تاريخ قواعد رمضان.. معرض تماثيل للحلويات بين الصفا والمروة وزير يضطر الصائمين لإفطارهم وآخر يعتمد لها 3 مليون دولار

By العربية الآن



تاريخ السفرات الرمضانية.. ولائم رسمية وشعبية وتقاليد أدبية وفنية

يخبرنا شيخ مؤرخي مصر بأفعال شخصية، حيث نتحدث عن توزيع الطعام في رمضان من قبل القائد العسكري لؤلؤ الحاجب الأرمني في الجيش الأيوبي. يصف تقي الدين المقريزي هذا بأنه كان يقسم كل يوم اثني عشر ألف رغيف خبز مع أوعية الطعام، وعند بداية شهر رمضان كان يزيد هذا العدد. يقوم القائد بتنظيم الطعام منذ الظهر حتى ما يقارب صلاة العشاء، حيث يقوم بتحضير ثلاثة قوارب مليئة بالطعام، ويستقبل الفقراء بشكل مرتب ويقدم لهم الطعام والشحم المُذاب، بدءًا من الرجال وصولًا إلى النساء والأطفال. وعلى الرغم من كثرة الفقراء، لم يزدحموا لأنهم عرفوا أن العدل سيسود. وعندما ينتهي الفقراء من احتياجاتهم، يتم تقديم الطعام للأغنياء بكرم. يظهر هذا القائد بطريقة تدل على تواضعه وانخراطه في خدمة الضيوف، على الرغم من مكانته الرفيعة، حيث يشارك في توزيع الطعام كأحد الجميع، مما يعكس فلسفة العمل الجماعي والتعاون.

من جوهر الفضيلة وسخاء الضيافة.

وإليكم هذه الصورة التي رُسِمت -بانتماء- بواسطة المفكر المقريزي والتي تجلي بشكل كامل مضمون هذا المقال حول “تاريخ الوجبات الرمضانية”؛ تلك الوجبات التي تعكس استجابة المجتمعات الإسلامية للإرشادات والتوجيهات النبوية؛ إذ كان رسول الإسلام يُحث على إطعام الفقراء ويوصي المؤمنين بـ”تقديم الطعام”، وبشكل عملي كان أول من دعا لتناول وجبة السحور والإفطار، جعلها سنة مستمرة في أمته.

وهكذا ارتبط شهر رمضان في الحياة الإسلامية بمظاهر وخصائص تم تأسيسها في وقت مبكر، ممثلة لفكرة الاجتماع على الطاولة في شهر رمضان كاعتماد على التضامن والتعاون؛ حيث برزت الجوانب الاقتصادية واحدة من أبرز لوحات المشهد الاجتماعي في رمضان، تجسيد لرسالة الإسلام في التركيز على الاحتياجات الغذائية للإنسان، وهو ما أسهم في ظهور ظاهرة “أسمطة رمضان” أو ما نسميه اليوم “موائد الرحمن”.

وبالإضافة إلى الجانب التعبدي والتضامني لهذه الظاهرة؛ انعكست تلك الجوانب – في بعض الأحيان وفي بعض محتوياتها- كموقف سياسي، إذ كان الزعماء الإسلاميون عبر التاريخ يتصافحون مع الناس عن طريق تلك الوجبات، فكانت الشوارع ومراكز العلم وأماكن العبادة وطرق السفر تضج بحاملي الطعام بين الصائمين للإفطار والسحور، وكان المنادي يعلن للمارة في الشوارع: “حان وقت الإفطار!”، بالإضافة إلى أن وزيرًا كبيرًا كان يمنع بشدة أي شخص دخل عليه بعد العصر في رمضان من الخروج حتى يفطر معه!

وفي هذا المقال؛ نسلط الضوء على أشكال متنوعة تعكس قوة روح التعاون التي تسود الحضارة الإسلامية في رمضان، ونستعرض آليات وأهداف إدارة وجباتهم على مر التاريخ، ونستعرض ما أفرزته مجتمعات الإسلام من استراتيجيات اقتصادية وإدارية للتفاعل مع الأوضاع المعيشية وتلبية احتياجات الطبقات الضعيفة في هذا الشهر المبارك، الذي شحنه تعاليم الإسلام بفضائل الإنفاق وأبواب العطاء وما يترتب على ذلك من إدانة وتحريم لوجود المحتاجين والفقراء البائسين.

نهج نبوي

ثبتت سجلات السنة والسيرة النبوية تداعيات وجبات الإفطار في عصر الرسالة، فذكرت منها بداية بالمواد الغذائية الأكثر دعمًا لصحة الصائم عندما أفادت لنا أن الرسول ﷺ “كان يفطر على التمر قبل الصلاة، وإذا لم يجد تمرًا، فعلى تمرات، وإذا لم يجد تمورًا، على حطى من ماء”؛ (رواه أحمد وأبو داود). وقد أكدت الطبيبة الحديثة فوائد التمر والماء لطاقة الصائم ونشاطه بعد ساعات الصيام الشاقة.

وكذلك ورَّد النبي ﷺ للصحابة سنة تنظيم الدعوات للفطور والسحور؛ فروى الإمام البخاري عن زيد بن ثابت الخزرجي أنه قال: “تسحّرنا مع النبي ﷺ ثم ثم توجه إلى الصلاة”، وقال ﷺ: “من فطر صائمًا، فله مثل أجره”؛ (سنن الترمذي). بهذا كان “تجمع الناس للطعام.. ومساعدة الفقراء بالإطعام في رمضان.. من سنن الإسلام”؛ حسب ابن تيمية في ‘الفتاوى الكبرى’.

وأوضح الإمام أبو القاسم التيمي الأصبهاني في كتابه ‘الترغيب والترهيب’ جزءًا من تجربة الشراكة المجتمعية التي كان الصحابة يعتمدونها في رمضان؛ إذ نقل عن أنس بن مالك أنه قال: “كان أصحاب رسول الله -ﷺ- حين كانوا يرى الوفاء بشعبان ينشدون على المصاحف ويخرج المسلمون زكاة أموالهم لدعم المساكين والضعفاء في صيام شهر رمضان”!!

وكانت دعوات الاستضافة للصوام منتشرة في مجتمع الصحابة حتى وصلت لصغار الصحابة، كما نرى في حديث ابن عباس الذي نقله عبد الرزاق الصنعاني في كتابه ‘المُصنَّف’: “دعاني عمر (الفاروق) أن أتناول السحور عنده”.

وعن فيض التاريخي لإجراءات وطبيعة وجبات رمضان، نستوقف عند العناصر العامة لأطعمة صحابة الإفطار اليومي؛ إذ يقول ابن حزام عن “إفطار عمر بن الخطاب بحضور الصحابة على اللبن”.

وقد بزغت في وقت مبكر خيارات التنوع الغذائي والتفضيلات بين الصوام؛ فالإمام ابن القيم يخبرنا عن عادة عبد الله ابن عمر في رمضان: “لا يُفَتَى على ابن عمر في رمضان إلا باللحم”، أي أنه كان يُعتبره جزءًا أساسيًا في وجبته الرمضانية.

ويذكر الإمام ابن كثير حديثًا مفصلًا عن وجبة الإفطار لصحابي كبير عبد الله بن الزبير التي تتضمن مبررات صحية لعناصرها الغذائية، إذ يقول: “عند إفطاره كان أول ما يتناوله لبن اللبن، سمن، وتين”.(= ملوَنة نباتية حادة). وفي سرد آخر: فإن الحليب يحميه، والزبد يشرّده، والصبر يشقّ الأمعاء”.

مهمة رسمية

لم يمضِ عهد الخلفاء المُصغّرين حتى بدأت الحكومة تأخذ على عاتقها مساعدة الناس على تأديّة صومهم، كما قامت بتخصيص أماكن لأهل النفوس الطيبة وقصور الحكماء والوزراء -في مختلف مدن الإسلام- مُساحات من أعمالها الخيرية لتنفيق على إفطار الصائمين خلال شهر رمضان.

وهنا يُخبِرنا الإمام الطبري (ت 310هـ/922م) -في سجله- بأنه عندما تولى عثمان بن عفان (ت 35هـ/656م) الخلافة بادر “بوضع مأكولات رمضان، فقال: [إنّه] للزاهد الذي يتأخّر في المسجد، والمُسافر، والمُحتاجون (= الفقراء) من الناس في رمضان”.

ويُروي ابن أيْبَك الدَّوَاداري (ت بعد 736هـ/1335م) -في ‘كنز الدرر‘- أن “عبيد الله بن العبّاس بن عبد المطّلب (ت 58هـ/679م) كان… أوّل من فطّر جيرانه في شهر رمضان، وأوّل من نصب الموائد على الطريق ودعا لمأكولاته في الإسلام”.

عندما نلقي نظرة على مؤرخ ابن سعد (ت 230هـ/845م) -في ‘الطبقات الكبرى‘- نجد ما يفيد بأن إفطار الصائمين في المساجد أصبح عرفًا مُستقرًا في زمن الصحابة، فهو يروي عن التابعي عِمران بن عبد الله الخُزَاعي (ت بعد 93هـ/713م) أنه “كان في رمضان يُستدعى [الصائمون] بالمشروبات في مسجد النبي ﷺ”، فلعله يقصد ما فعله الخليفة النزيه عثمان.

وقد مَشى الأمويون على خُطى الخلفاء المُصغّرين في تقديم الطعام للصائمين؛ فهذا المؤرخ الأزرقي (ت 250هـ/864م) يُخبِرنا -في ‘أخبار مكة‘- بأن مؤسس الدولة الأموية معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ/681م) اشترى -من آل المؤمل العَدَويّين- قصرًا في مكة المكرمة وسماه “قصر الفخار” أي أواني الطعام، “لأن فيها أواني من نحاس يطبخ فيها طعام الحجاج وطعام شهر رمضان” الذي ينتهي إلى المحتاجين.

ورغم سرد الأزرقي عن أولوية معاوية إلى هذا التقليد؛ فإن أبو هلال العسكري (ت 395هـ/1006م) يُصر -في كتابه ‘الأوائل‘ـ بأن أول “من أقام مأدبة (= ما يُقدَّم للناس من طعام) شهر رمضان الوليد بن عبد الملك (الخليفة الأموي ت 95هـ/715م)”.

وعن ألوان الأطعمة التي يُقدَّمون للناس في رمضان خلال عهد الأمويين؛ يُروى أبو الحسن البلاذُري (ت 279هـ/892م) -في كتابه ‘أنساب الأشراف‘- أن الوالي الأموي على العراق الحَجّاج الثقفي (ت 95هـ/715م) كان…}}

… كُل يوم ألف طاولة، على كل طاولة: أربعون رغيفًا وقصعة لحم وجنب شواء، وأرز وسمك، وخل وبصل، وكان [الحَجّاج] يُحمَل في كرسي حول الطاولة، ويُطلب منه إذا كانت هناك نقصان أو تردد في الطعام؟ فيقول لا”.

إطار تأسيسي

في الدولة العباسية؛ تطوَّر الاحتفاء الرسمي بظاهرة الإطعام في رمضان إلى مستوى الاحتفال المؤسسي، فأقيمت لها أماكن منفصلة خاصة بها سُميت “دور الكرامة” فكانت تضم الصائمين ليأكلوا فيها محاطين بأجواء الاحترام والتقدير.

فالمؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) ينقل –في كتابه ‘الكامل‘- أن الخليفة الناصر لدين الله العباسي (ت 622هـ/1225م) أمر في رمضان سنة 604هـ/1207م “ببناء دور في الأحياء ببغداد إفطار الفقراء، واطلق عليها «دور الكرامة»، يُطهى فيها لحم الخروف، والخبز اللذيذ، جرى ذلك في الجانبيني اللّذيني من بغداد (= الرصافة والكرخ)، وجَمع في كل مكانٍ شخصٌ مُوثوقٌ بأمانته، وكان يُوزَّع على كل إنسان قدحًا مليئًا من الطبخ واللحم، وإنطباقًا من الخبز، كان يُفطر كل ليلةٍ على طعامه حشدٌ لا يُعدّون كثرةً”!!

وفعل نفس الشيء حفيده الخليفة المُستنصر (ت 640هـ/1242م)؛ فقد صرّح ابن شمائل البغدادي الحنبلي (ت 739هـ/1338م) -في ‘مراصد الاطلاع على أسماء الأماكن والبقاع‘- بأنه أقام وقفيات “على «أدر المضيف» (= دُور الضيافة) التي نظّمها في الأحياء ببغداد لإفطار الفقراء في شهر رمضان”.

ويبدو أن تقليد الإنفاق الرسمي على إفطار الصائمين كان متاحًا لمختلف طبقات المجتمع، وحاولت السلطة

يمكن أن يُمنع قريشا والأنصار من استلام أي شيء من طُعام رمضان بحسب ما ذكره القاضي الأعلى في مصر، الحارث بن مسكين المالكي، في العصر الذهبي المصري.

عندما انتشرت الدويلات المستقلة في نهاية القرن الثاني الهجري، بدأ أمراء هذه الدول بتخصيص ميزانيات لإقامة موائد إفطار رمضان كوسيلة لتعزيز علاقاتهم مع الناس وتعزيز شرعيتهم السياسية.

ذكر المؤرخ عز الدين ابن شداد في كتاب ‘الأعلاق الخطيرة‘ أن الأمير سيف الدولة الحمداني كان يوزع من مدخولات الزراعة على مائدة إفطار رمضان لسكان مدينته حلب، وكانت تقع شمال شرقي ديار بكر في تركيا اليوم.

ظهرت مطابخ رسمية تعمل على تقديم الإفطار في رمضان بمبادرات مشابهة، وفي كتاب ‘المواعظ والاعتبار‘ ذكر المؤرخ المقريزي أن إحدى هذه المطابخ في مصر الفاطمية كانت توفر طعامًا للموظفين والفقراء بمبلغ كبير يوميًا.

مسلسل الإفطار الرسمي للصائمين استمر، وتنوعت طرق تقديمه بمختلف الأشكال؛ حيث كانت هناك أنشطة اجتماعية ودينية مصاحبة لها مثل عقد الاستضافات والمجالس الرمضانية لتعزيز العلاقات الاجتماعية.في هذا الشهر، وكانت تبرعاته وصدقاته وطاعاته فيه تصل إلى مبلغ ما لا يُطاق منها في جميع أشهر السنة!

ظهير الدين محمد بن الحسن الصرصري الحنبلي (ت 706هـ/1306م)، كان “رئيس العراق” في حكم المغول بعد إسلامهم، وكان له قيم وأخلاق رفيعة، وكان يفطر كل ليلة في رمضان لمئة محتاج ومحتاجة، وفقًا لـابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) في كتابه “الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة”.

تاريخ الفنون الفاطمية

تميزت دولة الفاطميين في مصر بتنظيم موائد الإفطار في رمضان والعيدين والمناسبات التي كانوا يطلقون عليها “الموالد”، وجعلتها وسيلة قوية لتعزيز شرعيتها لدى الشعب المصري.

ويقدم لنا القلقشندي (ت 821هـ/1418م) في كتابه “صبح الأعشى” تفاصيل دقيقة عن ترتيب “الأسمطة التي تُقام في شهر رمضان”، أي الموائد الرسمية في البلاط الفاطمي بين اليوم الرابع والسادس والعشرين من رمضان سنويًا، مشيرًا إلى أنهم “كانوا لا يُقام لديهم موائد إلا في العيدين وشهر رمضان”.

وفيما يتعلق بترتيبات موائدهم في رمضان؛ يقول القلقشندي إن “الخليفة الفاطمي كان يرتب في قاعة الذهب بالقصر مائدة في كل ليلة، ويدعو الأمراء لحضورها بالتناوب، حيث يحضر منهم في كل ليلة مجموعة لكي لا يفوتوا الإفطار في بيوتهم طوال الشهر، ولا يُطلب من قاضي القضاة حضورها إلا في الليالي الجمع تكريمًا له، ولا يحضر الخليفة هذه المائدة، وإذا حضر الوزير، يُرسل الخليفة إليه من طعام إفطاره كرمًا له، وقد يُميّزه بشيء من سحوره”.

ويضيف القلقشندي فصول التحضير وأهمية الحضور والترتيبات في هذه المائدة السلطانية الراقية؛ حيث يذكر أن “الوزير يُجلس على رأس المائدة، وكانت هذه المائدة من أعظمها وأفضلها، ويُقدم في ثلثيها مجموعة من المأكولات الفاخرة، ويُغادرون المكان بعد وجبة العشاء بساعة أو ساعتين، ويتم تفريق بقية المائدة كل ليلة، ويُقسمها الموظفون بعضهم لبعض حتى يصل إلى أغلب سكان القاهرة”.

وبجانب الأطباق الرئيسية في المائدة، تُحضر “صحنًا مُمتدًا بشكل عمودي حتى يشبه طول الإنسان الطويل، وتُزين بشرائح حلوى متنوعة الألوان، ويُملأ فراغ الأطباق بعشرات الصحون الفخارية المزينة بألوان زاهية، وفي كل منها يوضع سبعة طيور من حلوى الطيور السائلة والأطعمة الفاخرة”!

ويُعرض المقريزي
– في ‘المواعظ والاعتبار‘ – أبرز عناصر تلك المائدة الرمضانية، حيث يشير إلى وضع سماطها أمام الخليفة الفاطمي أثناء الإفطار أو السحور “جفانًا من الحلوى، وجرارًا من ماء الورد…، ثم يُقدم جميع الأصناف من الطعام والمشروبات…، ثم تُقدم الأطباق الصينية المملأة بالحلويات..، وأمامه الحلويات الطيبة.. وأنواع مختلفة من العصائر.. والطعام الناعم والشوربة..، ثم يُقدم له صينية من الذهب مُملوءة بالسَفوف”!

تفاصيل دقيقة

وصل التفنن في ذلك إلى درجة توزيع عينات من الأطعمة مثل الحلويات التي كانت توزعها الجوائز التي جمعتها الموائد بصلة خاصة بشهر رمضان، كما نجد في قول الإمام المؤرخ ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) في كتابه “المنتظم” حيث يتحدث عن الوزير البويهي أبو غالب الواسطي (ت 407هـ/1017م): “وشهدنا تفريق الحلوى في منتصف رمضان” للصائمين في بغداد.

ويقول الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) في “سير أعلام النبلاء” أن سلطان دمشق المظفر الدين ابن العادل الأيوبي (ت 635هـ/1237م) كان “يعتني بالفقراء ويزورهم ويتصدق عليهم”، وكان لديه عادةترسل “حلويات إلى محتاجين في رمضان”.”

في هذا السياق؛ كانت الحلويات تُعتبر من العناصر الأساسية في موائد رمضان التي توفرها سلاطين الدول لبعض أفراد الطبقة العليا. على سبيل المثال، في مصر الفاطمية، “كانت لكل أمير من الخواص لدى السلطان راتب من السكر والحلوى في شهر رمضان”؛ كما ذكر المقريزي في ‘المواعظ والاعتبار‘.

كانت هذه العناية الرمضانية تخصص خصيصًا لفئات محددة من المجتمع مثل العلماء؛ ذكر الفقيه الحنفي محيي الدين ابن نصر الله القرشي في ‘الجواهر المُضِيّة في طبقات الحنفية‘ أن الفقيهة المفتية الحنفية فاطمة بنت محمد بن أحمد السمرقندي “كانت تُعد الإفطار للفقهاء بالحلويات في رمضان، حيث كانت تمتلك سوارين وكانت تبيعهما وتستخدم الأموال في تقديم وجبة الإفطار كل ليلة، وكانت هذه العادة مستمرة”!!

كانت فاطمة السمرقندية هذه عالمة بارزة في مدينة حلب، عاصمة دولة الزنكية، وكان لها تأثير كبير على سلطانها العالم نور الدين زنكي، ومنها انتقلت تلك العادة الرمضانية التي كرمت أهل العلم. فقد كان يضع حوضًا من الحجر في إحدى المدارس العلمية في حلب يملأه “في ليلة السابع والعشرين من رمضان قطائف محشوة، وكان الفقهاء المرتّبون في المدرسة يجتمعون حولها”؛ حسبما ورد في كتاب سبط ابن العجمي في ‘كنوز الذهب في تاريخ حلب‘.

ذكر القاضي ابن خلّكان – في ‘وفيات الأعيان‘ – أن القاضي ابن شداد الموصلي كان ذو مكانة عالية في الدولة الأيوبية، حيث “كان للفقهاء في عهده احترام كامل واهتمام كبير، خاصة جماعة مدرسته الذين كانوا يحضرون جلسات السلطان ويفطرون في شهر رمضان على مائدته”.

موائد الرحمن

مع تطور ظاهرة “موائد الرحمن”، ظهرت فكرة تخصيص فضاءات رسمية للاستضافات في رمضان، ويروي المؤرخ شهاب الدين النويري – في ‘نهاية الأرب‘ – أن السلطان الكامل الأيوبي “عمّر قاعة في قلعة الجبل (= مقر السلطة بالقاهرة) ليجلس فيها مع الفقهاء والصالحين في شهر رمضان، وسُميت «قاعة رمضان»، وهي الآن (= القرن الثامن الهجري/الـ14م) ضمن الخزائن السلطانية”.

لم يكن حضور تلك الولائم الرمضانية مقتصرًا على الفقهاء كما يعتقد من بعض النصوص التاريخية، بل كانت كثيرًا ما تجتمع فيها فئات أخرى من الشعراء والأدباء وغيرهم.

من الأمثلة التي ذكرها ابن خلّكان، أن الشاعرين أبو الفوارس ابن صيفي التميمي الملقب بـ”الحيص بيص” وابن الفضل (هبة الله ابن قطان البغدادي) “كانا يحضران سماط الخليفة عند الوزير [العباسي ببغداد] في شهر رمضان”، حيث “كانت عوائدهم في بغداد أن الأعيان كانوا يحضرون سماط الخليفة عند الوزير.. وكانوا يسمونه «الطبق»”.

ميزانيات هائلة

على الرغم من أن المنطقة المركزية في العالم الإسلامي تلقت اهتمامًا أوفى بولائمها الرمضانية في المدونات التاريخية، إلا أن مثيلاتها في المناطق الهامشية لم تُغفل عن رصد هذه المدونات.

توثق لنا رحلة “شيخ الرحالين” ابن بطوطة أجواء الاستضافات الرمضانية لدى أمير مدينة أكريدور التركية، حيث كان يُقام كل ليلة من رمضان مأدبة على الطريقة التالية: “كان يُقدم أولاً ثريد في صحفة (= إناء) صغيرة، وعليه العدس مطهو بالسمن والسكر، ويُقدم الثريد كخطوة تبركية، ويقولون: إن النبي ﷺ فضّل الثريد على باقي الطعام فنحن نبدأ [به] تكريمًا لفضل النبي، ثم يتم تقديم باقي الأطعمة؛ وهكذا كانوا يفعلون في جميع ليالي رمضان”.

يُفيدنا ابن كثير في ‘البداية والنهاية‘ أن السلطان ألب أرسلان الملقب بـ”سلطان العالم” كان يُتصدق في كل رمضان بخمسة عشر ألف دينار، ما يعادل اليوم حوالي ثلاثة ملايين دولار أميركي تقريبًا.

يقول بهاء الدين الجندي في كتابه ‘السلوك في طبقات العلماء والملوك‘ أن الوزير سرور الفاتكي الحبشي في زبيد باليمن كانت نفقاته وصدقاته في رمضان تتجاوز الوصف، إذ كانت نفقات مطبخه يوميًا في رمضان تبلغ ألف دينار (= اليوم حوالي 200 ألف دولار أميركي تقريبًا)”.

تحدث المؤرخ المقريزي -في كتابه ‘المُقَفَّى الكبير‘- عن كمية النفقات التي تم صرفها في شهر رمضان خلال عهد الوزير الفاطمي المأمون البطائحي (ت 519هـ/1125م). وأشار إلى أن الإنفاق على مائدة الإفطار بلغت تسعين وتسع ليلة، بقيمة تقدر بحوالي 3.3 ملايين دولار أميركي.

أضاف المقريزي أن تلك التكاليف تتضمن تكاليف الوجبات الإفطار والسحور فقط. أما الصدقات والرسوم والتوسعات التي تخص الحاشية والأمراء، فإن مجموعها يصل إلى حوالي مئة ألف دينار، بقيمة تقدر اليوم بحوالي 20 مليون دولار أميركي تقريباً في بعض السنوات.

في كتابه ‘المواعظ والاعتبار‘، ذكر المقريزي عن الموائد الرمضانية التي كان ينظمها القادة العسكريون الفاطميون ثم الأيوبيون. وكانت هذه الموائد تشمل الفقراء والأغنياء على حد سواء.

وفي كتاب ‘السلوك‘، ذكر المقريزي عن عادة السلطان المملوكي الظاهر برقوق (ت 801هـ/1398م) بذبح خمس وعشرين بقرة يومياً خلال شهر رمضان، وتقديم اللحم المطبوخ مع آلاف من أرغفة الخبز للجمعيات والمشاهد. وكان يوزع اللحم المطبوخ بمقدار رطل لحم وثلاثة أرغفة من الخبز لكل إنسان.

تحدث المقريزي أيضاً في كتابه ‘نفح الطيب‘ عن الشخصيات العامة والقادة في الأندلس الإسلامية الذين كانوا ينظمون موائد رمضانية مفتوحة أمام الجميع، بمن فيهم الفقراء وذوي الحاجات.

احتفاء واسع

لم تكن قصور الحكم وحدها الموئل الذي يرحّب بالصائمين، حيث عُهد للشخصيات العامة وقادة الرأي والمجتمع بدور مهم في استضافة الصائمين خلال شهر رمضان. فكانت هناك تقاليد منذ القدم تشير إلى إسهامهم الكبير في هذا المجال، متساوين في الجهود مع رجال الدولة.

من الأمثلة التاريخية؛ فالمحدث أبو نعيم الأصبهاني (ت 430هـ/1040م) يروي لنا عن حماد بن أبي سليمان (الفقيه الكوفي ت 120هـ/739م) الذي كان يفطّر كل ليلة في رمضان خمسين شخصاً. ورواية الشجري الجرجاني (ت 499هـ/1106م) تفيد بأن حمادا كان يفطر خمسمئة شخص كل ليلة في شهر رمضان، مع تقديم ثياب وأطعمة ليلة الفطر.

يذكر الجاحظ (ت 255هـ/869م) قصة عن موسى بن جناح الذي دعا جماعة من جيرانه لتناول الإفطار في رمضان. ويتحدث عن الأطعمة التي كان يُقدمها أصحاب الموائد الرمضانية وكيف كانوا يتصرفون مع الضيوف.

يدعو بمنزلهِ يُجاوره المسجد عشرة فُقهاء في طائفة متنوعة من الناس، يُفطرون معًا كل ليلة، ويتدارسون كتاب الله ويتلاونه.

تظل السيدات لهن الدور الأساسي في تنظيم تموين رمضان وترتيب المائدة، بفضل مهارتهن وخبرتهن في هذا المجال، حيث كانت المطابخ المنزلية تلعب دورًا كبيرًا منذ بدايات شهر رمضان في تاريخ الإسلام.

ويذكر في “السنن الكبرى” للإمام البيهقي: “روى زيد بن وهب (الجهني الصحابي) أننا كنا جالسين في المسجد في رمضان والسماء كانت مغشاة، فلما غابت الشمس ودنا المساء، أعدت حوضًا من اللبن من بيت حفصة، شربها عمر وشربنا نحن”.

تشير المراجع أيضًا إلى قصص حول دور المرأة في إعداد وجبات رمضان، ففي كتاب “المصنف” للإمام ابن أبي شيبة: “روى أبو عمرو الشيباني قال: “رأى عبد الله بن مسعود رجلا يحمل دراهمًا، فسأله: لماذا تفعل بتلك الدراهم؟ فقال: هذه ثلاثون درهمًا أريد شراء بها سمنًا لرمضان. فقال: ضعها في السكرجة وأكلها؟ فأجاب: نعم، فقال: اذهب وأعطها زوجتك وأمرها بشراء لحمًا بدرهم كل يوم، فهو خير لك”.

ويتصدرنا الجانب التحضيري لأطعمة رمضان، حيث يُشير ابن فضل الله العمري إلى علاقة حلوى الكنافة برمضان، إذ كان معاوية يتناولها في السحور، وهو أول من جعلها من ضمن وجبات الصيام.

وبقيت الكنافة من أبرز الأطعمة التي ترتبط برمضان حتى أصبحت جزءًا من تراثنا الثقافي والأدبي، حيث يشير الشاعر أبي الحسين الجزار في قصيدته إلى نكهتها الرائعة وأهميتها في شهر الصيام.

وعمَّت الكنافة رمضان في كثير من البلدان، حيث تعكس عراقتها وأهميتها في موائد الصائمين، وقد خصص الإمام السيوطي كتابًا للحديث عنها باسم “منهل اللطائف في الكنافة والقطائف”.

بالإضافة إلى ذلك، تُظهر الحكايات القديمة تأثير الحلويات مثل الكنافة والقطائف في تجمعات رمضان، وكيف كانت جزءًا لا يتجزأ من تجارب الصيام والاحتفال في هذا الشهر الفضيل.

إفطار جماعي

تفننت مجتمعات الإسلام في صُنُع هذه الأطعمة الرمضانية احتفاءً بتلك الحضارة؛ يحكي عبد الرحمن الجابرتي (ت 1240هـ/1824م) -في كتابه “رَيْبَة القَوَارير في السِرَائِر والمَسَافِر”- عن “ما اعتاد القيام به في رمضان من تحضير البغليج والرفق” المعروف باسم السحور.

ويلاحظ الجابرتي أن تنظيم موائد إفطار “نِعمة الرحمن” أثير حفيظة الرؤساء، فاستخدموها كذريعة للتآمر على الناس أو لتطرد أشخاص معينين من مناصبهم بزعمهم التسلّل إلى صقل سُلطتهم -خاصة العلماء- لتولي الحُكْم!!

ويقدم الجابرتي قصة مثيرة حيث كان محمد أفندي الودنلي (ت 1225هـ/1810م) “مراقب الشؤون” في عهد الولي محمد علي باشا (ت 1265هـ/1848م) على مصر، وكانت عادته إرسال “عدة قِصَاع من الخُضُرَ واللحم إلى المُحتاجين في الجامع الأزهر كل ليلةٍ من ليالي رمضان”!

ويُضيف الجابرتي أنه في يوم من الأيام زار “والي المدينة”.. لمسجد الحسين في إحدى ليالي رمضان، ثم غادر متجهاً إلى منزله قبل الغروب فوجد عدة قِصاع كبيرة تُحمَل على أكتاف الرجال، اسأل عنها فأُبلغ أن.. [الودنلي] يوزعها كل ليلة في رمضان على المحتاجين في الجامع الأزهر مع الخضار واللحوم، فاستنكر ذلك وأبلغ الباشا [محمد علي] بأنه يُربِي القوم ويتألف نفوسهم بأموالك ونحو ذلك”!!

ظلت الجهود الرسمية المتعلقة بالموائد والأطعمة في رمضان جزءاً من تجسيد رؤية مجتمعات الإسلام لأهمية التعاون والتضامن في شهر الصيام لتحقيق توفير الطعام للجميع؛ ونتج عن هذا السياق أن تقاسم سكان الحي الواحد وجبات الإفطار.

ومن الأمثلة التي أثارت انتباه الراحلة ابن بطوطة وصفها أهل دمشق: “ومن فضائل أهل دمشق أنهم لا يفطرون وحدهم في ليالي رمضان على الإطلاق؛ فكل أمير وقاضٍ وشخصية عامة يُدعون أفرادهم والمحتاجين يفطرون عنده، وكل تاجر وأغنياء الأسواق يتبعون نفس النهج، والضعفاء وسكان البادية يجتمعون كل ليلة في بيت أحدٍ منهم أو في المسجد، ويجلب الجميع ما يملكون ليفطرون معاً”!!

انتشرت أيضاً عادة توزيع الهدايا الرسمية من الدولة في بداية رمضان؛ في هذا السياق يستشهد الإمام الطبري -في تاريخه- بمثال مُبكر قدمه الخليفة عمر بن الخطاب، يقول: “كان عمر يُخصص لكل فرد من أهل الجيوف درهمًا يوميًا في رمضان، وفرض على نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم درهمين درهمين، وعندما قيل له: لماذا لا تجمعهم على طاولة واحدة؟ أجاب: أفضل أن يأكل الناس في بيوتهم”.

ربما كانت نية الفاروق الجامع للعائلات حول موائد الإفطار تعزيز للروابط الأسرية بينهم. وعندما تولى عثمان بن عفان الخلافة بعده، أقر بـ”ما يقوم عمر به، وأضاف إلى ذلك تقديم وجبات إفطار الجماعية خارج المنازل” كما ذُكر من قبل.

ويذكر الإمام ابن عساكر -في ‘تاريخ دمشق‘- أن والي العراق مصعب بن الزبير (ت 72هـ/692م) أرسل إلى الصحابي عمرو بن النعمان المزني (ت نحو 72هـ/692م) ألف درهم، فجاءه الصحابي وقال: “الأمير يهم بتوزيع جائزتين عليك، ويقول: لم نُترك قاريًا.. إلا وصله شيء منّا، فاستفد من هذين خلال شهرك هذا (= رمضان)”!!

وفي منتصف القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي، نجد مثالًا على ذلك من أمير تونس الأغالبة أحمد بن محمد بن الأغلب (ت 249هـ/863م) حيث يخبرنا المؤرخ ابن عُذاري المراكشي (ت بعد 712هـ/1312م) -في كتابه ‘البيان المُغرِب‘- بأنه كان يقوم كلّ ليلة من رمضان “ويحمل الشموع أمامه، فيخرج من القصر القديم ويتجول حتى يصل إلى باب أبو الربيع مع جمالٍ محملة بالنقود، فكان يُعطي الفقراء والمحتاجين حتى ينتهي إلى المسجد الجامع بالقيروان، يخرج الناس له يسألون له الدعاء”.

لوازم رمضانية

كانت هناك مبادرات لتقديم الطعام للمحتاجين من أفراد المجتمع، وقد يتطوع أحدهم لتوصيل الطعام لأولئك الذين لا يمكنهم الوصول له في تلك الأماكن. وهكذا يروي ابن عساكر أيضًا عن وجود طابور “الصدقة في مسجد الجامع في شهر رمضان”، ومن بين تلك القصص تقول إحدى الشخصيات العامة: “طلبت امرأة من جنباتي “خبز الصدقة” ولم يتم تقديمه، فقمت بكتابة اسمي لأحضر الخبز وأذهب به لها”!

نبتدي الآن في استعراض بعض من الاهتمام الذي تولاه المجتمع الإسلامي في حاضر الزمان

تعامل العوائل مع متطلبات شهر رمضان حسب قول الشاعر أبو سعيد الآبي (ت 421هـ/1031م) -في ‘نثر الدرر في المحاضرات‘- عندما وصف المؤرخ “الْوَاقِدِيّ (ت 207هـ/822م) بأنه كان شَيخً سَمحً، وأُلتُأَفَه شهر رَمَضَان وَلَمْ تكن عنده نَفَقَة، فَطَلبَ زوجته من يُنْزِل حاجته من إخوانه؛ فقالت: “بفلان الْهَاشِمِي”! فأتاه ذلك الشخص وذكر له حاجته، فأخرج له صندوقًا به مبلغ ضخم فقال: “والله ما عندي سوى هذا”، فاستلمه الْوَاقِدِيّ

ومن خلال جميع المشاركين في استكشاف تلك المتطلبات التي يواجهونها في هذا الشهر؛ جاء إلى الواقدي أيضا شخص يشكو إليه حاجته، فدفع له المبلغ الضخم! وتحكي القصة –التي ربما تكون من نسج الخيال- إن الحادثة تكررت بين عدة أشخاص، حيث كان كل واحد يقدم هذا المبلغ لمن جاءه شاكيًا حاجته، حتى عاد المبلغ إلى صاحبه الأول، فاضطر الجميع إلى تقاسمه بينهم

توقفنا عند ابن كثير -في ‘البداية والنهاية‘- على اهتمام السلاطين بتلك المتطلبات لتلبية احتياجات الأسر في رمضان؛ حيث ذكر أن الخليفة المستنصر بالله العباسي (ت 640هـ/1242م) “في أوّل ليلة من رمضان صدّق على العلماء والفقراء والمحتاجين ليساعدهم على الصيام والقيام”

فتجلى ذلك من خلال اهتمام هذا الخليفة بضرورة التأهب المالي والاستعدادات التي تشغل الجماعات عند حلول هذا الشهر الكريم. وصف هذه الاستعدادات التي وصفها البديري الحلاق الدمشقي (ت 1175هـ/1761م) -في كتابه ‘حوادث دمشق اليومية‘- عندما قال: “احتشد الناس في وقت السحور لدرجة فُتحت متاجر الطعام ليلاً كالفقهاء والسمّانين”!!

في هذا السياق؛ كان البعض مستعدًا لتقديم طلباتهم إلى الجهات الرسمية لتسريع صرف رواتبهم في شهر رمضان، لكي يتمكنوا من استكمال استعداداتهم المنزلية لمتطلباتهم الاجتماعية، تماما كما يحدث في عصرنا هذا عند حلول كل رمضان

ومن هنا نجد لدى ابن مسكويه (ت 421هـ/1031م) -في ‘تجارب الأمم‘- أن منتسبي المؤسسة العسكرية العباسية في بغداد “طلبوا من الحسن بن سهل (ت 236هـ/850م) تقديم خمسين درهمًا لكل فرد لإنفاقها في شهر رمضان”

تصل الأمور أحيانًا إلى درجة استعداد للتظاهر أمام الجهات الرسمية لإجبارها على صرف الرواتب أو جزء منها في بداية رمضان؛ فقد ذكر المؤرخ النويري -في ‘نهاية الأرب‘- أن جموعًا من الشعب “نظموا احتجاجًا أمام القصر الفاطمي في القاهرة وطالبوا بحقوقهم ومستحقاتهم من الوزير..، فقال لهم: الخليفة الفاطمي يُحييكم بالسلام ويأمركم بالإنفاق، وعند بداية شهر رمضان تم الإنفاق.. حيث تقدم لكل فرد ثلث راتبه”!

وبذلك، عدم مراعاة الجهات الرسمية للوضع المعيشي في رمضان ومتطلباته كان سببًا للاستياء؛ حيث ذكر ابن كثير -في ‘البداية والنهاية‘- أن “جاء الأمير سيف الدّين بيدمر (ت 750هـ/1349م) من مصر على [خيل] البريد، فعند وصوله أمر بتجنيد جميع النجّارين والحدادين لتجهيزهم لبيروت لقطع الأخشاب، وتم إرسالهم يوم الأربعاء الثاني من رمضان، ولم يسلفوا أجرهم”!! وعلق ابن كثير قائلًا: “كان من المناسب تسليفهم”

حلول متنوعة

من خلال هذا الوعي بالمسؤوليات المالية المرتبطة بنفقات موائد رمضان؛ عمت الأوساط في المجتمع اتخاذ إجراءات لتلبية احتياجاتها، حيث كانت شرطًا للواقف على إحدى المدارس “أن يدفع -في كلّ شهر رمضان- من وقفها ثلاثة آلاف درهم للمدرّس”، بحسب ما ورد في كتاب ‘المُقَفَّى الكبير‘ للمقريزي

كما نذكر أن المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- ذكر أن “المدرسة الحجازية” بالقاهرة كانت توفر “عدة وقفيّة يُصرف منها مرتبات الموظفين سنويًا.. وفي شهر رمضان كان يُطبخ لهم الطعام”

ويلاحظ أن هذا التوجه بدأ منذ بزوغ الإسلام، ويعكس الاهتمام بضمان الرعاية الأسرية وقيام الأفراد بواجباتهم في الوضع؛ فذكر الإمام الحديث الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1071م)

يحكي بالسند -في كتابه “الجامع لأخلاق الحكيم وأخبار السامع”- أنّ “عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو (ابن العاص ت 65هـ/686م) [كان] في البيت المقدس، وجاءه خادمه فقال: إني أرغب في قضاء هذا الشهر هنا -أي رمضان-، فقال له عبد الله: هل تركت لعائلتك ما يقوتهم؟ قال: لا، قال: في هذا الحال فارجع واترك لهم ما يقوتهم، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «كفى بالإنسان إثماً أن يُضيع من يقوت»”،!

ومن العوامل التي تعزز وعي الصحابة بأهمية صيام رمضان بين الأسرة ما في التجمع حول مائدتهم من تعزيز لصلاتهم ورحمتهم بين شخصياتهم؛ ما نقله الخطيب البغدادي أيضًا -في “سجل بغداد”- من أن الصحابي الجليل كاتم سر النبي ﷺ “حذيفة بن اليمان (ت 36هـ/657م) كان في المدائن [في العراق] فأتاه شهر رمضان، فطلبه رجل من أصحابه أن يأتي عائلته في الكوفة ليصوم معهم”.

وفي مثل هذا السياق؛ لا يوجد عائق يُعيق حركة مطاحن المطابخ وموائد الاستضافة الرمضانية ويُعيق من تدويرها في المنازل أكثر من الأزمات الاقتصادية التي قد تضر بالحياة العامة، على حد ما رصده الإمام قطب الدين اليوناني (ت 726هـ/1326م) -في “ذيل مرآة الزمان”- بقوله “في العشرة الأولى من شهر رمضان حدثت في دمشق صَقِعَة (= صَقيع/عاصفة ثلجية) في العنب والمشمش والباقلاء والورد”.

كما كان من الطبيعي أن تتأثر موائد الصّائمين بنقص بعض محتوياتها، على حدّ ما يخبرنا به زين الدين الملطي (ت 920هـ/1514م) -في “نيل الأمل في آخر الدول”- بقوله ضمن عرضه لأحداث سنة 843هـ/1439م: “وفي رمضان انقرض السمن وعسل النحل في مصر حتى أصبح غير متوفر..، وأزمة وجود اللحم والخضروات”.

وهذه التحديات -التي تنشأ في بعض الأحيان في أوقات شهر رمضان- تمّ التعامل معها بِطُرُق مُتَنوعة من التدخّل الحكومي المباشر والتكافل الاجتماعي. ومن نماذج ذلك ما يوضحه ابن حجر العسقلاني -في “أنباء الخسارة بأبناء العُمْر”- من أن “في شهر رمضان أصبح الغلاء واضحًا في دمشق وارتفعت أسعار الغَرّارة (= كيس حبوب يحتوي حوالي 200 كيلوجرام) من ستمئة إلى سبعمئة، فدعا نائب الفقراء للاجتماع فاجتمعوا في الساحة، فوزَّعهم على الأغنياء بين الحكام والقضاة والتُجّار، فخفّ سؤالهم وانخفض صياحهم وصمتوا”.

ويُمكن أن تكون الإجراءات التي تُتَّخذ لمواجهة أزمات الأسعار في رمضان تدخّل السلطات بشكلٍ غير مباشر من خلال اتخاذ قرارات لتحديد الأسعار بحيث تكون في متناوب الجميع، وهو ما يُذكرنا به الملطي -في “نيل الأمل”- حيث قال: “في رمضان (سنة 874هـ/1469م) -في أوّله- أُعلِن عن سعر القمح بألف درهم للأرباب (= 150 كيلوجرام)، وأمر السلطان بفتح شُحنتَيْن (= مخزنين للحبوب) من مخازنه، وبُيعت فيهما بذلك السعر في ذلك اليوم، فانتشرت الأخبار بين الناس وبُعين بعض التساهل..، وبُيع الرطل الخبز بستة نقود بعد أن كان بتسعة..، وكان هذا بداية للرفاهية”.

ظواهر مثيرة للاهتمام

وتندرج هذه الإجراءات ضمن جهود السلطة لتعزيز الاستقرار العام بين فئات المجتمع التي تتأثر بالارتفاع الذي يصوِّره الملطي أيضًا بقوله في سياق آخر: “وفي رمضان كانت الأسعار مرتفعة، وكان الناس يعانون من انعدام المواد الغذائية وعدم توفر اللحوم الغنمية والبقرية أيضًا، وكانت لحوم الجمال المتوفرة تُباع بأثمان باهظة..، وكان سعر القدح من الأرز حوالي الأربعين ولا يتوفر ولا يُنتج”.

وأدى تطوُّر العادات المتعلقة بموائد رمضان إلى ظواهر اجتماعية مثيرة للاهتمام مثل المطاعم التجارية، حيث من بينها تلك التي كانت تُقام أمام الكعبة المشرفة طوال شهر رمضان وتحتوي على أصناف مثل “تماثيل الأطعمة”، ويروي لنا رحالة وأديب وفقيه أبو جبير الأندلسي (ت 614هـ/1217م) ويصف مشهد هذه المطاعم قائلاً:

“وتُصنع الحلوى من أنواع مختلفة من العسل والسكر المكدس على تصاميم مختلفة، فيتمّ صنع قصص متعددة من الفواكه الطازجة والمجففة. وخلال الأشهر الثلاثة -رجب وشعبان ورمضان- يُعرض منها بعض الصهوات بين الصفا والمروة، ولم يشاهد أحد مناظر بهذه الجمالية سواء في مصر أم في غيرها، لقد صوِّرت منها تماثيل إنسانية وفاكهية، وتم عرضها كالعرائس على منصات، مما دفع بالناظرين للإعجاب والاندهاش وجمدت الأعين وهبطت الدراهم والعملات”!!

ومن بين تلك الظواهر المثيرة للاهتمام أيضًا عادات “التسحير” (نداء السحور) التي أصبحت -منذ قديم الزمان- جزءًا من ثقافة شهر رمضان في المجتمعات الإسلامية، منذما عرف المسلمون طرف السحور في زمن الرسول ﷺ.

فقد ذُكر في صحيحي البخاري (ت 256هـ/870م)والمؤرخ المسلم (ت 261هـ/ 875م) نقل قول النبي ﷺ: “بلال بن رباح (ت 20هـ/642م) هو من يؤذن بالليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم”، والمقصود هنا هو الصحابي الجليل عبد الله بن أم مكتوم (ت 15هـ/637م).

وفي تفسير هذا الحديث النبوي، زين الدين ابن رجب الحنبلي (ت 795هـ/1393م) قال -في كتابه ‘فتح الباري شرح صحيح البخاري‘- إن الأذانين يحققان “مصلحة عظيمة، من استيقاظ النائمين، وبدء تناول السحور للصائمين، وتحديد الوقت بعد دخوله”.

فنون الإنشاد

وعبر مختلف أزمان الإسلام وفي مختلف بلدانه؛ اتخذ الإعلان عن السحور أساليب متعددة حسب الفقيه ابن الحاج المالكي (ت 737هـ/1336م) -في كتابه ‘المدخل‘-، حيث ذكر أن السحور “شهد تنوعا في العادات بين البلاد…، فالسحور في مصر يعلن عنه المؤذنون بكل جامع: تناولوا السحور، كلوا واشربوا، وهكذا وغير ذلك من عاداتهم..، وأما سكان اليمن وبعض سكان المغرب يعملون ضجيجا بالأبواب عند أهل البيوت..، وأما سكان الشام فيقومون بالضجة بالطبول والألحان”.

ويبدو أن سكان الغرب الإسلامي كانوا يستخدمون أكثر من وسيلة للتنبيه بوقت السحور؛ فذكر ابن الحاج أن بعضهم “كانوا يستخدمون البوق على المئذنة ويكررونه”.

وكان لسكان مكة المكرمة طرق متعددة لتنسيق وقت السحور، بما في ذلك مصابيح وشموع إضاءة شهر رمضان؛ حيث قال ابن بطوطة أن “في مكة كانت هناك سقوف مرتفعة، فمن لم يسمع نداء السحور من بعيد يمكنه رؤية الشموع التي تُضاء في قمة المأذنة، فإذا لم يرها فهو يعلم بأن الوقت قد حل”.

ونظرًا لأن فعل السحور تحول إلى شكل من الفنون والثقافات المجتمعية بدلاً من مجرد إعلان من المآذن، فقد تم توثيقه -عبر الزمن- بأنواع من الأشعار والأدب الصوتي، مما جعله يقترب أكثر من الفنون الأدبية والتقاليد الشعبية.

لذلك لم ينته حد الإشعار بدخول الوقت في منظومة السحور، بل ترك بصمة ثقافية وحضارية بتأسيس فن ادبي يعرف بـ”القُوما”، ويعود تسمية هذا النوع الفني إلى “طقس المغنّين بالسحر كل ليلة بعد الغناء: «قوما للسحور»، ينبهون صاحب المنزل ويذكرون فضله ويدعون له..، فسموه بهذا الاسم وأصبح إشارة له”؛ وفقًا لابن حجة الحموي (ت 837هـ/1433م) في كتابه “بلوغ الأمل في فن الزجل”.

وأشار ابن حجة الحموي إلى أن البغداديين كانوا أول من ابتكروا النمط الشعري الإنشادي المسمى “القوما” لإعلان السحور في شهر رمضان، حيث قال: “تم ابتكار القوما خلال حكم الخلفاء من بني العباس في بغداد..، ويروى أن أول من ابتكره هو ابن نقطة (مطرب شعبي ت بعد 575هـ/1179م) لصالح الخليفة الناصر (العباسي ت 622هـ/1225م)، والصحيح أنه تم ابتكاره قبل ذلك”.

وأوضح الحموي أن ابن نقطة كان محبوبًا للخليفة فكان يحظى بتقديره، وكان لديه فرقة غنائية ومسحرين يغنون معه في ليالي رمضان في بغداد، ثم انتقل طريقتهم بقيادة أحد أبنائه إلى نسج “القوما” والغناء به في ليالي رمضان!!

المصدر : الجزيرة



قد يعجبك ايضا

تراث

أقرأ أيضا

أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Exit mobile version