“الكابوس الأدبي العربي”.. ما يدفع المبدع إلى نشر أعماله في خارج وطنه؟
الهتري يندرج ضمن جملة العديد من الأدباء العرب الذين تبين اهتمامهم المتزايد بالنشر خارج حدود بلادهم، وهو ما توسع بشكل كبير في السنوات الأخيرة، حيث يمكن اعتباره “هجرة جمعية”، بعد بروز دور النشر المستقلة سواء داخل أو خارج المنطقة العربية، دور احترافية تعتني بطباعة الكتب العربية وتوزيعها وتسويقها، وتستخدم كل الوسائل التكنولوجية للترويج للكتب وإقامة آلية التواصل مع العديد من الكتاب في منطقة العالم العربي.
إذاً، ما هو الذي يحث الكتّاب العرب على نشر أعمالهم خارج وطنهم؟ وما هو سببتُعطيه تلك الفرصة ولا يجده في وطنه؟ وما هو الحال الحالي للنشر والكتابة في الوطن العربي بعد أزمة الوباء؟
زهد سكان البلد بأعمالهم
يقول الماجدي لشبكة الجزيرة نت بأنّ شغفهم يأتي من أن “أهل البلاد يتنقلون عن أعمالهم ولا يهتمون بها، ولكن حين يكتب شخص معروف في الوطن العربي، يتلقون شهرته بفرح واهتمام. وحصل ذلك مع الشاعر العراقي بدر شاكر السياب في وسط الخمسينات عندما ذهب إلى بيروت واختاره أدونيس لنشر مجموعة مختارة من قصائده الجديدة التي لم يسبق نشرها في كتاب، وجمعها في كتاب واحد بعنوان “أنشودة المطر”، التي انتشرت في العالم العربي وأصبح السياب معروفا في كل مكان، حتى في وطنه العراق”.
ويضيف أنّ هذه الظاهرة حدثت أيضا مع الروّاد الأربعة للشعر الحديث وهم جميعاً من العراق: بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري، وهذا يعطي مؤشرًا قاطعًا لعدد كبير من الكُتّاب في الوطن العربي، إنّ هذا “قاعدة صحيحة وقوية”، وهي سارية المفعول حتى يومنا هذا، بل يُعتبر “عدم النشر خارج الحدود عائقًا لانتشار أعمال الكاتب والمُبتدع”.
تحديات مُربكة
يلاحظ الكاتب المغربي حسن المودن تحديات الكاتب العربي التي تكون صعبة، يكتب ويؤلف، وذلك هو عمله دون شكّ، ولكنه يصطدم بصعوبات كبيرة في إيجاد ناشر لأعماله، ورُبّما ينشر بتكلفته الخاصة، وأحيانًا يتحوّل إلى منتِج ومُوزّع لأعماله الكتابية في المحلات والمكتبات، والحقيقة المُدهشة التي قد تصدم الجدد والمحترفين أنّه لا يُمكن أبدًا العيش من الكتابة والإبداع.
ويقول في محادثة مع الجزيرة نت أن كتابه الأول المتعلق بترجمة أساس في التحليل النفسي، نُشر في خارج البلاد في أواخر التسعينيات في المجلس الأعلى للثقافة بمصر بمساعدة أستاذه محمد برادة، وهو ما فتح له أفاق الشهرة والتداول، التي حرص عليها في كتاباته الأخرى التي نشرت تباعا في دور نشر عربية في لبنان ومصر والأردن وإيطاليا من أجل ضمان التوزيع الواسع عربيا وأوروبيا، وهو ما ينقصه للأسف مجموعة من دور النشر المغربية، إضافة إلى المستحقات المالية التي لا يحصل عليها الكاتب المغربي في بلده إلا بندًا، كما يقول.
ومن خلال تجربته، يحتفظ الكاتب المغربي حسن المودن ببعض الناشرين المغاربة والعرب بالتعامل الرفيع والدعم في فترات عصيبة من حياته، حيث وفروا له العديد من النسخ، وخصصوا له مبالغ مالية جيدة، ولكن بعد جائحة “كورونا”، بدأت العديد من الناشرين تغيير تعاملهم، داخل البلاد وخارجها، حيث يرغبون في الحصول على كتب دون التحدث إليهم عن نسخ كبيرة أو مبالغ مادية.
هجرة الأدباء العرب
وتشير مجموعة من الدراسات الجديدة، وبالذات دراسة اتحاد الناشرين العرب حول “النشر في الوطن العربي” لخالد عزب ورئيس الاتحاد الناشر المصري محمد رشاد، إلى ازدياد نشاط النشر باللغة العربية خارج الوطن العربي في السنوات الأخيرة، في لندن وباريس وميلانو وأماكن أخرى، وركزت على النجاح الذي حققته “دار المتوسط” في إيطاليا، التي تنشر للعديد من أدباء العرب بما في ذلك الجاليات العربية، ونجحت في أن تصبح جسرًا لترجمة الأدب العربي إلى عدد من اللغات الأجنبية خاصة الإيطالية.
وتلفت الدراسة أيضًا الانتباه إلى هجرة الأدباء اليمنيين إلى مصر، الذي أصبح ظاهرًا جديدًا في حركة النشر اليمنية، حيث برزت “دار أروقة” التي تصدر في القاهرة لأدباء يمنيين، ويمكن الحديث عن نفس الأمر مع الأدباء المغاربة الذين توجهوا إلى العواصم الأوروبية ومصر والأردن أو تونس بالنسبة للأدباء الليبيين.
إن هذا الوضع يطرح تحديات كبيرة وغير مسبوقة على دور دور النشر العربية، وفق قول محمد رشاد رئيس “اتحاد الناشرين العرب”، نتيجة للكبوت الذي أصاب المنطقة بسبب تداعيات وباء كورونا، والأزمة الاقتصادية الحرجة التي تؤثر على كافة وسائل الإنتاج المرتبطة بالنشر، بالإضافة إلى “توسع شركات عالمية في المنطقة العربية للاستيلاء على حصص في صناعة النشر العربية”.
جدية وإتقان الدار
كان هم “دار العين للنشر” في مصر، منذ بدايتها في عام 2000، نقل الإبداع المغاربي إلى المشرق، وهذا ما دفعها لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي للوصول إلى الكتاب العرب وجذبهم للنشر في الدار، حيث نشرت العديد من الإبداعات المغربية.
تتحدث فاطمة البودي، المسؤولة عن الدار، عن سبب جذب الكتاب العرب والمغاربة للدار بشكل خاص، وذلك يعود إلى جدية واحترافية الدار في التعامل مع الكتب وتسويقها وتقديمها في المعارض العربية والدولية، إضافةً إلى تنظيم ندوات وحفلات توقيع للكتب، وتسليط الضوء على الأعمال والكتاب من خلالها، بالإضافة إلى ترشيح العديد من الكتب لجوائز مرموقة، مما جعل الدار تحظى بثقة واحترام الكتاب العرب.
غير صحيحة حجة سوء التوزيع
يتحدث الشاعر المغربي محمد بنيس، أحد مؤسسي “دار توبقال للنشر”، بحسرة وألم عن النكسة التي تعرضت لها الدار بسبب جائحة كورونا، على الرغم من مرور 40 عامًا على تأسيسها وجهودها في نشر الأعمال والدراسات الفكرية والأدبية والشعرية، حيث تعرّضت الدار لصعوبات بسبب اندلاع الجائحة، في حين رفضت العديد من دور النشر نشر الشعر بحجة عدم قابليته للقراءة.
ويعبّر بنيس عن اعتقاده بأن الكتاب المغاربة بدلاً من التضامن مع “دار توبقال للنشر”، التي تصارع من أجل الصمود، تخلوا عنها لصالح دور نشر عربية أخرى، معتبرًا أن حجة سوء توزيع الكتب المغربية في الخارج لم تكن صحيحة على الأقل مع “توبقال”، حيث أصبح العديد من الكتاب المغاربة معروفين في العالم العربي بفضل النشر في هذه الدار، والتي كانت لا تتبع أي غاية تجارية.
ومن الواضح لمتتبع إبداعات الشاعر والكاتب محمد بنيس، أنه يراوغ بين نشر أعماله في “دار توبقال” وفي دور نشر عربية أخرى في سوريا ومصر ولبنان وتونس، كما حدث مؤخرًا مع ديوانه “هواء بيننا” الذي صدر عن “دار المتوسط” في إيطاليا، ويفسر بنيس هذا بانفتاحه منذ وقت طويل على النشر في العالم العربي، وتلبية للعديد من الصداقات، إذ سيصدر له قريبًا كتابان عن دار نشر عراقية.
الرقابة على الكتب<رسم بياني عرض="24بكسل" طول="24بكسل" مربع-عرض="0 0 24 24" ملء-اللون="#1C274C" xmlns="http://www.w3.org/2000/svg"><مسار d="M8 6.75C5.10051 6.75 2.75 9.10051 2.75 12C2.75 14.8995 5.10051 17.25 8 17.25H9C9.41421 17.25 9.75 17.5858 9.75 18C9.75 18.4142 9.41421 18.75 9 18.75H8C4.27208 18.75 1.25 15.7279 1.25 12C1.25 8.27208 4.27208 5.25 8 5.25H9C9.41421 5.25 9.75 5.58579 9.75 6C9.75 6.41421 9.41421 6.75 9 6.75H8Z" fill="#1C274C">مسار><مسار d="M8.24991 11.9999C8.24991 11.5857 8.58569 11.2499 8.99991 11.2499H14.9999C15.4141 11.2499 15.7499 11.5857 15.7499 11.9999C15.7499 12.4142 15.4141 12.7499 14.9999 12.7499H8.99991C8.58569 12.7499 8.24991 12.4142 8.24991 11.9999Z" fill="#1C274C">مسار><مسار d="M15 5.25C14.5858 5.25 14.25 5.58579 14.25 6C14.25 6.41421 14.5858 6.75 15 6.75H16C18.8995 6.75 21.25 9.10051 21.25 12C21.25 14.8995 18.8995 17.25 16 17.25H15C14.5858 17.25 14.25 17.5858 14.25 18C14.25 18.4142 14.5858 18.75 15 18.75H16C19.7279 18.75 22.75 15.7279 22.75 12C22.75 8.27208 19.7279 5.25 16 5.25H15Z" fill="#1C274C">مسار>رسم>
نلمح الأمر نفسه أيضًا مع الكاتب المصري إبراهيم عبد المجيد مؤسس “بيت الياسمين للنشر” الذي صدرت له مجموعة من الأعمال عن دور نشر عربية أخرى خارج داره ودور مصرية، ويرجع الكاتب ذلك إلى الرقابة على الكتب، حيث أصبح بعض الناشرين في الآونة الأخيرة يجدون صعوبة في نشر بعض الأعمال، بسبب احتمالية انتقاد الأعمال الأدبية لأسباب سياسية أو دينية. ولذلك، يوضح عبد المجيد أنه يعرض أعماله على ناشره المصري، وفي حالة الرفض، يتم نشرها خارج مصر في “دار المتوسط” بميلانو، حيث تصل الكتب بدون مشاكل، نظرًا لعدم وجود المشاكل التي يخشاها الناشرون الذين يعتذرون عن نشرها.
ولكي لا تثار الشكوك بشأن إنشاء دور نشر للكتب الخاصة به وتوزيع أعماله لنفسه، ولتجنب وضع حرج على الناشرين في مصر، قرر الكاتب إبراهيم عبد المجيد، كما أوضح لنا، أن يوافق على النشر خارج البلاد، كما فعل العديد من الكتاب العرب الذين قد يختلف دافعهم، ولكن الهدف المشترك بينهم هو ضمان نشر جيد وتوزيع فعّال وتحقيق القراءة والانتشار. ويعتبر الكتّاب أنهم الأكثر تأثرًا في هذه العملية، حتى لو كان النشر مدعومًا من جهات تعمل على تطوير القطاع الكتابي في البلاد، كما هو الحال في المغرب مع الدعم المُخصَص للنشر الكتابي.والشخص الذي يستفيد منه الناشر مع التأكيد على تخفيض ثمن الكتاب إلى النصف، وهو الأمر الذي لا يحدث، ويؤثر على مبيعات الكتب في المغرب وشعبيتها.
تأثير الدعم على النشر
وفي سياق هذا، يقول الكاتب حسن المودن المغربي إن الدعم الذي تُخصصه وزارة الثقافة المغربية للكتاب “لا يعود بفائدة على الكاتب، حيث يبقى وضعه كما هو بدون تحسن، فيجب دعم الكتاب المغاربة مباشرة، سواء ماديا أو معنويا. ولا بد للملاحظ أن القارئ المغربي لا يحصل على أي استفادة من هذا الدعم أيضا، حيث لم يطرأ تغيير على ثمن الكتاب، وكأنه لا يوجد دعمٌ على الإطلاق”.
بالرغم من مرور أكثر من 20 سنة على سياسة دعم الكتب في المغرب، ما زالت دور النشر المغربية مرتبطة بهذا الدعم، وفق اعتقاد الشاعر والروائي المغربي نزار كربوط، الذي لم تستطع دور النشر الانتقال من المجرد هواية إلى مهنة محترفة وصناعة متقدمة، تمكنهم من المنافسة بشكل فعال مع دور النشر في لبنان ومصر على سبيل المثال.
ويشير كربوط في حديثه للجزيرة نت إلى أنه بعد مرور 7 عقود على استقلال المغرب، لم يشهد القطاع النشري تقدما جوهريا في جودة الإنتاج وجمال الكتب وعمليات التسويق. وفشل الدعم، الذي كانت مبادرة حميدة تهدف لخدمة الكتب، في تحقيق النجاح المأمول، حيث “أورث الفوضى في مجال النشر في المغرب”، وأدى إلى قتل الرغبة في التطوير والابتكار وروح المنافسة بين العاملين في هذا القطاع، الذين لم يواكبوا التطورات الحديثة أو يستثمروا في التجارب الجديدة لتسويق الكتب مثل الكتب الصوتية أو الكتب الرقمية عبر البوابات الإلكترونية أو التطبيقات المخصصة للترويج للكتب.
لذلك، وفق تقديره، كان يجب على الدعم أن “يتجه في مسار آخر، حيث يتخطى مجرد تحويل الماليات إلى حسابات دور النشر، بل يجب تشجيع الكتاب بأساليب غير مباشرة مثل تخصيص منح لفترات إقامة إبداعية للكتاب، وشراء حقوق الترجمة، وتعزيز دور المكتبات في اقتناء جميع الإصدارات الجديدة التي تصدر سنويا، كما يحدث في العديد من البلدان العربية والغربية”.
الناشر شريك معنا
المُنشِر الأردني جِهَاد أبو حَشِيش مالِك “دار فَضاءات”، التي نَشرت لأكثر من 1200 كاتب عَربي خارج الأردن مِن مَجموع 1750 كاتِبا فُضيلت لَهُم الدار لِحَد اليَوم، يفسَر إقبال الكُتَّاب العرب عَلَى النَشْر خارج بِلادهُم بالتواق إلى تَحْقيق إنتشار أَوْسَع، فِي ظِل انحِسار مُشَارَكَة أَغلَب الدور، وَخاصة المَغارِبِيَّة مِنها فِي المُعارِض العَرَبِيَّة.
وَلِهذا السَبَب حَرَصَ “دار فَضاءات” مُنذ انطلَقها، كَما يَقول للجَزِيرَة نَت، عَلَى خِلْق تَجربة مُغايرة وَجادة، وَمُسؤولة لخِلق ثقة القارئ بالكُتّب الَّتِي تنشُرها فضاءات، وَعَمَلَت بجَدّ عَلَى التَواصُل مَع الكُتَّاب فِي المُعارِض وَتَعميق مَعرِفتهم بالدار وَرؤيَتِها للنشْر، الَّتِي تقوم عَلَى كونها “تَعمَل بِمِثابَة مُدِيْر أَعْمَال، وَأنها أكثَر مِن مُجَرَّد دار نشْر. فالعالَم العَرَبي لا يَحتاج إلى وُراقين لا يَهْتَمّون إلا بِما يُجْنُون مِن أَرباح، إنَّما يَحتاج إلى شَرِيِك يَعْرِف أهَمِيّة الكِتَّب وَمَدى تَفَرّد مُبدِعه، وَيَعمَل بِثِقة وَصَدق عَلى أَن يَكون الحامِل لِرايَة المُبدِع وَإبداعه”.
وَإلى جانب الاهتمام بِجُودة الكُتّب المُطبوعَة، فإن الدار، كَما يَقول المُنشر، حَرَصَ مُنذ البداية عَلَى تَشْكِيل لُجان القِراءة، حَيث يَكون قَبولها أَوْ رَفضها لأي كتاب مُبَرِرا بمدى إسْتِحقاق هذا الكِتاب لِلنَشْر، وَهَذا مِن أساسيَّات إحْتِرام المُنشِر للكاتِب وجُهدِه، كَما أَن قِسم التَّدْقيق اللُغوي في “فَضاءات” مُميّز عَربيًّا، إضافة إلى قِسم التَّحْرير والمُراجَعة، وَغيرها مِن اللُجان، وهو مَا جَعل الدار تستَقْطَب العديد مِن الكُتّاب العَرَب وَالمغاربيين وَتحافظ عَليهم، وَتَعمَل عَلَى تَحقيق الثِقة والتَقدير المُتْبادليّن الَّلَذَين يَعمِقان العلاقة والقِناعة بِالتشارِكية بِاستِمرار.
مُشارَكة صوريّة في المُعارِض
الكاتِبة والناقِدة هُدى النعيمي مِن قَطَر تُؤَكِّد ما قاله المُنشِر الأردني، وَتَقول إنه مِن حَق الكاتِب العربي أَن يَسعى لِلانتشار وَوُصول كِتابه إلى أوسَع دائرة ممكِنة، عَربيًّا وَعالمِيّا إن أَمكِن، مما يَخَول له المُشارَكة في النَدوات وَاللقاءات الأدبية في مُحافِل ثَقافِيّة كَثيرة، قَد لا تُوجد في وَطَنه، وَحضور كِتابه في المُعرض العربية للكِتاب، لأَن المُنشِر المُحلي، برأَيها، “لا يَشَارِك في مُعارض الكِتاب الكبيرة مِثل مُعرض القاهرة، وَإن شارَك تَكون المُشارَكة صورِيّة، وَلا تُؤتي أَكلَها، في حين يَقوم المُنشِر الآخر بِتَنظيم احتِفاليات للتوقيع تَضمن للكاتِب حَضورا قويَا في هذِه المُناسِبات الثقافية المُهِمّة”.
وَمن جَهة أُخرى، تَشير الدُكتورة النعيمي إلى التَكلفة الماديّة للطبَع وَالنَشْر، الَّتي تختُلف مِن بِلَد عربي إلى آخَر، وَتَقول إنها “غالية نسبيًّا في مَنطِقة الخليج، وَقد لا تَكون في مُتناول الكاتِب، الَّذي غالِبًا لا يَتَكَسَّب مِن إبداعه بَل يَضطَر لِلصَرف عَلَيه مِن جَيبه الخاص، في حين أن التَكلفة تَقَل كَثيرًا في حال اختيار المُنشِر مِن بيروت مَثلا، وَلِهذا فَعلى المُنشِر في كُل بِلد أَن يَعي المُنافسة الخارجية، وَأَن يَعمل عَلى إجتذاب الكاتِب المُحلي بتقديم إيجابيّات أكثر له”.
أزمة الكتاب
الشعرية
كان وضع لبنان يشبه إلى حد كبير عدد من الدول العربية، بخاصة بعد التحولات التي شهدها البلد في الزمن الحديث، فتقول الشاعرة اللبنانية ندى الحاج، التي اضطرت مؤخرًا إلى نقل مؤلفاتها الشعرية من “دار النهار” اللبنانية، التي نُشرت بها 6 مجموعات شعرية، إلى دار نشر عربية أخرى، قبل أن تنتقل للنشر في “دار المتوسط” في إيطاليا. تشير إلى أنها شعرت بحالة من الوحدة الروحية بسبب الظروف التي وصلت إليها صناعة النشر في لبنان، البلد الذي عرف زمنًا من الازدهار والانفتاح، وتسود فيه روح الحرية الفكرية التي أبهرت كثيرًا من كتاب العالم العربي وفنانين هربوا من قمع السلطة والرقابة والحظر، وجدوا في لبنان المأوى والتأثير والانتشار لأعمالهم.
وتقول ابنة الشاعر اللبناني الراحل أنسي الحاج، إن دور النشر يواجه صعوبات في التمويل والتسويق ويحارب من أجل استدامته في ظل أزمة مبيعات الكتب (وخاصة الشعرية) وأزمة القراءة التقليدية التي تتحول إلى ترف ثقافي لا يُعتبر من ضمن أولويات الحياة. وبالرغم من توسع الحركة الناشطة لمعارض الكتب في أنحاء العالم العربي وتقريب المسافات بين الكتّاب والناشرين والقراء.
وتشير إلى ندرة دور النشر اللبنانية في إصدار كتب شعرية دون تحميل الشاعر بعض تكاليف الطباعة، وذلك بحجة قلة اهتمام القارئ بهذا النوع من الكتب، كما أن معظم مكتبات المنطقة تتبع استراتيجية تسويق مشابهة، حيث تكتفي بعرض عدد قليل من الإصدارات الشعرية الجديدة على أرففها.
عقدة الشرق ووهم الانتشار
في وجهة نظر رئيس “اتحاد الناشرين المغاربة”، الناشر طارق سليكي، يرى أن الاهتمام الكبير بالكتاب المغربي في دور النشر العربية يمكن اعتباره من منظورين: إما من جانب الدبلوماسية الموازية أو الثقافية للنشر. حيث تمكن الكتاب والإبداع والفكر المغربي من كسر الروابط التقليدية بين المشرق العربي والمغرب العربي، وأصبح للصناعة الثقافية المغربية (سواء أدبيا أو فنيا) حضور بارز ومميز، وقد لاقت مكانتها وتأثيرها في المنظر الثقافي العربي اعترافًا عميقًا ومميزًا.
أما الزاوية الثانية، فهي من جانب النشر، حيث يضع انتقال الكتاب المغاربة إلى بعض دور النشر العربية الناشرين المغاربة أمام تحديات وأسئلة يتعين عليهم التعامل معها بعمق واحترافية، مما يستدعي الحوار والاستماع لايجاد حلول مناسبة لهذه القضية.
ويوضح الناشر طارق سليكي، صاحب دار “سليكي أخوين” في طنجة، التي تم تأسيسها في عام 1994، أن عقدة الشرق ما زالت قائمة للأسف بين بعض الكتاب المغاربة. وأشار إلى أن الانتشار الواسع هو فقط وهم، حيث يُظهر العقود غير العادلة التي يوقعها كتاب مغاربة على عدم قدرتهم حتى على الكشف عنها، مما يؤكد تعقيد العلاقة مع الشرق.
المنظر نفسه يتقاسمه الناشر المغربي حميد أحمد المرادي، مدير “دار التوحيدي للنشر” التي أُنشئت في عام 2000 ونشرت للعديد من الكتاب المغاربة والعرب. ويعلق قائلاً: “ما يظنه بعض الكتاب من توزيع جيد خارجيًا هو مجرد خرافة، فهم يدركون أن الكتاب المغربي يصل عبر الناشر المغربي إلى كل الأماكن في العالم العربي، أما الأصل فهو في نوعية الكتاب”.
المرادي يشير إلى أن صناعة الكتاب في المغرب ليست في اوجها، حيث تتميز القطاع بعوائق كبيرة تتلخص في “سيطرة مجموعة محددة على سوق الكتاب وبخاصة الكتب المدرسية، مما يعيق تطور الصناعة الكتابية في المغرب، إضافة إلى غياب الاحترافية في قطاع النشر، واستمرار الجامعات والمؤسسات العامة في مزاولة نشاط النشر بدون تراخيص قانونية، وعدم وجود سياسات حكومية مبادرة لتنظيم قطاع النشر بجميع أشكاله التقليدية والرقمية، لتحويلها إلى جزء من الصناعة الثقافية التي تساهم في تنمية وتنويع مصادر الثقافة”.
ربما تنطبق هذه العقبات التي تواجه النشر في المغرب على العديد من البلدان العربية التي لم تحول بعد نشاط النشر إلى صناعة، ولا تزال تعاني من التحديات قبل وبعد أزمة كورونا. فبينما يقاوم البعض منها من أجل البقاء، يُغلق أبوابه بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة وازدياد تكلفة إنتاج الكتاب وخاصة الورق، دون نسيان تدني مستوى القراءة.
ومع ظهور بعض دور النشر الخاصة ونجاحها السريع في جذب الكتاب العرب وكسب ثقتهم عبر تسويقهم بشكل جيد، تثير هذه النقاط أسئلة عديدة حول مستقبل دور النشر العربية التي تتطلع للبقاء والتنافس بأساليب تتجاهل التطورات الحاصلة ولا تستثمر في التكنولوجيا المتقدمة لضمان وجود قراء في المستقبل. وهذا ما يجدد قول الأديب طه حسين القديم: القاهرة تكتب، ولبنان يطبع، والعراق يقرأ، محولاً معادلة الكتابة والقراءة في الوطن العربي.