر تصنيع النانو بجامعة العلوم الماليزية (الراوي)

عقلية رائعة بدون توجيه

وما تقييمك الموضوعي لعقلية الطالب العربي؟

الطلاب العرب نوابغ ولديهم استعداد سريع للتعلم والتطور، لكنهم للأسف يفتقدون إلى التوجيه، فلا أخفيك سرا أن نسبة ليست ببسيطة، اكتشفت في بداية تعاملي معها ضعفا شديدا في المادة العلمية وافتقادا للأساسيات، وهو وضع لم يكن موجودا في الماضي، حيث كانت المستويات أفضل بكثير.

ولكن الشيء الإيجابي، أن هؤلاء الطلاب لديهم استعداد سريع للتعلم عندما يجدون من يوجههم، ولدي قصة حدثت مؤخرا تؤكد ذلك، فأنا أحرص على أن يقدم كل طالب من طلابي عرضا (برسينتيشن) كل أسبوعين.

وفي إحدى المرات كان تقييمي لعرض أحد الطلاب بأنه سيئ للغاية وغير صالح بتاتا، فطلبت منه تجهيز نفسه لإعادة العرض مجددا بعد أسبوع، وذلك بعد أن أعطيته بعض التوجيهات، فاتصل بي بعد أسبوع طالبا مهلة أخرى، فعاد بعد أسبوعين وقدم عرضا رائعا، كان تقييمي له أنه يحصل على تقدير 90%، إذن المشكلة لم تكن في قدرات هذا الطالب، بقدر ما كانت في افتقاده لمن يوجهه ويعلمه.

ولا تقول لي إن الطالب لم يعد لديه استعداد للتعلم، فلدي تجربة أخرى، عندما كتبت قبل شهور على صفحتي بالفيسبوك، داعيا الباحثين للانضمام إلى مبادرة أطلقتها تحت عنوان (100 ورقة بحثية في السنة)، أرسلت لي طالبتان بالمرحلة الثانوية من العراق والأردن تطلبان الانضمام إلى تلك المبادرة، فالرغبة في التعلم موجودة حتى عند هذا السن الصغير، إذن فالمشكلة في غياب الأستاذ الذي لديه استعداد للتعليم والتوجيه.

ومن الذي غيب هذا الأستاذ؟

في تقديري، فإن ظهور الجامعات الأهلية هي التي أدت لتلك الانتكاسة، حيث أصبح الربح هو المسيطر على العملية التعليمية، فالطالب لا يكون مؤهلا لدراسة التخصص، ولكن لامتلاكه المقابل المادي يستطيع دراسة التخصص الذي يريده، والأستاذ ليس لديه وقت للعمل مع طالب غير مؤهل، ومع ذلك ومن خلال تجربتي، تستطيع أن تصنع قصة نجاح مع هذا الطالب، كما تكشف تجربتي الشخصية من خلال توجيهه وتعليمه، لأن مجموع الثانوية العامة، أحيانا لا يكون معبرا عن القدرات.

وأنصح كل أستاذ أن يربط الطلاب مبكرا بمنصات التواصل العلمي، فقد وجهت طلابي بمرحلة البكالوريوس بجامعة دجلة، إلى الانضمام لتلك المنصات مثل “ريسيرش جيت ” و “غوغل سكولار”، وأعطيهم درجات على ذلك، فهذا هو أول الطريق لتوسيع مدارك الطالب، بلفت انتباهه إلى طريق للتواصل يصب في صالح مساره المهني بدلا من التواصل الاجتماعي الذي يقضي به وقتا طويلا.

لا تنس أننا تعرفنا عبر أحد مواقع التواصل الاجتماعي؟ 

(ضاحكا) لا أنكر أهميتها في التعارف والترويج للأبحاث، لكن ما يحزنني هو الإفراط في الاستخدام، حتى إن أطفالنا باتوا يقضون الليل في الانتقال من فيديو لآخر عبر موقع (التيك توك)، وهذا سلوك مضر للغاية، سينتقل معه خلال المراحل العمرية المختلفة، ليجد حينها صعوبة في الاستمتاع بمنصات أخرى تفيده مهنيا مثل منصات التواصل العلمي.

البروفيسور ناصر الزاوي يتابع نتاج إحدى التجارب البحثية مع طالبه أنس القانوع (الراوي)

استعادة العراق لماضيها البحثي

اسمح لي بالانتقال بالحوار لمساحة أخرى، وهو تقييمك لحال البحث العلمي في العراق، حيث كانت دولتكم تسير على طريق نهضة بحثية كبيرة، ثم تراجعت بسبب الحرب مع إيران والحرب الأميركية، فهل هي قادرة على العودة؟

لا توجد صعوبة في العودة متى توفرت الإمكانيات، بدليل أنه رغم الظروف الصعبة يوجد نشاط بحثي ملحوظ في العراق، بواسطة باحثين يعتمدون على أجهزة مصنعة محليا، ويتوصلون لنتائج جيدة، لكن إذا كنت تبحث عن نقلة كبيرة، فأنت بحاجة لأجهزة متطورة تقوم بتوفيرها بملايين الدولارات، وتنفق عليها ملايين أخرى من أجل الصيانة، والفارق الكبير في الإمكانيات لمسته بشكل واضح في زيارة مؤخرا لإحدى الجامعات الصينية، حيث كان لدى قسم الفيزياء بها 6 أجهزة من نوع واحد، بينما لا يوجد في جامعات العراق مجتمعة سوى جهاز واحد من هذا النوع.

ولماذا رجعت للعراق رغم ضعف الإمكانيات؟

وصلت لعمر التقاعد في ماليزيا (60 عاما)، ومع ذلك منحتني جامعة العلوم الماليزية عامين إضافيين، وما زلت مستمرا في الإشراف على طلابي، إلى جانب عملي في جامعة دجلة، وبعد الانتهاء من الإشراف على الرسائل التي لم تنته بعد، سأستمر في العمل معهم، كمشرف ثان على بعض الرسائل، وقد أعمل أيضا على بعض المشروعات البحثية.

ولماذا لم تفكر في البحث عن دولة أخرى تمنحك عملا دائما بعد عمر الـ62 عاما؟

قضيت 30 عاما خارج العراق، وكان لا بد من العودة إلى أرض الوطن، مع حرصي على ألا أقطع صلتي بجامعة العلوم الماليزية، لذلك تقدمت بطلب للحصول على إقامة الموهبين، وهي إقامة لمدة 10 سنوات قابلة للتجديد تمنح بعد تقييم إنجاز الشخص وسيرته الذاتية، وأنا والحمد لله لدي سيرة ذاتية جيدة، وسجل حافل بالتكريم سنويا من ملك ماليزيا، بسبب كم الأبحاث المنشورة وجودتها، وهو ما أهلني للحصول عليها.

أسلاك الفضة النانوية

أحد أهم أبحاثك المنشورة هذا العام كانت عن أسلاك الفضة النانوية برفقة طالبك الغزاوي أنس القانوع، هل يمكن إعطاؤنا فكرة عنها؟

قبل الحديث عن أسلاك الفضة النانوية اسمح لي في البداية أن أشيد بأنس القانوع، فعندما جاءني طالبا الإشراف على رسالته، كان يريد أن يكون اتجاهه في البحث نظريا، لكني قلت له إني لا أعمل إلا في الجانب التطبيقي، فإذا كانت لا ترغب في ذلك، يمكنك البحث عن مشرف آخر، لكنه وافق على تعديل توجهه، وعمل ليل نهار، حتى تمكن من الخروج بنتائج خلال 4 أشهر فقط، شاركنا بها في مؤتمرات بحثية، وكانت من الجودة بحيث أن فريقا بحثيا ألمانيا طلب زيارتنا في المعمل لرؤية عينات من المنتج.

وما الجديد في منتجكم؟

من الجيد أنك طرحت هذا السؤال، فإذا قمت بإجراء بحث على الإنترنت ستجد بالفعل عشرات الأبحاث على إنتاج أسلاك الفضة النانوية، ولكن المميز في عملنا أننا نجحنا في إنتاجها بنقاء عال يجعلها مؤهلة للتطبيق العملي.

وما قيمة أسلاك الفضة النانوية؟

لها العديد من التطبيقات في أجهزة اللمس، بما فيها الهاتف المحمول، فهي تساعد في تحقيق الهدف الذي تريده الجهات المصنعة، وهو إنتاج شاشات قابلة للطي، حيث إن المادة المستخدمة في التصنيع حاليا لا تسمح بالطي، وتؤدي إلى كسر الشاشات، في حين أسلاك الفضة النانوية النقية التي نجحنا في إنتاجها يمكن أن تكون مساعدة في ذلك.

البروفيسور ناصر الزاوي في مختبر تصنيع النانو مع طلابه من السعودية والعراق والأردن (الراوي)

الفجوة بين البحث والتطبيق

كان لدي سؤال أثارته سيرتك الذاتية، لكني آثرت ادخاره للختام، وهو المتعلق بعملك في بداية حياتك العملية على إنتاج الليزر بأحد مراكز الأبحاث العسكرية، ولأن كثيرا من الأسلحة تعتمد في الوقت الراهن على الليزر، فهذا يدفعني لسؤالك: هل العالم العربي يمكنه إنتاج تلك الأسلحة محليا؟

نستطيع في العالم العربي تصنيع الليزر معمليا، فلدينا عقول رائعة ومبدعة في المعمل، لكن تحويل هذا العمل لمنتج تطبيقي ما زال حلما بعيد المنال، فالفجوة بين البحوث الأساسية والتطبيق واسعة جدا.

وما قيمة البحث إن لم يتحول إلى تطبيق، حتى لو كان بحثا جيدا مثل بحث تلميذك أنس القانوع؟

الفكرة قابلة للتطبيق، ولكن لا توجد لدينا الشركات التي تستفيد منها، وأتوقع عندما تنتهي الحرب، ستحرص كثير من الشركات الأجنبية على استقطاب أنس. لكن على الأقل، سيكون لدينا أساس يمكن البناء عليه عندما تتوفر الإرادة السياسية لسد الفجوة بين البحث والتطبيق.

لو أردنا أن نحصل منك في الختام على نصيحة تقدمها للباحثين العرب، فماذا تقول؟

أقول لهم إن عليهم الاهتمام بالمنصات العلمية، فمن خلال الاشتراك بها سيحصلون على كثير من العلم والأفكار والتوجيه، فكما قلت لك سابقا، نحن لدينا عقول نابغة، لكنها تحتاج لتوجيه، والمنصات العلمية يمكن أن تدعم هذه المهمة.

المصدر : الجزيرة



أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Exit mobile version