امنحوا الحرب فرصة في السودان
ليست هذه هي المرة الأولى التي تصف فيها أجهزة المخابرات الأميركية الحرب في السودان بهذا الوصف، ففي مايو/أيار الماضي وبعد أقلّ من شهر من اندلاع الحرب، قالت مديرة المخابرات الوطنية الأميركية أفريل هاينز في إفادتها أمام لجنة الأمن في مجلس الشيوخ: إنّ الحرب في السودان (ستكون طويلة وممتدة protracted)، والتساؤل المهم هنا هو: هل ما توصلت إليه أجهزة المخابرات الأميركية هو تحليل للموقف بعد اندلاع الحرب، أم هو المخطط الذي يراد للسودان أن يكون فيه؟
استنزاف الموارد
لا يمكن فهم تقييمات الموقف الأميركي للحرب في السودان بمعزل عن البحث في بعض محدّدات السياسة الخارجية تجاه النزاعات التي تنشأ في بعض البلدان، وخاصة في أفريقيا والعالم العربيّ. في نهاية السبعينيات وفي خضم الحرب الباردة، طوّر منظّرو البنتاغون نظرية التعامل مع ما أسموه الـ ( low intensity conflict)؛ أي النزاعات منخفضة الحدة، والمعرفة بأنها تلك النزاعات التي تنشأ بين دولتين، أو بين مجموعات مختلفة داخل الدولة الواحدة، ويقوم مبدأ التعامل مع تلك النزاعات على تغذية الصراع والتحكم فيه إستراتيجيًا، بحيث يبقى في مرحلة معينة لا تنهي حربًا ولا تنتج سلامًا.
والهدف من ذلك، هو إشغال هذه البلدان بأنفسها واستنزاف مواردها.. على أن أبرز تمظهرات هذا المفهوم تتجلى في نظرية (امنحوا الحرب فرصة) والتي صاغها المفكر الصهيوني الأميركي إدوارد لوتواك في العام 1999، حيث دعا الكاتبُ الولايات المتحدة الأميركية إلى التوقف عن التدخل لحلّ النزاعات حول العالم، معللًا ذلك بأن الحرب إذا طالت يمكن أن تقود إلى السلام، حين يُنهَك جميع الأطراف، أو حين ينتصر أحدهما نصرًا ساحقًا، وتساءل معاتبًا: لماذا تتدخل الولايات المتحدة الأميركية لحل نزاع قد لا يكون أيٌّ من الطرفين مفيدًا لها في سياستها الخارجية؟
تبدو هذه الرؤية موغلة في الوحشية، ولكنها تعبّر عن الواقع بصورة واضحة لا لبس فيها، وتخلع كل العبارات الدبلوماسية ناعمة المظهر وخشنة الجوهر.. وهو المعنى نفسه الذي تؤكده الدكتورة مونيكا تافت أستاذة السياسة العامة في كلية جون كينيدي بجامعة هارفارد إذ تقول: (من الأفضل ترك الحروب تنهي نفسها بانتصار فريق على آخر بدلًا من العمل على التوصل إلى اتفاقات بعد مفاوضات كتلك التي راجت في التسعينيات بعد انتهاء الحرب الباردة).
السودان ساحة لتطبيق النظريات
إن النظرة الفاحصة لتعامل الولايات المتحدة الأميركية مع الحرب في السودان، منذ اندلاعها ستقودنا إلى نتيجة مؤكدة، وهي أن هذه الحرب تدار لتكون حربًا طويلة الأمد، فبجانب تلك التصريحات المباشرة، تسارع الولايات المتحدة الأميركية إلى إنشاء منابر؛ لضمان السيطرة على أي وساطة لاحقة، وضمان توجيه بوصلة المفاوضات (التي يجب ألا تكون جادة لإنهاء الحرب)، واتّضح جليًا من خلال سلوكها، أنَّها ليست جادة في حمل الطرفين على توقيع اتفاق سلام سريع ينهي الحرب، ويؤسّس للسلام.
إذ إنها لم تبذل أيّ مجهود لحمل قوات الدعم السريع على تنفيذ تعهداتها بإخلاء الأعيان المدنية من المستشفيات والمؤسسات العامة، ومنازل المواطنين، والتي تم التوقيع عليها في مايو/أيار الماضي، ثم إنها لم تشرع في خطوة واحدة لإنشاء آلية مراقبة وقف إطلاق النار، والتي كان واضحًا أنها هلامية وغير واقعية في متن أي إعلان كانت مشاركة فيه.. على أنَّ هناك مؤشرات أقوى ستثبت أن الولايات المتحدة الأميركية ليست راغبة في إنهاء هذه الحرب، وليست مهتمة باستقرار السودان، وهذه بعض الشواهد على ذلك:
- نشطت الولايات المتحدة الأميركية في إسقاط النظام السابق، وقادت التنسيق بين الدول الغربية وإسرائيل لإنجاز تلك المهمة تحت دعاوى نشر الديمقراطية، ولكن بعد سقوط النظام السابق اتّضح أن الولايات المتحدة الأميركية غير جادة في ذلك، حتى إن مجلة فورين بوليسي نشرت مقالًا لمراسلها روبي غريمر تحت عنوان: (كيف أحبطت الولايات المتحدة الأميركية آمال الديمقراطية في السودان)، وجاء في ذلك المقال: (ربما كنا قادرين على منع النزاع، ولكن يبدو أننا لم نحاول).
- بعد اندلاع الحرب سارعت الولايات المتحدة الأميركية بإجلاء بعثتها الدبلوماسية من السودان، وهُرعت إلى تأسيس منبر للمفاوضات، الذي ظلت دورات التفاوض فيه تنعقد وتنفض لمدة عام كامل الآن بما يشبه المزاجية، وفي كل مرة لا يخرج منها أي موقف جديد، بل سمحت الولايات المتحدة لتوالد المبادرات وتعدد المنابر من الإيغاد إلى الاتحاد الأفريقي، بما يشبه الملهاة، في ظل تصاعد أعداد القتلى، وازدياد معاناة المواطنين السودانيين.
- وفي سلوك يشبه تعامل الولايات المتحدة مع السودان لعقود، ويؤكد الزعم بنيتها إطالة أمد النزاع وإنهاك الطرفين، قامت بفرض عقوبات منسقة مع حلفائها على القوات المسلحة والمليشيا، وكأنها ترى أن الجيش النظامي الذي يقاتل من أجل السيادة وكرامة المواطنين يتساوى مع مَن تمرّد عليه، وأذاق السودانيين الويل والثبور.
تكبيل الجيش
وللتضييق على الجيش نسقت الولايات المتحدة عقوباتها تلك مع كل من المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا، الأمر الذي يؤكد النية المبيتة لتكبيل الجيش عن القيام بمهامه الدستورية التي تجيزها القوانين الدولية، والأنكى من ذلك أن أميركا لم تكتفِ بفرض العقوبات، ولكن وجدت أسلحتها طريقًا لمليشيا الدعم السريع التي تتهمها بارتكاب الإبادة الجماعية في دارفور.. وفي الوقت الذي تفرض تلك العقوبات، تدير ظهرها عن الخرق البيّن للقرار الأممي 1591 للعام 2005، الذي يفرض حظر الأسلحة في دارفور، بينما يقوم حلفاؤها الإقليميون بإغراق السودان بالأسلحة المميتة المقدمة للمليشيا، في ظل تقارير دولية موثقة ومعلومات مؤكدة، ولكن ولأن ذلك يخدم إستراتيجيتها القائمة على إطالة أمد النزاع، فإنها لن تقدِم على اتخاذ أي قرار ضد الممولين.
ولا شكّ أن الولايات المتحدة الأميركية تستنسخ تجربتها في سوريا تمامًا في السودان، فعندما تصاعدت الدعوات لتدخل أميركي يطيح بنظام الأسد بعيد استخدامه السلاح الكيماوي، كتب إدوارد لوتواك مقالًا مهمًا في 2013 حذر فيه الولايات المتحدة من التدخل لإنهاء الحرب، موضحًا أن الخيار الراجح لخدمة المصالح الأميركية هو إطالة أمد النزاع، شارحًا فكرته على أن انتصار أي طرف سيضرّ بمصالح أميركا الآنية والمستقبلية، بينما استمرارها سيعني استنزاف أربعة أعداء في الوقت نفسه، وهم: ( سوريا، إيران، حزب الله، والإسلاميون المتطرفون).
في السودان تطبق الولايات المتحدة ذات الخُطة على اختلاف في بعض تفاصيل الفاعلين الرئيسيين في المشهد، فهي ترى أن انتصار الجيش سيكون مدخلًا لعودة الإسلاميين بما يمثله ذلك من تهديد للإستراتيجية الإسرائيلية/ الأميركية الساعية إلى إضعاف الدولة السودانية بحسب آفي ديختر وزير الأمن الإسرائيلي السابق: (سودان ضعيف مجزأ وهشّ خير من سودان قوي وفاعل).. بينما تتخوّف من أن انتصار الدعم السريع قد يسهل لروسيا الوصول إلى المياه الدافئة، وهو ما صرّح به الجنرال لانغلي قائد الأفريكوم في جلسة الكونغرس: (أكبر تحدٍ يواجه الإستراتيجية الأميركية هو محاولة روسيا الوصول للبحر الأحمر، وذلك بالتعاون مع الدعم السريع).
هدف خبيث
إنَّ على قيادة الجيش أن تدرك أن التدخل الأميركي في الأزمة السودانية، إنما يسعى للسيطرة عليها بغرض إدارتها تحت سقف معين ملخصه تحقيق (حالة اللاحرب واللاسلم)، وكذلك تحقيق هدف خبيث، وهو تهجير المواطنين من مناطق معينة، وفي مقدمتها ولاية الجزيرة، بما تمثله من أهمية إستراتيجية في مشروع الأمن الغذائي.
والأمر كذلك، فإنَّ هذه القيادة تقع عليها مسؤوليّة استرداد القرار الوطني، ونقل العملية السياسية بكلياتها للداخل السوداني، بمعنى استنهاض الإرادة الوطنية الصادقة، وتوظيف التعبئة المجتمعيّة الجارفة، نحو تجاوز حالة الانتقال الحالية لإقرار أوضاع دستورية تؤسّس لوضع سياسي مستدام يتعامل مع التعقيدات السياسية والعسكرية في الداخل والخارج بكامل التفويض، ما يمكّن من محاصرة المخططات الرامية لإبقاء البلاد، رهينةً للحرب، وينقذها من شبح التفكك والانقسام، وقبل ذلك الإسراع بإنهاء معاناة ملايين المواطنين من اللاجئين والنازحين الذين فقدوا كل ما ادَّخروه في الماضي، ويسارعون الآن من أجل ألا يفقدوا المستقبل.
رابط المصدر