العلماء العباد.. يدرسون لهم الذهب وابن حجر ونجحوا في الحديث والفقه والموسيقى وقدموا أرقى الموسوعات التاريخية

By العربية الآن



العلماء العباد.. يدرسون لهم الذهب وابن حجر ونجحوا في الحديث والفقه والموسيقى وقدموا أرقى الموسوعات التاريخية

التاريخ الإسلامي - إصلاح دولة المماليك

<

div class=”wysiwyg wysiwyg–all-content css-1vkfgk0″ aria-live=”polite” aria-atomic=”true”>”العالم الحنفي الحافظ الأمير سيف الدين أبو محمد «نائب القلعة» بالأراضي المصرية”؛ هكذا يُصوّر الأمير تَغْري بَرْمِشْ المؤيَّدي (ت 852هـ/1448م) “نائب القلعة” بالقاهرة أو مدير أمن العاصمة المملوكية والمسؤول العسكري الأول عنها؛ بحسبما ترجم له -في كتابه ‘المنهل الصافي‘- المؤرخُ المملوكي ابن تَغْري بَرْدي (ت 874هـ/1469م)، مُقدِّمًا نموذجا فريدًا لظاهرة “الحاكم العالم” أو “القائد الفيلسوف”.

ولا شك أن “ظاهرة العباد” نفسها في التاريخ الإسلامي آن لها أن تُحرَّر من الصورة النمطية المعروفة اليوم عن جميع العباد باعتبارهم كانوا فقط منافسين ومراوح للسلطة، أو حكام دول يتصارعون -بدون رأفة- على كرسي الحكم؛ بالإضافة إلى أن الصورة المُقابلة -التي نُقدّم هنا بعض جوانبها- قادرة على تبديد صحة الفكرة المنتشرة حاليًا عن حقبة العباد باعتبارها أصعب العصور علميًا وفلسفيًا وأدبيًا.

فعلى عكس الاعتقاد السائد عنهم من كل ذلك؛يمكننا ملاحظة أن العديد منهم استطاعوا بمهارة جمع القلم والسيف، وتحقيق التوازن بين الكِتاب والرِّكاب بنجاح! الحقيقة أنه لا يمكن لأي نظام حكم أن ينجح ويزدهر بكل تلك الثقافة والمعارف والحروب والتوسعات، إذا كان قادته معظمهم جهلة، يفتقرون إلى التعليم والوعي والرؤية الشاملة للمصدر العظيم الذي يقود جبهتي السياسة والعسكرية، ونحن نقصد “حضارة الإسلام”.

وبالإضافة إلى ذلك، من الظلم الفاحش التصور أن طبقات وأجيالاً من المماليك قضوا قرونًا طويلة يعيشون فيها دون تقدير للثقافة والمعرفة.

يجب الاعتراف بأن الروح العسكرية الصارمة كانت مفتاح “عالم المماليك”. ورغم أن عالم العسكرية في تلك الحقب لم يكن يفتقر إلى العناصر التي يتوقعها البعض، فإن نظام التعليم العسكري في جانبه القاسي كان يتضمن مكونًا مهمًا من المعارف الدينية.

ومن المدهش في ظاهرة “المماليك العلماء” هو أن بعضهم كانوا يتمتعون بحس شعوري رفيع وذوق أدبي، وقدرة موسيقية، وهذا ما قد يثير الدهشة حتى وقتنا الحالي: عسكري يكون شاعراً وموسيقياً!!

على الرغم من الاهتمام الكبير الذي أبدته المماليك تجاه الحياة العلمية والدينية في دولتهم، إلا أن اللافت هو أن هذا الاهتمام كان يشمل ليس فقط السلاطين بل أيضاً فئة واسعة من أمراء المماليك وأبنائهم. ويشير هذا إلى أن الوعي بأهمية العلم كان منتشرًا بين أوساط المماليك بصورة عامة، وليس فقط بين الحكام. وقد دخلت هذه الفئة التاريخ من خلال اكتسابها للعلم ونشره، بدلاً من المشاركة في السياسة والحروب، ويمكن اعتبار ظاهرة “المماليك العلماء” كموازاة لظاهرة “الجواري المثقفات”.

لافت للنظر أن المؤرخ تقي الدين المقريزي لاحظ كيف أن التربية النظامية الشاملة في العلوم والعسكرية ساهمت في صقل حكام المماليك وبناء قدراتهم العقلية والبدنية، مما أدى إلى توسع دولتهم وتمكنهم من تحقيق سلطانهم. وقد سجل ذلك في كتابه ‘المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار‘.

وكانت المماليك لا يمثلون فقط الطبقة الحاكمة والنهضة العلمية على مستوى القيادة والمعرفة، بل كانوا أيضًا يولون اهتمامًا كبيرًا لتطوير العاصمة القاهرة بالعديد من المدارس والأكاديميات الرصينة. وتم تخصيص موارد كبيرة لدعمها وتوفير كل سبل الراحة التي تعزز التعليم وتشجع الطلاب وتجذب العلماء من جميع أنحاء الأمة الإسلامية.

جاء ذلك في صالح خدمة الإسلام من خلال نشر علومه ودعم طلابه وعلمائه. وقد تنوعت دوافعهم بين البحث عن الأجر الآخروي وكسب محبة الناس، ولكن في كلا الحالتين، كانت الحياة العلمية هي الفائزة والمستفيدة.

وبكل ما تم ذكره، يبقى توثيق علاقة المماليك بعلم التاريخ قصة أخرى تحتاج إلى التأمل والتقدير، إذ قدمت المماليك جيلًا من المؤرخين ذوي المستوى العالي في الكتابة التاريخية، ووقّعوا على تاريخهم بكل فخر.

في النهاية، يتبقى استكشاف ظاهرة “المماليك العلماء” التي تعتبر مثيرة للاهتمام، وتقديم البراهين التي تثبت أن المماليك لم يكونوا فقط حُكامًا صُناعًا للعلم والمعرفة كما جاء في الدراسات، بل كانوا أيضا منتجين لطبقة واسعة من “المماليك العلماء” في مختلف المجالات العلمية والأدبية.نجام الدين أيوب (ت 647هـ/1249م) قد نال شهرة واسعة في ساحة التاريخ الإسلامي نظراً لكونهم من أبرز الشخصيات المؤثرة عبر عدة قرون.

وفي كتاب “مفرج الكروب في أخبار بني أيوب” للمؤرخ ابن واصل الحَمَوي (ت 697هـ/1298م)، وردت تفاصيل حول استحواذ سلطان نجم الدين أيوب على المماليك، حيث اشترى منهم المماليك الترك وكرَّس سلطتهم وأمرهم بالعديد من المهام، وأطلق عليهم لقب “البحرية”.

وبعد وفاة السلطان أيوب وابنه الوحيد تُورانْشاه (ت 648هـ/1250م) على يد المماليك، اتفق الحكام على إنشاء شجرة الدر (زوجة سلطان أيوب المتوفى 655هـ/1257م) في مصر، حسبما سجله تقي الدين المقريزي (ت 845هـ/1441م) في كتابه “المواعظ والاعتبار”.

ومع صعود “عصمة الدين شجرة الدر” إلى العرش، بدأت دولة المماليك السلاطين (648-923هـ/1250-1519م) في الظهور، وفقاً لرأي المقريزي الذي أشار في كتابه “السلوك” إلى أن “شجرة الدر” كانت أول امرأة تحكم مصر من بين سلاطين المملكة التركية.

وبداية حقبة جديدة، حيث تولت شجرة الدر الحكم بشكل منفرد في إحدى الدول الإسلامية، مثل سابقتها الملكة اليمنية أرْوَى بنت أحمد الصُّلَيْحِ التي حَكَمت اليمن لخمسين عاماً، تتبع للدولة الشيعية الفاطمية بمصر.

وعلى الرغم من إشادة بعض الخطباء بشجرة الدر باسم “ملكة المسلمين”، فإن الرأي العام كان متشككاً في توليها الحكم، مما دفعها للتنازل لزوجها الجديد عز الدين أيْبَكْ التركماني، الذي أصبح أول سلطان مملوكي في الدولة الناشئة.

ومنذ ذلك الوقت، واجهت المماليك مسؤولية قيادة العالم الإسلامي في قلبه المركزي (الحجاز ومصر والشام) وحماية الأماكن المقدسة والمساجد؛ وذلك بناءً على سيادة مؤسساتهم البحرية الإسلامية على المسارات البحرية.

واعتمدت إنجازاتهم التاريخية على تعاقب سلاطين (49 سلطاناً) وأمراء، الذين خضعوا لنظام تربوي عسكري صارم، ما جعلهم يتمتعون بمكانة كبيرة على مدى ثلاثة قرون متتالية (648-923هـ/1250-1517م).

ويفصلنا المقريزي في كتابه “المواعظ والاعتبار” عن هذا النظام التربوي والعسكري الصارم الذي اتبعته المماليك، حيث كانت لهم طبقات خاصة تُعرف باسم “الثكنات”، وكان العلماء يقومون بتعليمهم القرآن الكريم والعادات والسلوكيات الصالحة.في أسلوب تدريس النصوص القرآنية والتدريب على الخط العربي والالتزام بأخلاقيات الشريعة، بالإضافة إلى أداء الصلوات والأذكار بانتظام.

ويُضيف المؤرخ المقريزي: “في ذلك الزمان، كانت العادة أن يُجلب التجار فقط الصبية الصغار، وعندما ينضج أحد المماليك، يقوم الفقيه بتعليمه بعض جوانب الفقه، كما يُقرأ له مقدمة في المادة، وعندما يصل إلى سن البلوغ، يبدأ في تعلم أساليب الحرب مثل رمي السهام وممارسة التمرينات بالرمح وما شابه ذلك، حتى يتولى كل فئة معلمًا حتى يصل الفتى المملوك إلى مستوى معين من المعرفة”.

ويُثني المقريزي على هذا النهج الذي تم اتباعه بصرامة خلال العصر المملوكي الأول في دولة المماليك البحرية، حيث تم توفير توازن مثالي بين الآداب الشرعية، الأدب والعلوم العسكرية والتنمية الأخلاقية؛ ويعلق قائلاً: “لا يصل الفتى المملوك إلى هذا المستوى إلا بعد أن تنمو أخلاقه وتزيد آدابه، ويجتمع احترام الإسلام وأهله في قلبه، مما يجعله ماهرًا في رمي السهام، وماهرًا في التعامل مع الرمح، وماهرًا في فن ركوب الخيل. ومن بينهم من يصبح فقيهًا متمكنا، أو أديبًا شاعرًا، أو خبيرًا في الحساب”!!

ثم يتحدث المقريزي عن الرقابة الدقيقة على حياة هؤلاء الفتيان المماليك، والتي كانت مسؤولية ثلاثة أشخاص عن كل واحد؛ حيث يقول: “لهم إدارات من الخدم والكبار لتفقد وضع كل فرد بدقة، وفي حال وجود أي تجاوز أو خطأ من أساتذته -سواء كان معلم للقرآن أو للمهارات اليدوية أو قائد المماليك- سيتم إعاقته بعقوبة قاسية تتناسب مع جريمته”!

وقد لاحظ المقريزي بحس تاريخي تأثير هذه الروح التعليمية الشاملة والصارمة على تشكيل حكام المماليك وتعزيز قوتهم السياسية والعسكرية؛ فقد سجل هذا في «المواعظ والاعتبار» قائلاً: “وكانوا سادة يديرون الممالك، وقادة يناضلون في سبيل الله، وخبراء في التعامل مع الآخرين، ويحترمون الحقوق ويكافحون الظلم”!

وعندما يُناقش المقريزي الدور الرئيسي للمماليك في صد التهديدات الخارجية يقول: “إنهم كادوا يكونون مُهزمين، حيث وصل ملك فرنسا نفسه إلى قصر السلطان الصالح في المنصورة، ولكن بفضل الله وبتوفيقه تم إرسال جيش تركي معروف بميامينية وجمادارية لصد الصليبيين، وكان ذلك بفضل ركن الدين بيبرس البندقداري الذي تولى المسؤولية بعد ذلك”.

إرث عظيم
وتجلت نتائج هذه التنشئة الصارمة على المماليك -وبشكل خاص خلال فترة حكم “المماليك البحرية”- في المعارك العسكرية المتوالية، بما في ذلك معركة غزة عام 642هـ/1244م حيث نجح السلطان الصالح أيوب في طرد الصليبيين وأتباعه من أمراء سوريا الصغرى، واستعادة القدس مرة أخرى بعد جده صلاح الدين (ت 589هـ/1193م)، ومواجهة بنجاح الحملة الصليبية السابعة (647-648هـ/1249-1250م) ضد دمياط والمنصورة في مصر.

ومن المعروف أن المماليك كانوا العنصر الحاسم في تحقيق انتصاراتهم ضد الصليبيين، بما في ذلك هزيمة حملة الملك فرنسا لويس التاسع (669هـ/1270م) وقواته، واستعادة آخر معاقلهم في عكا بفضل الأشرف خليل بن قلاوون (693هـ/1292م) عام 690هـ/1291م. كما سادوا -قبل وبعد ذلك- على المغول في سلسلة من المعارك بدأت بمعركة عين جالوت بفلسطين عام 658هـ/1260م وانتهت بمعركة شقحب جنوب دمشق عام 702هـ/1302م.

ويدرك المؤرخون في العصر المملوكي هذه الواقعة التي أظهروها بشكل واضح في أعمالهم، حيث ربطوا بين شرعية حكم المماليك وانتصاراتهم ضد الصليبيين؛ لذا يقول المقريزي في كتابه “السلوك” بشأن دورهم في معركة المنصورة ونتائجها السياسية الهامة للشرعية السلطانية.

المقريزي يُعلن: “كانت الكسرة على وشك الحدوث [للمسلمين]، حيث وصل ملك فرنسا بنفسه إلى أبواب قصر السلطان الصالح في المنصورة، لكن بفضل الله تم تدبير الأمور بشكل جيد، وتم إخراج فصيل تركي يُعرف بصلابته في البحر والجمادارية لمواجهة الصليبيين، وكان من بينهم ركن الدين بيبرس البندقداري (676هـ/1277م) الذي تسلطن بقوة بعد ذلك”.

وبالنظر إلى إسهامهم الضخم والفريد في صد هجمات التتار، يقول الإمام والمؤرخ بدر الدين العيني في كتابه “عقد الجمان”: “عندما احتل التتار الأراضي الشامية وضاقوا الخناق على الدول الإسلامية، وبقي الدفاع عن الأراضي والناس بيد عسكر المنازل المصرية، اتفق السلطان الملك المظفر قطز (658هـ/1260م) مع الأمراء والجنود لتجهيز القوات وشاركوا في مواجهة العدو، وخرجوا من القاهرة بكل أبهى”، فنجحوا بالفعل بحلفائهم في تحقيق الانتصار الكبير.

لتقدير إنجازاتهم التاريخية، يجب أن يُشدديتعين علينا أن نستحضر المواد القيمة التي وصل إليها المؤرخ الأميركي ويل ديورانت (ت 1402هـ/1981م) في كتابه “تاريخ الحضارة” بقوله: “ولا نملك معرفة أن أي حضارة في تاريخ البشرية قد مرت بالدمار الفجائي مثلما عانته الحضارة الإسلامية على يد المغول”!!

غنى وفرافة
نظرا للتربية الدينية الصارمة التي حصل عليها المماليك وهم في سن الشباب، قرروا سنة 659هـ/1261م تعزيزها سياسيًا من خلال إحياء الخلافة العباسية -حتى ولو بشكل رمزي- وجعلوا القاهرة عاصمتهم بعد سقوط بغداد في عام 656هـ/1258م. ولترسيخ البعد الديني لنظام حكمهم أمام الناس، حرصت المماليك على تقريب العلماء والزاهدين والقضاة والتشاور معهم وتقديرهم، احتراما لمكانتهم أو تقديرًا لتأثيرهم الشعبي.

في كتابه “حسن المحاضرة”، ذكر السيوطي (ت 911هـ/1505م) قصة انغماس السلطان الظاهر بيبرس (ت 676هـ/1277م) تحت كلمة الإمام عز الدين بن عبد السلام (ت 661هـ/1259م) إلى درجة قال فيها عند وفاة الشيخ: “لم يتمثل مُلكي إلى الآن”!!

وفي كتابه “إنباء الغمر بأبناء العمر”، ذكر الإمام ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) قصة افتتاح السلطان الظاهر برقوق (ت 801هـ/1398م) لجامعه وتعيينه شيوخا للتدريس “استقر [الشيخ] علاء الدين السيرامي (الحنفي ت 790هـ/1388م) مدرسًا للحنفية وشيخًا للصوفية، وأكرم السلطان تعظيمًا حتى فرش سجّادات الأرض بيده”!

بناءً على المكانة العظيمة للعلماء والمسؤوليات الدينية التي شغلوها -في عهد المماليك- كالقضاء والتدريس والإمامة والخطابة والوعظ، والمسؤوليات الإدارية كالإشراف على الأوقاف والقضاء العسكري والمالية والوزارة والجهاز الإحصائي؛ شارك علماء الشريعة من الفقهاء والصوفية في الحملات العسكرية للمماليك.

كانت المشاركات التي تشير إلى ذلك كثيرة؛ فمثلا شاركوا في معارك ضد التتار وطرد الصليبيين من مدن الشام. وفي رجب من عام 666هـ/1267م “حضّر السلطان [الظاهر بيبرس] جيشًا للمشاركة في الحرب في الشقيف (تقع في جنوب لبنان اليوم وكانت تحت السيطرة الصليبية)، وتوجّه شخصيًا.. وتقدم العلماء للجهاد“؛ وفقًا للمقريزي في تاريخه “السلوك”.
مؤسسات دينية
ورغم أن العلاقة بين السلطان والفقيه في حقبة المماليك كانت عادة تتمحور حول تكريم العلماء وتقدير مكانتهم، إلا أن ترسيخ هذه القاعدة وجدت تعزيزًا في الأحداث العملية المتصلة بمؤسسات الدولة والمجتمع، مما يؤكده ويضمن استقلالية العلماء في مهمتهم العلمية والاجتماعية.

لذلك سعت المماليك جاهدة لبناء منشآت دينية وتعليمية وتامين الأوقاف السخية، لتعزيز قوتها وتوطيد ما كان عليه الوضع في عهد الأيوبيين؛ وكانت دوافعهم وأهدافهم متنوعة بين الرغبة في خدمة الشريعة من خلال نشر علومها ومدرستها ورعاية طلبتها وعلمائها، وبحثًا عن الأجر الآخروي أو تحقيق الولاء من الرعية، وفي كلا الحالتين كان الفائز هو الحضارة العلمية.

ولذلك لم يكن من الغريب أن وصف القاضي المؤرخ ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) في تاريخه الأوقاف المملوكية في مصر بأنها “أوقاف تجاوزت حدود النهاية في هذه الأرض بفضل تنوعها”، وأنها بسبب كثرتها “أصبحت غامضة وغير معروفة”!!

وتنوعت المنشآت الوقفية بين المساجد والمدارس والمستشفيات والمكتبات والأسبلة والخانات والفنادق وغيرها، وغالبًا كانت المماليك هم الرائدين في إنشاء الأوقاف وافتتاح المساجد رغم معارضة بعض العلماء والقضاة، ومن ذلك قصة إعادة افتتاح الأزهر في عصر السلطان بيبرس سنة 665هـ/1267م، بعد مرور مئة عام على إغلاقه بأمر السلطان صلاح الدين الأيوبي.

وكانت هذه المؤسسات الوقفية -ضمنالأراضي الخصبة والغير ذلك- تجني ملايين الدنانير الذهبية بشكل سنوي، حيث تُخصص للصيانة والبناء ورواتب العلماء والطلاب والمحتاجين. وروى الإمام المقريزي -في كتابه ‘الخطط والآثار‘- أن بسبب تزايد هذه الأوقاف بات هناك ثلاث إدارات مستقلة تشرف عليها تديرها تحت إشراف القضاء، واحدة من تلك الإدارات كانت تُعرف باسم “ديوان الأحباس”.

أرباح فاخرة
وبفضل هذه المؤسسات الوقفية الغنية والموارد المالية الضخمة المخصصة لها، بالإضافة إلى ما يُخصص لها من جمعية بيت المال العام؛ ازدهرت سوق العلم والمعارف في عصر المماليك بعد أن “بنيت أكبراء الأمراء وغيرهم من المدارس التي ملأت الأحياء وزيَّنتها”؛ وفقًا لكلام القلقشندي (ت 821هـ/1418م) في كتاب ‘صبح الأعشى‘.

وتشير البيانات التاريخية المتاحة عن هذه المدارس إلى تنوعها العقائدي، وأن دعم المماليك المالي والتعليمي للمذاهب الفقهية لم يكن مرتبطًا بانتمائهم إلى مذهب محدد، حيث أسسوا مدارس لكل مذهب وخصصوا أوقافًا وأحيانًا كانت المدرسة مشتركة بين مذهبين أو أكثر، وبقيت العديد منها مخصصة للمذاهب الشافعية والحنفية نظرًا لأسباب خاصة لكلًا منهما.

ولذلك لم يكن من غريب أن نرى العديد من العلماء البارزين في نفس العصر وربما في نفس البلد الواقع ضمن الدولة المملوكية. وهكذا نجد في بلاد الشام علماء مثل: النووي (ت 676هـ/1277م) وقاضي القضاة ابن الزملكاني (ت 727هـ/1327م) وشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م)، وعلم الدين البرزالي (ت 739هـ/1338م) وجمال الدين المزي (ت 742هـ/1341م)، والذهبي (ت 748هـ/1347م) وابن القيم (ت 751هـ/1350م) وابن كثير (ت 774هـ/1372م)، والسبكي الأب (ت 754هـ/1353م) والسبكي الابن (ت 771هـ/1359م).

كما وجدنا نظراء لهم في مصر مثل العلماء: العز بن عبد السلام وتقي الدين بن دقيق العيد (ت 702هـ/1302م) وقاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة (ت 733هـ/1333م) وشيخ الإسلام سراج الدين البلقيني (ت 803هـ/1400م) والحافظ ابن حجر العسقلاني. وكانت هناك أمثالهم في مناطق الحجاز واليمن التي كانت تشملها الدولة المملوكية.

وبالرغم من اهتمام المماليك بالحياة العلمية والدينية في دولتهم (بتوفير علماء ومؤسسات تخدم كلا منهما) لا يمكن تجاهل حقيقة أن هذا الاهتمام ساهم في نشوء مجموعة واسعة من أمراء المماليك وأبنائهم، مما يشير إلى أن الوعي كان شائعًا بين فئات المماليك وليس مقصورًا فقط على السلاطين؛ حيث دخلت هذه الفئة التاريخ من خلال العلم والتعليم والتأليف وليس من خلال السياسة والعسكرية، وكانوا بمثابة النسخة الذكورية لـالجواري المثقفات والعالمات.

كتب وركاب
وبدون شك، تنفي هذه الفئة -التي قد يُطلق عليها “المماليك العلماء”- النمطية المُعممة الراهنة حول المماليك، التي تصفهم فقط بأنهم جند وحربة يتنقلون ويتنافسون بلا رحمة على الحكم؛ إذ كان أفراد منهم في فئة العلماء قد قدموا مساهمات كبيرة ومؤثرة في مجالات العلوم الشرعية والأدبية في التعليم والتأليف على الرغم من بقائهم في أزياء العسكر وتجهيزات القتال، كما تظهر أيضًا عدم صحة الفكرة المنتشرة حول عصر المماليك باعتباره عصرًا من التدهور العلمي والفكري والأدبي.

وبالنظر عن كثب في نشوء فئة الأمراء العلماء هؤلاء -في سياق العصر المملوكي- سوف نجد أن بداياتها تعود لفترة تأسيس الدولة المملوكية، وربما يمكن أن نرى أوائل نماذجهم في عصر الأيوبيين قبل أن تتأزر بشكل أكبر في عهد السلطان الصالح نجم الدين أيوب (ت 647هـ/1249م)، حيث ظهر واحد من أعظم المماليك وأبرز سلاطينهم وهو الظاهر بيبرس المعروف بـ”العالِم المجاهد”؛ فقد ذكر المؤرخ النويري (ت 733هـ/1333م) في كتاب ‘نهاية الأرب‘ نصًا يصف فيه سيادته “السلطان العظيم، العالِم المجاهد.. الناطق بالحق.. بيبرس”!!

ومن خلال التفاصيل التي ذكرناها سابقاً عن المقريزي فيما يتعلق بأساليب تربية المماليك -بدءًا من عملية اسْتِلال الشباب من مناطق مختلفة وتدريبهم في القلعات- ندرك أنهم خضعوا لعملية تعليمية مكثفة في مجال العلوم الشرعية والعسكريةفي الوقت نفسه، كان مستوى الخرّيجين المماليك مرتفعًا، بحيث يمكن “لبعضهم أن يتقدم في المراتب ليصبح فقيهًا مفهوماً، أو شاعرًا أديبًا، أو خبيرًا حاسبًا”؛ كما ورد.

كان لدينا أيضًا واحد من أبرز مماليك السلطان الناصر محمد بن قلاوون (ت 741هـ/1340م) وهو الأمير أرغون شاه الناصري (ت 750هـ/1349م)، الذي تقدم في المناصب العسكرية والسياسية ليصبح نائبًا لحلب ثم نائبًا لسلطان المماليك بأكملهم لمدة أحد عشر عامًا، بمعنى أنه كان الثاني في أعظم دول تلك الحقبة.

فقد ورد عن المؤرخ والأديب صلاح الدين الصَّفَدي (ت 764هـ/1363م) في ‘الوافي بالوفيات’: “كان تُركياً لبقًا.. أنبل [المماليك] الناصرية (= نسبة للناصر ابن قلاوون)، تفقّه على أبي حنيفة [حتى] حصلوا له على الإجازة..، واستمع [حديث] البخاري، ونقله بخطه في كتاب واحد في الليل بضوء الفانوس”.

صدارة فقهية
وفي إضافة إلى ذلك، كان الأمير أرغون شاه مولعًا بجمع الكتب وإنشاء المكتبات وقد تبرَّع بمبالغ ضخمة لهذه الغاية، حتى “امتلك العديد من الكتب وانجذب لها وحصل على الكثير منها بشكل كبير”؛ فقد حدث يومًا ما أن توفي أحد رجال المماليك المشهورين في القاهرة وكان لديه مكتبة فخمة قدمها ورثته للبيع، وكان أرغون شاه حينها نائبًا لأمير حلب فـ “أرسل إلى مصر بريدًا بمبلغ ألفي دينار (= اليوم 400 ألف دولار أميركي تقريبًا) لشراء كتب من ميراثه”؛ حسبما ذكر الصفدي.

وكان لأرغون شاه نظير في حب العلم؛ بدر الدين الحسن بن خاص بَكْ (ت 813هـ/1410م) الذي وصفه معظم مؤرخي الحقبة المملوكية بالإمام في الفقه والتدريس والإجازة، وكان في الوقت نفسه من قوات الحرس السلطاني الخاص المعروف بـ “المماليك السلطانية”، الذين كانوا أعلى وأرقى الفئات العسكرية في صفوف الجيش المملوكي.

وذكر المؤرخ ابن تَغْري بَرْدي (ت 874هـ/1469م) -في ‘المنهل الصافي’- أن ابن خاص بَك كان “أحد أعيان فقهاء السادة الحنفية، وأحد كبار المماليك السلطانية، كان جنديًا ماهرًا، عالمًا متقنًا في الفقه واللغة العربية والأصول، وكان له مشاركات في عدة مجالات، وتصدر في الإجازة والتدريس لسنوات عدة، واستفاد منه الطلاب”!

لم يكن من غريب بالتالي أن تجد أميرًا مملوكيًا يجمع بين الوظيفة العسكرية والسعي نحو العلوم الشرعية في تلك الحقبة؛ حيث كان الأمير تَغْري بَرْمِش المؤيَّدي (ت 852هـ/1448م) “نائب القلعة” في القاهرة -أي الشخص الذي كان المسئول الأول عن أمن عاصمة المماليك وقلعتهم الصلبة- يُفتى بهذا الاسم بوصفه “الفقيه الحنفي المتجدد، الأمير سيف الدين أبو محمد، نائب القلعة في مصر”.

ويرفد ابن تَغْري بَرْدي بمزيد من التفاصيل عن الأمير تَغْري برمش ويذكر أن الأمير كان بارعًا في علم الحديث الذي تلقاه من كبار علماء عصره، بداية من الإمام ابن حجر العسقلاني؛ إذ يقول إنه “كان أفضل نفسه في علم الحديث، وكان فيه قمة اجتهاده، واستمع إلى الكثير. أخبروني أنه قد قرأ ‘صحيح البخاري’ لدى.. مُحمد أحمد بن نصر الله الحنبلي البغدادي (ت 844هـ/1440م) قاضي قضاة مصر..، وقرأ مع قاضي القضاة.. محمد بن علي بن حجر ‘السُّننَ’ لأبي داود السجستاني (ت 275هـ/888م)”.

وفيما يتعلق بالأمير العظيم علم الدين سَنْجَر التركي الصالحي (ت 699هـ/1300م)؛ وصفه الإمام الذهبي -في “تاريخ الإسلام”- بأنه “الأمير الكبير المتعلم المتجدد..، شغف بالحديث.. فاستمع الكثير وحصل على الأسس”. ويضيف الذهبي أن أعظم عالمي الحديث النبوي في بلاد الشام في ذلك الوقت -المِـزّي والبِرْزالي- كتبا عن الأمير العالم سنجر الصالحي أجزاء منفصلة في الحديث؛ فقال: “خرج له المِزّيُّ قسمين عظيمين، وخرج له البِرْزالي مٌعْجَمًا في أربعة عشر جزءً”!!
حصر مُتعذر
الحقيقة تتطلب الإشارة إلى العشرات ربما المئات من أمراء المماليك الذين كانوا ملتزمين بتعلم العلوم الشرعية بتخصص، حيث رأينا بعضهم يتقدمون في هذه الاختصاصات لدرجة أنهم أصبحوا إمامًا يطلبون عليه كبار علماء وحُفّاظ الحديث في عصرهم للاستماع إليه، وطلب الإجازة منه، بينما جمع الباقين بين العلوم الشرعيةالجانبان العسكري والديني مثل الأمير علم المذاهب ألْطقصبا التركي (ت 697هـ/1298م) الذي “كان من الأمراء القدماء في دمشق ونقل الحديث النبوي عن سبط السلفي (ت 651هـ/1253م)؛ حسب ابن تغري بردي.

أما الأمير الكبير سيف الدين تنكز بن عبد الله الحسامي (ت 741هـ/1340م) فكان نائباً لدمشق لعقود، والشخص الثاني في حكومة الناصر محمد بن قلاوون، ومن النادر أن يُطلق عليهم “ملوك الأمراء”. ومع ذلك، كان يشتاق للاستماع إلى الحديث النبوي حتى أصبح معلمًا فيه لبعض علمائه، وقد “سمع تصحيح البخاري أكثر من مرة من الإمام ابن الشِّحنة (ت 730هـ/1330م)، وسمع كتاب الآثار للطحاوي، وتعلم من علماء الحديث محيي الدين المقريزي (الحنبلي ت 733هـ/1333م) ‘ثلاثيات البخاري‘ في المدينة المنورة”.

ومن بين هؤلاء المماليك وأبنائهم كانت هناك أولئك الذين نجحوا في دمج العلوم الشرعية والعسكرية معًا، جمعوا بين التعليم والفروسية؛ مثل ناصر الدين محمد بن مهنا بن طرنطاي (ت 833هـ/1430م) الذي “درّس الفقه بشكل متعدد، واكتسب المعرفة العقلية من العز بن جماعة (ت 819هـ/1416م)، وكان معروفًا بفضله وأُقيمت دورات تعليمية في الأزهر وغيرها استفاد منها الطلاب المتميزون، وكل هذا بجانب براعته في رمي النُشاب والبنادق والرمح والدبابيس، وغيرها من مهارات الفروسية”؛ وفقا للسخاوي.

وما لفت النظر في السير الذاتية هو أن المماليك ليسوا مقتصرين على استيعاب العلماء الرجال فقط، بل كان هناك العديد منهم الذين تلقوا المعرفة من النساء المتعلمات في مجالات متنوعة؛ ومن هنا تعودنا على اسم خليل بن طرنطاي العادلي (ت بعد 770هـ/1368م) ورد ذكره في كتب محدثي المماليك في عصرهم، بعد أن استمد الحديث من كبار علماء عصره وأصبح أحد كبار رواة صحيح البخاري؛ وفقا لما ذكره ابن حجر في ‘الدرر الكامنة‘، حيث ذكر أنه “سمع صحيح البخاري من ابن الشِّحنة ومن ست الوزراء (وزيرة بنت عمر التنوخية ت 716هـ/1316م) ونقله في مصر ومرارًا”!!

وكان هذا المسؤول العسكري البارع الذي كان مسؤولًا عن أمان القاهرة الأمير تغري برمش المؤيد -الذي سبق ذكره- يدرس عن “الشيخة المعتمرة أم الفضل عائشة بنت القاضي علاء الدين علي الكناني العسقلاني (ت 840هـ/1436م) شرح الفوائد لأبي بكر الشافعي (البزاز ت 354هـ/965م) المشهور بـ‘الغَيْلانيات‘”؛ وفقا لابن تغري بردي في ‘المنهل الصافي‘.

ومن الملاحظ أن هناك بعض الشيخات اللواتي عُرفن بسماعهن للحديث النبوي في قصور السلاطين المماليك داخل “قلعة الجبل” بالقاهرة، كما “المُسنِدة المُعمّرة ست الوزراء أم محمد وزيرة بنت عمر التنوخية.. حدّثت بـ‘صحيح البخاري‘ في القاهرة ومصر وقلعة الجبل سنة خمس وسبعمئة (705هـ/1305م)”؛ وفقًا للمقريزي في ‘السلوك‘.

جنود وكتّاب
غالبًا ما نجد في كتب التاريخ والتراث المملوكي وصفًا لعالِم دين بأنه كان يكسو “زي الجنود”، حتى كان “الجندي العالم” مظهرًا بارزًا في ذلك الزمان الذي كان مليئًا بالموسوعات والعلوم والحروب ومظاهر القوة في العالم الإسلامي.

ومن بين هؤلاء العلماء كان الإمام المحدث الفقيه النحوي صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي الشافعي (ت 761هـ/1360م)، الذي وُصِف من قبل معاصره الصفدي -في ‘أعيان العصر‘- بأنه “الإمام العالم الفريد، الذي يجمع بين فضائل العلوم، والمفسر المحدّث الفقيه النحوي الأديب الإخباري..، كان معجزة في علومه الغنية..، كان يرتدي زي الجنود في البداية ثم تخلى عن ذلك”!! وقد سجل المؤرخون للحافظ العلائي أكثر من خمسين مصنفًا في مجالات الحديث والفقه والتفسير والنحو وغيرها، بعضها مجلدات.

وبخلاف الإمام العلائي الذي تخلى عن زي الجنود واتجه نحو التعليم والتأليف؛ وجدنا الأمير علاء الدين علي بن بلبان المصري (ت 739هـ/1338م) متمسكًا بالزي العسكري المملوكي، إلى جانب شغفه بالعلوم والمعارف، وتابعًا لكبار العلماء في الفلسفة وأصول النحو والحديث وغيرها، حتى أُطلق عليه لقب “الأمير المفتي المحدِّث” و”الجندي الحنفي”؛ وفقًا للصفدي.

وبعد أن بلغ ابن بلبان هذا المرتبة العلمية المرموقة، شهد له الصفدي بأنه “كان مناسبًا للقضاء بدقته وعلمه واستنتاجه”!! وهذامن بين أروع مظاهر الحضارة الإسلامية في فترة السلطنة المملوكية؛ حيث يظهر جندي غير متعلم سوى بالتركية أو التتارية ثم يتقدم إلى مرتبة عليا في مجال العلوم العسكرية والسياسية ويصبح إمامًا في العلوم الشرعية كذلك!!

قيادة للأعيان
وكما يلاحظ السخاوي (ت 902هـ/1507م) -في ‘الضوء اللامع لأهل القرن التاسع‘- أن الأمير أحمد بن كُنْدُغْدي التركي القاهري (ت 807هـ/1404م) “لقد كان عالمًا متقنًا في الدين يرتدي زي الجنود”، وقد جلبت له خبرته العلمية ومكانته السياسية الفرصة ليُرسَل كسفير إلى السلاطين الكبار، فقد “أُرسل كرسول إلى تمُرْلَنْكْ من قبل الناصر فرَج (بن برقوق ت 815هـ/1412م)، أي تيمورلنك الإمبراطور الأوزبكي (ت 807هـ/1404م)”.

ويقربنا ابنُ تَغْري بَرْدي -في ‘النجوم الزاهرة‘- قصة أحد المماليك الذي عاش في مكة المكرمة اسمه زين الدين عمر ابن الأمير سيف الدين قديد القَلْمَطاوى (ت 856هـ/1452م)؛ فكان “الإمام العلومي المبدع..، وكان رائد عصره في مجال النحو والعربية والتصريف، وأسهم بشكل كبير في مجالات عديدة، كما أنه كان يتزيّن بزي الجنود، وكان متواضعًا في أسلوبه ولم يتبجح بوضعه.. ورغم مهارته الإدارية، واستيقاظه الدائم للمعرفة، إلا أنه فارق الحياة دون ترك خلفه منافسته في مجال اللغة العربية والتصريف”!!

من بين هذه الفئة أيضًا الفقيه الجندي الملتزم بالمذهب الحنفي ثم الشافعي: يوسف بن شاهين بن قُطْلوبُغا القاهري (ت 899هـ/1495م)؛ حيث رُبِّيَ من قبل جده من جهة أمه، الإمام ابن حجر العسقلاني، على حب العلوم الدينية والشرعية، وعلى الرغم من تعلقه بالفنون العسكرية نظرًا لأجداده المماليك “وكان يؤنس زي الجنود، مُتأدبًا بأسلوب أبي حنيفة، وتعلّم فن رمي النشاب ببراعة.. لذا تقدم في مجاله بسرعة، وعندما طلب إذنًا من السلطان ليتزيّن بزي الفقهاء أذن له”؛ حسب السخاوي.

علي بن عمر بن سليمان الخُوارِزْمي (ت 806هـ/1403م) كان أحد أفراد العائلة المرموقة في الخدمة العسكرية المملوكية حيث “كان والده من الجنود”؛ وفقًا للسخاوي. كان لابنه علي هذا منصب في “ديوان الجيش” الذي لم يُخصص إلا للمماليك وأبنائهم كانوا يعيشون على هذا المنصب، ولذلك “نما على أكمل حال، واستمر في سعيه نحو المعرفة، وغوص في كتب ابن حزم (الظاهري الأندلسي ت 456هـ/1065م) حتى أعجب بكلامه، وطبعا بحب المعرفة والجد، وأظهر المذهب الظاهر (= المذهب الظاهري)”!!

وبسبب شغف هذا الفقيه الجندي بالمعرفة وحبه لها فقد “استقال من منصبه في الثمانينيات [القرن الثامن الهجري] وعاش في الشام لبعض الوقت”. في آخر أيامه كان يجمع بين الدراسة وتولي المسؤوليات الإدارية المملوكية، حيث “كان يدبر حسابات أمور الأمراء”.

أما أحمد الجزري الجندي المملوكي (ت 727هـ/1327م)، فكما ورد من الحجر -في “الدرر الكامنة‘- فإنه “كان مجهول الأبوين والنسب”، لكنه كان جزءًا من جنود الحلقة الذين يشكلون النخبة والأغلبية في الجيش المملوكي. على الرغم من ذلك كان شغوفًا بتعلم الحديث النبوي حتى “اكتسب المعرفة من كبار علماء عصره مثل الذهبي والبِرْزَالي وابن رافع (السَّلَامي ت 774هـ/1372م)”.

مصادر نادرة
والمؤرخ صلاح الدين الصفدي قد التقى بعدد كبير من المماليك العلماء، وقام بتسجيل سير بعضهم في موسوعتيه ‘أعيان العصر وأعوان النصر‘ و‘الوافي بالوفيات‘. يشمل ذلك شيخه الحافظ الجندي شهاب الدين أحمد بن عبد الله الحسامي (ت 749هـ/1348م)، الذي كان يخصص وقته في الخدمة العسكرية المملوكية وفي دراسة الحديث الشريف حيث “بدأ في حفظ ودراسة الحديث وهو شاب، وكتبه بخط يده، ودرسه بنفسه، واستوعب الأساسيات والتفاصيل، واستفاد من العلماء المعتبرين، وجمع مجاميع، وسجل الأحداث، وتفقه في الفقه، وحفظ ألفية ابن مالك”.

والصَّفَدي يذكر أيضًا تلمذته لهذا الحافظ الجندي؛ حيث يقول “جمع للقاضي ضياء الدين بن الخطيب (المحتسِب المحدّث ت 761هـ/1360م) أربعون حديثًا، وقام بشرح كل حديث وما يتعلق به، وقام بتلاوته، واستمعت إليه في سنة خمس وأربعين (745هـ/1344م)”؛ كما جاء في ‘أعيان العصر‘.

بالإضافة إلى ذلك، في هذه الفترة المملوكية “الشيخُ الـمُسنِدُ” علاء الدين علي بن إسحق (ت 731هـ/1331م)، حفيد سلطان الموصل بدر الدينالمؤلف المعروف (ت 657هـ/1259م)؛ فكان يعتبر جزءًا من نسل أمراء الموصل في الزمن الزنكي، حيث هاجر والده -على ما يظهر- مع عائلته بعد الهجوم المغولي على العراق واستقروا في مصر، وبات هذا العلاء الدين “من رواد الجيش في القاهرة”؛ وفقًا لصفدي الذي حصل على معلومات من كبار المحدثين في عصره وأصبح “الشيخ المسند” في عصره ومكانه.

وبعيدًا عن المنظر الفقهي؛ كانت الحركة الصوفية -التي نشأت في القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي مستندة إلى مبادئ التزهد والابتعاد عن تفاهات الدنيا- في ذروتها في عهد المماليك الذين كانوا يؤمنون كثيرًا بـ “كرامات الصوفية”، وكانوا يقتربون منهم ويعينون لهم مرشدين من بينهم.

وبسبب هذا السبب، انضم العديد من المماليك -بمناصبهم العسكرية والإدارية المختلفة- إلى تجمعات الصوفية وأضفوا على انتمائهم لهذا الاتجاه الفخر؛ على سبيل المثال، الأمير عز الدين طقطاي الدوادار (ت 760هـ/1359م)، أحد الشخصيات المشهورة في أمراء المماليك في بلاد الشام كان “ذو روح جميلة، عقل بطيء، قيادة سهلة، مؤمن بالتصوف، أخلاق حميدة”؛ وفقًا لصفدي في كتاب ‘أعيان العصر‘.

جلسات حديثيّة
كان من بين أهم اهتمامات سلاطين المماليك وأمرائهم نشر العلوم الشرعية -من ضمنها علوم القرآن والحديث والفقه والأصول- حيث كانوا يصدرون منشورات دورية لإعلام الناس بجلسات استماع الحديث النبوي في المدن والأماكن المختلفة طوال السنة، بدءًا من “قلعة الجبل” مقر السلطنة في القاهرة.

ومن ذلك، أصدر السلطان الأشرف شعبان بن حسن بن محمد بن قلاوون (ت 778هـ/1376م) قرارًا في أول رمضان من عام 774هـ/1372م “بجلسة قراءة كتاب ‘صحيح البخاري‘ يوميًا في شهر رمضان في قصر قلعة الجبل بحضور القضاة وكبار العلماء للبركة في القراءة”؛ وفقًا للمقريزي في كتاب ‘السلوك‘.

تستمر هذه العادة في الدولة المملوكية على مدى عدة عقود؛ ففي عهد السلطان المؤيد شيخ المحمودي (ت 824هـ/1421م)، وفي 25 رمضان عام 820هـ/1417م، “انتهت جلسة قراءة ‘صحيح البخاري‘ بقصر قلعة الجبل، وشارك السلطان في الاختتام كالمعتاد”.

وكان السلطان المؤيد أول من قرر استمرار جلسات استماع إلى كتب السنة النبوية -مثل ‘صحيح البخاري‘- في قصره بقلعة الجبل لمدة شهرين متتاليين، وكان ذلك في جلسة مليئة بحضور كبار العلماء والسياسيين. يقول ابن تغري بردي في كتاب ‘النجوم الزاهرة‘: “واستمر الأمر على هذا النحو (= قراءة البخاري في رمضان فقط) حتى تولّى السلطان المؤيد شيخ، الذي بدأ القراءة من أول شعبان وحتى 27 رمضان”.

تأليفات ونقاشات
ساهم المماليك -وأبناؤهم من الجيل الثاني والثالث المعروفون في تلك الفترة بـ “أولاد الناس”- في عملية التأليف في العلوم الشرعية.

على رأس هؤلاء الشخصيات، الإمام المحدث علاء الدين مغلطاي بن قليج البكجري (ت 762هـ/1361م)، الذي “كان يحفظ [كتاب] ‘الفصيح‘ للإمام تعلب (اللغوي الشهير ت 291هـ/904م)، وقد ألف “شرحاً لصحيح البخاري”.. و”الزهر الباسم في سيرة النبي”.. وعدد كبير آخر من التأليفات ربما تفوق المئة”؛ كما ذكر ابن حجر في كتاب ‘الدرر الكامنة‘، حيث لم يكن مغلطاي مؤلفًا فحسب، بل كان أيضًا عالمًا ناقدًا ينتقد المؤلفين والمحدثين “وكان له انتقادات لأهل اللغة وللعديد من المحدثين”!!

ومن بين هذه التصانيف، الإمام قاسم بن قطلوبغا السودوني (ت 879هـ/1474م)، وهو واحد من أبرز علماء المذهب الحنفي وكبار الحديث في عصره؛ حيث قام السخاوي بتصنيف مؤلفات عديدة منها “تاج التراجم في طبقات الحنفية” و”غريب القرآن”.

أما أحمد بن رجب بن طيبغا المجدي (ت 850هـ/1446م)، وكذلكجده الخليل بغا المجدي كان زعيمًا كبيرًا في الجيش المملوكي، وأصبح حفيده معتبرًا “رأسًا في أنواع الحساب والهندسة والهيئة (= علم الفلك) والفقه وحكمة الزمان بدون منافس، واشتهر بقراءة ‘الحاوي‘ [في فقه الشافعية]، وتم انتدابه للقراءة واستفاد منه الفضلاء وتلقى عنه الأعيان من كل مذهب مجموعة تلو الأخرى”؛ حسب ما ورد في كتاب السخاوي الذي سرد قائمة طويلة من كتب بن طيبغا في مجالات علمية متنوعة.

كانت مجالس سلاطين المماليك مكانًا لا يخلو من رجال العلم والفنون الذين زيَّنتهم ونقاشاتهم والمجالس العلمية والثقافية في عواصم المماليك في مصر والشام؛ حيث شهدنا مشاركة بارزة للعديد من السلاطين في تلك النقاشات والحوارات والمسائل الأدبية والعلمية، مثل السلطان حسام الدين لاجين (ت 698هـ/1299م) الذي “كان يستمتع بجلسات الفقهاء”؛ حسب ما ذكره المقريزي في ‘السلوك‘.

كذلك، كان السلطان المؤيد شيخ المحمودي -المذكور سابقًا- قد “عبر عن حبه للعلماء وتعامله معهم بلطف واحترام، وأشاد بالشريعة وحملها”، حسب ابن حجر في ‘المجْمع المؤسِّس‘. وذكر ابن تغري بردي -في ‘النجوم الزاهرة‘- أنه “شارك العلماء في بحوثهم واستسقى آرائهم وطرح عليهم القضايا المعقدة”؛ وتناول العديد من الأخبار حول مناظرات كثيرة دارت في مجلس هذا السلطان.

أعمال متنوعة
ومن بين تلك المناقشات السلطانية، كان هناك حوار بين قاضي قضاة الحنابلة في مصر علاء الدين بن مُغلي الحموي (ت 828هـ/1425م) والإمام نظام الدين السيرامي الحنفي، حيث ناقشا “بوجود السلطان الملك المؤيد [شيخ]، فقال القاضي علاء الدين: يا شيخ نظام الدين، اسمعْ دعوتك! وجمَّع المعلومات التي يحفطها!! وكانت هذه طريقته، فرد عليه الإمام نظام الدين في الموضوع واستمر في نقله من مفهوم إلى آخر حتى دخله إلى علم المنطق”!!

أما السلطان أبو سعيد جقمق (ت 857هـ/1453م)، فكما يقول عنه المؤرخ والأديب ابن عربشاه الحنفي (ت 854هـ/1450م) في ‘التأليف الطاهر في أخلاق السلطان الظاهر‘، قد “كان لديه اهتمام بالعلم، كان يقرأ الكثير من الكتب وكان له أذكار وأوراد جليلة [كتبها بنفسه]، ومنذ ذلك الحين تُقرأ في الجوامع”، وفقًا للمؤرخ ابن إياس الحنفي (ت 930هـ/1524م) في ‘بدائع الزهور‘.

ومن المعروف عن السلطان الأشرف قايتباي (ت 901هـ/1495م)، الذي حكم سلطنة المماليك لمدة تسعة وعشرين عامًا كاملة، “أنه كان يهتم بالعلم، كان يقرأ الكثير من الكتب، وكان لديه أذكار وأوراد جليلة [كتبها بنفسه]، وحتى اليوم يُتلَّى في الجوامع”، بحسب ما ذكره المؤرخ ابن إياس الدين الحنفي (ت 930هـ/1524م) في ‘بدائع الزهور‘.

ويُعتبر فن السيرة الذاتية واحدًا من أبرز مجالات المعرفة التي تفوق فيها المماليك وأبناؤهم في الدراسة والتأليف، حيث يمكن القول إنهم تفوقوا على الآخرين بشدة في تأليف سجلاتهم منذ بداية القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، وأصبحت لديهم بعض أفضل وأشمل المؤلفات من منتصف القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي.

ويعتبر الأمير بيبرس المنصوري الدوادار (ت 725هـ/1325م)، واحدًا من أهم شهود العيان في النصف الثاني من القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي والربع الأول من القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، وقد شغل الدوادار العديد من المناصب السياسية والعسكرية في عهود السلاطين بيبرس والمنصور قلاوون (ت 689هـ/1290م) والناصر محمد بن قلاوون، وقد ترك من تلك التواريخ كتابين: “زبدة الفكرة في تاريخ الهجرة”، و”كتاب التحفة الملوكية في الدولة التركية”؛ وهما من أهم النصوص التي كُتبت عن المماليك وتاريخهم وأحداثهم السياسية والعسكرية في تلك الفترة، وتميزت كتاباته بأنها من شهود العيان والمشاركين في الأحداث بمرتبة علمية وسياسية.

تحليلات مميزة
ويأتي بعده الأمير والمؤرخ أبو بكر بن عبد الله بن أَيْبَك الدَواداري (ت بعد سنة 736هـ/1335م) والذي كان أحد أبناء المماليك والأمراء منهم، حيث تولى إمارة صرخد في جنوب الشام، وقام بتأليف موسوعة “كنز الدُرَر وجامع الغُرَر” في تسعة مجلدات تشتمل على تاريخ الأحداث الرئيسية منذ خلق الكون وحتى عصره، وقد أكمل كتابته سنة 732هـ/1332م، وقدمه اهداءً إلى مساعده السلطانالمنصور محمد بن قلاوون.

ومثيله في مَحلّ عمله العبدية وتخصصه التعليمي المؤرخُ المختص والكاتِب صلاح الدين خليل بن أيْبَكْ الصَّفَدي؛ إذ كان والده الأمير َيْبَك بن عبد الله من رُؤَساء المماليك في مدينة صفد ثم دمشق، تربى ابنه على حب الدراسة وشغف بالأدب والتاريخ، وترك أكثر من خمسين كتابًا.

وفي مجال التاريخ والسير الذاتية بشكل خاص ترك لنا الصفدي أعمالا عظيمة نُشرت في عصرنا الحالي، ومن أبرزها “تاريخه الضخم الذي سمّاه ‘الكامل بالوفيات‘ في تقريبًا ثلاثين كتاباً [نظمه] حسب الحروف، وخص منه [سير] أهل عصره في كتاب سماه ‘أعوان النصر في أعيان العصر‘ في حوالي ستة كتب”؛ وفقا لكلام ابن حجر في ‘الدرر الكامنة‘.

وبالمثل كان المؤرخ إبراهيم بن أَيْدَمُر بن دُقْمَاق القاهري الذي وصفه السخاوي بأنه “مؤرخ الديار المصرية في زمانه.. وكان في آخر مرحلة [من حياته] حاكم دمياط”، حيث حصل على مُناصب سياسية وكتب تاريخية رصينة.

وقد ترك ابن دُقْمُاق العديد من الكتب التاريخية التي تتناول حوادث عصره بشكل متوازن، ومن أعظمها كتابه “نزهة الأنام في تاريخ الإسلام” و”الجوهر الثمين في سِير الخُلفاء والملوك والسلاطين”، بالإضافة إلى مؤلفه في “طبقات الحنفية”.

ويُعتبر الإمام المؤرخ أبو المحاسن جمال الدين يوسف بن تَغْرِي بَرْدِي الظاهري أشهرَ أبناء المماليك المُتَميزين في فنّ التاريخ بكامله؛ إذ كان والده الأمير سيف الدين تَغْري بَرْدي الظاهري قائد الجيش المملوكي في زمن السلطان المنتصر فرَج بن برقوق. وبناءً على ذلك، تفرد ابن تَغْري بَرْدي بالعديد من تفاصيل اتخاذ القرار في أروقة القصور المملوكية، حيث كان ينشط بانتظام مع السلاطين وزعماء الأمراء نظرًا لمكانته ومكانة والده في الحكم.

وقد ترك هذا المؤرخ الماهر أهم وأعظم الكتب التاريخية في تاريخ مصر في زمن المماليك، وقد استفاد منها كل المؤرخين الذين جاءوا بعده وبخاصة في العصر الحديث؛ ومن أهم تلك الكتب الرائعة النافعة: “النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة”، و”المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي”.

مواهب متنوعة
ومن أبرز أبناء المماليك وحكامهم ومن كبار المؤرخين في أواخر زمنهم: المؤرخُ غرْس الدين خليل بن شاهين الظاهري المَلَطي، حيث شغل العديدَ من المناصب المهمة مثل وزارة القاهرة و”أتابكية حلب” أي قيادة جيشها.

وبجانب مناصب ابن شاهين السياسية والعسكرية تلك؛ يقول السخاوي أن الحافظ ابن حجر “شهاده مؤهلاً للتدريس والفتوى -بعد أن تدرّب تدريبًا كاملًا- بالرواية والمعرفة”، كما قال إنه “كان مندمجًا بالأدب إلى جانب اشتغاله به، وكان ملمًا بالتاريخ والشعر وفهمه جيد، وقام بتحليل ‘البردة‘ للإمام البوصيري. وكان ابن شاهين أيضًا مؤلفًا مكثفًا، ومن أبرز كتبه: ‘زبدة كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك‘ و‘المواهب في اختلاف المذاهب‘ مصنفة حسب أبواب الفقه.

أما ابنه التجار والرحّالة والمستكشف الشاعر زين الدين عبد الباسط بن خليل فقد ترك أيضًا العديد من الكتب التاريخية التي توثّق التفاصيل الدقيقة لحياة عصره، خاصة أنه كان حينها يعيش تدهور دولة المماليك ممّا جعله يكشف عن أسباب هذا التدهور ونتائجه.

ومن بين تلك الكتب كتابه “نيل الأمل في ذيل الدول” الذي جعله استكمالًا ل‘تاريخ الإسلام‘ للإمام الذهبي؛ حيث سجّل الأحداث من عام 744هـ/1343م وحتى 896هـ/1491م، وله كتابه الكبير “الروض الباسم في حوادث العُمر والتراجم”، وأشهر كتبه في السير الذاتية: “المجمع المُفَنَّن بالمعجم المعنون”.

وفي ختام سلسلة كبار مؤرخي مصر في العصور المملوكية؛ يأتي محمد بن أحمد بن إياس الحنفي صاحب كتاب ‘بدائع الزهور في وقائع الدهور‘؛ إذ كان من المؤرخين المُندرجين ضمن طبقة “أبناء الناس” بالنظر إلى أن جده الأمير إياس الفخري الظاهري كان من مماليك السلطان الظاهر برقوق.

كان المؤرخ ابن إياس شاهدًا على نهاية حقبة المماليك؛ مما مكّنه من تقديم معلومات فريدة وثمينة للأجيال اللاحقة حول لحظات انحدار هذه الدولة العظيمة، وهي تعاني من ويلات هزيمة متتالية أمام الجيوش العثمانية، أولاً في معركة مَرْج دابِق بالشام عام 922هـ/1516م وبعد ذلك بشهور في معركة الريدانية بمصر عام 922هـ/1517م. ولقد ترك ابن إياس العديد من الكتب التاريخية المهمة إلى جانب كتابه ‘بدائع الزهور‘.
أدبيات جميلة
لم يُنحصر إسهام العلمي للمماليك وأبنائهم في العلوم الشرعية والتاريخية فقط؛ بل كان لهم إسهامات في عالم الأدب والشعر كتأليف وتصنيف؛ إذ يُذكر لنا الإمام السخاوي عن العديد منهم ودواوينهم التي تضم أشعارهم وإبداعاتهم الأدبية.

في مقدمة هؤلاء الأدباء المماليك يَأتي الكاتب الشهير علي بن عبد الله الغُزولي الدمشقي (ت 815هـ/1412م)، الذي يُذكر السخاوي بأنه “كان مملوكا للدولة العثمانية.. نشأ بذكاء وعشق الأدب، فدار حول الشاعر العزّ الموصلي (ت 789هـ/1387م) وتدرج بتعليمه.. وكان جيد المذاق..، وجمع في الأدب كتابا سماه ‘مطالع البُدور في منازل السرور‘ في ثلاثة مجلدات، وتعامل النظم بمهارة حتى برز شعره”!!

وسرد السخاوي لسبط الحافظ ابن حجر: يوسف بن شاهين بن قُطْلوبُغا القاهري -عن الشاعر المتقدم- قصائد شعرية في المدح والرِّثاء والهِجاء تظهر أنه كان ماهرًا في النظم الشعري، كما ذكر في ترجمته للمؤرخ غرْس الدين خليل بن شاهين الظاهري (= نسبة للملك الظاهر برقوق) المَلَطي (ت 873هـ/1468م) -الذي سيتم ذكره بالتفصيل- أنه جمع “ديوان شعره وكان متألقًا في ذلك ولم يترك بعده مثله”!!

وفي مجال الفنون، كثيرًا ما ارتبط بمجال الأدب وثقافة الشعر؛ نشبَت نجمة العديد من أبناء المماليك في عالم الموسيقى حتى صاروا رواد زمانهم بها، يُقدمون صورة مُختلفة عما كانوا يُعرفون به؛ رُجال مملوكة شديدة القوة والإستبداد، المضربة بالسيف ورامية بالسهم وطامحة بالرمح.

كان هذا ابن باباي صارم الدين العوّاد (ت 821هـ/1418م) صديقًا لعدد من سلاطين المماليك بما فيهم السلطان المؤيَّد شيخ المحمودي (ت 824هـ/1421م). وعن براعته في الموسيقى يُقول ابن تَغْري بَرْدي -في ‘المنهل الصافي‘- بأنه “واحد من أقران الملك المؤيد شيخ ومغنيه، كان بارعًا في عزف العود والغناء، ولم يكن متميزًا في الصوت ولكن كان محترفًا في العود وفن الموسيقى، تولت قيادة الفن في ذلك وكان يُعده بميلادًا بعد وفاته”!!

بل كان هناك من كان متألقًا في علم الموسيقى مع توليه المناصب السياسية والعسكرية في الوقت نفسه؛ كالأمير أَشُقْتَمُر الناصري (ت 791هـ/1389م) الذي يحكي لنا ابن تَغْري بَرْدي -في ‘المنهل الصافي‘- عن “معرفة هذا بضرب العُود والمعرفة بالموسيقى، ومعرفته بالعديد من الفنون، وعد ذلك لفت نظر الناصر حسن (بن الناصر قلاوون ت 762هـ/1361م) لحكمة واطلاعه، أقربه ووفده وأمره، وانتقل بعد وفاة استاذه السلطان حسن بالعديد من المناصب إلى أن تولاه الملك الأشرف شعبان بن حسين بمثله”.

وهناك مثل آخر لأَشُقْتَمُر الناصري -في مهارته الموسيقية- الأميرَ طُوغَان قِيزْ العلائي (ت 863هـ/1459م) الذي شغل عدة مناصب عسكرية وسياسية في تلك الفترة، ومن بينها قيادة الجيش المملوكي في حكم حلب ليكون “قائدًا مرموقًا في ذلك، متميزًا في التحاور والفنون وفهم الموسيقى”؛ طبقًا للإمام المحدث السخاوي.

وكان هناك من لم يجد صعوبة في الجمع بين قيادة السلطان في مسجده والطلاقة في فن الموسيقى كتلحين وأداء؛ كشهاب الدين أحمد بن آقُوش (ت 693هـ/1294م) الذي وصفه الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- بأنه “كان إمامًا للسلطان وأحد المُتفوقين في القراءة بالتجويد ومعرفة الألحان والموسيقى”!!

يظهر أن العلوم التطبيقية كانت شديدة الاهتمام لأبناء المماليك، وقد ارتكبوها ونقلوها من جيل لآخر؛ حيث سرد السخاوي للفقيه المملوكي أحمد بن رجب بن طَيْبُغا المجدي بأنه كان “قائدًا في مختلف مجالات الحساب والهندسة والفلك.. وخبيرًا في قضايا الوقت”!!

مذكرات حروبية
لم تكن انتصارات المماليك المشهودة تاريخيًا إلا نتيجة لتنفيذ خطط حروبية ببراعة في ساحات المعركة، مستندة إلى علم عسكري دقيق، حيث يُعتبر عصرهم ذروة للتوثيق العسكري وأدب الفروسية والقتال والتنظيم والتكتيك، والأسلحة والرماية، وتشجيع مواجهة الأعداء.

ويتصدر هذه المؤلفات العسكرية كتاب “تُحفة المجاهدين في العمل بالميادين” للأمير حسام الدين لاجين بن عبد الله الذهبي الطرابلسي الرمّاح (ت 738هـ/1337م) الذي

وفي بداية كتابه يقول: “تمّ تضمين ما يجب على المعنيين بالحروب الوقوف عليه في هذا الكتاب..، وفهمه واستيعابه، والاعتناء بتفاصيله، واكتساب خبرة في مجالات الهجوم والانسحاب والتوجيه والتقديم، والهجوم والتراجع، والتوقف والمرور، وضبط النيران، والإطلاق برشاقة، واتخاذ قرارات وتراجع عنها، وقد قمنا بشرح النقاط الضرورية للتفكير فيها، والتمسك بها”.

أما كتاب “الدلائل الرسمية في فنون الحروب” للأمير محمد بن منصور الناصري (ت 784هـ/1382م) نقيب الجيش في حقبة السلطان الأشرف شعبان (ت 778هـ/1376م)؛ فقد تناول جوانب المحاربين وتجهيزاتهم، وطرق القتال وتشكيلاته، وإخضاع نماذج من مواقف القتال للجنود والفرسان، ومعارك المدن والحصون، وأهم الفروق بين الجندي الناجح والقائد الممتاز.

وفي سياق سبب كتابة هذا الكتاب يقول ابن منصور: “تمّ تأليف هذا المؤلف من أجل توضيح أن هناك في الجيش الإسلامي أولئك الذين يتمتعون بالاهتمام -من قبل الرب تعالى- بخدمة المجتهدين والمجاهدين من سابقي الأعيان والمجهودات”!!

وللأمير ابن منصور أيضا كتاب “القوانين الحكومية والتوجيهات الشرعية في فن القتال البحري”، الذي يُعتبر من المراجع الهامة لفهم تفاصيل معارك البحر وطرقها، كما قام بتخصيص أبواب لتوضيح الأوقات المناسبة لإنتاج السفن. ولديه أيضا من كتب الحروب: “المنهل العذب لدخول أهل الحروب” و”الرسالة المرضية في صناعة الدروع”.

وقد تنوعت كتب الأمراء والجنود المماليك في مجالات الاستراتيجية العسكرية ومهاراتها وتجهيزاتها للغاية، حتى جاء تأليف مُنفصل حول البنادق وأنواعها واستخداماتها بعنوان “المتقن في التدريج” كتبه الضابط المماليكي ابن أرنبغا الزردكاش (ت 867هـ/1462م)، وهداه كهدية لقائد الجيش المماليكي الأمير منكولي بوغا الصالحي (ت 836هـ/1432م).

حول أهم فحوى كتابه يقول ابن أرنبغا: “جمعت في ذلك أنواع البنادق والزوارق، وسلالم الدفاع والملوّحات، وأدوات الاحتواء، وإطلاق النيران وعبوات الاحتراق، والابتكارات التكتيكية، وقمت بتأليفه ككتاب، ونظمته بأقسام وفصول”.

المصدر : الجزيرة



أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Exit mobile version