الرجوع لأطوار الياباني كوبي أبي بصدور ترجمة روايته “العبوة” | ثقافة

By العربية الآن

يُعتبر الكاتب الياباني كوبو أبي (1924-1993) من الأدباء المشهورين لدى القارئ العربي، إذ تم ترجمة عدة من إبداعاته منذ فترة الثمانينات، وقد مُنحت ترجمة بعضها على يد المترجم المصري المشهور كامل يوسف حسين، الذي قدم ترجمة لروايته البارزة “فتاة في الرمال” في عام 1988، كما قام بترجمة روايته “لقاء سري” بالإضافة إلى ترجمته لثلاث مسرحيات أخرى تم ضمها في كتاب بعنوان “الرجل الذي تحول إلى عصا”.

على الرغم من ذلك، توقفت عمليات ترجمة أعمال “كافكا اليابان” منذ أكثر من عشرين عامًا، حيث ما زالت عدة أعمال لكوبو أبي لم تُترجم بعد إلى اللغة العربية، ولذلك فإن عندما قام المترجم المصري مجدي عبد المجيد خاطر بترجمة روايته “العبوة”، عادت ذكريات قراءة عوالم كوبو أبي إلى الواجهة مرة أخرى.

وعادت هذه العمليات أيضًا إلى ذاكرة القارئ، حيث كانت تُصدر وزارة الثقافة السورية ترجمات مهمة للكتب باللغة العربية، وعلى وجه الخصوص عادت سلسلة “ذاكرة الشعوب” التي كانت تُصدرها مؤسسة الأبحاث العربية، حيث تم نشر 32 رواية تم ترجمتها من قبل كتاب مختلفين مثل الشاعر وديع سعادة، والشاعر سعدي يوسف، والناقد صبحي حديدي، والكاتب عيسى مخلوف، والروائي إبراهيم عبد المجيد، والكاتب كمال يوسف حسين، والمترجم الراحل صالح علماني، وغيرهم.

الأديب الياباني كوبو أبي (1924-1993) تم ترجمة عدة من أعماله للعربية منذ بداية الثمانينات (مواقع التواصل)

عوالم غامضة

مع صدور ترجمة رواية “العبوة” عن دار العين المصرية، تعود في الذاكرة أعمال وعوالم كوبو أبي، ويتعرف القارئ الجديد، الذي لم يقرأ من قبل أعمال كوبو أبي المترجمة إلى العربية، على عوالم غامضة وكابوسية وتحليلية مميزة. ولكن هل يمكن للقارئ الجديد، في زمن السرعة وتداول الكتب القليلة، أن يجد متعة في قراءة أعمال كوبو أبي؟

هذا سؤال يجب طرحه، لأن لدى كوبو أبي ميزات فريدة في الكتابة، وخصائص تميزت بكتابته، ربما دون إرادته. وهذه الأسلوب الغامض في الكتابة والسرد، جعل النقاد يطلقون على كوبو أبي لقب “كافكا اليابان”، وعلى الرغم من أن طابع الكوابيس عند كافكا يختلف عن تلك التي قدمها كوبو أبي، فإن العديد من النقاد وضعوا له هذا اللقب واكتفوا به، دون التعمق في المقارنة بين أسلوب الكتابين.

تُعد رواية “العبوة”، التي صدرت في اليابان عام 1973 وترجمت إلى عدة لغات عالمية بمجرد صدورها، ما زالت تستحق القراءة، وتعد واحدة من الأعمال التي أبرزت أكثر طرق كتابات كوبو أبي. وتكمن صعوبة هذه الرواية -حيث تُعد أصعب من ناحية التقنية من روايته الشهيرة “فتاة في الرمال”- في أنها تبدو وكأنها كُتبت، من حيث بناء الرواية، بأسلوب غامض مبتكر.

إبداع الفكرة

تظهر هذه الرواية بشكل مختلف، مترابطة ابتكارها بكوبو أبي، إذ تعتبر رواية لها موضوع فريد لا يمكن تكراره دون الإشارة إلى كوبو أبي، كما هو الحال مع رواية “العمى” لجوزيه ساراماغو مثلًا. فعندما يُنشر كتاب يتحدث عن سكان مدينة أصيبوا بالعمى، فإننا نفكر على الفور في جوزيه ساراماغو (1922-2010)، حيث أصبح هذا الموضوع “مثل علامة تجارية” مرتبطة بجوزيه ساراماغو.

جوزيه ساراماغو (1922-2010) أديب نوبل البرتغالي (غيتي)

وفي رواية “العبوة”، يتخذ الشخصية الرئيسية من علبة كرتون مسكنها ووسيلة تنقلها. وتم تصميم هذه العلبة بحيث يمكن للشخصية رؤية الآخرين من داخلها دون أن يلاحظوها.يظهر شخصيته، متنكراً حتى أسفله.
الصندوق، الذي يُقدم الراوي طريقة وأدوات ونصائح صناعتها، هو مكان إقامة المعلب، إذ يحمل فيها أدوات تُفيده في العيش بداخلها دائمًا، كالأوراق للكتابة وكاميرا وسكين وشاحن ضوئي وأقلام وسكين وأيضًا مرايا عاكسة شبيهة بمرايا السيارات…. ولكن هل يشبه المعلب متسولًا؟ يُجيب أبي على هذا السؤال خلال القصة، بقوله “يبدو أن المجتمع لا يدرك بوضوح الفرق بين الإثنين، بمثل معلبيهم أنفسهم. حيث يجتمعهم في الواقع عناصر مشتركة كثيرة. فكلاهما لا يملك بطاقة هوية ولا مهنة ولا مأوى ثابت ولا إشارات تحمل اسمهم أو عمرهم أو مكانهم أو وقت محدد للأكل والنوم. وبالتالي لا يأبون قصّ شعرهم أو غسل أسنانهم، وهم نادرًا ما يغتسلون، كما أنهم لا يحتاجون للنقود إلا بالندر القليل من أجل العيش اليومي”. وربما الفارق المهم بينهما هو أنه “عندما يخترق الرجل هذا الصندوق الورقي المتواضع المهجور ويخرج منه إلى الشوارع، يتحول إلى ظاهر ليس رجلا ولا صندوق، فهو يحتل المعلب سمًا كريهًا يتعلق بحياته”.

تحولات وجوانب مثيرة

يبدو الوصف السابق كأنه مأخوذ من حكاية بسيطة، ولكن الحقيقة تختلف، إذ إن كوبو أبي لا يُحكي قصة، بقدر ما يريد التأكيد على أننا جميعًا مُحبوسون، حتى وإن لم نكن نرتدي صناديق.

في بداية الرواية، يكتب المعلب هذه الرواية على دفاتر داخل صندوقه. ثم يلتقي بمعلب آخر، يُعرف بالمعلب الزائف، وفي النهاية يكتشف القارئ أن المعلب الزائف يشارك في كتابة تلك الدفاتر، وأخيرًا يتبين أن شابًا آخر، الابن الشرعي للمعلب الأصلي، هو من يكتب الدفاتر! وهكذا تتوالى الأحداث حتى يصبح القارئ في دوامة التساؤل حول تحديد هوية الراوي وفهم حقيقته وتصديقه أيضًا. وتحول السرد من شخصية إلى أخرى، يُعيد للذاكرة جانبين رئيسيين في كتابات كوبو أبي: الأول هو تشظي هويات الشخصيات وتبديلها من شخصية واحدة إلى أخرى، أما الثاني، الذي اعتمد عليه أبي في العديد من أعماله، فهو تبادل الأدوار، كما حدث في روايته “امرأة في الرمال”؛ حيث كان البطل يُطارد الحشرات، ليصبح بعد ذلك طريد داخل حفرة من الرمال. وكذلك في عمله “الخارطة المهشمة” عندما ينطلق التحري للبحث عن رجل مفقود، فتنتهي القصة بفقدان التحري، هو نفسه، هويته تمامًا. وفي هذه الرواية يتبدل دور البطل من مطارد إلى طريد، ومن ضحية إلى معتد.

هذه العجائب، وتبادل الأدوار وتحول السرد ومصير التبادل، وابتكار تفاصيل يبدون غير مهمة على الساعة الأولى، تجعل هذه الرواية تعقيدًا على القارئ العادي، بدرجة يُمكن أن يشعر أنها “رواية نخبوية” كتبها أبي لقراء ليسوا شائعين، ولكن من يلقون نظرة على أفكار أبي المترجمة إلى أكثر من 40 لغة عالمية، وتم عرض مسرحياته في كل القارات، وقد حاز على أهم الجوائز الأدبية في اليابان، بلا حصوله على جائزة نوبل للأدب، هؤلاء يعرفون أن هذه هي عوالم الكاتب الرائد الذي عبّر دائمًا عن تلاطم الهوية الفردية في ظل الاستغلال الاقتصادي العالمي. وأنه كاتب تجريبي تتنوع رواياته بينها، ولكن تجمعها مواضيع صمّ آبي على التعبير عنها في كل أعماله، إن لم نقل في جميعها.

على الرغم من هذا التعقيد، والتسامح مع اللغة الشعبية المصرية المضافة من قبل المترجم هنا وهناك، تبقى كتابات أبي ساحرة وفاتنة، برغم مرور عقود على شمولها. رواية ممتعة يُمكن القول، وتفتن القارئ المهتم بالكتابة والرواية والمواضيع الغريبة والمميزة، وليس بالضرورة بالتسلية والحكايات الخفيفة التي لا تبقى في الذاكرة.

أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Exit mobile version