بمُناسبة ذكرى مرور 100 عاماً على إلغاء أتاتورك “الخلافة”.. كيف قدّر الإمام الجويني انعدامها ونظر إلى “رئاسة دستورية” وطبقت المماليك مقترحه
<
div class=”wysiwyg wysiwyg–all-content css-1vkfgk0″ aria-live=”polite” aria-atomic=”true”>”وعندما حلّ يوم الخميس، ثاني المحرم [سنة 661هـ/1263م]؛ اجتمع السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس (ت 676هـ/1277م) مع أمرائه ورجال الحل والعقد في الإيوان الكبير بقلعة الجبل، وحضر الخليفة الحاكم بأمر الله (ت 701هـ/1301م) مستقلاً حتى وصل إلى الإيوان، وقد تم تمديد سجادة له بجوار السلطان -وذلك.بعد تحقق من نسبه- يُعلن نسبه بين الناس، ثم يأتي إليه الملك البارز بيبرس ويُبايعه وتُبايعه الناس بعده، وكان ذلك اليوم مشهودا”.
انبهرت العاصمة المصانة بهذا الحدث الذي وصفه لنا -بتلك العبارات- الإمام ابن كثير (ت 774هـ/1372م) في “البداية والنهاية”: بروز جديد لتأسيس الدولة العباسية على يد الملك البارز بيبرس؛ إنه ليس عودة إلى خليفة يصدر أوامر دون قيد أو شرط، بل هو عودة إلى خليفة قُريشي عباسي يصف السلطان التركي المملوكي بـ “السلطان الملك البارز السيد الجليل العالم العادل المجاهد المؤيد ركن الحياة والدين”!
ولكن هذا الشكل الجديد للحُكم أو ما يُمكن تسميته بـ “الخلافة الدستورية” -حيث يصبح الخليفة رمزا يرمز ولا يحكم- كان لهُ قواعد دستورية مُؤسسة، وُضعت في ترتيب ليسهل تأسيس هذا النمط من الحُكم؛ إنها بمثابة ابتكار يُقوم على إبداع سياسي لتغيير الفقه السياسي التقليدي، وتصميم منهج جديد يعتمد على التصوّر السياسي لمواجهة الأزمة التي ستواجهها المجتمع السياسي المسلم، ومن ثم وضع بعض المبادئ العامة للتعامل مع هذه الوضعية الخطيرة المُتوقعة.
هذا النهج الفقهي يُمكن التفكير فيه على أنه جزء من قسم جديد في “السياسة الشرعية”، لا ينصب فقط حول قضايا الحاضر والتحديات الواقعية التي تُعد من مهام المفكرين والنظراء العاملين في “السياسة الشرعية” ودورها التنفيذي؛ بل يتجاوز ذلك محاولا تطوير الفكر السياسي الإسلامي نحو تأسيس نمط جديد فيه وهو “السياسة الشرعية التوقعية”.
هذا العلم يحاول التنبؤ بمستقبلات الحقيقة والتغيرات التي قد تنشأ عنها لاحقا، ويُقدم البدائل والتصورات التي تُلائم الظروف الجديدة، وقد اعتبر الإمام أبو المعالي الجويني (ت 478هـ/1085م) هذا النوع من الاستشراف جزءا أساسيا من مهام التفكير الفقهي التي ينبغي أن تُخصص لها دروس الفقه السياسي، إذا “لا تكتمل المسائل إلا بالتصور قبل الحدوث والاستعداد لها، مع شمول جميع مظاهرها وأجزائها”؛ وفقا لما جاء في كتابه ‘الغياثي‘.
تُؤكد الأحداث التاريخية اللاحقة على عهد الجويني توقُّعاته الفقهية السياسية -التي سنراجعها في هذه الدراسة- بطريقة غريبة؛ فقد انهارت -بعد حوالي قرنين- الخلافة العباسية بالكامل على يد جحافل التتار سنة 656هـ/1258م، وأحيا السلطان المملوكي الظاهر بيبرس هذه الخلافة وفق شروط جديدة اعتمدت عمليا على إحدى البدائل الفقهية السياسية التي طرحها الجويني.
يُقضي هذا البديل بتحويل في المنظور الفقهي للخلافة حتى تتحول إلى شكل المعنى الرمزي الجامع للأمة كرمز للسلطة بعيدة المدى، بينما تظل السُلطة الفعلية في أيدي أشخاص يمتلكون “القوة الصلبة” القادرين على تنفيذ القرار وحماية الوطن، مع الاحتفاظ بإشراف الفقهاء الذين يجب أن يراقبوا السلطة ويتأكدوا من احترامها للشرعية والمشروعية.
هذه المقالة لا تناقش كتاب “الغياثي” حيث تطرق الجويني إلى نظريته حول حالة الفراغ السياسي؛ بل تتحدى لتقديم تحليل اجتماعي تاريخي لدور الكتاب في عمليات الإصلاح السياسي التي جرت في القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، وقراءة سياقية تضع المألوف الفقهي لمؤلفه داخل إطار زمنه وظروفه وليس بدون سياق أو تشتت.
تعرض المقالة أيضا مقارنة بين آراء الجويني ونظريات سياسية معاصرة له مع الإمام أبو الحسن الماوردي (ت 450هـ/1059م)، ثم تُختم بتأثير مساهمة الجويني في العلماء -من السُّنة والشيعة- الذين جاءوا بعده ووضعوا آراء إصلاحية للوضع السياسي في دول عصورهم.
تُظهر الظروف أن الجويني كتب كتاب “الغياثي” حوالي سنة 470 هـ/ 1078 م، خلال فترة شهدت ارتفاع قوة ناشئة مُتمردة وهي دولة السلاجقة، الذين حاولوا -بوجود وزيرهم العظيم نظام الملك (تولّ الوزارة بين 455 و485 هـ/1064 و1092 م)- إنشاء نظام سياسي وقانوني جديد، مختلف بشكل كامل عن الفترة الطويلة والمؤلمة التي سيطرت فيها البويهيين (شيعة زيدية معتزلة على أشد الاحتمالات) على الخلافة العباسية، حيث أصبح الخليفة في حالة سجن لدى سلاطينهم، معتمدًا على إرادتهم وفقدان وجهة نظره وفقدان موقفه.
وقبل أن تتولى البويهيين الذين كانوا في الأصل قادة عسكريين، بدأت الخلافة في التخضُّع لهيمنة العُسكر الترك منذ قتلهم الخليفة المتوكل سنة 247 هـ/861 م، ولكن هذا التخضّعوصلت قمت سلطته منذ بداية القرن الرابع الهجري/القرن العاشر وعلى وجه الخصوص بعد فاة الخليفة ذو السلطة الفعلية في سنة 320هـ/932م، من ذلك الحين أُقرت المبدأ بأن “الخليفة ليس له سلطة”؛ كما يقول المؤرخ ابن الأثير (رحمه الله) في كتابه “الكامل”.
بعد ذلك، بدأت القادة العسكريين يمتلكون الحق لتولية المناصب الحكومية بما في ذلك منصب الخلافة، ووصل الظلم بالمتخلفين عن الخلافة إلى أقصى حدوده خلال عهد البويهيين (من 334 إلى 447هـ/945-958م)؛ حيث تم رمي الخليفة المستكفي (رحمه الله) بالأرض وسحله بعمامته. وقد وصف المؤرخ ابن كثير – في كتاب “البداية والنهاية” – هذا العصر بأنه “ضعيف بشكل كبير لدرجة أن الخليفة لم يبقى له سلطة ولا توجيه ولا حتى وزير”.
بالإضافة إلى ذلك، تم حصار النفوذ الجغرافي لخلافة العباسية في ذلك الزمان بفضل توسّع نفوذ الفاطميين في مصر والشام والحجاز، بالإضافة إلى تقسيم العاصمة بغداد إلى أحياء سنية وشيعية، حيث استنجد أهلها في صراع اجتماعي لا ينتهي، مع انعدام الأمان وانتشار السرقة والنهب على يد عصابات اللصوص والمغاربة.
ومع بداية القرن الخامس الهجري/القرن الحادي عشر، دخلت الدولة الفاطمية مرحلة من الضعف والانقسام، وكذلك تراجعت سلطة الدولة البويهية نتيجة لسلسلة من الحروب العنيفة بين أفراد الحكم. على جبهة الفاطميين، اختفى الخليفة المستكفي بأمر الله في سنة 411هـ/1021م من القاهرة في ظروف غامضة، ولم يُعرف مصيره بعد ذلك. أما في المعسكر البويهي، فقام أحد خدمهم ذوي الضعف بالسلطة بدون أية خبرة أو مؤهلات.
تحت هذه الظروف الصعبة، ظهرت بادرة تغييرية من قبل الخليفة القادر بالله الذي اتخذ مواقف حاسمة: الأولى كانت ذات طابع سياسي يتعلق بالصراع الخارجي مع الفاطميين، حيث أصدر عريضة في سنة 402هـ/1012م تحتوي على شهادات من العلماء تنفي صحة نسب الفاطميين لأنفسهم وإدعاؤهم أنهم آل البيت، وبالتالي ربط ذلك بالبيت الهاشمي لتقريب الفجوة بینهم وبين الخلفاء العباسيين. وقد أمر القادر بأن تُعدّ محضرًا ينفي صحة نسب الفاطميين؛ كما ذكره الإمام الذهبي (رحمه الله)، ووقّع على هذا المحضر كبار الفقهاء والشخصيات البارزة في ذلك العصر، بما في ذلك شخصيات شيعية كالشريف الرضي (رحمه الله).
أما الموقف الثاني، فكان مرتبطًا بالصراع الداخلي مع البويهيين على السلطة والتحكم، فظهر بصيغة “إصلاحية” تهدف إلى تثبيت الاختيارات العقائدية في العقيدة الدينية التي تهيمن على المجتمع الإسلامي، وبالأخص الجناح السني منه الذي يتقسم إلى اثنين كبيرين لا يتوقفان عن الصراع: الأشاعرة والحنابلة (أهل الحديث). وذلك لإيجاد قاعدة عقائدية مشتركة بينهما تسمح بتوحيد صفوفهم خلف خارجية الخلافة لدعمهم ضد البويهيين، ومن الملاحظ أن هذا الاختيار العقائدي جاء بتأكيد إحدى نقاطه على تجريح المعتزلة الذين كانوا الداعمين الروحيين للبويهيين.
شُهِدت هذه الخطوة – التي تمت في سنة 420هـ/1030م كما ورد ذكره في كتاب “المنتظم” لابن الجوزي – بـ”الاعتقاد القادري”، ويرجع الخطيب البغدادي (رحمه الله) – في كتاب “تاريخ بغداد” – هذا الاعتقاد إلى القادر شخصيًا. وفي ظل هذه الظروف، نجح هذا الخيار التوافقي – حتى لو كانت لفترة مؤقتة – في تحقيق هدفه، حيث “أقره عوام أهل السنة” وفقًا لما قاله ابن تيمية (رحمه الله) في كتابه “درء تعارض النقل والعقل”. ولذا تقرر تدريس “الاعتقاد القادري” في مختلف أنحاء الخلافة باعتباره “عقيدة أهل السنة والجماعة.
بعد وفاة القادر بالله في سنة 422هـ/1032م وتولي ابنه القائم بأمر الله (رحمه الله) الذي نشر في عهده الطويل محضر الطعن في نسب الفاطميين وقراءة “الاعتقاد القادري”، اكتملت مراحل المشروع الإصلاحي، ولكن هذه المرة بإطار قانوني سياسي تم تنفيذه بواسطة الفقيه الشافعي الماوردي الذي كان يشغل منصب قاضي القضاة في الدولة.
استمر عهد القائم لمدة 45 سنة بين حكم البويهيين والسلاجقة، وفي نهاية فترة الحكم البويهي.انبعثت نجمة الوزير الطيب والمصلح المشهور أبو القاسم ابن المُسلِمة (ت 450هـ/1059م)، الذي تسلّم رئاسة الوزراء سنة 437هـ/1046م واستعان -في سعيه لتطبيق إصلاحاته السياسية- بالفقيه المعروف الماوردي. كان قد تخلى حينها عن وظيفته كقاضٍ وكرس وقته للكتابة والتأليف، حتى ألَّف مؤلفاته في مجال القانون السياسي، ومن بينها كتاب “الأحكام السلطانية” الذي يروى أنه هبّه لهذا الوزير؛ على غرار ما قام به بعد ذلك العالم الجويني (ت 478هـ/1085م) مع وزير السلاجقة والفقيه الشافعي “النظام الملك” حينما صاغ له كتاب “الغياثي”.
لم يقدّر الكتّاب كثيرون -ربما الأول منهم الجويني نفسه- مشروع الفقيه الماوردي الذي قدمه في “الأحكام السلطانية” بالقدر المناسب؛ إذ كان الرجل يواجه وضعاً صعب يتميّز بعدم توازن القوى بين أطياف السلطة، إذ كانت القوة العسكرية في بغداد لا تزال تحت سيطرة البويهيين على الرغم من تدهور نظام حكمهم. ومن هنا، لم يكن الماوردي -على عكس ما انتُقِد به- يرغب في إرضاء الخليفة العباسي، وإنما كان يخشى على نظام الخلافة “السني” العام من الانهيار أمام القوة العسكرية “الشيعية” البويهية، سواء كانت بوية أوفاطمية.
حاكى الماوردي بوصفه فقيهًا وقاضيًا يعمل -أو كان يعمل- ضمن النظام ويفهم هشاشته؛ حيث كان يتميز بثلاث وجهات نظر واقعية: الواقعية الفقهية التي تحافظ على مبادئ دينية، والواقعية القضائية التي تعمل على حماية نظام سياسي قائم، والواقعية الإدارية التي تدرك موازين القوى في مؤسسات الدولة. بالإضافة إلى الدور التوسطي الذي كان يقوم به أحيانًا بين الخليفة العباسي المتبع للمذهب الحنبلي السني، والسلطان البويهي الشيعي المنحرف، حيث كان يشبه جسر اتصال بينهما من خلال: مذهبه الفقهي مع الخليفة وتوجهه المحافظ للسلطان بدون تأخير أو رفض واضح لقراراته.
كان مشروع الماوردي يهدف إلى تعزيز دور الخلافة السنية؛ من خلال إصراره على أن “يجب أن يكون [الخليفة] من قريش لصحة النّص وتأكيد الإجماع عليه”، مما يعني بقاء العباسيين في موقعهم حماةً “لخلافة النبوة في حفظ الدين وإدارة الدنيا”، وبحيث لا تهدّدهم سلطة في هذا الحق أصحابه. أما الجويني -وفي سياق مختلف تمامًا عن سياق الماوردي- فشدد على التحوّلات التي تشهدها الساحة الإسلامية، وأكّد على ضرورة تحرير منصب الخلافة الراعي من الشروط التقليدية كالقرشية، والتركيز على مفاهيم سياسية مستقرة كشرط لتولي المنصب المقدس مثل “الكفاية والاستقلال القراري”، لأن “نحن لا نرى ضرورة الإمامة في بُعدِها (= كهيئة) إلى الأصل القرشي”.
رصد الجويني التحولات الجديدة المبنية على العنصر التركي والقوة العسكرية التي يمتلكها بشدّة الممثلة في السلاجقة الذين أصبحوا “حماة السنة”، وبذلك تغيّر تمامًا السياق السياسي وشروط القوة المحددة له بعيدًا عن الوضع الذي عامل فيه الماوردي وأعماله؛ فأصبح السلاجقة أكثر ضمانًا لهوية المذهب السني من الخليفة العباسي الذي كان يفتقد الشروط الأساسية للاستقلال.
ولعل القاضي البارع ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) لاحظ هذه التحولات -لكن في سياق مختلف- عندما قال في “المقدمة”: “من القائلين بإلغاء شرط القرشية القاضي أبو بكر الباقلاني (ت 403هـ/1013م)، عندما فهم الانزلاق في هيبة قريش من الاندثار والتلاشي واستولاء ملوك الأعاجم على الخلافة؛ فأسقط شرط القرشية”.
ولكن الماوردي كان يدافع عن الخلافة التقليدية العباسية حتى لو كان الخليفة فاقدًا للقرار ومفقودًا للإرادة، حيث أن “إذا كان [الخليفة] أسلم سلطاناً من أعوانه يتولى تنفيذ القرارات -دون إظهار مخالفة ولا احتجاج واضح- فهذا لا يمنع من إمامته، ولا يشكك في صحة سلطانه”. بينما رأى الجويني “أنه إذا انتقص الولاء للإمام فينا، وتناقصت مقداره..، وتعاظم البُغضاء إليه…؛ فالسبيل الوحيد هو ‘تَعَيينُ إمامٍ مُطاع‘، حتى ولو تجاوز ‘الإمام المعتبر‘ حدود المعقول”.
تقييم جويني
لم يمكن للجويني أن يطرح رؤيته الجديدة إلا بعد إنهاء نظرية الماوردي.
المعارك القديمة، ولكن التساؤل العميق الذي يحيط بانتقاد الجويني للماوردي – اللذان هما الإمامان الشافعيان – يتمثل في تجاهل السياق التاريخي الذي أشرنا إليه؛ فقد وصف الجويني نظرية الماوردي بأنها “مُقالات على جهل وغباء” من دون مراعاة للظروف الصعبة التي كانت موجودة في ذلك الوقت.
بدأ الجويني نقده للماوردي بلطف متناولٍ قائلًا إنه شخصية “هامة”، وأنه “نظم ورتّب بشكل ممتاز” كتابه ‘الأحكام السلطانية‘، ثم أشار إلى أنه (= الجويني) وضع نظريته بعد دراسة كتاب لبعض المفكرين (= الماوردي) المُترجم (= ملخص) بـ‘الأحكام السلطانية‘، الذي يتضمن تعقيبات المدارس ورواية الآراء والمطالب، من دون فهم وتوجيه، واستشراف إلى مدى المعرفة.
وصف الجويني الفكرة للماوردي بأنها نقلٌ استدلالي لأنه “نقل أفكار العلماء السابقين، والإشارة إلى ما اجتهد فيه السابقون، مع اضطراب كبير في النقل والتداخل”، ثم اتهمه بعدم فهم الواقع و”من لم يكن عنده فطنة وصواب في تأليفه وتصنيفه، فليس له القدرة على التمييز بين المشبوه والمعلوم”. ولم يكن الجويني قادرًا على إطلاق أسهم انتقاده اللاذعة للماوردي إلا بعد أن كان مزودًا بأدوات معرفية تتيح له مواجهة أساسيات الفقهاء.
نشأ أبو المعالي عبد الملك الجويني” في بيت علم ودين؛ فوالده كان من بين العلماء البارزين في نيسابور (تقع اليوم شمال شرقي إيران)، وعندما وصل الجويني إلى سن التاسعة عشرة شغل منصب تدريسي في إحدى المدارس الشافعية في مسقط رأسه، ثم استمر في استكشاف المعارف حتى أصبح “الإمام العظيم، شيخ الشافعية، إمام الحرمين”؛ كما وصفه الذهبي في ‘سير أعلام النبلاء‘. وحسب السبكي (ت 771هـ/1369م) -في ‘طبقات الشافعية‘- فإنه “لا شك لصاحب الخبرة أنه كان أعلم من باقي سكان الأرض بالخطاب والأُصول والفقه وأكثرهم فهمًا”.
عاصر الجويني الصراعات المذهبية الكبيرة التي اندلعت في نيسابور سنة 444هـ/1053م، بتحريضٍ من الوزير السلجوقي أبو نصر الكندري (ت 456هـ/1065م)، وكان هذا الوزير “من منتسبي الفرقة الـمُعتزلة… يؤذي الشافعية ويتجاوز في دعم مذهب أبي حنيفة”؛ حسب الذهبي في ‘السِّيَر‘.
<imgloading=”lazy” class=”size-خيالي-770 wp-image-2145410″ src=”https://www.aljazeera.net/wp-content/uploads/2020/01/8c517593-3410-413b-8048-779a2bb9c1ab.jpeg?w=770&resize=770%2C433″ alt=”تصاوير من التاريخ الإسلامي – مواقف الحلاج” data-recalc-dims=”1″>
طرح جديد
دردشة عن دورهم في دفع الشدائد الداخلية: “هل لم يستأصلوا قاعدة القرامطة من ديارها؟ وشطحوا ما أملكت ذوي النجدة والباس من خلفاء بني العباس من آثارها؟ وتمكنوا من عقب الزنادقة وكل تيار مخطئ سرابات الخيل، ونفد رهبتهم حيث انقضى الظلام، فلم يبق في منهج الإسلام منظر ظاهر بالابتداع إلا أصبح متحطما مرتعبا”.
بعد ذلك أنعم عليهم بما نعم به الماوردي للخليفة مسبقا؛ فأشار عن السلاجقة بأنهم “كانوا عمودا لدين الإسلام وتلكة للشريعة”؛ وربط بين انقراض الإسلام وهزيمة تلك القوى، فإذا كُسر السلاجقة “هُدمت المساجد…، وانقطعت التجمعات والأذانات وأشهر الأجراس والصلبان…، وتحول منهج الإسلام بحرا غامرا بالكفر الواضح…؛ هل يثقل هؤلاء على أهل الإسلام بحمل من الخراب وهم السّائرون والترتيب؟!”.
ما الذي كان الجويني يصبو إليه بالمناسبة؟ كان يريد لهذه القوة -وتجسيدها في وزيرها نظام الملك الذي يشكل محور السطة السلجوقية حينها عوضا عن السلطان ملكشاه الذي يلفت الانتباه غفلة الجويني عن إشارته- أن تتقدم ليس لاحتلال منصب الخلافة؛ ولكن لبناء تحالف -وفق قواعد دستورية جديدة- بين أرباب القلم أي العلماء، وأرباب السيف أي السلاجقة ووزيرهم العلّامة نظام الملك.
وقد يظهر على العلاقة بينهم حفاظ الخلافة منصبا تكريميا أقرب إلى مفهوم “الملكية الدستورية” في عصرنا الحالي؛ ونقل منصب الإمامية إلى السُلطة السلجوقية ووزيرها القوي حتى تُكون القاعدة أن “كل ما يتعلق بالأئمة (= الخلفاء).. فهو مكلف برأي صدر الدين (= نظام الملك)”، وبالتالي لا تُقيد قراراته بموافقة شرعية أو سياسية من الخليفة؛ ثم يُكلف مسؤولية حماية الدين للعلماء بالطريقة التي نظر إليها الجويني وسنتطرق لها فيما بعد.
هكذا يمكن فهم نظرية الإمام الجويني، وهذا هو البداية لفهم مشروع الرجل والظروف التي تمكن من خلالها شرحه وتحليله بواقعية؛ فقد كانت تلك القوة السلجوقية سائدة على معظم أراضي الخلافة، وكان رمزها نظام الملك هاتف “ذو حالة وحشمة تضاعف بها حالات الخلفاء”؛ حسب تعبير السبكي.
بين فهمين
يرى الباحث د. وائل حلاق في مقاله بعنوان ‘الخلفاء والفقهاء والسلاجقة في فكر الجويني السياسي‘: “سمح الجويني لقراء كتابه ‘الغياثي’ بنبش شكوكهم في إستعداده للتنازل عن خلافة العباسيين تماما لصالح حاكم متغلب يستطيع أن يدير شؤون الأمة بفاعلية وقدرة”؛ هل هذا القول حقيقي؟ الحقيقة هي أن الجويني -مثل كل الفقهاء- لا يروج لإقالة الخليفة إلا بمبرر ظاهر يعكس كفاءته العقلية والجسدية والدينية، فـ”الذي يستوجب التنحي (= الاستقالة) سبب ظاهر لا خفاء به ويبعد توقع زواله… كالجنون المعتبر للفيض إذا ثبت”، ومن من الواضح أن التنحي درجته أقل من الخلع والطرد.
لكن ما هو رأي الإمام المقيد بالإرادة كالخليفة العباسي حينها؟ يجيبنا الجويني بقوله: “إذا اعتُقل الإمام بلا سبب وإن كان مقيّدا به لا أراه ضروريا التنحي”. ولكن ماذا نفعل إذا ثبت لنا أن الإمام لم يكن مستقلا في إدارة شؤون الحكم وضاعت وقاره؟ يجيب أبو المعالي: “إذا تلاشت طاعة الإمام لنا..، وبادت القلوب عنه بلا سبب شرعي تقتضيه (= الأسباب الشرعية الملزمة للطرد)، وكان في ذلك على فكر قوي ورأي سديد…، ولكن خذله الموالون..؛ [إذا]ــالوجه يطرح إمام منطوٍ عليه، ولو اندفع الإمام المفهوم أبعد ما يحتمل”.
ولا تزال مسببات طرد الإمام عند الجويني ثابتة كما هي عند الفقهاء دون تغيير، ولكن الحل الذي اقترحه هو بقاء شرعية “الإمام المفهم” لكن مع تناقل السلطات السياسية إلى “الإمام المنطوٍ”، وهو يهدف إلى قوة قادرة على تنفيذ شؤون الحكم بشرعية ويسر؛ وهو تصوّر مشابه لمفهوم الملكية الدستورية.
<
p dir=”RTL”>وثبت فعلا أن الجويني كان منزعجا من النظام السياسي الراهن، وكان يتطلع إلى إجراء تغيير جذري داخل البنية السياسية، وأن الحكم يتخذ لسُلطة الحقيقة أو العشيرة الجديدة بعد
لم لا الغياثي؟
بناء على هيكل كتاب ‘الغياثي‘ الذي قدم فيه مقترحه لمراجعة العديد من المسلمات الخاصة بالفقه السياسي؛ نجد أنه يركز على مواضيع نادرة في الفقه الإسلامي بشكل عام، وبخاصة الجانب السياسي منه الذي ينتقد الجويني فيه الفقهاء لإهمالهم له؛ فهو يوضح -في ‘نهاية المطلب‘- أهمية “أحكام الإيالات (= الولايات) فالشريعة تحتاج إليها وليس من صلاحية الفقهاء تجاهها”!
فيها تباس مستفزان، بالمقابل للبعض المتوجين لمعرفته إيصال القيادة العباسية.
الكتاب يتكون من ثلاثة أجنحة: الأول حول الخلافة وشروطها التي من خلالها يُحدد مدى تحقيقها أو غيابها؛ والثاني حول تقدير الزمان من دون الإمام/ الخلفاء؛ والثالث حول تقدير انقراض حملة الشريعة. يعتبر الفصل الأول مقدمة للجناحين الآخرين، اللذين هما هدف الكتاب لبحث أوجه “قانون الفارغ”.
يُعرف أن الفقه الجعفري الشيعي بدأ في زمن “الأختفاء العظمى” بدخول الإمام محمد بن الحسن العسكري الخرقة حوالي عام 264هـ/878م؛ طبقاً لاعتقاد الشيعة. منذ ذلك الحين؛ تجمدت الأفكار السياسية الجعفرية حتى جاء الشيخ الجزيني (ت 876هـ/1471م) بحديثه -في كتاب ‘اللمعة الدمشقية‘- عن “وكيل الإمام المنتظر”، واتخذ هذا التنويه نسابة ذلك الوكالة لفئة الفقهاء الشيعة.
بعد ذلك ظهرت فكرة “حضانة العلماء” الشيعية فعلياً -للمرة الأولى في تاريخ الإمامية الجعفرية- بأيدي الشيخ الكركي العاملي (ت 940هـ/1533م)، الذي يُعتبر دوره الديني في تأسيس الدولة الصفوية مثل دور القاضي أبو حنيفة النعمان التميمي (ت 363هـ/974م) في إنشاء دولة الفاطميين؛ ثم تطوير التأسيس الفقهي لنظرية “حضانة العلماء” بأقوال الشيخين أحمد النراقي (ت 1245هـ/1830م) والميرزا النائيني (ت 1355هـ/1935م)، لتتميّز بشكل نهائي في ملازمة روح الله الخميني (ت 1409هـ/1989م) التأسيسية والدستورية لجمهورية الثورة الإيرانية عام 1399هـ/1979م.
غير أن الجويني قدم تفسيراً سابقًا لكل تلك الأمور من حالة التواجد المؤسسي إلى التفكير في الموقف الخالي حيث “علماءُ الأرض المرجعون حكّام العبيد”؛ في المقابل، عكس فقهاءُ الشيعة -الذين جاءوا في عصرهم- نظريته تلك، وهم شرعوا من الفراغ “الأمامي الغائب” الطويل ليشيدوا المشهد السياسي بوجود العلماء، عبر نظرية “حضانة العلماء” المؤقتة عن “الإمام الغائب”؛ وتظل إحدى الاختلافات بين المنهجين أن الجويني تحدث عن “حضانة الفقهاء” دون “حضانة الفقيه” الأولى.
وفي سعيه السابق، استعان الجويني بخياله السياسي النظري -معتمدًا على آلة منهجية مناقضة جدلية وذهنية تقليدية- قدّم ردًا نظريًا للوضع القادم الفارغ، فحدد قاعدة عامة تفيد بأن “كل قضية يتصرف فيها الإمام في الأموال المفوَّضة إلى الأئمة، فإذا فُرِغ الزمان من الإمام وحلّت سلطة صاحب النجدة والكفاية والثقة، فالأمور مناطة إلى العلماء، وحق على خلقات الكون على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم، ويُصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم؛ إذا كفلوا ذلك فقد أدوا إلى سواء الطريق، وصار علماءُ الأرض حكامَ العبيد”.
و في أوساع خياله تابع الجويني حيث تخيل فراغ الحلبة من العلماء والحكام معًا؛ قائلاً في إيضاح هدف تأليفه ‘الغياثي‘: “وضعت [هذا] الكتاب لغرض هام؛ فتصوّرت تفكك الشريعة واندثار جهدها، والطلب من الناس عنها، وخروج الأمة عن البحث عنها، ورأيت في زمني العلماء (= العلماء المجتهدون) ينقرضون ولا يخلافون، والباحثون بالعلم يرضون بالهوام، وآخر مَن يبحث عنها المغازي المختلقة والسقوط المفخر في
النظرات شكال بعض القلوب…؛ فعلمتُ أنه إذا استمر هذا الوضع سينقرض علماء الشريعة بالقرب منهم، ولا يتبقى إلا الكتب والتأليفات”.
بنى الجويني نظريته على تخيل أربعة مستويات من الفراغ الاجتماعي، وكل مستوى يترتب عليه مجموعة من “الرتب والمراتب” كما عبّر. تلك: خلو الزمان من العمّال ورؤساء القوى؛ ثم تفرد به عن الأئمة المجتهدين؛ ثم بعد ذلك بفراغه من العلماء المقلدين لحائية “اندفاع المذاهب”؛ ثم خلاه من الشريعةتشتهر هيتا بأداء إلى أنطونيو. فبعد ذلك، بدأ في الرد وتحليل تفاصيل وسياق سقوط هذه الدوائر الأربعة، من خلال شرح الإجراءات المطلوب اتخاذها للتعامل مع حالة الفراغ التنفيذي والتشريعي.
في الواقع، يمكن تصور فراغ زمني بدون حكام وعلماء، ولكن هل يبدو منطقيًا أن تخلو العصور من الشريعة نفسها؟ يقول الجويني: “بعض علمائنا وصل إلى استنتاج غير ذلك؛ إذ تبقى مبادئ الشريعة محفوظة على مدى الزمن حتى يوم النفخ في الصور، واعتمدوا على قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذِّكْرَ وإنا له لحافظون}”.
ثم يرد هذا الاعتراض بقوله: “هذه الطريقة غير مقنعة، والآية تشير إلى حفظ القرآن من التحريف والتبديل والتصريف، وقد ذكرت أخبار تتعلق بانطواء الشريعة، واختفاء شرائع الإسلام، وتضاءل معالم الأحكام بغياب العلماء”، وبالتالي “لا حاجة للتقديرات هذه، وإذا طال الزمن فإنه لا يبعد في محيط العرف إمكانية اندثاق الشريعة بشكل جذري حتى تُدرَس بالكلية”؛ وهذه إجابة مفاجئة ولكنها واقعية تمامًا ومتوافقة مع الاحتمالات المحتملة في التاريخ.
ويقرب الجويني لنا ما يتخيله في خياله السياسي -من تصوير حالة الفراغ الكبرى في حياة أمة الإسلام- من خلال افتراض وجود مجموعة منعزلة على جزيرة بعيدة عن العالم، وهو تجسيد لأقصى درجات الفراغ: بدون دولة ولا علماء ولا شريعة؛ وقد “اشترك سكان الجزيرة في رؤية النبوة، فاعترفوا بالتوحيد والنبوة، ولم يتعمقوا في مبادئ الأحكام، ولم يستطيعوا الوصول إلى علماء الشريعة…؛ فلم يكن لديهم سوى الاعتقاد بالتوحيد والنبوة، والسعي نحو الوصول إليه في المستقبل مهما كانت الصعوبات…، ولا نجزم أن قضاء الله عليهم يناسب عقولهم…، [فـ]ـإذا درست فروع الشريعة وأصولها.. انقطعت التزامات العباد، وتطابقت أحوالهم مع أحوال الذين لم تصلهم الدعوة ولم توصلهم شريعة”.
وبالتالي، يُؤكد الجويني أن “التوحيد” و”النبوة” هما أساس أساسيات الأمة، وبما أن هاتان الأساسين باقيين فإن الأمة ستستمر حتى إذا انفصلت عنها التزامات شرعية. ويضيف أساسًا ثالثًا هو الأخلاق الفطرية التي تدفع أصحابها “نحو تجنب متطلبات الشر”. ومع تأكيده أن هذا ليس مصدرًا تشريعيًا ملزمًا، “فالعقول -حسب أقوال أهل الحق- لا تستوجب التحريم والتحليل، ولا تعتمد على قضايا التشريع في اتخاذ قراراتها”.
لذلك، كان الجويني من أبرز المؤيدين لفكرة إجماع الأمة، حيث ينفي منهجية انحرافها عن توحيد الأصول، حيث يقرر “أنها لا تفقد إيمانها بسبب غياب المبادئ، بل تظل بعيدة عن الانحراف والابتعاد عن الإيمان، وحتى لو امتدت الفترة”.
هذه هي نفس فكرة عصمة الأمة التي تحدث عنها تلميذه الغزالي في فصل الإجماع من كتابه “المستصفى”، حيث يقول: “يُسمح بالخطأ في اجتهاد المفرد، أما اجتهاد “الأمة المعصومة” فيمتنع عن الخطأ كاجتهاد الرسول الأكرم (ص) ومن ثبت عصمته، وكذلك “عصمة الأمة” دون تفريق”.
وقد يكمن في هذه الجوانب الدستورية قيمة السياسي الخيالي الذي قدمه الجويني، كنموذج يُحتذى به من علماء الإسلام في استدراك الفكر الفقهي والسياسي في حالات الفراغ، وكيفية استعادة الحياة من جديد في حالات الطوارئ وأزمات الطبيعة.
ومن الأفكار الرئيسية والمهمة التي انبثقت في الكتاب كان حديثه عن استقلال السلطة -سواء الخلافة أو الإمامة- عن التبعية لأي طرف خارجي أو داخلي، مقصدًا بذلك بالطبع القوى الفاسدة، حيث يطالب دائمًا بضرورة لامراجعة المسؤول على سلطان الشريعة والعلماء.
وشرط الاستقلال الوارد في الكتاب يقترب من مفهومه في الفكر السياسي الحديث؛ حيث يروى الجويني أن التبعية والتأثير الغريب والتكريس للقوى الخارجية يقلل من شرعية السلطة، وأن “الاستقلال” عنده يعني شكلًا من أشكال الكفاية أو الكفاءة التي تمكن الإمام من أداء واجبات عمله الدينية والدنيوية، “فالكفاءة المقدرة تعني الاستقلال في تنفيذ الأمورالمؤنثان؛ بنظير ذلك يجب على الشخص أن يكون مستقلًا في القضايا الدينية”، وهذا من أجل تجنب الوقوع تحت تأثير تشتت الآراء الفقهية والمدارس الفقهية “فإذا لم يكن الإمام مستقلاً في علم الشريعة، فسيحتاج إلى استشارة العلماء في تفاصيل الأحداث، وهذا سيشتت رأيه ويبعده عن درجة الاستقلال”.
لكن الجدير بالذكر هنا أن الجويني يتحدث في سياق دولة جعلت -حتى وإن كان ذلك بشكل سطحي في الكثير من الأحيان- أن قاعدتها العليا هي أحكام الإسلام وتعاليمه بغض النظر عن جهة الاجتهاد في استنباط هذه الأحكام.
يؤكد كتاب ‘الغياثي‘ -بوضوح وحزم- على ترسيخ سلطة العلماء بناءً على استقلاليتهم عن الحكام، ويبدو أنه يرغب في تحويل السلطة الدينية -في سياق الخلافة التي تكون فيها الخليفة رمزًا للحكم ويحمل السلطة التنفيذية السيطرة- إلى الفقهاء كوسيلة لرقابة التشريع على الجهاز التنفيذي (السلطان والوزير)؛ لأنه “إذا لم يكن في العصر نبيًا فإن العلماء [هم] ورثة الشريعة، والذين يعملون على تطبيقها هم بمثابة الأنبياء”، ولذلك “إذا لم يكن سلطان الزمان مؤهلاً لاجتهاد القضايا فالمتبعون [هم] العلماء، والسلطان يعتمد عليهم وينوّرهم ويستمد قوتهم منهم”.
وعلى السلاطين الجدد ورموزهم السياسية والعلماء أن يبنوا هذا التحالف، وأن يتقبلوا هذا الوضع “فعليك الفهم -في السياق الذي نسعى إليه والهدف الذي نسعى لتحقيقه- بأن العالم في زمانه مثل نبيّ زمانه، والسلطان يشبه العالم كمالك في زمن النبي، مكلف بتحقيق ما يحققه النبي، وأن صاحب الاستبداد لن يكون آمنًا من سنن الاستقامة، ومن يصلح للاستفادة من علوم العلماء سيكون ندرًا بالاستفادة (= التوفيق)، وباتباع سبيل الاقتصاد”.
يبدو كتاب ‘الغياثي‘ مبتكرًا في هذا السياق؛ حيث بدأت الهيكلية التي تبني لتيار التوازن العقائدي بين المدارس الفقهية الأصولية والشعبية الفقهية والأخلاقية التصوفية، لذلك أصبحت المذاهب الأشعرية متجاوزة للمدارس بل وصوفية، ثم تم تجسيد ذلك في مجتمعات كبيرة خلال القرن الخامس الهجري/الـ11م، خاصة مع تكوين شبكات المدارس ومؤسسات الوقف التي جعلت العصر الوسطى هو عصر السلطة العلمية.
رأى الجويني من الضروري احترام السلطة التنفيذية لنطاقها مشددًا “على نظرة الإمام في القضايا الدنيوية”؛ ولذلك فإن السلطان لا يجد صلة بمجتمع العلماء واختلافاتهم الفقهية “ينبغي للإمام أن لا يتدخل في الخلافات بين علماء الإسلام حول تفاصيل الأحكام”، بل يجب عليه “أن يحترم كل إمام وأتباعه على عقائدهم، ولا يعرقلهم عن طريقهم ومنهاجهم”.
وكونًا لهذا المبدأ الصارم في فصل بين السلطة والمعرفة؛ يُذكّر الجويني بتجربة الخليفة المأمون (ت 218هـ/833م) المضطردة، عندما تدخل بدعم فريق المعتزلة فحاول فرضهم بقوة السلطة على باقي المذاهب والفرق، “ووافقت عملية المأمون -الذي كان من أعظم الخلفاء وأشهرهم- على خطة أبرزت قصورها، وكان صعبًا على من جاء بعده تجاوزها”. إلا أن الجويني -في الوقت ذاته- يشدد على ضرورة على الدولة أن تحمي المذهب السني -كونه مذهب الأغلبية- دون فرضه على أتباع المذاهب الأخرى.
بل إنه يخاطب الوزير نظام الملك قائلا إن جوهر السلطة الحقيقية يكمن في يد الفقهاء دون غيرهم نظرًا لصلاحياتهم التشريعية، التي تعطي شرعية لإجراءات السلطة التنفيذية “حيث يمكن أن تكون هناك قضايا يرى العقل أنها صحيحة في اتخاذ القرارات الحكومية والسياسية والشرعية، ولكن يكون محرمًا بقراراتها”. ويضيف: “من الأمور التي أحيلت إلى القسم العليا (= الوزير نظام الملك): ضرورة استشارة العلماء في كل قضية، فهم رواد الأحكام ومرشدي الإسلام، وورثة النبوة، وزعماء الأمة، وسادة الشريعة…، فهم في الحقيقة أصحاب القرارات بشكل مستحق”.
تأثيرات متأخرة
قد يكون من أكبر المستفيدين من أفكار الجويني في الفقه السياسي هما تقي الدين ابن تيمية وابن خلدون؛ فالأول هو
تحقيق الاثنين يعني الاعتراف بالحقيقة المحتكرة وأصحابها ذوي التألق العسكري، طالما أن هذه الحقيقة ستعمل على تحسين ذاتها وتحسين المجتمع، وستوافق على أن يكون العلماء شركاء في القيادة طالما أن “أولو الأمر فصيلتان: الأمراء والعلماء”. بالإضافة إلى ذلك، لم يتناول هذا الكتاب فكرة شرعية السلطة التي رفضها الجويني، بل كان محتواه الرئيسي يتحدث عن سلطة الحكم الواقعية لا عن الخلافة.
فيما يتعلق بابن خلدون؛ فإن تأثير الجويني عليه يظهر بوضوح في نمط تفكيره حول تحولات السلطة ملاحظًا انتقال العصبة الدولة والحكم من العرب إلى العجم، الذين كانوا السلاجقة في عهد الجويني والمماليك في عهده. ولذلك جمع ابن خلدون فصيلا في تاريخه الضخم ‘العِبَر‘ عنونه بـ”الإخبار عن نظام الحكم التركي (= المماليك) الحاكمين في الدولة العباسية بمصر والشام بعد بني أيوب وقدرهم وتكالب حالاتهم”، مؤكدا أن لديهم “الفضل والميزة بما أوجدهم الله من سيادة الملك وشرف الولاية في المساجد المعظمة وخدمة الحرمين”.
يبدو التأثير أيضًا في وصف مصدر شرعي نظام الخلافة الحاكم حينها؛ فعندما يقول الجويني: “الخلافة بعد انقراض [الخلفاء] الأربعة الراشدين شوّهتها مساحيب الاستيلاء والتسلط، وأصبح الحق الصريح في الإمامة مرفوضًا، وأصبحت الإمامة سلطنة متواضعة”؛ نجد ابن خلدون يقول -في ‘المقدمة‘- مقروناً به: “لقد رأيتَ كيف تحول الأمر إلى السلطة وظلت أسرار الخلافة..، ثم اختفت أسرار الخلافة ولم يبق إلا اسمها، وتحول الأمر إلى سلطنة صرفة وجرت طريقة التفوق إلى تلك النقطة”.
وبالنسبة لشرط الانتماء للعرق؛ فقد قال الجويني إن اعتبارها ضرورية في الخليفة ليس بالنص بل “الإجماع.. هو المحتج.. في الاعتبار”، وبرر ذلك بأسباب واقعية واستمرية جعلته تقليديا تاريخيا؛ لذلك قال: “فالأدلة على تأكيد ما نسعى له في هذا (= شرط القرشية) أن السابقين لا يزالون يعترفون بخصوصية هذا المنصب لقريش، ولم يشهد أحد من غير قريش إلى الإمامة”، ولذا “إذا ثُبت اشتراط النسب كرمًا لشجرة رسول الله (ص) [فقط]؛ لأن شيئًا من مقاصد الإمامة لا يعتمد على التفاخر بالنسب”.
وتتفق مع الجويني في هذا؛ يقول ابن خلدون -في ‘المقدمة‘- ساعيًا مستدلا على شرط الانتماء للعرق في الخليفة: “وبالنسبة إلى النسب القرشي فقد اجتمعت الصحابة يوم السقيفة”، ثم وجد نفس المبرر الواقعي: “لأن قريش كانوا فصيلة ضارة وأصلهم وأهل السيطرة منهم.. والشرف؛ فقد اعترف باقي العرب بذلك واستمدوا قوتهم من انتصارهم، فإذا ما وضع الأمر في غيرهم سوف يؤدي إلى تفكك الاتفاق”.
بل مفهوم الانتماء العصبي هذا للخلدون كان الجويني سبق إلى تحديده وربط نجاح الدعاوي الدينية بوجوده، كما فعل ابن خلدون في وقت لاحق في ‘المقدمة‘؛ يقول الجويني: “وما بعث الله نبيًا في الأمم السابقة حتى أعانه ودعمه بسلطان محتمل ومعونة، ومن الأنبياء -عليهم السلام- من حظي بالنبوة.. والقوة…؛ ولما ختم الله الرسالة في العالم بسيد ولد آدم أعانه بالبرهان البيضاء..، وأمسك بهم بالسيف ساعدتهم..، وجعلهم زعماء في الدين والدنيا”. وهكذا نجد أن الجويني -رحمه الله- لم يكن مجرد عالم دين، بل كان منهجًا في عبقرية وتألق يسير على الأرض!!