في تجليات الفقد!
1/9/2024
لطالما كنت أبحث في معاني الكلمات كمن يغوص في عمق البحر، أسعى لالتقاط جوهرها الخفي، لأجدها كنوزًا تنير ظلمة الروح وتصل إلى قاع القلب.
رؤية الكلمات بالنسبة لي ليست مجرد جمل تُلقى، بل هي أرواح تتنفس. تتجلى في النفس كما تضيء الشمس في الصباح، وليست مجرد حروف تتجمع لتشكل معاني، بل كائنات حية تعبر عن انفعالاتنا في لحظات الفرح والحزن. لكن هناك كلمة واحدة تحمل ثقلًا لا يُطاق، تتردد على ألسنة من عاشوا الفقد، فيشعرون بها كجرح في الصدر وكغصة في الحلق.. إنها “الفقد”.
### الفقد كحالة وجودية
لم يكن الفقد يومًا مجرد غياب عابر. إنه منطقة شاسعة من الفراغ تتعاظم مثل وحش جائع لا يُشبع. كل الأشياء حولك تصبح ظلالًا باهتة، وكل التفاصيل كأطياف الذكرى التي تتلاشى عند لمسها.
الفقد ليس مجرد غياب شيء أو شخص، بل هو كسر في عمق الروح، كما ينكسر الزجاج ويتناثر كالشظايا. هو ذلك الشعور الضاغط في الليالي الطويلة، حيث لا يُسمع سوى همس الرياح، وتبقى الذكريات كأشباح تطوف حول النفس باحثة عن مأوى. إنه سهم القدر الذي يضرب بلا رحمة، يمزق القلب تاركًا فراغًا هائلًا لا يمتلئ أبدًا.
كيف يكون الغياب إلا كجبل يعيق خطوات الإنسان، يحجب الرؤية ويجعل الحياة بعد الغياب طريقًا مهجورة محاطة بالأشواك. كل لحظة كانت مليئة بالفرح تتحول إلى ذكرى باهتة، بينما تظل الروح مشدودة بالذكريات. الفقد دائمًا ما يكون مساحة من فراغ يزداد اتساعًا، وكل شيء يتلاشى من حولك، فيشعر الإنسان بالوحدة وسط الآخرين، وكأن الأمر يتعلق برغبة في العودة إلى ما لا يمكن استعادته.
### تجربة الفقد
الفقد يكون كالحياة المتوقفة عند لحظة فارقة، تلك اللحظة التي تعايشت فيها مع كل شيء، ثم انقلب كل شيء إلى سراب. الذكريات تتسرب من الذاكرة كالماء من إناء مثقوب، وكلما حاولت جمعها، تنفلت أكثر، حتى تجد نفسك محاطًا بفراغ يتسع ليعكس حجم الخسارة.
يا لفداحة الفقد الذي يخيم علينا كليل حالك ظلمات، لا نور فيه إلا بقايا ضوء النجوم التي كانت تسطع في سماء الأمس!
لقد كان الفراق وسيمت الحياة التي لا تتغير. كل لحظة نعيشها هي استعداد لوداع قادم لا محالة.
إذا كان الإحساس بالدفء يأتي من الداخل، فإن الفقد يحررك من معطف الأمان، ويجعل الأيام القادمة تبدو مختلفة، حيث تظل تتأمل في ذلك الشخص الذي كنت قبل أن يبتلعك الفراغ، وتصبح مخلوقًا من الذكريات التي تقيم احتفالًا في ذهنك على شرف آلامك.
إنها تجربة معقدة تتعلق بفقدان الأحلام، والأوطان، والأشخاص.. ما أعظم قسوة تلك المشاعر!
لا زلت أذكر كيف انهمرت دموع تلك السيدة الدانماركية عندما أخبرتها عن هوايتي في التراسل البريدي. أخبرتني أنها تحتفظ برسائل عديدة من ابنها المتوفي، لكنها لا تجرؤ على إعادة فتح رسائلها حتى في لحظات الشوق، لأن قلبها لا يحتمل.
يا أيها الفقد، ما سر قدرتك على زرع حزن دائم في القلب؟!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
رابط المصدر