### بداية السيمفونية الحضرية
تبدأ سيمفونية الفيلم في لحظاته الأولى بمياه جارية وأسيجة شائكة، مع شروق شمس يوم جديد. تصل القطار، الذي يتوق للوصول لمكانه، ليعيد لك أفكارًا متسارعة كأنك جزء من تلك السيمفونية الحياتية. إن دخولك إلى هذا العالم السينمائي يختلف عن مراقبته من الخارج، حيث يمتزج الجمال الفني مع ديناميكية الحياة الحضرية المتدفقة، حتى تصل إلى المحطة العظيمة وتظهر أمامك كلمة “برلين”.
### روتمان: رائد السينما الوثائقية
فيلم (برلين: سيمفونية المدينة الكبرى) الذي أخرجه والتر روتمان عام 1927 يمثل قمة المجد المعماري والجمالي في السينما الوثائقية. يعتبر روتمان من ألمع الرواد في هذا المجال، حيث أحدث ثورة، وجعل أفلامه تُعتبر من الكلاسيكيات العالمية بفضل أسلوبه الفريد في تصوير الحياة الواقعية.
### حركة المدينة اليومية
مع دخول الفيلم إلى مرحلة عرض الحياة اليومية في برلين، يظهر الهدوء النسبي قبل أن تنتقل الكاميرا إلى الحركات الديناميكية في المدينة. فقد قسم روتمان الفيلم إلى أجزاء تظهر تفاعلات مختلفة، ما يجعل تدفق اللقطات يتنقل بين السكون والحركة، مما يُشعر المتفرج بواقع المدينة.
### تدفق الحياة في برلين
يقدم الفيلم تصويرًا دقيقًا ومتدفقًا لحياة المدينة، حيث تبدأ من نبض الحياة البشرية، إلى حوضي حركة المرور والمصانع. يتناول البداية العملية لسكان المدينة، بدءًا من العمال وسعاة البريد، مُظهرًا النقل الحيوي بين البشر والآلات. كما يسلط الضوء على صراع الطبقات الاجتماعية والنقد الموجه للرأسمالية، حيث يرى بعض النقاد في تواصل مشاهد الحيوانات والعمال نوعًا من الشكوى من استغلال الطبقات الكادحة.
### النقد الاشتراكي
تجعلنا مشاهد الفيلم نربط مع أفكار واقعية أدبية تركز على معاناة الطبقات العاملة، مثل أعمال دوستويفسكي وتولستوي. يظهر روتمان من خلال أسلوبه التصويري الذي يستند إلى الواقعية، مشاعر الطبقات المهمشة.
### السمات الفنية للواقعية
الواقعية في السينما تُقدم رسائل متعددة، وتستخدم كأداة لإظهار جوانب الحياة المختلفة، وتعبِّر عن الفجوة بين الأغنياء والفقراء بأسلوب تقنية السينما الوثائقية. يمكن اعتبار الفيلم إبداعًا فنيًا يتنازل عن التمثيل المحترف ليعكس واقع الحياة كما هو.
### تدفق العلاقات الحيوانية والإنسانية
يمثل الفصل الثاني من الفيلم عرضًا متنوعًا للناس والحيوانات. تظهر لقطات افتتاح النوافذ وذهاب الطلبة والنساء إلى أعمالهم، مع لقطات تعكس الحيوية والازدحام الناتج عن الحياة اليومية. يُمكننا أن نتساءل عن عمق العلاقة بين الإنسان والحيوان، وما إذا كانت هذه العلاقات يمكن أن تعبر عن تفاعل أعمق في التفاعل البشري.
### عرض الطبقات الاجتماعية
تُعتبر النقطة الأكثر تميزًا في فيلم روتمان هي كيفية عرضه للطبقات الاجتماعية المتنوعة، مستخدمًا تقنيات متقدمة لتلك الفترة. يعكس الفيلم عدم المساواة في تلبية الحاجات الأساسية، من مشهد غني يستمتع بوجبة فاخرة إلى مشهد فقير يسعى لتحقيق احتياجاته. تعكس هذه المشاهد التباين في الحياة اليومية، بينما تُعيد للأذهان بعض الرموز الملهمة في السينما الحديثة مثل الفيلم الإسباني “المنصة”.
### صراع الطبقات في الأفلام
على الرغم من أن فيلم “المنصة” هو عمل روائي، إلا أنه يتناول بشكل واضح تجليات الطبقات الاجتماعية وأنظمة الاشتراكية والرأسمالية. من خلال مشهد منصة الغذاء المتناقص عند كل طبقة، يُظهر الفيلم كيف أن عدم المساواة في الوصول إلى الغذاء ناتج عن جشع الطبقات وغياب تفهم القادة لاحتياجات الطبقة العاملة. يدخل الفيلم في صراع بين القيم الإنسانية والغريزية للبقاء، كما تسلط “برلين: سيمفونية المدينة الكبرى” الضوء على عوالم تتداخل فيها الرسائل والرؤى المختلفة.
### تفاوت الحاجات الأساسية بين الطبقات
يركز الفيلم على أن الحاجات الأساسية تختلف بين الطبقات. بينما قد تكون الفعاليات الترفيهية ضرورة للطبقة الغنية، تعتبر الملابس النظيفة حاجة ملحة للطبقات الفقيرة. يعرض الفيلم، بعد تناول الجوانب المرتبطة بالعمل والغذاء، حياة برلين الرياضية والترفيهية. ويشير روتمان إلى أن الأنشطة تزداد باطراد، موضحًا أنه من غير الممكن متابعة الشخصيات بدقة، بل يجب الانتباه لديناميكية المدينة الحديثة.
### الرفاهية في برلين بعد قرن
بعد مرور نحو قرن على إنتاج الفيلم، نلاحظ تحولات واضحة في مفهوم الرفاهية في برلين. يتضمن ذلك المهرجانات والسيرك ورياضة المصارعة والأنشطة الليلية. ويشير روتمان إلى أن المرأة كانت تُستخدم كوسيلة للمتعة والترفيه في المدينة النابضة بالحياة.
### أسلوب الفيلم: تنوع وزوايا الزوايا
ميزة الفيلم تكمن في أسلوب التسلسل الزمني والمكاني، وتنوع زوايا التصوير، حيث يعرض مقاطع بعيدة وقريبة ومتوسطة ليؤسس معايير كلاسيكية للتوثيق. يبدأ الفيلم بمشاهد من المصنع وينتهي بلقطة لأعمدته، مما يخلق سردًا متكاملًا. يسعى روتمان لرسم صورة شاملة لبرلين، تجمع بين العمارة والآلات والناس، مما يجعل التخيل عن المدينة تحديًا.
### الانتقادات السياسية والجدل
أثار الفيلم جدلًا بين النقاد، حيث أشار جون جريرسون، الناقد البريطاني، إلى عدم وضوح الموقف السياسي للفيلم، مُعتبرًا أن روتمان لا يحاول إبراز موقف سياسي بقدر ما يسجل الحياة اليومية في المدينة. كما انتقد البعض الآخر كيف يظهر الفيلم مشهدًا للإنسان والآلة، مُشيرين إلى مخاوف من تجريد البشر لصالح الآلات. ووجد مؤرخون، مثل سيغفريد كراكور، أن الفيلم قد يتضمن عناصر تمهد لمفاهيم الفوقية البشرية.
في المجمل، يقدم فيلم “برلين: سيمفونية المدينة الكبرى” نظرة فريدة على التوازن بين الإنسانية والتكنولوجيا، وسط تساؤلات حول دور الفرد والمجتمع في عالم متغير.
### الذكاء الفلسفي في “برلين: سيمفونية المدينة الكبرى”
يرى الناقد كراكور أن فيلم “برلين: سيمفونية المدينة الكبرى” يُعبر عن رؤية الفيلسوف نيتشه، الذي اعتبر أن الواقع هو جريان مستمر وتدفق لا نهائي. هذا الطابع التدفق يجعل الواقع غير قابل للتحكم، ويستمر في الانزلاق من أي محاولة للسيطرة عليه. ومن اللافت أن أدولف هتلر، الأب الروحي للحزب النازي، تأثر بشدة بأفكار نيتشه، حيث اعتبر نفسه تجسيداً للإنسان المتفوق الذي تحدث عنه نيتشه في كتابه “هكذا تكلم زرادشت”. يُرجع بعض النقاد فكرة أن الفيلم يحمل دلالات نازية إلى مساعدة والتر روتمان للمخرجة ليني ريفنستال في إنتاج الفيلم الدعائي “انتصار الإرادة” عام 1935.
### وجهات نظر مختلفة حول الفيلم
على النقيض، أبدى المؤرخ السينمائي الفرنسي جورج سادول إعجابه بالفيلم، مشيراً إلى ارتباط مخرجه بنظريات الروسي دزيغا فيرتوف في أسلوب “السينما – العين”، والذي كان له تأثير كبير في السينما السوفياتية والسينمات التقدمية العالمية.
### برلين ككيان حي
يتجاوز اهتمام الفيلم بالجوانب الوجودية للإنسان ليشمل كامل مدينة برلين، التي تجسد الحداثة في أوائل القرن العشرين. تؤكد عناصر الفيلم على أن الكائنات الحية والمتدفقة هي جزء من هذه المدينة، دون أن تُجرد الإنسان من هويته، مؤكدًا أن الحياة اليومية قد تكون هي الجانب المحور لهذه الحركة الفلسفية، دون الحاجة إلى تفسيرات أعمق مرتبطة بالاشتراكية القومية.
### أسس التحليل النفسي وعلم السينما
يتفق النقاد على أن فيلم “برلين” يعد من أوائل الأفلام التي تناولت العلاقة بين السينما والتحليل النفسي الجماعي، بالإضافة إلى مفهوم نشأة المدينة الحديثة. يُعتقد أن الواقعية السينمائية تستمد مشروعيتها من كون السينما تمثيلًا حقيقيًا لكافة تجليات الواقع، سواء الاجتماعية أو السياسية أو الأنطولوجية.