الخروج من تحت سيطرة مودي.. لماذا تشعر الهند بالقلق من ثورة بنغلاديش؟

By العربية الآن



الخروج من تحت سيطرة مودي.. لماذا تشعر الهند بالقلق من ثورة بنغلاديش؟

المحتجون يحتفلون بجانب صورة مشوهة لرئيسة الوزراء الشيخة حسينة بعد خبر استقالتها، في داكا، بنغلاديش، يوم الاثنين، 5 أغسطس 2024. (أسوشيتد برس)
المؤلف: مع تغيير نظام حكم حسينة واجد، تتشتت الأوضاع السياسية مرة أخرى على الطاولة في انتظار ترتيب جديد ما زال يتكون. (أسوشيتد برس)

في مدة قصيرة، اندلعت ثورة شعبية في بنغلاديش قادها الطلاب، هزت نظام رئيسة الوزراء الشيخة حسينة واجد التي بدت تمسك بقوة لكنها تفككت بسرعة. في الواقع، كانت الشرارة وراء الاحتجاجات هي استعادة نظام التحفظات “الكوتا” الذي يهدف إلى منح امتيازات وظيفية لعائلات المحاربين القدامى في “الحرب الطاحنة” ضد باكستان والذين لا يزيد عددهم عن 0.2% من إجمالي السكان. ومع ذلك،تمامًا كما أوضح لاحقًا، لم يكن ذلك الدافع الفريد أو حتى الأهم للغضب الشعبي، لذا حتى بعد خفض نسبة “الكوتا” من 30% إلى 5%، لم يكن هذا الإجراء كافيًا لاحتواء الاستياء والانزعاج في الشارع البنغالي، بعد مقتل المئات على يد الشرطة وقوات الأمن.

هوى نظام السيدة حسينة، وهربت رئيسة الحكومة بطائرةٍ إلى الهند، لافتتاح فصل جديد في سياسة بنغلاديش الداخلية، مُطَرَحًا معها تساؤلات حول مستقبلها الجيوسياسي في إطار تواجدها وسط ثلاث قوى رئيسية وهي باكستان، الهند والصين، وتحديدًا في ظل وجود الولايات المتحدة التي تنخرط في صراع جيوسياسي مقابل الصين في جنوب وشرق آسيا وفي منطقة المحيطين الهندي والهادي. وسط هذا الصراع المُشتعل، تجد بنغلاديش نفسها مضطرةً إلى استعراضٍ سياسي ينطوي على خيارات صعبة.

اقرأ أيضا

list of 2 items

list 1 of 2

نهاية السيدة الحديدية.. كيف تمت إطاحتها برئيسة الوزراء بنغلاديش؟

list 2 of 2

قبضة مودي القوية.. أي مستقبل لمسلمي الهند بعد الانتخابات؟

end of list

وفيما يتعلق بنظام السيدة حسينة سجيَّت السابق، فبادر باللجوء إلى الهند، والابتعاد تمامًا عن باكستان، والحفاظ على تدبير محدود مع بكين وتعزيز التعاون معها دون التوصل لمستوى يعرض العلاقات مع نيودلهي، الحليف الرئيسي لداكا، للخطر. ومن خلال التقرب من الهند، شوَش نظام حسينة سجيَّت من بعيد الولايات المتحدة التي تهتم بشكل أساسي بعدم سقوط بنغلاديش تحت نفوذ بكين.

وعندما رحل نظام السيدة حسينة، تبعثرت أوراق التوازن الجيوسياسي فوق الطاولة من جديد في انتظار توطين جديد لا تزال ملامحه قيد التشكيل. نظريًا، يمكن القول إن الثورة فتحت صفحة جديدة في تاريخ العلاقات بين داكا ونيودلهي التي كانت دائمًا تُنظر إليها بوصفها داعمًا رئيسيًا وشريكًا فاعلا في حركة استقلال بنغلاديش، بدأت صفحة جديدة تتدرّج في إشراقها حيث أن الهند هي التي استقبلت رئيسة الحكومة الهاربة، وإن كان ذلك لا يعني أن النظام الجديد في بنغلاديش سيكون عداؤًا تجاه الهند بالضرورة، ولكنه بالتأكيد لن يكون أكثر ودًا من النظام السابق. أما الصين، فتبدأ علاقتها الجديدة مع بنغلاديش بورقة نظيفة نظريًا، بينما تراقب باكستان الأمور من بعيد، وتحرص على عدم التحيزات الصريحة تقديرًا للعلاقات التاريخية بين البلدين.

تحدي الحدود.. واستكشاف غاندي

يتمتع مثلث “الهند – باكستان – بنغلاديش” بصلات تاريخية وسياسية وثيقة تعود جذورها إلى عهد “الهند البريطانية” أو “الراج البريطاني”،عندما خضع الإقليم الذي يشمل الآن الدول الثلاث وميانمار، لسيطرة الإستعمار البريطاني من نصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين. بعد رحيل الإستعمار، تم تقسيم الهند في أغسطس/آب 1947 إلى دولتين على أساس ديني، وهي الأساس الذي أدى لتقسيم إقليمي البنجاب والبنغال. حُددت الدولة الجديدة المسلمة بإسم باكستان، أما الهند الأكبر فبقيت كما هي، وكانت عملية التقسيم حادثة دموية أسفرت عن مقتل مئتي ألف إلى مليوني شخص بتقديرات مختلفة ونزوح أكثر من 15 مليون شخص تجمعوا في طوابير طويلة عبر الحدود الجديدة للدولتين. ولم تزل أثار التقسيم تلازم الوعي الجماعي لسكان المنطقة، وتظل الأجيال تنقل حكاياته وتعاني من ذكرياته حتى اليوم.

سببت خطوط التقسيم التي وضعها الإستعماري سيريل رادكليف إرقاءً في ولادة جمهورية باكستان الإسلامية، تعاني من تقسيم جغرافي وعرقي بين غرب يهيمن عليه البنجاب وتكمن فيه السلطة السياسية، وشرق يسيطر عليه البنغال تعرّض لإهمال كبير، وذلك بسبب مخاوف البريطانيين من تحول البنغال إلى مركز لحركة الاستقلال الهندية، بناءً على ذكريات حركة سواديشي التي ظهرت في عام 1905 وقادت حملة ضد المنتجات البريطانية لدعم الصناعات المحلية ومقاومة الحكم الإستعماري، لذلك اتخذ الإستعمار قرار تجزئة أراضي البنغال وتقسيمها ودمجها في حدود سياسية غير متجانسة عرقيا.

منذ البدايات الأولى لباكستان، شهد البلد نزاعًا حادًا بين شطريه الشرقي والغربي، وساهمت الإدارة الباكستانية آنذاك في تعميق هذا النزاع للإقليم الشرقي. بفضل احتكار السلطة السياسية والفرص الاقتصادية في الغرب، تفاقم التفرقة العرقية بين البنجاب والبشتون من جهة وبين البنغال من الجهة المقابلة، ووضعت البذور لانفصال بين الشطرين. حركة اللغة في خمسينيات القرن السابق، كانت بمثابة بداية الانفصال المتوقع بين الشطرين، إذ دعت لجعل اللغة البنغالية لغة رسمية بجانب الأردية، مما أشعل نيران الفصل بين الأقاليم.

تفاعلت تلك الحركة مع قمع كبير من قبل الحكومة والجيش الباكستاني، مما أذكى الوعي القومي البنغالي وخلق شقاقا عميقًا لا يمكن تلافيه. ثورة الجيش في إسلام أباد عام 1958 بقيادة الجنرال أيوب خان، كانت نقطة سوداء جديدة في التاريخ البين الشطرين، إذ ضعفت المؤسسات المدنية بفعل الانقلاب على حساب المؤسسة العسكرية، وتعززت سطوة الغرب على حساب الشرق الذي تعرض لمزيد من التهميش السياسي والاقتصادي.

الكاتب: فُرض التاريخ وأسباب الجغرافيا السياسية على بنغلاديش إدارة علاقات صعبة وسط ثالوث من الدول المسلحة نوويًا، وهي الصين والهند وباكستان. (الجزيرة)

في هذا السياق، بروز الشيخ موجيب الرحمن، والد حاسنة واجذ، وحزب رابطة عوامي بوصفهم ممثلين قوميين للباكستانيين الشرقيين، حيث تحول النضال من التمثيل العادل للشرق إلى دعوات صريحة للاستقلال، بعد أن منعت رابطة عوامي من تشكيل حكومة شرقية على الرغم من فوزها بالأغلبية في الانتخابات عام 1970. تلا ذلك حظر السلطات الباكستانية في مارس/آذار 1971 الحركة واعتقال قائدها موجيب الرحمن، مما أدى لاندلاع حرب أهلية استمرت 9 أشهر.

منذ اللحظة الأولى، كانت الهند شريكا أساسيا في حرب البنغال ضد باكستان. سعت نيودلهي لتصوير دخولها إلى تلك الحرب بمنطقية “إنسانية”، خصوصا بعد نزوح حوالي 10 ملايين لاجئ خلال الأشهر التسعة من “حرب الاستقلال”، بيد أن التدخل الهندي في باكستان يعود لفترات ما قبل ذلك. بعد خسارة الهند في حربها مع الصين في جبال الهيمالايا عام 1962، والمعروفة باسم “الحرب الصينية الهندية الثانية”، بادرت البلاد لإعادة تقييم أدائها الأمني والعسكري، وأدى ذلك إلى إنشاء وكالة الاستخبارات الهندية في سبتمبر/أيلول 1968 مع مهام أساسية تتمثل في جمع المعلومات الاستخباراتية عن الصين وباكستان، والاستعداد للتحرك في شرق باكستان.

في تلك الحقبة، استغلت رئيسة الوزراء الهندية إنديرا غاندي الفرصة لـ”تقليص مساحة باكستان” من خلال تدريب وتجهيز “العصابات المسلحة البنغالية”من أجل تقسيم شرق باكستان عن غربها توجّهت هذه المرحلة من الخُطّة نحو توفير المزيد من الزمن للهند لتهيئة قوّاتها للاقتحام بينما تُستنزف المُدافعين الباكستانيين وتَسدّ طُرق إمداداتهم. عُني برنامج “جاكبوت” ببداية السبعينيات بتدريب ما يصل إلى 100 ألف من قوّات المتمرّدين البنغاليين في شرق باكستان، معروفين بـ “موكيتي باهيني” في الهند، على استخدام الأسلحة الصّغيرة والذَخائر الآلية الخفيفة وقذائف الهاون والمتفجّرات وعمليات بحريّة.

تم تقسيم قوات “موكيتي باهيني” إلى فُرق تقليديّة وعناصر حرب العَصابات، وكانت النواة الصلبة لهذه القوّة عشرة آلاف شاب ينتمون إلى منظمة طُلّاب رابطة عوامي. خلال شهور، نفّذت هذه القوات المدعومة هنديًا حرب عَصابات ضد الجيش الباكستاني، تنتهي بهزيمة فاجِعة للجيش في دكا بسبب هجوم على ثلاثة مُحاور، وتَدخّل واضح من القوات الجويّة الهنديّة المُتفوّقة والقوات البحريّة أيضًا، لتُعلن باكستان في ختام المطاف استسلامها بعد أسر نحو 90 ألف جندي خلال الحرب، وكان لبنغلاديش نصيبها في الاستقلال بفضل دعم عسكري صريح وواضح من الهند.

عندما كانت الأحداث في أوجّها، كانت الصين تُراقب المؤثرات بحذر في حين أشرفت على تحوّل سياسي مثير داخليًا. بعد الحرب الصينية الهنديّة، أصبحت بكين حليفًا افتراضيًا لإسلام أباد، ومُنذ مطلع السبعينات، استخدمت الصين باكستان كممرّ مؤخّر للتقارب مع نظام نيكسون في الولايات المتحدة بعد أكثر من عقدين من الانقطاع والنبذ على المستوى العالمي للصين بعد سيطرة الشيوعيين على السلطة، وانتهى الأمر بالاعتراف بجمهورية الصين الشعبية عضو دائم في مجلس الأمن عام 1971.

لجهد الصين لدعم باكستان في حربها ضد الهند في بنغلاديش عامل حقّ النقض لأول مرة، لكن الصين اختارت التباعد عن المُشاركة المباشرة في هذه الحرب. نظرًا لعلاقاتها القديمة مع باكستان، وفي ظل تقارب بدائي بين الدولة البنغالية الجديدة والاتحاد السوفياتي في فترة التحول الصيني السوفياتي، اتسع الهوّة بين دكا وبكين، حيث رفضت الصين عضويّة بنغلاديش في الأمم المتحدة حتى عام 1974، على العكس من وضعها المؤيد لمنح عضويّة المنظمة الدوليّة للبلدان الحديثة الاستقلال حول العالم.

تغيّرت الحالة بشكل كبير بعد انقلاب بنغلاديش العسكري عام 1975، الذي أدى لانفصال بنغلاديش عن الحرب الباردة في جنوب آسيا، وهو ما سمَّي بإقامة العلاقات الرسميّة بين بكين ودكا في بداية عام 1976 وتبادل الزيارات بين مسؤولي البلدين. في الثمانينيات، توطّدت العلاقات بين البلدين سياسيًا وتجاريًا وعسكريًا، ووُقّعت البلدان على تسع اتفاقيات ثنائيّة على الأقل لتعزيز العلاقات المتبادلة.

 

تمارين في وسط الثلاثي النووي

ضع التاريخ والمُعايير الجيوسياسية ضغوطًا على بنغلاديش لإدارة علاقات معقّدة وسط ثلاثة دول مسلّحة نوويًا. من أجل التغلّب على هذه التحدّيات، انعزلت بنغلاديش مُبكّرًا عن المشاركة في أي صراع جيوسياسي بعد فترة قصيرة من تعرّضها لأثار الحرب الباردة، مُفضّلة التركيز على التنمية الاقتصادية في ظل معاناة العشرات من الملايين من الفقراء ونقص الفرص.

على مدى الخمسة عقود الماضية، خضعت دكا لتحوّل اقتصادي ملحوظ، حيث تقدّمت من كونها واحدة من أفقر دول العالم في عام 1971 إلى أن تصبح دولة ذات دخل متوسّط من الفئة السفلى بحلول عام 2015. يتجاوز حجم اقتصاد البلاد اليوم

يبلغ الإجمالي المالي المتوقع لبنغلاديش حوالي 400 مليار دولار أمريكي، ويتوقع أن تغادر البلاد قائمة الدول النامية بحلول عام 2026. نتيجة للعلاقات السياسية القوية بينهما، أصبحت الهند شريكا رئيسيا في النهوض الاقتصادي لباكستان، حيث بلغت قيمة صادرات بنغلاديش إلى الهند مليارَيْ دولار في العام 2022-2023، في حين بلغت واردات الهند من بنغلاديش 13.8 مليار دولار، وسجلت متوسط نمو يقترب من 10% سنويا.

رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي (يمين) ورئيسة وزراء بنغلاديش السابقة حسينة واجد (رويترز)

تطورت هذه العلاقات الاقتصادية بشكل كبير خلال السنوات العشر الأخيرة تحت إدارة حسينة واجد في بنغلاديش وناريندرا مودي في الهند، حيث يُعتقد أنهما يتمتعان بعلاقة شخصية متينة. وبالفعل، يشترك كل من حسينة واجد ومودي في الرؤية السياسية للعديد من القضايا، إلا أن الشيء الذي يجمعهم بشدة هو عداؤهم المشترك تجاه باكستان والجماعات الإسلامية، الأمر الذي زاد من قسوة قمعهما داخليا للنظامين السابقين الذين كانا يتباهيان بالديمقراطية. لذلك، لا يستغرب أن تحمل الأحزاب المعارضة في بنغلاديش، وبشكل خاص الحزب القومي البنغالي وحلفاؤهم السابقون من الجماعة الإسلامية، انزعاجًا من الهند التي يرون فيها شريكا في قمع معارضي البنغال.

يُعتقد أن المعارضة البنغالية قادت حملة اقتصادية تحمل أهدافا سياسية لمقاطعة السلع الهندية في العام الماضي وبداية العام الحالي. وعلى الرغم من أن الهدف الرئيسي للحملة كان التعبير عن استياء الشعب من دور الهند في البنغال، إلا أن المعارضة اعتبرت استهداف الهند وسيلة لإضعاف سلطة حسينة واجد وحكومتها، خاصة بعد الانتخابات التي قاطعها حزب بنغلاديش الوطني والأحزاب المعارضة الأخرى، وكانت تلك الانتخابات مصدر شكوك حول تدخل هندي للتأثير على النتائج بهدف الحفاظ على سلطة حزب رابطة الشعب.

في المقابل، بالكامل على عكس الهند، انقلب نظام حسينة واجد على الباكستان، إلى الدرجة التي استخدمها كوسيلة لتشويه سمعة معارضيه السياسيين الذين وُصِفوا بـ”الرازاكار” بوصفهم الأشخاص الذين تعاونوا مع باكستان خلال حرب الاستقلال. بينما حافظ نظام حسينة واجد على علاقات اقتصادية قوية مع الصين التي كانت تحتل مكانة مرموقة بين شركائها التجاريين في بنغلاديش.

قامت بكين بتخصيص أكثر من 25 مليار دولار في عدة مشاريع في دكا، لتكون بذلك الدولة الثانية في جنوب آسيا من حيث الاستثمار بعد باكستان. كما أنجزت الصين العديد من المشاريع البنية التحتية في بنغلاديش، بما في ذلك سبعة مشاريع للسكك الحديدية، و12 طريقًا سريعًا، و21 جسرًا، و31 محطة طاقة. لكن على الرغم من الفوائد التنموية التي تعود عليها تلك المشاريع، إلا أنها تثير قلقًا بسبب خطر عدم قدرة بنغلاديش على سداد ديون الصين التي تبلغ نحو 17.5 مليار دولار، وتعادل حوالي 8% من إجمالي الديون الخارجية للبلاد.

بجانب الجوانب الاقتصادية، أبرزت الصين كحليف عسكري مهم لبنغلاديش، حيث تُعتبر الصين المورد الأساسي للأسلحة للبلاد، وتتلقى القوات البنغالية مجموعة متنوعة من الأسلحة الصينية، بما في ذلك الدبابات، وقاذفات الصواريخ، والطائرات الحربية، والسفن البحرية، وأنظمة الدفاع الجوي المحمولة، وتتمتع بنغلاديش باتفاقيات تسليح مبرمة مع الصين. على سبيل المثال، في عام 2016، حصلت القوات البحرية البنغالية على غواصتين صينيتين جديدتين بسعر مخفض وصل إلى 205 مليون دولار، وفي عام 2022، تسلمت بنغلاديش شحنة صينية تضم 150 وحدة من أنظمة الدفاع الجوي المحمولة. بالإضافة إلى ذلك، استثمرت الصين 1.2 مليار دولار في بناء أول قاعدة بحرية بنغالية في كوكس بازار على ساحل خليج البنغال، والتي يمكنها استيعاب ست غواصات وثماني سفن حربية.

تنبع تعزيز العلاقات العسكرية بين الصين وبنغلاديش، وبشكل خاص في المجال البحري، من اتفاقية التعاون الدفاعي لعام 2002 التي تشمل التدريب العسكري والإمدادات العسكرية. ووصلت تلك العلاقات إلى ذروتها في مايو/أيار 2024 مع إجراء بنغلاديش والصين أول مناورات عسكرية مشتركة بينهما، مما أثار مخاوف واسعة في الهند والولايات المتحدة.

على الرغم من مشاركة بنغلاديش والهند في 11 تدريبا عسكريا بين عامي 2009 و 2023، إلا أن التدريبات مع الصين أثارت تساؤلات حول مدى تجديد النظر في العلاقات “غير مستقرة” مع الأطراف الثلاث.

“المتوازنة” مع الهند، أو أن الإستثمار الإقتصادي لبكين في البلاد يوشك أن يُحرز نجاحا سياسيا. غير أمام البانوراما الأرجح أن تلك المناورات كانت جزءا من خُطبة حكومة حسينة واجد تحسبا للتحوط السياسي، حيث بقيت علاقات بنجلاديش مع الصين مغطاة دوما بعلاقتها الأكثر استراتيجية مع الهند. ببساطة، لم تكن بنجلاديش تُجازف في مياه العلاقات الصينية بالطريقة التي يُثير اضطرابا لسفنها السياسية الجامدة على شواطئ الهند.

واقع “حسينة واجد”.. بنجلاديش في الكون الجيوسياسي

أخيرا، غادرت حسينة واجد بتوازناتها السياسية الخاصة تحت ضغط الغضب الشعبي، وتركت بنجلاديش تلمس الخطى في مياه إقليمية مضطربة، لكنها تسلح في الوقت نفسه بمواهب جيوسياسية ربما تحتاج إلى إعادة استكشافها. وفي الأساس، تلعب جغرافية بنجلاديش دورا حيويا في مكانتها الاستراتيجية والجيوسياسية، حيث تتمتع البلاد بموقع استراتيجي بين جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا، وتشترك في الحدود مع الهند وميانمار، ولها قدرة الوصول إلى خليج البنغال.

هذا الموقع يجعل من بنجلاديش حلقة وصل حيوية للتعاون التجاري والإقليمي بين الكتل الاقتصادية الكبرى، مثل رابطة دول جنوب شرق آسيا (ASEAN)، ورابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي (SAARC). وتمتلك بنجلاديش ثلاث موانئ رئيسية هي: شاتوغرام، ومونجلا، وبايرا، من بين الموانئ الاثني عشر الموجودة في خليج البنغال، التي تُعد حيوية للتجارة والأمن البحري.

هذا الموقع الاستراتيجي يؤهل بنجلاديش للعمل كـ “قوة متوسطة” في منطقة المحيطين الهندي والهادي، وبناء شراكات متوازنة مع اللاعبين العالميين الرئيسيين، بما في ذلك الولايات المتحدة واليابان والصين والهند وروسيا، مما يعزز نفوذها الجيوسياسي في إقليم يشهد اضطرابات متصاعدة بين الصين وأميركا. خلال العقود القليلة الأولى بعد استقلالها، تعرضت بنجلاديش لتحديات متعددة، على رأسها عدم الاستقرار السياسي، والكوارث الطبيعية، والانقلابات العسكرية، والفساد، وهو ما جعلها تحوم كالأسيرة تحت ظل الهند، وبالتأكيد كانت التبعية المفرطة للهند، أحد العوامل التي أثارت غضبا شعبيا ورغبة في الخروج من حكم الهند، وتحقيق مكانة جيوسياسية أفضل.

في تلك الأثناء، قد تكون الهند أكبر المتضررين من رحيل نظام حسينة واجد، حيث ستحتاج نيودلهي إلى إعادة فحص العلاقات مع قوى جديدة تنظر إليها بارتياب في أحسن الأحوال، وفي مقدمتهم الحزب الوطني البنغلاديشي الذي يطمح إلى الوصول إلى السلطة بعد الفترة الانتقالية، وربما الجماعة الإسلامية التي قد تعيد تشكيل الديناميات السياسية في البلاد وعلاقاتها الإقليمية، خصوصا مع الهند التي قد تشعر بقلق كبير تجاه احتمال صعود تيار إسلامي في دولة تحاط جغرافيا بأراضي الهند كما خلاصة.

وفي السياق نفسه، ستحتاج نيودلهي أيضا إلى القلق بشأن بعض المخاطر الأمنية، بما في ذلك زيادة المشاعر المناهضة للهند، واحتمال تدفق اللاجئين عبر الحدود خاصة وتجاذب الجيش داخليا. وبسبب السياسات المعادية للمسلمين التي تنتهجها حكومة مودي الهندية، سيكون عليها أن تخشى من ردود الأفعال المعاكسة.

نحو الهنود في بنغلاديش، بالإضافة إلى احتمال محفزات الانتفاضة البنغالية لتحريك تحركات معارضة للنظام من جانب الأقليات المظلومة في الهند. وعلى نطاق واسع، قد تبدأ الهند في الشعور بالتوتر من تراجع نفوذها في محيطها، بل وعزلها من قوى ضعيفة (الأغلبية منها زميلة للصين) تنتشر غربًا وجنوبًا تشكل حزامًا حولها، يبدأ من باكستان ويمر بجزر الملديف وسريلانكا وينتهي في ميانمار وبنغلاديش.

بالنسبة للصين، تعتبر إسقاط النظام المقرب من الهند في بنغلاديش فرصة لاستغلال استثماراتها السياسية والاقتصادية الضخمة، واحتلال مكانة الهند كحليف سياسي يمتلك قوة مالية ضخمة. ومن المحتمل أن السلطات الجديدة في دكا ستسعى لعلاقات أكثر توازنًا، ولن تقوم بتدمير علاقتها مع الهند بشكل كامل. الأهم من ذلك أن هناك ملفات عالقة مهمة قد تتحدى مسار العلاقات الصينية البنغالية، أهمها قضية المسلمين الروهينغا في ميانمار.

تعتبر بكين نايبيداو شريكًا رئيسيًا لتأمين حدودها الجنوبية الغربية والوصول إلى الموارد الحيوية، وهو ما يفسر الدعم الذي تتلقاه الحكومة العسكرية في ميانمار من الصين منذ استيلاءها على السلطة في انقلاب عام 2021. من جانبها، لديها بنغلاديش قلقها الخاص تجاه الاضطهاد المستمر للروهينغا الذي يدفع تدفقات متتالية من اللاجئين نحوها، بالإضافة إلى مشاعر التضامن التي يظهرها الشعب البنغالي المسلم للأقلية المظلومة، وإذا استمرت بكين في دعم السلطات في ميانمار دون مراعاة قضية الروهينغا، فإنها ستخاطر بتأجيج المشاعر المضادة نفسها التي حفزها اضطهاد نظام مودي للمسلمين في الهند.

سيكون ملف المياه أيضًا واحدًا من القضايا الرئيسية في تشكيل مستقبل العلاقات بين الصين والهند وبنغلاديش جميعًا، حيث أصبح نهر براهمابوترا ساحة صراع عنيفة للتوترات بين الصين والهند وبنغلاديش. وتعتبر مشاريع البنية التحتية في الصين، بما في ذلك بناء السدود، محاولات لتعزيز الهيمنة على موارد المياه، بينما يُلام الهند أيضًا على تقاعسها في توقيع اتفاقيات المياه مع بنغلاديش وعدم ثبات خططها لتغيير مسار النهر.

نهر براهمابوترا يعتبر مسألة حيوية لكل من الهند وبنغلاديش، حيث يوفر نحو 30% من موارد المياه العذبة في الهند ونحو 70% في بنغلاديش، وأي تغيير في مسار النهر قد يؤثر بشدة على إمدادات المياه للاستخدام الزراعي والمنازلي، مما يجعل قضية النهر وتدفقات المياه مسألة حاسمة لدكا سواء في علاقتها مع الصين أو الهند.

وبعيدًا عن بكين ونيودلهي، تراقب باكستان المضطربة سياسيًا واقتصاديًا الانتفاضة البنغالية وتداعياتها بشغف تاريخي، آملة في استعادة جزء من نفوذها السابق بعد خمسين عامًا من الخسارة المهينة، لكنها قلقة أيضًا من تأجيج مشاعر الباكستانيين ضد الجيش الذي يسيطر على المشهد السياسي. من المؤكد أن باكستان ترغب في استغلال تغيير النظام في بنغلاديش لإحياء علاقاتهما الثنائية وربما إعادة ترتيب موقعها في الإقليم للرد على نفوذ الهند.

مع ذلك، من المرجح أن تكون الأحزاب الوافدة إلى سلطة في بنغلاديش ترغب في تجنب إعطاء انطباع بأنها مدعومة من قبل باكستان، خاصة مع تكثيف الدعاية الهندية حول دور جهاز المخابرات الباكستاني في الانتفاضة، مما يعني أن إسلام آباد سيكون عليها الانتظار لمعرفة نتائج التحولات السياسية الجديدة في بنغلاديش من دون الانخراط في مغامرة سياسية قد تكون لها عواقب عكسية.

على نطاق أوسع، ومع تهدئة الأوضاع في بنغلاديش، سيراقب المجتمع الدولي عن كثب لمعرفة التوجه المستقبلي الذي ستتبناه البلاد وعملية إعادة تنظيم محتملة للتحالفات الإقليمية، ونوعية الفرص والتهديدات التي قد تنشأ عن النظام الجديد والمشهد السياسي في البلاد. وتبقى الحقيقة المؤكدة أن تداعيات سقوط نظام حسينة أجد لن تنتهي عند حدود بنغلاديش، بل ستلامس آثارها الإقليمية الواسعة في القريب العاجل.

المصدر : الجزيرة



أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Exit mobile version