[إعلان_1]
المفكر ابن خلدون في مصر.. سمح بالإطاحة بحاكم المماليك وتنبأ بسيطرة الدولة العثمانية على المنطقة ورصد بدايات النهضة الأوروبية الحديثة
<
div class=”wysiwyg wysiwyg–all-content css-1vkfgk0″ aria-live=”polite” aria-atomic=”true”>”سُكان مصر يعيشون كمن استكملوا الحساب الآخروي، حالتهم سعادة وبهجة وغفلة عن العواقب”؛ إذ تُصف بلادهم بأنها “مدينة الدنيا وجنة الكون، مقر للأمم ودرج للبشر، وعنوان للإسلام”!! تلك الصفات وردتها عن مصر المماليكية العالم والمؤرخ الحضرمي أبو زيد عبد الرحمن ابن خلدون (تتاريخ العالم (م 1406م/808هـ).
تتلقف الرواية الأولى تلميذ المؤرخ تقي الدين المقريزي (م 1441م/845هـ) من ابن خلدون في كتابه “المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار”، وأما الوصفان الآخران فجاء أحدهما في كتاب ابن خلدون المعروف بـ “المقدمة”، والآخر ورد في مذكراته التي أدرجها ضمن تاريخه وعنونها بـ “التعريف بابن خلدون ورحلته غربًا وشرقًا”.
الفُصُول الخلدونية هذه تندرج ضمن إطار التأمل في طبائع بناء البشر، حيث يسهل فهم الآراء والمواقف التي انبثقت من هذا التأمل دون وجود تناقضات ملحوظة.
يحاول هذا النص تقديم تفسير لهذه القناعات لتوضيح سياقها واستيعاب معانيها، وهو يسعى أيضًا لفهم جوانب العلاقة المعقدة بين ابن خلدون وبعض النُّخَب المصرية القديمة والحديثة بشكل سلبي وإيجابي في الوقت نفسه.
رغم مروره بتجارب مختلفة في الممالك الإسلامية الغربية، استقر ابن خلدون في مصر ابتغاء للاستقرار بعد فترة من الاضطرابات والتحديات التي واجهها في بلاطات حُكم مختلفة.
اُضطر ابن خلدون، نظرًا لظروفه القاسية التي أدخلته وعائلته وأصدقائه إلى مصر، على الرغم من مكانتها الثقافية والتاريخية المهمة ولكنه واجه واقعًا صعبًا يتمثل في الإدارة الفاسدة والسلوك المشبوه الذي كان مسيطرًا على شعبها.
لا يُمكن تبسيط أقوال ابن خلدون عن مصر كما لا يمكن فصلها من رؤيته الحضارية حول أسباب صعود وانحدار الأمم. يجب فهم تقديره لمصر بحسب مكانتها وثقافتها وتاريخها، بالإضافة إلى مواقفه من المشاكل المعاشة والسلوك في الواقع.
ابن خلدون استكمل مشاهداته التأملية بتجاربه وعمله في القضاء بمصر، حيث واجه الفساد والمحسوبية داخل مؤسسته، إلا أنه حافظ على مبادئه القضائية رغم ظروفه الصعبة.
تفجرت الخلافات بين ابن خلدون وبين بعض العلماء والمثقفين المصريين نتيجة للتنافس الذي كان موجودًا بينهم، وانتقلت هذه الخصومة من دوائر القضاء إلى المجتمع العلمي ثم التاريخي بمرور الأجيال.
أبرزت هذه المادة الجوانب السياسية في شخصية ابن خلدون وتأثيره في تحول سياسي في حكم مصر من خلال دعمه لإحداث انقلاب عسكري قاده أحد الأمراء على السلطان المملوكي، وبالرغم من تأثيره هذا إلا أنه استمر في الدفاع عن العدالة.
باستشراف ثاقب، توقع ابن خلدون تحوُّلات سياسية في مصر، وهذه التنبؤات تحققت بالفعل في المستقبل، مما جعله أحد أعمدة التنبؤات القوية في تاريخ العالم، وقد توقع بعد نهاية الحضارة الأوروبية القديمة والنهوض العلمي والاقتصادي!
استقبال حافل
يعود تاريخ احتفاء “أرض الكنانة” بابن خلدون إلى نحو ستة قرون ونصف، حيث ظلت شخصيته محل جدل وانقسام في أبنائها منذ وصولها عام 1382م/784هـ، بحثًا عن استقرار نفسي.عرى من جدران الزمن كانتضاح الأحداث وزهو الحكايات، وفي مدارات الزمان سافرت القصص بين عواصم الأقاليم المغربية والأندلسية خلال منتصف القرن الثامن عشر الميلادي: مدن كبيرة مثل تونس وبجاية وتلمسان وفاس وغيرها، أما عن تلك الأقاليم فشعر مؤرخنا بوجود قوى مُذَخِّلة عليها هو: “تأثير السُّلْطة وفُقدان العِلم” كما ورد في سيرته.
وصل ابن خلدون إلى مصر وقد سبقته شهرته في المجال السياسي والصوت الفكري، ولكن ما فسد حظوته كانت فقط تحية زوجته الوحيدة من تونس التي لم يرافقها لمناطق تبعدها عن ضغوطات السياسة والمنافي المتعددة، ثم تركها خلفه بشكل نهائي محاولا الفرار تأديبي في حجه.
وأيضا كانت لمصر أيام خضعت فيها لجلبة استقبال العلماء بالطريقة التي وصفها ابن خلدون بنفسه -في كتاب سيرته- وقال عن الملك الناصر محمد بن قلاوون: “غمرتهم المحبة والعطاء، وتسابقت نخبة حكامه في بناء المدارس والمركزات الصوفية والمعابد الصوفية، وأصبحت حكومتهم الوضيعة في زبان العصر وركيزة الدولة”!!
وصول ابن خلدون إلى القاهرة المملوكية أدهشها وأسرتها؛ حيث وصفها بـ “قلب الدنيا وجنة العالم، وساحة الأمم، وملتقى البشر، ومحور للإسلام، وعرش الحكم، تزخر القصور والقصواري في أفق جمالية، وتتألق المعابد والمدارس بمعارفها، ويشع ضوء العلماء…، وتزدحم شوارع المدينة بحشود المارة، وأسواقها تحتضن الرفاهية”!!
لم يميل إعجاب مؤرخنا بحسن استقبال المصريين له (السلطة والطبقة المثقفة والسكان) إلا أنه كان متأملا في بلدهم الكبير والمليء بالأحداث؛ حيث سارع لمقابلة السلطان المملوكي آنذاك الظاهر برقوق الذي وصف استقباله له قائلا: “اهتمّ بي، وأوسى غربة النفس، وزوّد الراتب من وقفه”؛ ووصف حفاوة السلطان بـ “تكريم وتقدير، وقمرني كرما ومودة”!!
بعد ذلك، تصدّر العالم اليمني حلقات العلم بالأزهر حيث “اختاروا طلاب العلم للتعليم” منه دروس العلوم وقطر الحكمة ونتاج التجارب، وظل يعلم بعد ذلك في مدرسة فقهية خاصة بالمذهب المالكي تعرف بـ “المدرسة القمحية”، وحدد المقريزي تاريخ بداية تدريس استاذه ابن خلدون في هذه المدرسة في يوم الأحد 25 صفر سنة 786هـ/1384م “درّس شيخه أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون بالمدرسة القمحية بمصر، بعد وفاة علم الدين سليمان البساطي (ت 786هـ/1384م)”.
القيادة والتحكم
وصف ابن خلدون تأثير مجلسه العلمي الأول الذي حضره أبرز العلماء وبعض الحكام بقيادة صديقه الأمير المملوكي التونبغا بن عبد الله الجوباني وفقاً لما ورد في كتابه؛ فقد قال في سيرته: “انفرجت تلك الجلسة ورافقها الأمل الصادق والكرامة، وناورت القلوب بالتأهيل للوظائف”!! وكذلك ألحقت له بين الحين والآخر، إلى جانب “المدرسة القمحية”، مسؤولية تعليم المذهب المالكي في بعض المدارس التي تضم مذاهب مختلفة، مثل المدرسة الصلاحية والمدرسة الظاهرية البرقوقية.
بالإضافة إلى كرسي الفقه، كلف ابن خلدون أيضا بـ “تعليم الحديث في المدرسة الصرغتموشية”، وفقا لتصريح تلميذه الإمام ابن حجر العسقلاني في كتابه “إنباء الغمر”. بل قاده زيارته إلى “شيخوخة الخانقاه بيبرس.. التي كانت الأعظم في الصوفية” في مصر، بعد أن أمضى -وهو القاضي والمؤرخ ورئيس الوزراء السابق في إمارة بجاية الحفصية- يومًا واحدًا في حلقات الصوفية بالقاهرة، حيث حصل على هذا المنصب المهم في عصره وفي مصره!!
ربما اشتملت إشارات متكررة مؤرخنا لعباداته في “رباط العباد” الصوفي بالقرب من تلمسان الجزائرية -كلما واجه مشكلة سياسية أو تعرض لـ “نزعة ملكية” كما صرح- على تأكيد حياة الوسط الصوفي، إذ قام بتأليف كتابه “شفاء السائل وتهذيب المسائل” وتفاعل مع الأساتذة الصوفيين والمتبعين لهم، مما مكّنه من تولي هذا المنصب الغريب على أمثاله من رجال السياسة ومديري الممالك.
وهذا هو الأمر الذي دفعه أيضا للإسهام كثيرا في المجالات الأكاديمية والعقائدية في عصره.
من خلال استعراض مسيرته العلمية والأكاديمية والتزامه بدراسة العلوم ونشرها بلا كلل، أراد إظهار انتمائه لصفوة العلماء والفقهاء والمحدثين، كما أثبت ذلك في أوراق عمله التاريخية والسياسية!
على الرغم من ذلك؛ فإنه تفاجأ بالواقع المصري -وجنون الأحكام وأنشطة الهياج- عند وصوله وعيشه في مصر، حيث وصف تلميذه المقريزي السكان بأنهم “يعيشون كمن انتهوا من الحساب الآخري”، وهو ما دعم وجهة نظره السابقة التي سجلها في كتابه “المقدمة” بأن سكانها تفوقت عليهم المرح والخفة والتجاهل للعواقب!
ومن الواقع أن هذه الوصفات والاستنتاجات لم تكن مجرد نتاج لانطباعاته الشخصية بعد وصوله لمصر، بل كان قد سمعها من معلميه الذين كان يستمع إليهم وهو شاب في بلاد المغرب، حيث كانوا يحكون له قصصاً عن مصر وغرائب مجتمعها؛ كما أشار إليه في كتاب “الرحلة”.
تقلبات في المسار الوظيفي
عندما استقر في “بستان العلم”، دعته الظروف لتولي منصب قاضي قضاة المذهب المالكي بعد عزل السلطان برقوق للقاضي جمال الدين ابن خير الأنصاري الإسكندري، مما أثار غيرة القضاة المحليين على هذا القاضي الجديد الطموح الراغب في المناصب والرواتب!
وعلى الرغم من توليه الولاية القضائية؛ لم يعكس حياة ابن خلدون في مصر وتحدياته هناك كما صوَّرته علاقته بالقضاء؛ إذ كشفت تجربته داخل أروقة دور العدالة عن فساد وتحيز ملاحظ في أوساط “مكاتب الشهود” والموثقين، الذين كانوا يقدمون خدمات مساندة للقضاة والطالبين مقابل أجر، تشابه ما يحدث اليوم في مكاتب التوثيق القانونية.
وعلى الرغم من الفساد المتفشي؛ أظهر ابن خلدون صرامته عندما عاد لتولي منصب القضاء للمرة الثانية، وعمل على كشف الفساد ومحاربته، وهو ما أكده المقريزي الذي شهد على تصرفاته الحكيمة والعادلة.
بعد عام واحد فقط من توليه؛ أزعج خصومه السلطان الذي عزله وبقي بعيدًا عن المناصب القضائية لأربع عشرة سنة، قبل أن يعود ليتسلم المنصب مرات عدة خلال فترة وجيزة، وتوفي وهو يشغل المنصب.
صراع حاد
ويعكس ذلك التذبذب المستمر في الموقف القضائي اشتداد النزاع بينه وبين زملائه من قضاة المالكية بمصر، وخاصة الجمالين: جمال الدين الأقفهسي (ت 823هـ/1420م) وجمال الدين البساطي (ت 828هـ/1425م) وبشكل خاص الأخير منهما، ثم خصامه مع مواليهم من أصحاب النفوذ في أروقة السلطة المملوكية.
ذكر تلميذه الإمام ابن حجر -في كتابه ‘رفع الإصر عن قضاة مصر‘- أن خصومه ومنافسيه انتقدوا قدرته على القضاء، وافتَرَوا عليه أنسبة كثيرة “واتهموه بأمور كثيرة أغلبها لا حقيقة له، وواجه اهانات لا تُحتَمَل”، بحيث لاحظوا عدم اتباعه لزي القضاة الرسمي في مصر، حيث “لم يغير زيه المغربي ولم يرتدي زي قضاة هذه البلاد، وأحب التمرد في كل شيء”!! بالإضافة إلى إنكارهم لحبه للجلوس في الحدائق وأنه “استمتع بالإقامة على البحر (= النيل) وتكرار استماعه للمطربات”، وازدهروا في اتهامه بالفعل الفاحش والتعريض لأنه عندهم “كان يتهم بأمور قبيحة”؛ حسب ابن حجر.
ومع ذلك، ذكرت ثقاف تلميذه أن من المؤرخين في مصر “لم يُشهر عليه في منصبه سوى الاعتناء”؛ كما ذكره الحافظ ابن حجر. وربما كانت رواية المؤرخ السخاوي (ت 902هـ/1496م) للعديد من تلك التهم -في كتابه ‘الضوء اللامع لأهل القرن التاسع’- غير مفاجئة نظراً لميلاه للانحياز والتجاوز عن العدالة -في العديد من الأحيان- في سيره الذاتية للشخصيات بغض النظر عن مكانتهم، وعلى الرغم من أنه أدلى بمعظم تلك الاتهامات نقلا عن معلمه الحافظ ابن حجر الذي لم يخفي تحفظه على استاذه ابن خلدون على الرغم من تقديره لمعرفته وبراعته.
ومن الصعب قبول هذه الانتقادات بدون قيد وشرط بسبب أنها إما مأخوذة من خصم لابن خلدون مثل القاضي البشبيشي أو أنها تندرج ضمن “التقديرات الشخصية” التي قد تتسم بالاجتهاد واختلاف الآراء، أو أنها تدخل في النطاق اللوني المحفوف بالمجازفة والتعدد الشخصيات، كما ذكر من قبل -في ‘رفع الإصر‘ بنقل عن البشبيشي- أن ابن خلدون “كان يتمتع بالإقامة على البحر، واستمتاعه بالمطربات وتواصله مع الأحداث، وتزوج امرأة لها أخ يُعَرَف بالتخليط (= المجون)، فأصبحت الاساءات تتردد عليه” بسبب هذا السبب!!
ربما كانت الإشارة لابن خلدون بتأثره -في موقفه المتضارب- بالعلاقة المتوترة مع إمام المالكية في تونس محمد بن عرفة الوَرْغَمِّي (ت 803هـ/1400م)، الذي كان أيضا معلما لابن حجر بعد أن تلمذ عنه وحصل على تصاريح علمية عندما زار مصر سنة 792هـ/1390م وهو في طريقه إلى الحج؛ تلك العلاقة التي يتضح عمقها من قول ابن حجر في ‘رفع الإصر‘: “ويقال إن سكان المغرب عندما تعلموا أنه (= ابن خلدون) أصبح قاضيًا [بمصر] لم يرضوا بهذا! وألقوا باللوم على المصريين!! حتى قال بن عرفة حين وصل إلى الحج: كان يتمتعنا بمناصب القضاء كأعلى المناصب، فلما سمعنا أن ابن خلدون أصبح قاضيا عددنا دلك بالعكس من ذلك”!!
ومن الممكن أن تكون انتقادات ابن عرفة للكفاءة العلمية لمنافسه ابن خلدون كانت السبب في توثيق هذا الأخير خبرته القضائية التي اكتسبها في بلاد المغرب قبل وصوله إلى مصر، وتوضيح أدائه لمهامها بالشكل الملائم له؛ فقد صرح -في سفره- بتعلقه بسلطان المغرب البعيد المعاون بالله أبو سالم المَرِيني (ت 762هـ/1361م): “كُنتُ أعمل قاضي المظالم فأوفيت حقها، وقمت بتسديد العديد [من المظالم] بما أرضى الله تعالى”،
ووظيفة “قضاء المظالم” -التي تخلى عنها مؤرخنا سنة 763هـ/1362م وهو عمره ثلاثون عامًا- هي أكبر وأخطر المسؤوليات في النظام القضائي الإسلامي، حيث تعني محاكمة كبار مسؤولي الدولة والعدالة للمتضررين منهم، وبتولي ابن خلدون لمنصبها -في محافظة المالكية وهو شاب لم يتجاوز الثلاثين- كانت أقوى ردة فعل على انتقاد ابن عرفة لكفاءته وأهليته لمنصب القضاء في مصر.
اشتباك سياسي
وبجانب التحديات المتزايدة للمسؤولية القضائية؛ لم تتسع “أهواء الحكم” أيضًا “لـطيبة”في العصور المملوكية (648-922هـ/1250-1517م) في مصر، اختار ابن خلدون الانعزال عن عالم السياسة والتمتّع بالانفراد الاختياري. وفي شهر شوال من عام 791هـ/1389م، أُلهم الأمير المملوكي، الناصري (ت805هـ/1414م)، بإسقاط نظام السلطان برقوق. قاد الناصري انقلابه بعناية بين أتباعه، وكان آخر خطوة “التشريع” لهذا العملية بإصدار فتوى من قضاة المذاهب الأربعة، وتأييدها من قبل الخليفة العباسي وإمارة المماليك الانقلابيين.
على الرغم من أن ابن خلدون كان حينذاك -كما ذكر في رحلته- ليس قاضيًا بين قضاة مذهبه الفقهي بل كان مكرّسًا للتدريس، إلا أنه -ربما بسبب مكانته العلمية والسياسية- أُحضِر لتوقيع فتوى الانقلاب. وقد تضمّنت دعوته لإقالة برقوق بسبب ممارسته الظلم واستغلال الأموال والقتل، وتورّطه مع الكفار في محاربة المسلمين، كما جاء في ملخص الفتوى التي أشرف عليها المؤرخ ابن شاهين الملطي (ت920هـ/1514م) في كتابه “نيل الأمل في ذيل الدول”.
تمكن الانقلاب -الذي سُمّيه ابن خلدون “فتنة الناصري”- من إسقاط برقوق وتنصيب المنصور حاجي ابن السلطان الأشرف شعبان (ت815هـ/1412م)، ولكن بعد حوالي ثمانية أشهر تمكّن برقوق -بشكل مفاجئ- من كسر هذا الانقلاب واستعادة السلطة في عام 792هـ/1390م.
في هذا الوقت، قدّم ابن خلدون اعتذارًا لبرقوق بأسلوب شعري، اعترف خلاله بالأخطاء التي ارتكبها وأكد ولائه له. زعم انه تم استغلاله وتهديده بالقوة لتوقيعه على فتوى الانقلاب، وناشد ألا يحُرِم من صنائع السلطان لأنه “جار” و”غريب”، وفقًا لكلماته في قصيدته.
برقوق قبل اعتذار ابن خلدون وعفا عنه وأبقاه مكانه في التدريس بفضل الأمير الجوباني (ت793هـ/1391م)، الذي كان حاضرًا وداعمًا له، حتى أصبح لديه تأثيرًا كبيرًا لدى السلطان.
وبالرغم من تبرير ابن خلدون لدعمه لهذا الانقلاب في رحلته، وبناءً على رؤيته لنظام الحكم في المماليك، يبقى أنه لم ينظر بشكل صحيح إلى توازن القوى داخل السلطة، مما أدى إلى مشاركته في انقلاب فاشل. تنبأ ابن خلدون بدقة بطموح العثمانيين للاستيلاء على مصر، وذلك بناءً على تاريخه ورؤيته لمسارات الأمم.
وعلى الرغم من أن تأملاته وتحليلاته السياسية قد أوقعته في خطأ بدعمه للانقلاب، إلا أن ابن خلدون أعاد تقييم وجهات نظره ورأى أنه سقط في الفخ، ولأنه كان تحت تهديد السلاح، فقد قرر أن يعتذر بصدق:
“الفتوى ظَلومٌ ** لا يُرَجَّــــى دفــــاعُه بالحِـــيـلة
وحِلمٌ بـــطيءٌ “، أو كما قال هو في قصيدته الاعتذارية.
إذا كان حس ابن خلدون ورؤيته السياسية لم تمكناه من فهم توازن القوى في السلطة، فإنه انخرط في دعم انقلاب فاشل. ورغم تنبؤاته الدقيقة، إلا أنه لم تؤد تلك التوقعات إلى النتائج المرجوة.تحققت السيطرة بالفعل واستمرّت – فتبادل بين الحكم الفعلي والحكم الظاهر – لخمسة قرون!!
وكان هذا التنبؤ المتبصر بمستقبل منطقة قلب الإسلام في تلك الحقبة المضطربة؛ لا يضاهى إلا برصد – وهو في مصر – لطلائع النهضة الأوروبية الصاعدة آنذاك في إمارات الشمال الإيطالي، وتعبيره عن تألقها ببلاغة وبراعة لا يخفي صاحبه وعيه بقصور المسلمين هناك والاستفادة منه قبل فوات الأوان.
قال ولي الدين في ‘المقدمة’: “لقد وصلت إلينا -خلال هذه الفترة- أن تلك العلوم الفلسفية في بلاد الفرنجة – من أرض رومة (= روما/إيطاليا) وسواحل البحر الأبيض المتوسط (= للبحر المتوسط)- انبعثت في الأسواق، وأن أساليب تعليمها هناك متنوعة، ومراكزها الجامعية متوفرة وطلابها متنوعون؛ والله أعلم بما هناك”!!
وبالتحليل للاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي الذي كانت تنعم به مصر في أواخر القرن الثامن الهجري/الـ14م، بخلاف ما كان سائدًا حينها في الغرب الإسلامي من انحدار حضاري وصفه باستفاضة في ‘المقدمة’؛ يمكن القول بأن ابن خلدون رصد بكلماته المبكرة هذا النهوض الأوروبي وهو يعيش في مصر بالتزامن مع العلاقات التجارية الواسعة بينها وبين دويلات إيطاليا (جنوة والبندقية وفلورنسا) التي فتحت الفرصة أمام أعداد كبيرة من التجار الإيطاليين للإقامة في مصر والتواصل مع نخبتها ومنهم ابن خلدون، ما جعل توقعاته بخصوص النهوض الحضاري الأوروبي من أكثر ما يُصف به إلى أنه أضافه إلى كتابه ‘المقدمة’ وهو في أرض الكنعان.
تأثير معرفي
لم تكن مواقف ابن خلدون في القضاء والسياسة الوحيدة التي تبدلت فيها اتجاهات وآراء المصريين في مؤرخنا، بل أُضيفت إليها أبعاده المعرفية ومكانته العلمية؛ على سبيل المثال، كان تقييم درر تاج أعماله العلمية ‘المقدمة’ مصدر خلاف واسع بين كبار تلامذته المصريين.
فتلميذه المُخلص، المؤرخ المشهور في مصر تقي الدين المقريزي (ت 845هـ/1441م) كان – وفق ما جاء في خطابه صديقه ابن حجر في ‘رفع الإصر عن قضاة مصر’ – مُعجب بابن خلدون ومتأثر بكتاباته ومعجب بأقواله، اعتبر أن “مقدمته لا تُضاهى، إنها جزء من العلوم والمعارف، وفيها بريق العقول الصحيحة، توقف عند جوهر الأمور، تفسر حقيقة الأحداث والأخبار، وتعبّر عن حالة الوجود، وتنبؤ عن أصل كل شيء، بأسلوب أجمل من الدر النديم، وأبهج من الماء النقي الذي تمر به الرياح”!!
وإذا تجاوزنا الخلافات القضائية لابن خلدون و”مؤامراته” وتنبؤاته السياسية في مصر؛ سنجد أن أكبر إنجازاته العلمية فيها كان في تخريجه لنخبة من أبرز المؤرخين، مما أسهم في تبلور مدرسة تاريخية مصرية بارزة تتميز بطابعها التفصيلي والتحليلي وبجيل نوابغها الذي استمر – بعد ابن خلدون – لأكثر من 150 سنة!!
وقد تجسد فرعهما الكبيران مراجع كل من المقريزي وابن حجر العسقلاني، ومن بعدهما تلامذتهما بالاستفادة المباشرة أو التأثير المنهجي: ابن تُغْري بردي والسخاوي وجلال الدين السيوطي (ت 911هـ/1505م) ثم أتباعهم ابن إياس الحنفي (ت 930هـ/1524م).
ويقول ابن حجر عن تلميذته لصاحب ‘المقدمة’: “التقيت به مرارًا، واستفدت من الفوائد والكنوز العلمية الخاصة به خاصة في مجال التاريخ، وكان… [له] معرفة جيدة بالأمور وخاصة تلك المتعلقة بالدولة”؛ كما جاء في كتابه ‘المجمع المؤسس للمعجم المفهرس’. وقد أطلق عليه عبارة “شيخنا” كما قال على سبيل المثال في ‘الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة’: “شيخنا القاضي ولي الدين ابن خلدون”؛ بينما قارن بينه وبين خصمه ابن عرفة في التلمذة لهما، قائلاً في كتابه ‘تبصير المنتبِه بتحرير المشتبِه’: “وقد درَّسني وحفظني” (= الإمام محمد بن إبراهيم الآبُلي المتوفى 757هـ/1356م)” مساهمة فلسفية
تبدو وجودَ الإسهام الفلسفي الخلدوني واضحة في الآثار العلمية المتبقية لهؤلاء العلماء، ليس فقط في انغماسهم في ميادين الكتابة التاريخية اختصاصا وتناولا؛ بل في نمط تأليفهم والهيكل المنهجي في المقاربة والعرض؛ لقد كان نزعهم إلى وضع كُتب المقدمات المنهجية للموسوعات العلمية العظيمة -التي شهدتها مصر في تلك الأيام في مجموعة من الحقول العلمية- ليكون اقتداء صريح بـ«مقدمة» شيخهم الفلسفية لتاريخه العظيم «العبر وديوان المبتدأ والخبر».
ومن الأمثلة على ذلك تخصيصُ شهاب الدين أحمد بن علي القَلْقَشَنْدي (ت 821هـ/1418م) -وهو أيضاً من تلامذة ابن خلدون بمصر- جزءًا فلسفيًا كاملا جعله “مدخل” لكتابه الأدبي الإداري الضخم «صبح الأعشى في صناعة الإنشاء»؛ ونقل فيه عددا من آراء وقصص شيخه ابن خلدون.
وأيضاً وضع تلميذه ابن حجر كتابه «هدي الساري» ليكون “مقدمة” فلسفية لموسوعته الحديثية والفقهية «فتح الباري بتفصيل صحيح البخاري»، واللافت أن ابن حجر نفسه كثيرًا ما أشار -في كتبه- إلى «هدي الساري» بأسماء مثل: “المدخل” أو “مدخل شرح البخاري”!!
ولا شك أن شرحه لصحيح البخاري (فتح الباري) انطلق من فكرة تأليفه من عبارة شيخه ابن خلدون الذي أوردها في «المقدمة» ضمن حديثه عن تاريخ علوم الحديث النبوي، وقال فيها: “وقد سمعتُ كثيرا من شيوخنا رحمهم الله يقولون: «شَرْحُ كتاب البخاري دَينٌ على الأمّة»، يعني أن أحدًا من علماء الأمة لم تُعط له حق ما ينبغي من الشرح”.
وهكذا أراد الحافظ ابن حجر –وقد نعى الله عليه بالإمامة في علوم الحديث وغيرها- أن يوفي بدين الأمة للإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256هـ/870م)، معتمدًا على الخطوط العريضة التي تحدث عنها شيخه ابن خلدون في المنهجية النموذجية المرغوبة اتباعها في مثل هذا الشرح، وأنفق فيها وفصّل لسنوات تقريبًا أربعين سنة قضاها في هذا العمل العظيم.
ولعل هذا الهمز الخلدوني للإمام ابن حجر هو ما قصده تلميذه السخاوي حين قال -في كتابه ‘الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر’- مُتكلما عن مكانة «فتح الباري»: “وأكد كثيرون من العلماء أنه لم تُشرح «البخاري» بمثلها (= فتح الباري)، ولو تأخر ابن خلدون -حتى رأى إنه أو بعضه- لفرح [به]، حيث يقوله…: «شرح البخاري دين على هذه الأمة»”!!
جدل دائم
عندما نتجاوز قرون الكساد الثقافي -التي امتدت عادة إلى فترة الدولة العثمانية في تاريخ مصر، إلى عصرنا الحالي محددين مكانة ابن خلدون في الذاكرة الثقافية المصرية؛ فإننا سوف نرى أن الانقسام القديم بشأنه يشمل -بكل جوانب تقييمه الوظيفية والسياسية والعلمية- إلى الأجيال الحديثة من النخبة الثقافية المصرية، وأن الإحتفاء به -في مصر الحديثة سواء تحت النظام الملكي أو الجمهوري- كان أيضاً رسمياً وشعبياً، وإن تضمن قسمه الرسمي بعض التحفظ أحيانًا.
قبل قرن من الزمان وتحديدا في سنة 1335هـ/1917م؛ ناقش رائد المصريين المعاصرين في الاهتمام بابن خلدون (كشخص ونص) طه حسين (ت 1393هـ/1973م) رسالته لنيل درجة الدكتوراه في جامعة السوربون الفرنسية بعنوان: «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية: تحليل ونقد».
وبغض النظر عن الخلاف حول مضمون هذه الرسالة ونتائجها؛ فقد كانت أول كتاب يؤلفه كاتب عربي -حتى لو لم يكن باللغة العربية- ليدرس فيه بأسلوب حديث «المقدمة» الخلدونية، تلك المقدمة التي وصفها المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي (Arnold Toynbee المتوفى 1395هـ/1975م) بقوله -في كتابه ‘دراسة في التاريخ’- أنها “أعظم كتاب من نوعه ألَّفه عقل إنساني في أي زمان ومكان”؛ حسبما نقله عنه الدكتور عبد الرحمن بدوي (ت 1423هـ/2002م) في نهاية مقدمة كتابه ‘مؤلفات ابن خلدون’.
كما أن هذه «المقدمة» هي التي جعلت المستشرق برنارد لويس (ت 1439هـ/2018م) يصف -في كتابه ‘العرب في التاريخ’- ابنَ خلدون بأنه “أعظمقامة التاريخ (= التاريخيين)، ويُمكن القول إنه أبرز فلاسفة التأريخ في العصور الوسطى”!!
وعندما ظهرت هذه الحدث العلمي كما كشف عن أهمية علامة المؤرخين ولي الدين ابن خَلدون الحضرمي في تاريخ المسلمين، أسبقته في الاحتفاء الأكاديمي مصر بتقديم أول مظاهر التقدير لهذا العالم المرموق والمؤرخ العظيم الذي غابت عنه أمته لفترة طويلة؛ رغم ذلك، نجد صانع هذا الحدث طه حسين ينتقد ابن خلدون -في رسالته- بالكثير من العيوب والنقائص، وينكر عليه “العبقرية” التي وردت في «المقدمة»، ويصفه بأنه “قبل كل شيء سياسي ذو حكمة وبراعة”؛ وعلى الرغم من ذلك فإنه يعترف بأنه “من يديه ينبع جل الفضل في جعل الآداب العربية تتميز باعتبارها الأولى في إطار «الفلسفة الاجتماعية» بنهج علمي”!!
وهذه بالفعل تقدير قيم وصادق من طه لكتاب «المقدمة»، وقامت المؤرخين الأوروبيون من الغرب والشرق بتثبيت ذلك كما ذكرنا سابقاً في شهادة توينبي، وكما نجدها في شهادة الاستشراقي الروسي إغناطيوس كراتشكوفسكي (ت 1371هـ/1951م) الذي يقول -في كتابه ‘تاريخ الأدب الجغرافي العربي‘- إن “«مقدمة» كتابه في التاريخ تهدف لوضع جديد للعلم في تاريخ الإنسانية، وتلخص لنا معارف العصور السابقة في جميع المجالات؛ وتعطي فكرة واضحة عن التقدم الذي أحرزه العلم في العالم الإسلامي في بداية القرن الخامس عشر (الميلادي/التاسع الهجري)، بتوجيه من أحد بارز علماء الإسلام، فضلاً على أن ابن خلدون ليس إلا مزيج مثير للاهتمام من حضارة تلك الفترة”.
ويصف الاستشراق كراتشكوفسكي مكانة «المقدمة» في التراث الإسلامي قائلاً إن فصولها “تمثل في مجملها إرثاً فريداً، لا فقط عن عصره وإنما عن الأدب العربي بشكل عام”!!
ثم تبع ذلك جيل من المفكرين الذين استمروا في تكريم ابن خلدون وأدينوا أسلوبه البلاغي -الذي أشكل به مقدمته- بالتعقيد والركاكة، واتهموه بسرقة أفكار الآخرين وتجميعها في العديد من الفصول كأنها من نتاج أفكاره!! ومن بين أبرز من وجهوا هذه الاتهامات الدكتور علي سامي النَّشّار (ت 1400هـ/1980م) في مقدمة تحقيقه لكتاب «بدائع السلك في طبائع الملك» للقاضي المالكي شمس الدين ابن الأزرق الغِرْناطي (ت 896هـ/1491م).
أما الأستاذ في تاريخ الإسلام الدكتور محمود إسماعيل فاتهمه -في دراسته المثيرة: «نهاية أسطورة: نظريات ابن خلدون مقتبسة من رسائل إخوان الصفا»- بالاستيلاء على أفكار جماعة “إخوان الصفاء” الفلسفية الذي يُعتقد أنها نشأت في العراق في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، حيث عاد الذكر لبعض رموزها إلى الأديب أبي حيان التوحيدي (ت بعد 400هـ/1010م) الذي وصفها -في كتابه ‘الإمتاع والمؤانسة‘- بأنها “تجمع علمي لمختلف الفروع والتخصصات”.
ومع ذلك، هُوجِم إسماعيل نفسه من قبل آخرين بـ”السرقة” لفكرة هذا الاتهام من سابقيه الذين أشاروا إلى العلاقة بين منهج ابن خلدون ومنهج “إخوان الصفاء” وعدد من الفلاسفة المسلمين، والذين وقبلوه في ذكر تلك العلاقة، منهم الاستشراقي الروسي كراتشكوفسكي الذي اعتبر -في كتابه المذكور أعلاه- أن “ابن خلدون في دساتيره لا يتمتع بالأصالة، إذ إنه أحيانًا يتبع الأسلوب اليوناني بلغة عربية، وأحيانًا آخرى يتبع تصنيف «إخوان الصفاء»”؛ كما وُجِه هذا الاتهام أيضًا للمؤرخ التونسي محمد الطالبي (ت 1438هـ/2017م) الذي أورد ذلك في كتاباته منذ بداية سبعينيات القرن العشرين.
تكريم متنوع
وبالرغم من هذا التيار المعارض؛ إلا أن مصر استضاف ضيفها الخَلْدوني -في قبره بـ”مقبرة الصوفية”- بتقدير آخر وهو تيار معاصر آخر أعجب بتراثه حد التصوف في بعض الأحيان، فأشاد وأظهر تقديره له ولمكانته بين علماء الإبداع الإنساني.
وكان من بين أبرز المبادرين بهذا الاتجاه المؤرخ محمد عبد الله عنان؛ أولًا بترجمته لرسالة طه حسين عن ابن خلدون إلى العربية سنة 1343هـ/1925م، ثم بكتابته كتابه: «ابن خلدون: حياته وتراثه الفكري» سنة 1351هـ/1933م احتفالًا بالمئوية السادسة لميلاد ابن خلدون.
وتبعه في هذا المسار عدد كبير من الدراسين؛ وكان من بينهم الدكتور عبد الرحمن بدوي كما أظهرنا في كتابه المذكور من قبل، والدكتور عبد الواحد وافي (ت 1412هـ/1991م) في كتابه «عبقريات ابن خلدون»، ومؤلفات أخرى له تناولت نظريات ابن خلدون وريادته العالمية في تأسيس علم الاجتماع، بالإضافة إلى تحقيقه الممتاز لكتاب «المقدمة».
وفي الوقت الحاضر، كثُر الاهتمام الرسمي المصري بابن خلدون؛ حيث بدأت أبرز مظاهره
وبغض النظر عن الانقسامات التاريخية بين المصريين بخصوص ابن خلدون ومكانته العلمية، فإن قيمة الدروس التي استضافتها القاهرة لهذا العالم الكبير، سواء من حيث الفكر أو الإرث، لا تقل أهمية. وقال المستشرق كراتشكوفسكي: “من خلال حياة ابن خلدون، نفهم كيف بقيت الروابط الثقافية بين المغرب ومصر قوية في القرن الخامس عشر، رغم التحولات السياسية. كان بإمكان العلماء الانتقال بسهولة بين البلدان والإقامة فيها دون شعور بالتغيير الكبير في البيئة.”
لاحظنا في السنوات الأخيرة استيقاظ الاهتمام بالتنوع الثقافي والفكري في العالم الإسلامي وهو ما يعكس التطور الذي شهده هذا التراث. ولكن تظل الأسئلة حول جنسية ابن خلدون تثير الجدل، حيث تتنازع الدول العربية حول من يمتلك حقوق تراثه وانتمائه. على الرغم من ذلك، يؤمن الجميع بضرورة تفعيل هذا التراث النهضوي وتعزيز رؤيته الحضارية، التي جعلت الدول الأربع شركاء في تشكيلها وتطويرها.
المصدر: الجزيرة