المواد السامة.. القاتل الصامت في سوريا والعراق

By العربية الآن



المواد السامة.. القاتل الصامت في سوريا والعراق

afpppo 1715250268
هناك توازن متقابل بين محطات تكرير النفط والمواد النفطية النافثة وبين زيادة حالات الإصابة بسرطان الدم (في الجزء الإداري)

داخل مدن مُنتشرة بين البادية دير الزور السورية ومدينة البصرة العراقية، شهدنا في أوقات مُختلفة خلال الشهر السابق 5 مراسم تشييع لأشخاص قد تعرّضوا لسرطان الدم “الألوكيميا”، يُقول أفراد عوائلهم إن انتقال المرض لهم يُعزى لمواد سامة تُنتج وتطلق في الجو “مصانع نفط مُحلية” موزّعة شمال شرق سوريا، ومحطات تكرير النفط الحكومية التي تُديرها شركات دولية تعمل في جنوب وشمال العراق.

وارتفعت حالات الإصابة نتيجة لإنتشار المواد الكيميائية، مُشتقات صناعة النفط، في المثلث الذي يفصل بينه شمال شرق سوريا وجنوب العراق وشماله، لتصل إلى أرقام يراها مُلاحظون

تمثل أكبر تهديد يواجه المنطقة.

تربط أبحاث طبية وبيئية حديثة بين تلوث الهواء من قبل هذه الصناعة، والأمراض التنفسية المتفشية مثل الربو، الانسداد الرئوي المزمن، سرطان الرئة، والأمراض القلبية والأوعية الدموية وسرطان الدم.

تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن تأثيرات تلوث الهواء خارج وداخل المنازل ترتبط بحوالي 7 ملايين حالة وفاة مبكرة سنوياً، حيث يمكن أن يسبب تلوث الهواء الخارجي وحده ما يصل إلى 4.2 مليون حالة وفاة مبكرة في جميع أنحاء العالم. وصل عدد وفيات العالم العربي نحو 450 ألف وفاة، مما يعكس زيادة بنسبة 50٪ فوق المعدل العالمي.

المهدد الصامت

في بلدة خراب أبو غالب، التي تقع بالقرب من حقول نفط الرميلان في شمال شرق سوريا؛ يصف السكان الغازات التي تنبعث من صناعة النفط البدائية بأنها المهدد الصامت. تُعتبر هذه البلدة واحدة من العديد من البلدات التي تعاني من تلوث مدمر نتيجة عمليات حرق النفط الخام باستخدام حرقات بدائية الصنع.

شكى أحد سكان البلدة من ظهور تشوهات خلقية بين المواليد الجدد، بالإضافة إلى انتشار الإصابات الصدرية بين معظم السكان، كما أشار إلى أن 4 من سكان الحي أُصيبوا مؤخراً بسرطان البلعوم.

يُعالج 4 أطباء الآلاف من حالات السرطان المنتشرة في المنطقة، وفقًا لدانيش إبراهيم، ثاني طبيب مختص بالأورام يعمل في شمال شرق البلاد. يُؤكد أن هناك علاقة تصاعدية بين مصافي النفط والنفايات النفطية، وزيادة عدد الإصابات بهذا المرض.

يرى الباحث في مجال البيئة والتخطيط العمراني فراس حاج يحيى أن اندلاع المعارك بالقرب من مواقع استخراج الوقود الأحفوري ومصافي النفط قد تسبب في اندلاع حرائق نفطية أطلقت مواد كيميائية ضارة في الهواء مثل ثاني أكسيد الكبريت وأول أكسيد الكربون وثاني أكسيد النتروجين، والهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات.

أضاف أن مركبات الكبريت والنتروجين تتفاعل مع المطر الحمضي الذي يمكن أن يكون له تأثيرات كارثية على النباتات. في حين تستمر الهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات في البيئة لفترات طويلة، وهي مواد مسرطنة وخطيرة للغاية.

مركبات الكبريت والنتروجين تتفاعل مع المطر الحمضي الذي يمكن أن يكون له تأثيرات كارثية على النباتات (شترستوك)

إنتاج الموت بأدوات محلية

تعمل الحراقات البدائية المنتشرة في أرياف مدن دير الزور والحسكة وحلب وإدلب السورية عن طريق وضع النفط الخام في خزان معدني يتسع لـ100000 لتر فوق حفرة يتم إشعال النار فيها باستخدام إطارات سيارات قديمة أو فيول أو خشب، ثم تُخرج بعد غليانها مشتقات تُفصل وتُصنف حسب نوعها.

ظهرت “الحراقات المحلية” بعد خروج المنطقة عن سيطرة النظام الحاكم نتيجة النزاع العسكري الذي شهدته سوريا منذ عام 2012 والتسبب في تدمير عدد من آبار النفط في محافظات دير الزور والحسكة، بجانب خطوط الأنابيب التي تربطها بالمصفاة الحكومية في مدينة حمص وسط البلاد وتوقف إمداداتها.

يُقدر مصدر محلي في قرية “شبيران” في ريف حلب عدد حراقات النفط في المنطقة بنحو 400 حراقة، تقوم كل حرقة بـ10 عمليات تكرير لتلبية احتياجات السوق المحلية شهريًا.

في حين وصل عددها في قرية “ترحين” التابعة لمنطقة الباب في ريف شمال حلب إلى 600 حراقة، يعمل منها حاليًا حوالي 100 حرقة لتأمين احتياجات سكان المنطقة والمناطق المجاورة لها من مادة المازوت المستخدمة للتدفئة وطهي الطعام.

أكد المصدر أن هناك المئات من الحراقات في تل كوسا وتل شعير، وفي ريف إدلب، مثل معرة النعسان ومعرةالظروف، والمناطق المُحيطة بهما. ونادراً ما تكون قرية في تلك المناطق خالية من تواجد حرَّاق أو أكثر.

عمَّال في موقع لمصفاة النفط بريف إدلب (رويترز)

مصدر ثروة وشقاء

لعب النفط دوراً أساسياً في حياة أطراف المعارضة في الشمال السوري، بغض النظر عن تباين انتماءاتهم، وسيطرت الإدارة الكردية على معظم ممتلكاته في محافظتي دير الزور والحسكة. وقد تخلَّت إلى حد ما عن الحرقات البدائية المحلية بعد إنشاء مصفاة نفط متطوّرة في حقول الرميلان، بالتعاون مع شركة أمريكية، تبلغ قدرتها الإنتاجية 3 آلاف برميل يومياً.

وتظهر التقديرات غير الرسمية أن إنتاج حقول النفط التي تديرها يبلغ نحو 80 ألف برميل يومياً، بإيرادات شهرية تقدر بحوالي 150 مليون دولار تقريباً. وتسيطر فصائل معارضة أخرى داخل مناطق سيطرتها على تجارة نفط الشمال ومشتقاته، حيث يتم توزيعها عبر 3 مسارات: جزء يذهب للاستخدام المحلي وجزء يسوق إلى مناطق النظام والمعارضة.

وفي وقت سابق، نشرت صحيفة إندبندنت البريطانية تقريراً يشير إلى أن عدد مواقع مصافي النفط البدائية في الشمال السوري ارتفع إلى حوالي 330 موقعاً بين عامي 2013 و2017، تحتوي على 10 آلاف إلى 15 ألف مصفاة بأحجام مختلفة، حيث لا تزال حوالي 20 مجموعة منها تعمل في شرقي مدينة القامشلي.

ونقل التقرير عن أطباء محليين قولهم إنهم يُسجِّلون حوالي 1500 حالة سرطان جديدة شهرياً في المناطق الواقعة شمال شرق البلاد. وقالت بليندا عبد الرحمن، اختصاصية في علاج الأورام في القامشلي: “أتعامل مع متوسط 5 حالات سرطان جديدة يومياً في عيادتي”.

أطباء سوريون يُشيرون إلى تسجيل حوالي 1500 حالة سرطان جديدة شهرياً في المناطق الواقعة شمال شرق البلاد (الجزيرة)

العراق الثاني عالمياً

تصنّف سوريا والعراق ضمن الدول الـ20 الأكثر تلوثاً في العالم بواسطة الجسيمات الدقيقة المعروفة باسم “بي إم 2.5” (PM2.5) وفقًا لتقرير أعده “آي كيو إير”.

وتجاوزت الدولتان المستوى السنوي المحدد من قبل منظمة الصحة العالمية “5 ميكروغرامات لكل متر مكعب”. واحتل العراق المرتبة الثانية عالميًا بنحو 80.1 ميكروغرام لكل متر مكعب، وهو أزيد بـ16 مرة عن المستوى المسموح به.

وبالرغم من التقدم في تخفيض تلوث الهواء بسبب حرق الغاز عالميًا، وفقًا لاستعراض أجراه البنك الدولي مؤخرًا، حيث انخفض حجم التلوث في عام 2022 بنحو 5 مليارات متر مكعب، ما يمثل نسبة 3% وهو الأدنى منذ عام 2010. إلا أنه أشار في بيان نشر في مارس/آذار 2023 إلى أن “تظل هناك 9 دول مسؤولة عن 3 أرباع كميات الحرق في العالم، من ضمنها العراق”.

ويُعتبر حقل الرميلة الممتد على مساحة 1800 كيلومتر مربع في منطقة البصرة جنوب العراق، والمُستغل من قبل شركة أجنبية، من أسوأ الحقول النفطية من ناحية معدلات الانبعاثات الخطيرة التي تنتج عن غاز الشعلة، الذي يعد المسبب الرئيسي لحوادث الإصابة بسرطان الدم.

وفي محاذاة حقل الرميلة، تقع بلدة صغيرة يُصف سكانها بـ”المقبرة” بسبب ازدياد حالات الوفاة بسبب هذا المرض فيها.

ويُشتكي سكان بلدة نهر عمر، المجاورة لها أيضًا، من انتشار السموم التي تنبعث من ألسنة اللهب التي تتصاعد من أبراجتُشير التقارير إلى زيادة حالات الإصابة بمرض السرطان في البلدة. ويقول رئيس البلدية إن نسبة الاصابة بالمرض زادت بنسبة 50٪ خلال السنوات العشر الأخيرة.

عُشي الشاب علي حسين جلود في منطقة الرميلة، عندما كان يبلغ من العمر 15 عاما، بتشخيص إصابته بسرطان الدم الليمفاوي الحاد. خضع علي لعلاج استمر لمدة سنتين، بما في ذلك دورات مكثفة من العلاج الكيميائي وجراحة زرع نخاع عظمي، بالإضافة إلى علاج الإشعاع. وفي عام 2021، أفاد الأطباء بتحسن حالته وبداية تعافيه.

لكن في أبريل 2023، توفي علي. يُعزى والد الفقيد وفاته إلى تعرضه لانبعاثات الغاز الضارة الناجمة عن مصافي النفط في المنطقة. يقول والد علي: “فقدت ابني البالغ من العمر 21 عامًا، الذي كان يسعى إلى تحقيق العدالة لكل الضحايا الذين تأثروا بحروق الغاز في منطقتنا وحول العالم”.

ويقود الوالد اليوم حملة عبر الإنترنت لضغط شركات تشغل حقول النفط في الرميلة ومناطق أخرى لمعالجة تلك الملوثات قبل انتشارها. يطالب المئات من الأشخاص حول العالم بالانضمام إلى الحملة من أجل وقف حرق الغاز الضار الذي أودى بحياة ابنه.

تسربات النفط والتلوث وانخفاض نوعية الهواء أثر بشكل كبير على البيئة وصحة العديد من العراقيين (غيتي)

عادة ما تكون الحكومة العراقية محجوبة على أعداد الحالات الفعلية للإصابة بسرطان الشعلة نتيجة للاستنشاق، إلا أن وثيقة منسوبة لوزارة الصحة كشفت أن معدل الإصابة بالسرطان يتجاوز العدد الرسمي بثلاث مرات في البصرة، جنوب العراق.

يوجد مركز السرطان بها بحسب تقرير “أوين بينيل”، الذي أجرى تحقيقا بطلب من قناة بي بي سي البريطانية، مع مصابين كانوا يقطنون بالقرب من حقول النفط.

أدت تسربات النفط والتلوث وتدهور جودة الهواء، بحسب “ويم زويغنبرغ” محلل في منظمة السلام الهولندية “بي إيه إكس”، إلى تأثير كبير على البيئة وصحة العديد من العراقيين. ومن المتوقع أن تصبح بعض مناطق العراق غير صالحة للسكن خلال العقود المقبلة، وذلك بسبب حجم احتياطيات النفط في حقل الرميلة، والذي يُعتبر أكبر احتياطي هيدروكربوني في العراق.

رغم التزام الشركات الدولية التي تشغل هذه الحقول بتقديم تعهدات لتقليل حرق الغاز، إلا أن حجم الانبعاثات لا يزال مرتفعا.

زيادة عدد منشآت حرق الغاز في العراق رفع نسبة حجم تلوث الهواء بشكل كبير (غيتي)

إرتفاع نسبة الإصابات

تضم مجمع الرميلة أربع محطات لإنتاج الغاز ومحطة لتسييل الغاز الطبيعي، وتتواجد جميعها في مكان قريب من بعضها البعض. تنتشر انبعاثات ثاني أكسيد النيتروجين في الهواء، مما يفسر وجود أعمدة من هذا المركب الكيميائي تتجه نحو مدينة البصرة.

لقدّرت

توصلت تحليل حديث، إلى أن معدلات الإصابة بورم خبيث في مدينة البصرة، شهدت زيادة بنسبة 30% من سنة 2005. في الوقت نفسه، كشفت دراسة أخرى، أن النساء المقيمات بالقرب من أفران الغاز معرضات بنسبة 50% لاحتمالية الولادة المبكرة.

في ظل معاناة ساكنة جنوب العراق، يجد سكان الكثير من المناطق في محافظة نينوى شمال البلاد، نفسهم يواجهون نفس المشكلة. ويقول شاهد عيان من سكان هذه المنطقة: إن الغبار الأسود المشحون بالغازات الضارة، الذي ينبعث من مصفاة “القيارة” على ضفاف نهر دجلة، يختنق سماء المنطقة لفترات طويلة.

على بعد نحو 50 كيلومترا جنوباً من مدينة الموصل، المركز الإداري لمحافظة نينوى، يمتد حي القيارة، حيث يوجد مصفاة نفطية قديمة تأسست في خمسينيات القرن العشرين، إلى جانب حقلي نفط “القيارة” و”النجمة”.

تشير تقارير بيئية إلى زيادة كبيرة في عدد منشآت إحراق الغاز في شمال العراق، مما أدى إلى ارتفاع ملحوظ في مستوى تلوث الهواء في هذه المناطق.

وعزمت الحكومة العراقية على تخفيض انبعاثات غاز الميثان بنسبة 30% بحلول عام 2030، كما تعهدت بإيقاف جميع عمليات احتراق الغاز بحلول عام 2022، وتوجيه الاستثمار نحو تشغيل محطات توليد الطاقة الكهربائية، لكن وزارة البيئة أفادت بتأجيل الموعد إلى عام 2025.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية



أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Exit mobile version