المشكلة في “مركز تكوين” أم في التنوير “سيئ السمعة”؟!
أعتقد أن محنة مركز تكوين ـ التي بدأت من قبل أن يستهلَ نشاطه ـ قد تجمع بين “السيئتَين” إذا جاز التعبير: هوية “مجلس الأمناء” كما يراه الناس من جهة والتمسح بـ “التنوير”، وكما استقرت سمعته في وعي الناس أيضًا من جهة أخرى.
“تحرير المرأة”
وإذا كانت “السيئة” الأولى مستقرة في ضمير الرأي العام، فإن السيئة الثانية “التنوير” هي التي يتعين التعرف على حالها الآن، وذلك للاقتراب أكثر من فهم مشاعر القلق ومبرراته.
ولعل ذلك يقتضي استدعاء تجربة قاسم أمين (1863مـ ـ 1908 مـ) عندما تصدر مشهد الدعوة إلى “تحرير المرأة”.. وكان “أمين” محقًا في ذلك الوقت، فالمرأة كانت بحاجة ـ فعلًا ـ إلى ظهير اجتماعي يساندها في انتزاع حقها في التعليم، وحقوق أخرى مدنية وسياسية، والتحرر من وصاية التقاليد الاجتماعية “الذكورية” التي استفردتْ بالمرأة واستضعفتها ووضعت لها شروطَ التواصل مع العالم!
بيدَ أن التوظيف “الانتهازي” لما ذهب إليه قاسم أمين من قِبلِ غُلاة العِلمانيين من الأجيال اللاحقة عليه، قد أساءت إلى مصطلح “تحرير المرأة”، حتى باتت كلمة “امرأة متحررة” تستدعي على الفور، كل معاني التمرد والتبجح والخروج على التقاليد والأخلاق العامة.
وعلى هذا النحو، ساهم العلمانيون العرب ـ أيضًا ـ في إحالة “التنوير” إلى مصطلح سيئ السمعة، بنقله بكل إكسسواراته وإيحاءاته ومضمونه المعرفي، من بيئته الأصلية “أوروبا” بوصفه حركة اجتماعية معادية لـ “سلطة الله” على العالم.
فالتنوير منذ ظهور “فرنسيس بيكون”، الذي تعود إليه جذور التنوير في القرن السابع عشر، إلى ظهور مفكّري عصر التنوير في القرن الثامن عشر وهو يحمل ـ كما يقول محمد عمارة ـ معنًى واحدًا: أن يحل العقل محل الله!!
والذين يكتبون عن التنوير في عالمنا العربي فإنهم يقصدون هذا المعنى تمامًا، يقول د. مراد وهبة ـ وهو واحد من أبرز المدافعين عن التنوير ـ: ” التنوير يعني أنه لا سلطانَ على العقل إلا على العقل “!
بالتراكم تضرر كثيرًا مصطلح “التنوير” وتم إحالته في عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، إلى سلسلة المصطلحات، التي استقرت في الضمير والوعي العربيين، على أنها مصطلحات “سيئة السمعة”.
حاولت السلطات الثقافية ـ وهي بالمناسبة ذات الشلة التي أساءت إلى التنوير ـ ترميم ما أصاب المصطلح “فكريًا وحركيًا” من شروخِ وعطب في الوعي العام، وذلك بحقنه بمنشطات الدعاية له من خلال مطبوعات رسمية مدعمة ماليًا:
ففي عام 1990 نُظم “معرض القاهرة الدولي للكتاب” وعُقدت ندواتُه ومؤتمراتُه، تحت شعار: ” مائة عام على التنوير”. وفي عام 1992 احتفلت دارُ الهلال ـ كذلك ـ بمرور مائة عام على ظهور مجلة الهلال، وتم الاحتفال تحت شعار: ” مائة عام على التنوير”، وفي عام 1993 كَثُر الكلام في وسائل الإعلام ـ وبشكل لافت وغير مسبوق ـ عن قضية التنوير، ولأول مرة في تاريخ دور النشر في العالم، بادرتِ الهيئة العامة للكتاب بإصدار سلسلة من الكتب ـ كلُّ يومٍ كان يصدرُ منها كتابٌ ـ وبثمنٍ زهيد جدًا (25 قرشًا مصريًا!).
كانت جميعُها تحملُ عنوانًا واحدًا :”التنوير”.. وتحدثت في جلها عما أطلقوا عليه “محنة التنوير”، وأجمعوا على أن مشروع التنوير تحول على يدِ ما وصف آنذاك بالمد الإسلامي إلى “محنة للتنوير!!” واللافت أيضًا أن غلافَ الكتب كان يحمل ـ بجانب كلمة “التنوير” التي كانت ترِد في مربع أسفل الغلاف وعلى يمينه ـ لافتةً كبيرةً – تمتد بعرض الغلاف كله من يمينه إلى يساره – مكتوبًا عليها كلمة “المواجهة”، في إشارة منها إلى مواجهة “التيار الإسلامي” الذي اتخذته “عدوًا” لـ”التنوير”.
تنوير مأزوم
بيدَ أن عمليات الترميم، لم تثمرْ ما يتعين عليها فعله، فتم إدخال مصطلح “الحداثة ” إلى الخدمة، كبديلٍ لـ”التنوير” المأزوم بسمعته السيئة. غير أن “الحداثة” تضررت هي أيضًا بذات الضرر الذي أصاب “التنوير”، حيث تبنت الحداثة ـ في طبعتها العربية ـ مقولة “س.م بورا ” قصًا ولصقًا: ” الحداثة لم تعد تكتفي بمقولة تجاوز الماضي، وإنما باتت تذهب إلى القول بأن الماضي خانقٌ، ولا بد أن يُقذف به من فوق باخرة الحداثة”، وهو ما لفت إليه شكري عياد بأن” الحداثة تستهدف أنسنة الدين .. أي إرجاع الدين إلى الإنسان وإحلال الأساطير محل الدين.. وإرجاع المقدسات والغيبيات إلى جسم الإنسان”!
في مقالٍ لها نشر في شتاء 1991 بعنوان: “الحداثة وعقدة جلجامش” تقول خالدة سعيد: “إذا كانت الحداثة حركة تصدعات وانزياحات معرفية قيمية فإنَّ واحدًا من أهم الانزياحات وأبلغها هو نقل حقل المقدس والأسراري في مجال العلاقات والقيم الدينية والماضوية إلى مجال الإنسان والتجربة والمعيش”!
فالحداثة ـ إذن ـ قدمها لنا المثقفون العرب بوصفها ممارسة لا تعترف بأية اعتبارات تميّز “الحقائق” عن “الأساطير”، وهي نقطة ارتكاز ثابتة ترتب عليها سلسلة من المواقف المبدئية تتمحور ـ في مجملها ـ حول تقديم تفسيرات لا غايةَ لها إلا إهدار أية هيبة أو وقار أو قداسة للعقيدة الدينية، ومطاردة تجلياتها الروحية والأخلاقية، باعتبارها معطًى (إنسانيًا ـ خرافيًا) يجب مجابهته كأي اختراعٍ إنساني! أو كما لخصها “كريستوفر بتلر” بقوله: إنها تضع ” ما هو وهْم وما هو حقيقة على قدم المساواة.. وإنها تفقد ” الثقة في كل نظام أو فلسفة أو مبدأ أخلاقي أو عقيدة دينية”.. ولا تقيم وزنًا لتقاليد سابقة.. أو لأعراف أدبية قارّة.. ولا تلبي رغبات فطرية متواترة”.
وبتحليل مضمون هذه المقولات نلحظ أنها، تحمل مفردات دالة على أن الحداثة تيار يدعو إلى ممارسة العنف والعداء والكراهية ـ (لاحظ كلمات مثل تدمير، قطيعة، يقذف، خانق، سخرية..) ـ ضد هُوية الأمة وتراثها الديني والثقافي وبكل ما يربطها بأصولها الحضارية (لاحظ كلمات مثل: النظام القديم، الماضي وما شابه..)!
مواجهات فكرية عنيفة
كانت الحركة الحداثية العربية ـ حتى ذلك الحين ـ تنأى بنفسها بعيدًا عن أي صدام (أو تواصل) مع محيطها السياسي أو الاجتماعي، كانت محض فعلٍ نخبوي استعلائي وتتعمد بناء قطيعة جذرية مع الجماهير والرأي العام، إذ يقرر ذلك “أدونيس” ـ وهو أعلى الأصوات الحداثية العربية صخبًا ـ بقوله: “ليس لي جمهور، ولا أريد جمهورًا”. ويقول محمد عفيفي مطرـ متسائلًا: ” مَنْ القارئ؟ أهو من يعرف القراءة والكتابة؟ أم طالب الجامعة؟ أم المثقف؟ أنا لا أعرف القارئ إنما أعرف ما أقوله أنا”.
بيدَ أن المواجهات الفكرية العنيفة التي صاحبت سلسلة أعمال نصر حامد أبو زيد (1992 ـ 1995) وقدمها إلى لجنة الترقية لنيل درجة أستاذ، أنزلت “الحداثة” من عليائها، واشتبكت ولأول مرة، مع الرأي العام من جهة، ومع مؤسسات الدولة الرسمية والأهلية من جهة أخرى، وشكلت في محصلتها النهائية أولى بدايات “أزمة الحداثة” بالعالم العربي، إذ أنارت هذه الأزمة، ثلاث مساحات كانت تمثل ـ بالنسبة للرأي العام ـ مناطق مظلمة ـ أو غامضة ـ في التعريف بأهداف وغايات الاتجاهات الحداثية العربية، أولها علاقة الحداثة بالدين، ثانيها الوزن العلمي لروادها والداعين لها، ثالثها تخلّيهم عما تواضع عليه البحث العلمي من أخلاقيات.
وعادت الحداثة ـ التي من المفترض أن تكون بديلًا عن التنوير ـ إلى حيث كانت متداولة داخل قاعات الدرس في أقسام اللغة العربية بالجامعات المصرية، فيما ظلّ التنوير بضاعة تخضع من وقت لآخر لعمليات تدوير وإعادة إنتاج من قبيل الوجاهة الثقافية “الفارغة” ونزعة تعالٍ لا تستند إلا إلى تاريخ وسيرة ذاتية سيئة السمعة خصمت ـ بتراكم الخبرات معها ـ من فرصتها لنيل القبول في مجتمعٍ، كلما سمع اسمَهَا تحسسَ عقله ودينه وتراثه، وعلاقته بمنظومة قيمه المحافظة، وعلاقته بالتاريخ، وعلاقته بالأرض.
ولعلّ ذلك ما يجعل فرص “مركز تكوين” في الحصول على بطاقة القبول في مصر والعالم العربي مسألة بالغة الصعوبة، إنْ لم تكن مستحيلة.
رابط المصدر