تقدَّمت وكالة الفضاء الأمريكية في تقدير أعمار النجوم بمليارات السنين وتناولت المواضيع الإسلامية والنجوم السوداء والنظام الشمسي ودوران الكوكب الأزرق.. علوم الفضاء في حضارتنا

By العربية الآن



المعارف الفضائية الإسلامية.. أكاديميات ألهمت نهضة أوروبا الحديثة

قدّم العالِم والفلكي المسلم محمد بن إبراهيم الفَزَاري (ت 189هـ/815م) محاولة جريئة في التاريخ لقياس عمر الكون؛ حيث افترض -كسابقيه من علماء الفلك- أن جميع الكواكب والنجوم والأجرام بدأت من برج الحَمَل في السماء. قام بـ"تقدير مسار لكلّ واحد منها فسارت من هناك، ولا تتم لقاؤها في المكان الأوّلي إلا بعد 4,300,020,000 سنة، ثم يقضي الله -عزّ وجلّ- ما شاء فيها بحسب علمه وقدرته. الفترة منذ ظهورها إلى الهجرة: 1,972,947,723 سنة"!!

ووفقاً لافتراض الفزاري المذكور من قبل المؤرخ ابنُ أيْبَك الدَّوَاداري (ت بعد 736هـ/1335م)؛ فإن المدة بين بداية التقويم الهجري ولحظة انطلاق الكواكب من برج الحَمَل: 1,972,947,723 سنة!!

على الرغم من تطور علم الفلك الحديث بشكل كبير عن افتراضات الفزاري؛ إلا أن جسارته ومحاولته البادئة تضعنا في سياق التماسك العلمي في علوم الفلك الإسلامية، خاصة مع اعتبار العلماء اليوم لوجود حوالي 200 تريليون نجم في الكون، وتقدير عمر الكون بـ13.8 مليار سنة، وهو ثلاث مرات تقريبا لافتراض الفزاري!!

لفترة النشوء في الفلك التي قام بها العلماء المسلمون، فإنها مبنية على تأمل عميق في حركة الكواكب والنجوم، وتعود إلى أقدم العصور المعروفة.

الفضول اللاحق عن السماء -التي تحيط بالأرض بنور النهار وكثرة النجوم في الليل- يثير تساؤلات حول طبيعتها وأسرارها. تساؤلات تدور في ذهن الإنسان طوال الوقت وهو ينظر إلى السماء ليلا ونهارا.

كيف نحسب الزمن؟ حاول الإنسان التعرف على دورات الشمس والقمر لقياس الزمن، وهو ما يجمع عليه المؤرخ الأميركي وِلْ ديورانت (ت 1402هـ/1981م) -في ‘قصة الحضارة‘- بقوله "إن الناس كانوا يقيسون الزمن بدورات القمر قبل استخدام الأعوام لفترة طويلة".

تطوّرت المعرفة العلمية الفلكية تدريجيا بتقدم المجتمعات البشرية، وتم جمع وترسيخ المعارف السابقة بفضل جهود التدوين عبر العصور.

اهتمّ المسلمون بالمعارف الفلكية وتفحصوا مصادرها، وعملوا على تطويرها بمنهج قائم على البحث العلمي والتجارب. وواصلوا تحقيق الإنجازات النظرية والتطبيقية في علم الفلك عبر القرون.

لاحظ الاهتمام بالمعارف الفلكية لم يكن حكرًا على علماء الفلك فقط، بل تجاوز إلى الأئمة والفقهاء والمحدِّثين، كما في حالة الإمام ابن عقيل الحنبلي (ت 513هـ/1119م) وشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) اللذين اهتما بإثبات كروية الأرض.

العالم والسماوات بصورة عامة منذ عصر الصحابة قد تحدّثا.

هذا المقال يقدم لقرائه جولة تاريخية شاملة في ميادين علم الفلك الإسلامي. يتعمق القارئ في نشأتها واستخداماتها، ويتبع تطوّراتها وتحوّلاتها البارزة، متعمقًا في حياة أهم الشخصيات التي أسهمت في هذا المجال العلمي الحيوي خلال عصر النهضة والتقدّم الحضاري. تركّز الجهود على سرد أعمالهم (مثل النظريات والمؤلفات) في مجال الرصد الفلكي والأجهزة العملية والمراصد.

بالإضافة إلى ذلك، يسلط المقال الضوء على التبادل الحضاري في عالم الفلك بين الحضارة الإسلامية والحضارات الهندية والفارسية واليونانية السالفة، وبعدها مع التأثيرات المعاصرة للحضارة الغربية التي تبنّت هذا التراث العلمي، بعد تحريره وتطويره، وانتقلته إلى بقاع العالم. هذا يبرز الحقيقة العلمية التاريخية التي تفيد بأن "المسلمين هم الذين نشروا معارف علم الفلك في جميع أنحاء العالم، في الحقيقة"، كما ذكر مؤرخ الحضارات الفرنسي غوستاف لوبون (ت 1350هـ/1931م) في كتابه ‘حضارة العرب‘.

انفتاح فعّال
تقدمت المعرفة العلمية الفلكية تطويراً تدريجياً مع تقدم الحضارة والعمران، وحصلت على الإضافات من جهود العصور البشرية المتتالية في الكتابة. فعندما أسلم المسلمون، استفادوا من معارف علم الفلك المأخوذة من المصادر الهندية، الفارسية، واليونانية. من أبرز المصادر التي استقوا منها كانت التي كتبها العالم اليوناني بأبطليموس (ت نحو 170م) والتي ترجموها في عهد الدولة العباسية الأولى، وتضمنت: كتاب "المجسطي في اقتصاص أصول حركات الكواكب" ورسالتيه "في ظهور الكواكب الثابتة" و"زيج بطلميوس".

انتشرت واشتهرت النصوص الهندية القديمة في علم الفلك بين المسلمين، مثل "الآرجبهر/آرجبهد" و"زيج الأركند" و"زيج السند هند". ويرد المؤرخ جمال الدين القفطي (ت 646هـ/1248م) في كتابه "إخبار العلماء بأخبار الحكماء" قائلاً: "من مذاهب الهند في علوم النجوم، الثلاثة المذاهب المشهورة عندهم، وهي: مذهب "السند هند" ومذهب "الآرجبهر" ومذهب "الأركند". لقد ورثنا المذهب "السند هند" الذي اعتمده مجموعة من علماء الإسلام وألفوا فيه الزيجة (= الأزياج/الزيج)".

يُفسّر ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) -في "المقدمة"- "علم الأزياج" على أنه "صناعة حسابية تُطبّق على قوانين رقمية تتعلق بحركة كل كوكب، وما أنجزته عوامل الكون في تحديد سرعته وبطؤه واستقامته ورجوعه غير ذلك، ويعرّف به مواقع الكواكب في مداراتها في أي وقت معين...، ويقومون بترتيبها في جدول يُسهّل على المتعلمين ويُسمى الأزياج، ويُسمّى الاستخراج لمواقع الكواكب في الوقت المحدد لهذه الصناعة: تهديلا وضبطً".

تُستخدم الأزياج في الفلك لمعرفة الأوج (أبعد نقطة من الكوكب عن الشمس) والحضيض (المركز الأقرب للكوكب من الشمس) والميول، وغيرها من حركات الكواكب. يعتمد الفلكيون المسلمون على القوانين والكتب الفلكية المعروفة منذ ما قبل الإسلام، حيث كشفوا عن أخطائها ونقحوها، وأضافوا اكتشافاتهم الخاصة إليها.الحسابات الرياضية والرصد؛ حيث يشير مؤرخ العلوم العربية الدكتور جورج صليبا -في كتابه ‘العلوم الإسلامية وظهور النهضة الأوروبية‘- إلى أن "عندما وصل علمُ الفلك الإسلامي إلى نضوجه النظري... بعد القرن الثالث عشر (الميلادي/الهجري السابع)، أصبح من الصعب العثور على عالم فلكي جدير لم يحاول تجديد علم الفلك اليوناني خلال تلك الفترة؛ حيث لم يكن بالإمكان لأي من ممارسي علم الفلك أن يُعتبر جادًا إلا بمجهود لحل التحديات الصعبة في علم الفلك اليوناني".

وتذكر المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه (ت 1420هـ/1999م) - في كتابها ‘شمس العرب تلمع على الغرب‘- عن الواقعية العلمية التي دعت العلماء المسلمين لتحقيق هذا التقدم الثوري في علم الفلك لدرجة أنه بدا وكأنه تطوَّر إلى دورة جديدة تحت إشرافهم؛ مشيرة: "في حين أدرك الإغريق دائمًا أن الشمول في رؤيتهم للأمور، وكشفوا عن التنظيم الذكي والترتيب المنطقي في كافة الظواهر الطبيعية؛ فإن العرب كانوا يتبنون الهدف العلمي الذي يدفعهم إلى إعداد أنفسهم بكامل قدرتها لا في إجراء بحث واحد أو عشرة بحوث فحسب، بل في العشرات العديدة منها".

وتعتبر هونكه أن هناك احتياجات دينية وعلمية دفعت المسلمين نحو دخول مجال علم الفلك، واستيعاب كل المعارف الفلكية السابقة التي توصلت إليهم من الهنود والفرس والإغريق؛ "إذ لأن العرب كانوا دائمًا يسعون لتحقيق مكاسب مادية (= فائدة عملية) من أجل أبحاثهم العلمية في الوقت المناسب: مثل أداء الصلاة في أوقاتها المحددة، وتحديد ظهور القمر في شهر رمضان في لحظته الأولى، وتعيين طرق تحرك القوافل في الصحاري التي تحدد مصيرها بين الحياة والموت؛ كانوا يولون اهتمامًا كبيرًا للنتائج ومدى دقتها، على عكس الإغريق الذين كانوا يتهاونون غالبًا في الدقة، ويغفلون كثيرًا عن الحسابات الصعبة. حقق العرب تطورًا كبيرًا في مجال علم الهيئة والتنجيم -تلبيةً لاحتياجاتهم اليومية- حتى أصبحت أسسًا جديدة لعلم الفلك".

ومن هذه الأسباب اندفع المسلمون نحو ترجمة وتعريب جميع ما ورد عن علوم الفلك من الحضارات السابقة؛ إذ عرفوا بعض الأعمال الفارسية القديمة مثل «زيج الشاه» الذي وصفه المستشرق الروسي كراتشكوفسكي (ت 1371هـ/1951م) –في ‘تاريخ الأدب الجغرافي العربي‘- بأنه "كان أحد أبرز المؤلفات الفلكية الإيرانية التي انتشرت في اللغة العربية، وربما كان الوحيد من نوعه؛ حيث لا نعلم عن وجود ترجمات لأي مؤلفات أخرى، ومن الوارد أن الفُرس لم يكونوا على دراية بمؤلفات أخرى في هذا المجال".

وقد ذكر ابن رُسْتَه الفارسي (ت 300هـ/912م) في كتابه ‘الأعلاق الثمينة‘ وجود «زَيج الشاه»، حيث قال إن منجمين وعلماء الفلك -حتى في عهد الخليفة المأمون العباسي (ت 218هـ/833م)- كانوا "يثبَتون الاحكام باستفهام «زيج الشاه»، حيث تعود أصوله إلى مالك يَزْدَجِرد بن شَهْريار (ت 30هـ/651م) الذي كان يعتبر آخر ملك من ملوك الفرس الساسانيين". وقد نوّه كراتشكوفسكي عن أهمية هذا الزج في كتابات ابن رُسْتَه قائلًا إن "هذا الزيج يبدأ حساب تأريخه منذ بداية حكم يزدجرد [الثالث]، أي في اليوم السادس عشر من شهر يونيو سنة 632" الميلادية.

الاهتمام المبكر
على الرغم من أن المسلمين قد استفادوا من المراجع اليونانية والفارسية والهندية التي تم إعدادها قبل الإسلام في مجالات الفلك/الهيئة والتنجيم؛ إلا أن ذلك لا يعني انقراض الحركة العلمية الفلكية في العراق وبلاد الشام خلال الفترة الإسلامية الأولى، وبشكل خاص بين علماء السريان مثل القس ساويرا سابوخت (ت 47هـ/667م) والقس يعقوب الروهاوي (ت 89هـ/708م) في القرن الأول الهجري/السابع الميلادي.

وأشارت مصادر التاريخ الأموي المبكر إلى الاهتمام الذي أبداه المسلمون بالظواهر الفلكية، وكان ذلك إمتدادًا للتقاليد العربية القديمة في هذا المجال؛ إذ في الجاهلية "لم تكن المعرفة للبدو تقتصر على القمر فقط، وإنما كانوا يعرفون بشكل جيد الكواكب التي تحتل المكانة المرموقة كالزُهرة (فينوس) وعطارد (عطارد)، وفيما يتعلق بالنجوم كان لديهم معرفة بأكثر من مئتين وخمسين نجمًا بأسمائهم العربية الأصيلة التي جمعها بعناية شديدة في القرن العاشر الفلكي عبد الرحمن الصوفي (ت 376هـ/986م)"؛ حسب كراتشكوفسكي.

وبالفعل، أوصل المؤرخ جورج صليبا - في بحثه عن المعارف الفلكية لدى عرب الجاهلية والذي ألمح إليه في كتابه ‘العلوم الإسلامية وظهور النهضة الأوروبية‘- إلى أن "العلوم الفلكية التي يمكن توثيقها منذ تلك الفترة لم تختلف كثيرًا -من حيث النوع- عن العلوم التي كانت شائعة في المناطق المجاورة، مثل بيزنطة أو إيران الساسانية".أو حتى في الهند"!!

من بين المفاهيم العربية الجاهلية في مجال الفلك كانوا يسمونها "الأنواء"، ويعرفها كراتشكوفسكي بأنها "التنبؤ بالطقس وتحديد فصول السنة الملائمة للزراعة نتيجة لخبرة طويلة الأمد بمراقبة طلوع ومغيب نجوم معينة"، ثم يشير إلى أن مؤلفات المسلمين في هذا المجال تجاوزت عشرين كتابًا.. في القرون التاسع والعاشر [الميلادييْن/الثالث والرابع الهجرييْن] فقط.

وكانت واحدة من تطبيقات ثقافة "الأنواء" في العصر الإسلامي هي أن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (ت 86هـ/696م) سأل يومًا الإمام أبو عامر الشَّعْبي (ت 106هـ/725م): "من أين تهبّ الريح؟ فأجاب: لا أعرف يا أمير المؤمنين! فقال عبد الملك: مَهَبّ [ريح] الشمال تأتي من مطلع بنات نَعْش (= سبعة نجوم شمالية بكوكبة الدب الأكبر) إلى مطلع الشمس، ومهب الصَّبا تأتي من مطلع الشمس إلى مطلع سُهيل (= نجم جنوبي)، والريح من الجنوب تأتي من مطلع سُهَيل إلى مغرب الشمس، والريح من الدَّبُور تأتي من مغرب الشمس إلى مطلع بنات نعش"؛ كما ذكر المسعودي (ت 346هـ/957م) في كتابه ‘مروج الذهب ومعادن الجوهر‘.

واشتُهرت القصص التاريخية التي تروي بأن الأمير الأموي خالد بن يزيد بن معاوية (ت 85هـ/704م) كان شاعرًا مثقفًا، وعالمًا مهتمًا بعلوم عدة منها علم الفلك الذي كان يُعرف عند المسلمين بـ«علم الهيئة» أو «علم النجوم»، ولدينا من آثاره أبيات شعرية في التنجيم تُسمّى «ديوان النجوم»، وذكر المؤرخ الألماني كارل بروكلمان (ت 1376هـ/1956م) أن نُسخة منها موجودة في مكتبة كوبريللي وأخرى في مكتبة جار الله، وكلتا المكتبتين في إسطنبول التركية.

ومن ما يثبت اهتمام الأمير خالد بعلم الفلك هو اقتناؤه بعض الآلات الأثرية الثمينة، بما في ذلك كرة نحاسية تبسط بعض المسائل الفلكية والتي -حسبما يُقال- أنها من صُنع عالم الفلك اليوناني بطلميوس نفسه؛ حسبما ذكره القِفْطي في رواية عن عالم فلكي مسلم -في الدولة الفاطمية- سمّاه ابن السنبدي (ت بعد 435هـ/1044م)، وصفه بأنه "رجل كان في مصر، وكان لديه معرفة واسعة بعمل الأَسْطُرْلاب (= آلة فلكية قديمة تظهر حركة الأجرام السماوية وشكل السماء في موقع معين وزمن محدد) والحركات، وكان لدينا آلاته ذات الشكل الجيد والتخطيط الدقيق".

وحكى ابن السنبدي أن الإدارة الفاطمية بمصر أدرجته -في سنة 435هـ/1044م- في لجنة فنية مُكلَّفة بمهمة صيانة وفهرسة "خزانة الكتب" الفاطمية الكبرى بالقاهرة، وأضاف قائلا: "وشاهدت ما يتعلق بصناعتي (= علوم الفلكية والرياضية) ورأيت من كتب النجوم والهندسة والفلسفة، وخاصة كتب النجوم والهندسة والفلسفة، قرابة ستة آلاف وخمسمئة جزء، وكرة نحاسية من صُنع بطلميوس وعليها مكتوب: «هذه الكرة هديّة من الأمير خالد بن يزيد بن معاوية»، وتأمّلت في تاريخها ووجدنا أنها صُنعت قبل عهد بطلميوس بمئتي واثنتين وخمسين سنة"!! ويبدو أن هذه الكرة الفلكية صُنعت قبل عهد بطلميوس بسبع سنوات فقط.

وكانت كرة خالد الفلكية مجرد مقدمة لأدوات أخرى مشابهة ابتكروها علماء الفلك المسلمون، من بينها تلك التي تصلنا منها إلى عصرنا والتي تناولها المؤرخ ويل ديورانت -في ‘قصة الحضارة‘- حيث قال: "في عام 1081 (474هـ) اخترع إبراهيم السَّهْلي (الأندلسي المتوفى بعد 478هـ/1085م) -أحدُ علماء بلنسية- أقدمَ كرة سماوية معروفة تاريخيًّا! وقد صُنعت هذه الكرة من النحاس الأصفر وكان قطرها 209 ملليمترات (5.81 بوصات)؛ وكان عليها 1015 نجمًا مقسمة إلى سبعة وأربعين كوكبة، وتبدو النجوم فيها وفقًا لأحجامها"!!

اندفاعة عباسية
وعلى الرغم من تلك الأخبار والآثار التي تشير إلى اهتمام واضح بعلم الفلك في عهد الأمويين؛ إلا أننا "لا نجد أي أثر [مكتوب] لعلم الجغرافيا الفلكية بين العرب في تلك الفترة. ومع ذلك، فإنها تنهض فجأة كسيل جارف في نهاية القرن الثامن (الميلادي = الثاني الهجري)، ولا تكتفي بإبراز فرعًا جديدًا فحسب، بل تحدث تحولًا كبيرًا في الفروع الأخرى التي تشكّلت في ذلك الوقت" في مجال الجغرافيا بشكل عام؛ وفقًا لتأليف كراتشكوفسكي.

وهذا "السيل الجارف" من أعلام وأعمال الفلك الإسلامي تمت دراسته بعمق عن طريق المستشرق السويسري هَيْنْرِخ سُوتر (ت 1340هـ/1922م)، الذي كتب كتابًا بالألمانية بعنوان: «أصحاب الرياضيات والفلك عند العرب»

في تصانيفهم، تراجمَ نيّف وخمسمئة رجل ممن اشتغلوا من العرب بالهيئة أو العلوم الرياضية، وروى فيه تفاصيل عن أسمائهم ومؤلفاتهم مع بيان انتشارها بالطبع، وما يُعرف من وجودها بنسخ خطية في مكاتب الغرب والشرق؛ وفقا للمستشرق الإيطالي المختص في التراث الفلكي الإسلامي كارلو نلينو في كتابه "علم الفلك عند العرب في القرون الوسطى"، وقد وجّه الفزاري اهتمامًا علميًّا منهجيًّا لعلم الفلك وبرع فيه، وكان أول من نظر إليه بعبوغ الاهتمام عند مسلمي العلوم التجريبية في الدولة العباسية؛ ولذلك، جعله الخليفة العباسي المنصور على رأس علماء الفلك في دولته، واستعان به في ترجمة مؤلفات "السند الهند الكبير" إلى العربية، وأمره بإلّفة كتاب يعتبر مرجعا رئيسيا في حركات الكواكب.

أفقد الفزاري افتراضًا بأن جميع الكواكب والنجوم بدأت رحلتها من برج الحمل في السماء، وقدر لكل منها سيرًا معلومًا، وأنها لا تتلاقى إلا بعد أكثر من أربعة ترليونات سنة، وهذا الافتراض يظهر تفوّقه في الجرأة رغم الضيق في إمكانيات عصره.

وفي حين أن معظم العلماء الفلكيين اليوم يعتقدون بوجود مئات المليارات من النجوم في الكون، وعمر الكون بحدود 13.8 مليار سنة، فإن فهم الفزاري البعيد عن الواقع يبقى محط إعجاب، ويجدر بالذكر أنه كان أول من ينبّئ بتلك التوقعات البعيدة.

على الرغم من شكوك العلماء المسلمين بأرقام الفزاري واستنداده على جداول "السند الهند" القديمة، إلا أنه كان أول عالم مسلم يستوعب تقديرات تقنية ناسا الحديثة لأعمار النجوم والكواكب، والتي تقدّر سرعة الضوء بـ9.46 تريليون كيلومتر سنويًا.

كما أن علم الفلك الإسلامي كان محطة أولى في تحديد سرعة الضوء كمعيار للقياسات الفلكية، كما قرر العالم الفلكي البيروني أن سرعة الضوء أكبر بكثير من سرعة الصوت، وهو ما أشاد به المستشرق الإسباني جوان فيرنيه في بحثه عن إسهامات المسلمين في علم الفلك.

وبالتأكيد، كانت معرفة الفزاري وافتراضاته في علم الفلك سببًا في تقدم العلم في عصور لاحقة ويعتبر محطة أولى في تطوير نظريات مثل الثقوب السوداء التي تعتبر حديثة اليوم، وهذا المفهوم كان موجودًا في كتب العلماء الإسلاميين القدماء.

-في كتابه ‘رُياض العلوم‘- قال: "البِئر: عَبارة عن فَوهة في الأَرض تَظلُّم/تَختفي فيها النُورُ عندما يَصِلُ إليها الكَواكِب؛ والوَحيدة هو: بِئر".

واللافت أن وكالة "ناسا" الفضائية تُعبّر بشَكلٍ عام عن "الثُقوب السَّوداء" العَلميَّة؛ ذلك جاء ذكره في مَوقعها العربي الرَّسمي حيث وُصِفت بأنها "انخراطات لأَجسام نجميَّة ثَقيلة وهي "بِئران" في هَيكل الكون، تَصِلُ عُمقَها إلى درَجة لا تُسفِر عن فرصة لأي شَيء -حَتى الضوء- للهَروب منها"!

التطوير المُتنامي
في بِداية القَرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي؛ ظَهر عالِم الرياضيات والفلك مُحَمَّد ابن موسى الخوارزمي (ت وفاته بعد 232هـ/850م) ليُختصِر ويُعَدِّل الإِنجازات التي قام بها الفزاري قبله بنِصف قَرن، وذلك استنادًا إلى توصِية من الخَليفة العبَّاسي المأمون الذي أسَّس في بغداد "دار الحكمة" التي تُعدّ أوَّل منشأة عِلميَّة أو أكاديميَّة فاحِصَة في تاريخ الإسلام.

سارت هذه المُنشأة على خُطى الترجمة والعلوم التجريبية وبما فيها الفلك، ومِن خِلال تلك العُملية تَوالى التطوير لـ "مدرسة بغداد [الفلكيّة] التي امتَدَّ عُصر ازدهارها لسبع قرون (750–1450م [/132-854هـ])" حسبما ذُكر من قِبَل الدارس الفرنسي غوستاف لوبون (ت 1350هـ/1931م) في كتابه ‘حضارة العرب‘.

استمد العالم الفلكي الخوارزمي من المُنجَزات الفلكيَّة للفزاري، إلا أنَّه أدخل عَناصر من العِلم الفلكي لبطلميوس الإغريقي. كما تبَيَّن من "زيج الخوارزمي" أنه خلَق جَداول لحركات الشَمس والقمر والكواكب الخمسة المَعروفَة آنَذاك، مُقَدِمًا شرحًا لطريقة استِعمالها العلمي.

العلماء أعجبوا بعمله "وأَرَاهُم جيدًا في زمنٍ كان لأهل هذا الزمان أمورٌ بها وَقَفُوا وتحلَّقوا بها في الأُفق، لا تزال حاسِمةً عند أهل الاهتمام بالتعديل (= الحساب الفلكي) إلى الوقت الحاضر"؛ إذ بَقِي التعديل الذي أدخله الخوارزمي إلى زيج "السُنَّد هند" الفلكي قائمًا حَتّى القَرن السابع الهجري/الـ13م؛ وفقًا للباحث الذي وافَته المُنيّة منتصف هذا القَرن.

وإذا كان الفزاري هو أوَّل عالِم يُعتَدَّ به في الحضارة الإسلامية بمَصادره ومُبادِراته الفلكيَّة الهِنديَّة ونقلها إلى النَّص العربي، فإن مُحَمَّد ابن كَثير الفَرْغاني (ت وفاته بعد 247هـ/862م) - الذي اتَّبع الفزاري بنصف قَرن وكان رفيقًا للخوارزمي في دار "دار الحكمة" العباسية - كان أوَّل عالِم إسلامي يَعمَل على تبسيط وشَرح عِلم الفلك في كِتَاب باسمه: «كِتاب في جوامع علم النجوم».

وتم طَبع رِسالة الفَرْغاني هذه - التي وُصِفت بأنها من بين مؤلفَات الفلك الإسلامي "تكاد تكون أشهرها في أوروبا المتوسطة"- الباحث الهولندي يعقوب غوليوس (ت 1078هـ/1667م)، ونُشِرت بَعد وفاته في مدينة أمستردام سنة 1080هـ/1669م.

في مُنجَزه هذا؛ يُمثِل الفَرْغاني - في ثلاثين فَصلًا - كيف يتَجسد الكون بشكل وصفي بدون دُلُّة أو معادلات رياضيَّة، ونجد فيه وصفًا لاختلاف الأشهر والسنوات وفقًا للتَقاويم العربيَّة والسُريانيَّة والبيزنطيَّة والفارسيَّة والمصريَّة.

ويُبسُط الفَرْغاني الحُجَّة عن كروية السماوات والأرض التي تَفتُقدُ إليها العلماء - قبل الإسلام وبعد ذلك - إلى حين أنَّه "يذكر بعض الحُجَج المُستعمَلة في أيامنا الحاضرة لتأَكيد كروية الأرض، مِثل اختلاف مواعيد ظُهور نجمٍ مُعين أو تأَكيد اختلاف الكسوف بالتزامن مع اختلاف المواقع... وغيرها"؛ وفقًا لكراتشكوفسكي. ومِن نصوص الفَرْغاني في ذلك يُقول: "والدليل على ذلك (= كروية الأرض) أنَّ الكواكبَ كلها تبدو من الشَرق، فتَرْتفعُ قليلًا قليلًا باتجاه واحد في حَرَكاتها ومِقدار أجسامها وأبْعاد بَعْضها عَن بَعض إلى أن تَصِلَ إلى المنتصف السماء، ثم تترجم هابطةً باتّجاه المَغْرِب على هذا الترتيب والنظام".

ومن المُلفت أن يُؤمِن بكروية الأرض لدى المُسلمين لَم يَقتصِر على العلماء الفلكيَّة، بل تَنَوَّع إلى العلماء البارزين من أئمَّة الفقهاء والمُحدِّثين وبَعض الأدباء، خاصّة من علماء المَذهب الحنبلي؛ إذ هذا الإمام ابن عقيل الحنبلي (ت 513هـ/1119م) كان يتأمّل كُتُب علوم الهندسة والفلك ويقَوم بنقل المحَتويات في سياق الحُجَّة والتمَرُّن العلمي المنطقي.

ومن بين هذا النَّص القَيِّم الذي يَتحدث فيه عن مَفاهيم فلكية وجغرافية مثل كروية الأرض وخط الاستواء، والذي وَثَّقه لنا الإمام الحنبلي أبو الفرَج ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) في ‘المنتظم‘: "قال أبو الوفاء بن عقيل: ونقلتُ من ‘كتاب الهندسة‘: ذَكَرَ علماءُ الهندسة أنَّ الأرض على صُورة الكُرة على تَدوير الفلك، مَوقِعُهَا في جَوف الفلك كالحاجِب الملوّن في جَوف البيضة…؛ والأرض مُقَسَّمة نِصفَين بينهما خُط الاستواء، وهو [يمتد] من الشَرق إلى المَغرب، وهو طول الأرض، وهو أكبر خط في «كرة"."الأُرْض"

يُقرِر شيخ الإسلام فقيه الإسلام ابن تيمية الحنبلي (ت 728هـ/1328م) تأكيد كروية العالم سرداً -في كتابه ‘مجموع الفتاوى‘- "تفقدَ" المسلمون الفقهي على تأكيد ذلك كما هو الحال مع علماء الفلك في الأزمنة القديمة والحديثة؛ إذ ها هو يقول: "اعلم أن "العالم" قد توافقوا على أنه كروي الشكل...؛ والأجرام السماوية دائرية بالكتاب والسنة والتفقد؛ فكلمة "الطلب" تُشير إلى الدوران، ومنه قوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}...، وعلماء الفلك والحساب متفقون على ذلك".

كذلك يناقش بشكل كبير -في ‘منهاج السُّنة النبوية‘ وكتبه الأخرى- الذين "قد يختلفون في دوران الأجرام [عمومًا] ويُدعون شكلاً آخر" لها، مؤكداً أن "الأجرام السماوية دائرية وفقاً لعلماء المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بكفاح، كما ثبت ذلك عندهم بالسند المذكور في مكانه، بل تم تحقيق تفقد المسلمين حول هذا الأمر من قبل أكثر من عالم مسلم، وهم الذين أخطأوا على الناس الأخبار...، وقد دل على ذلك البرنامج والتفقد"!!

وقد أورد المستشرق نلّينو -في كتابه ‘علم الفلك عند العرب في القرون الوسطى‘- مناقشة للإمام فخر الدين الرازي الشافعي (ت 606هـ/1209م) لبعض الوجهات الفلكية اليونانية التي لاحت مع استقامة البحوث المعاصرة، وهذا يعود إلى نظرية "مركز العالم الذي هو الذى كان عليه المركز الذي صنع العالم، وفقا لهذا الرأي وقف فلكة العرب كلها، لكن ترتيب يحتوي على القليل من المتحدثين والفلسفيين مثل الإمام فخر الدين الرازي".

ومن جهة أخرى، تتصل بكروية العالم مسألة الخلاف في دورانها؛ وذكر نلينو تطوير آراء علماء الفلك بشأن اكتشاف دوران العالم حول محورها منذ عهد الإغريق، مقدماً آراء فلكية المسلمين في سياق هذا التطور؛ حيث قال إن بعض الفلاسفة اليونان وعلماء الهند ذكروا دوران العالم، ثم قال: "أما العرب، فلم يكن لديهم أحد يعتقد أن السماء الكرة ساكنة والعالم دائري حول محورها، إلا أبو سعيد أحمد بن محمد بن عبد الله السِّجْزي (ت 477هـ/1084م) العالم المعروف" والجيد الذين.

وهناك يتم ربط ما ذكره نلينو بأن عالم الفلك الفارسي كان أول من أظهر -في نهاية كتابه "الأَمَاكن"- أن العالم يدور حول محوره، تفوقًا على الأرجح لأبو سعيد السِّجْزي.

باختصار، يتصل نلينو هذه الروايات الاولى القديمة عن دوران العالم بدعمها من بيرس الفلكيين الأوروبيين في العصر الحديث، مشيرًا إلى أنها انتقلت -بعد تقريبًا خمسة قرون من قول السَّجزي إلى فرضية، إلى دائرة الحقيقة العلمية الثابتة من خلال تجارب علمية. هذا لأنه "مع الفرنجة، لم ينتشر تعليم الحركة الدورية للعالم حتى بعد 1543م (950هـ) حين وضحه كوبرانك(= نيكولاس كوبرنيكوس الذي توفي 950هـ/1543م) بشكل محتمل...، والذي أظهر ليس فقط البرهانات بشكل موثوق على حركة العالم الدائم، وإنما كان أول واحد يظهر ذلك بالبراهين واضحة وباطنة. هذا الفلكي والفلسفي الإيطالي الشهير كلليو كللاي (= غاليليو الذي توفي 1032هـ/1642م))".

ورغم ذلك، فقد استغرق الأمر قرنين آخرين حتى وصل إلى موقعه النهائي وقراره العلم...

إبداعات أصيلة
وبالرغم من الأهمية الهامة التي قدمها كتاب الفرغاني للمكتبة العربية في علم النجوم والفلك في تلك الحقبة، إلا أن تقدم هذا العلم استمر كأي شيء آخر في دائرة كتاب «الهوز» لبطلميوس اليوناني. لكن منذ نهاية القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، انتقل علم الفلك عن طريق جهود علماء الإسلام إلى مرحلة الإبداع الأصيل، وأهم ما تميزت به هذه المرحلة هو وضع "الأَزِيَاج" الفلكية والجداول الحسابية.

تعلمنا أن "الأَزِيَاج" هي الجداول الكلية التي استخدمت لقياس حركة النجوم وحركاتها وتحديد أحجامها، وكانت تُستخدم لتطوير التقويم السّنوي حسابيًا. ومن بين الذين تميزوا في فن "الأزياج" كان محمد بن جابر الحَرّاني المشهور بالبِتّاني (ت 317هـ/929م)، والذي وصفه المستشرق غوستاف لوبون بأنه "له مكانة بين العرب كما لبطلميوس بين اليونان"!!

أفرج عن جهوده في كتاب ضخم أسماه "الزيج الصابئ" الذي "احتوى... على معارف عصره في علم الفلك بالإضافة إلى كتاب المطالع الخاصة ببطلميوس" بالنسبة لعصره. وأضاف لوبون أنه بسبب الأعمال الفلكية الرائعة التي قام بها "كان للاند (الفلكي الفرنسي جوزيفالعالم المتميز الذي انتقل إلى رحمة الله في عام 1222هـ/1807م، الذي اشتهر كواحد من أبرز علماء الفلك في العالم!

حسب الدراسة التي أجراها الباحث الفرنسي مورلون حول "علم الفلك العربي في القرون الثامن والحادي عشر" الميلاديين/الثاني والخامس الهجريين، والتي نشرت ضمن الكتاب الجماعي "موسوعة تاريخ العلوم العربية"؛ يؤكد أن كتاب "الزيج الصابئ" كان له تأثير كبير على علم الفلك في العصور الوسطى وبداية النهضة الغربية، إذ كان "العمل الوحيد الشامل في علم الفلك العربي الذي تم ترجمته بالكامل إلى اللغة اللاتينية في القرن الثاني عشر" الميلادي/السادس الهجري.

ويضيف مورلون أن تقديمات العالم البتاني في مجال الملاحة الفلكية كانت مذهلة، حيث نجح في قياس زاوية البروج بدقة عالية، وقام بتصحيح الأخطاء التي وقع فيها بطلميوس وبعض علماء الفلك العرب السابقين عليه؛ حيث اكتشف البتاني بعد رصد دقيق أن مدار الشمس يقع على بُعد 22،50،22 (ثانية - دقيقة - درجة من برج الجوزاء).

واعتمد البتاني على قيمة ثابتة لاعتدالي الاعتدالات المذكورة في "الزيج الممتحن" الذي كتبه الفلكي البغدادي يحيى بن أبي منصور الفارسي، والتي تعادل درجة واحدة كل 66 سنة؛ وذلك بعد اختبار دقتها، مما سمح بإعادة تقدير أرقام الكواكب الثابتة المذكورة في كتاب "المجسطي" لبطلميوس اليوناني، حيث قلص عددها - بعد دراسة تجريبية دقيقة - إلى أقل من النصف (489 بدلاً من 1022)؛ وفقاً لمورلون.

وبناء على المنهجية العلمية التي تبناها البتاني؛ أقر الباحثون الأوروبيون بأن رصده كان الأكثر شهرة فعلاً، حيث رصد تغير زاوية الرؤية للشمس والقمر، مما جعله يستنتج، للمرة الأولى في تاريخ علم الفلك، امكانية حدوث الكسوفات الحلقية؛ نظراً لأن زاوية الرؤية الدنيا للقمر يمكن أن تكون أصغر بقليل من زاوية الرؤية للشمس، وهذا ما أشارت إليه "قصة الحضارة" لديورانت.

وكانت أرصاد البتاني حول الكسوف والخسوف هي الأساس التي اعتمد عليها العلماء في تحديد تزايد تحرك القمر على مدى قرن من الزمن، كما يذكر الدكتور أحمد فؤاد باشا في كتابه "التراث العلمي للحضارة الإسلامية ومكانته في تاريخ العلم والحضارة".

ثورات تصحيحية
يذكر غوستاف لوبون أن أبو الوفاء البُوزْجاني (ت 388هـ/998م) الذي كان يعمل تحت رعاية حكام بغداد من السلاطين البويهيين الأولين،كان مجهزًا بأجهزة دقيقة للرصد الفلكي، وبالتالي جذب انتباهه ما وجده مفقودًا في نظرية بطلميوس حول القمر، لذا بدأ في البحث عن الأسباب حتى قادته دراسته إلى اكتشاف ما سماه "الانحراف القمري الثالث".

يلفت لوبون انتباهنا إلى أهمية هذا الاكتشاف مسجلًا جهود البوزجاني؛ حيث يعتبر هذا الاكتشاف بمثابة ثورة في تطوير العلم الفلكي ومهارتهم الرائعة في الرصد والتنبؤ.

في القرون الوسطى، كانت العلوم الفلكية لدى العرب تفضل النظريات على الجوانب العملية. لكن العلماء الفلكيين المسلمين خرجوا من هذا الإطار وبدأوا في استخدام أدوات الرصد والقياسات العملية، مما أدى إلى تطوير وتنقيح المعارف الفلكية.

في القرن التاسع، بنى المأمون العباسي مرصدًا في بغداد وآخر في دمشق، وكان سند بن علي المنجم المأموني المسؤول العلمي الأول عن مرصد بغداد. هو من قام بتصحيح مواضع الكواكب وتطوير آلات الرصد.

الفلكيون المسلمون في ذلك الوقت خرجوا على رأس المرصد الشماسية ببغداد، وقاموا برصد وتسجيل الظواهر الفلكية بدقة. وقاموا بحساب طول درجة واحدة من خط نصف النهار بشكل علمي دقيق، وقد وصلوا إلى نتائج تقارب النتائج الحالية.

هذه المساهمات الرائعة في علم الفلك الإسلامي تعدّ من أعظم الإنجازات العلمية التي قدمتها الحضارة الإسلامية في هذا المجال دليلاً على اهتمامهم العميق بتطوير العلوم ومهاراتهم الفذة في هذا المجال!

-من الذي تمكن من قياس قطر الأرض بطريقة علمية؟ تم ذلك عن طريق قياس مسافة تمتد حوالي 1000 كيلومتر بين واسط في العراق (بالقرب من مدينة الكوت اليوم) وتدمر في سوريا. هذا القياس كان واحداً من أكبر الإنجازات العلمية التي قام بها العرب، حيث استغرق وقتاً طويلاً وشقاءً كبيراً واشتراك مجموعة من علماء الفلك والمساحين في هذا العمل. ولا بد لنا من تقدير قيمة هذا العمل ضمن العلم العربي الرائع المأثور.

-قد أكد العالمان نلّينو وديورانت على صرامة الأساليب العلمية التي اتبعها فريق العلمي المأمون. فقال ديورانت "لم يقبل هؤلاء العلماء شيئاً إلا بعد تأكيده بالتجارب العلمية والخبرة، وكانوا يسيرن في أبحاثهم وفق قواعد علمية صارمة"، وأضاف "وقد كتب أحد هؤلاء العلماء - الفرغاني من أهل فرغانة (اليوم في أوزبكستان) - كتاباً في علم الفلك ظل مرجعاً لأوروبا وغرب آسيا لمدة سبعمئة عام".

-فيما يتحدث كراتشكوفسكي عن المرصدين ودورهما التاريخي في تصحيح نتائج الأبحاث الفلكية اليونانية. وأشار إلى "تركيز جهود المرصدين على تحقيق كافة بيانات العالم المشهور المعروف باسم «المَجَسْطي» بطريقة علمية، مما أدى إلى تحديد المواقع الجغرافية للعديد من النقاط الهامة من جديد. وقد أسهم علماء عصر المأمون في تحديد هذه المواقع الجغرافية... بما يُعرف... بإسم «الزيج المأموني المُمْتَحَن» الذي كان له تأثير بالغ كما يظهر من الكتب المماثلة لمعاصريه: الخوارزمي والفرغاني.

-لافت للانتباه أن هذا الدراسات الفلكية في مصر الفاطمية كانت تحظى بأهمية كبيرة في ذلك الوقت، وكانت قيادتها العلمية على يد عالم الفلك علي بن أحمد بن يونس الصَّدَفي المصري. اعتبرت دراساته أحد أهم المساهمات في علم الفلك وعلم النجوم في الإسلام. وقد أنشأ الخليفة الفاطمي مرصدًا فوق جبل المقطم شرق القاهرة لدعم أبحاثه.

-يصف ديورانت ابن يونس المصري بأنه "أعظم علماء الفلك المسلمين"، نظرًا لدقة وتميّز أعماله الفلكية. لقد قام برصد السماء لسبعة عشر عامًا وأنجز جداول دقيقة توضح حركة الكواكب وأزاحة الكواكب والشمس.

-علم الفلك الفلكي العربي الشرقي كان محط اهتمام ابن يونس، حيث قام بتحليل الدراسات الفلكية السابقة وحدد مقدمة بدقة، وقام بإصدار كتاب بعنوان «الزِّيج الحاكمي الكبير» الذي اشتهر بدقته وشموله. للأسف، لم يتم الإحتفاظ بكل محتويات هذا الكتاب، ولكن ما تم الاحتفاظ به يبرهن على قيمته العلمية.

-عمل ابن يونس بجهد كبير على تحديث علم الفلك، بفضل اهتمام الدولة الفاطمية بعلوم الفلك، حيث استخدمت توقعاته الفلكية في تحديد توقيت الشهور الهجرية ورمضان والأعياد.نتائجها تحت تصرف العلماء [الأوروبيين] بفضل الترجمة في بادئ الأمر في القرن التاسع عشر الميلادي، حسب ما صرح به مورلون. وقد تبنى ابن يونس -في مقرّ عمله بمرصد المقطم- المنهج العلمي المقارن الذي لا يهدأ صاحبه إلا بعد دراسة وتجربة ما وصل إليه الفلكيون قبله.

يقول في كتاب "الزيج الحاكمي الكبير": "عندما خشيتُ اندلاع الإشكال في بعض المواضع التي ذكرتُها أو ذكرها غيري في هذا الزيج، نتيجة لاختلاف الرسائل، اضطررت إلى بيان الأماكن التي وقع فيها السهو والاختلال من جهتي ومن جهتهم، بما يليق بحقوق الإنسان من التقصير"!! ويذكرنا ريجيس مورلون بأن "دقة رصد ابن يونس... تم استخدامها من قبل علماء معاصرين -على سبيل المثال- من أجل فهم أعمق للتسارع القرني للقمر".

من بين الأمثلة على هذا الاستخدام ما نقله أحمد فؤاد باشا -في كتابه سابق- حيث ذكر أن عالم الفلك والفيزياء الفرنسي بيير سيمون لابْلاس (ت 1242هـ/1827م) اعتمد على ملاحظات كتاب "الزيج الحاكمي" لتحديد ميل دائرة البروج والاختلافات بين المشتري وزُحَل.

ونجح ابن يونس في رصد كسوفيْن للشمس في عامي 366-367هـ/977-978م؛ فكانتا "أولَى كسوفين يُسجّلان بنقاء فائق وبأسلوب علمي صرف، حيث قام برصد الكسوف وارتفاع قرص الشمس قبل وبعد الكسوف. كان يُلقب بفلكي عالمي العرب والمسلمين ببطلميوس الثاني، وكان قد استطلع كتب غاليليو (ت 1032هـ/1642م) وبيكون (روجر بيكون الذي توفي 691هـ/1292م) وفقا لما ورد في الإصدار الجماعي الذي أصدرته مكتبة الإسكندرية تحت عنوان: "إسهامات الحضارة العربية والإسلامية.. (2) في علوم الفلك - من خلال المخطوطات العلمية بمكتبة الأزهر".

كما أن ابن يونس "حَسب ميل دائرة البروج فكان حسابه أقرب ما يكون [إلى الدقة] حتى تم تطوير آلات الرصد الحديثة"؛ وفقا لمنصور جرداق. وتقول "موسوعة علم الفلك في الحقبة الإسلامية" أن ابن يونس قد رصد أكثر من عشرة آلاف نقطة لمواقع الشمس لعدة سنوات، باستخدام "أداة رصد ضخمة" قطرها حوالي 1.4 متر!!

وبناءً على دقة نتائج تلك الملاحظات، استمرت ملاحظات ابن يونس حول خسوف القمر في الاستخدام لعدة قرون، بما في ذلك لدى الأوروبيين حتى بداية القرن الـ19، كما سبق الذكر. أما ملاحظاته الأخرى فقد ألهمت عالم الفلك والفيزياء الفرنسي بيير سيمون لابْلاس (ت 1242هـ/1827م) في تطوير نظريتي انحراف مدار الشمس وعدم المساواة بين المشتري وزُحَل.

فترة ذهبية
وإذا كان ابن يونس المصري قد أنجز عملا هاما في الملاحظات الفلكية ورصد الكسوف والخسوف وتصحيح الأخطاء العلمية الفلكية السابقة؛ فإن عبد الرحمن الصوفي الرازي، المعاصر له، (ت 376هـ/986م) يُعد من بين أبرز علماء الفلك المسلمين الذين اهتموا برصد صور السماء.

ويعد كتابه "الكواكب الثابتة" أو "صور الكواكب الثابتة" من أجود الكُتب التي تم إعدادها في مجال الفلك حتى ذلك الوقت؛ إذ ذكر الصوفي في هذا الكتاب "جميع صور السماء ورسمها بألوانها، وشرح أشكالها وبين خصائصها، واصلاح العديد من الملاحظات السابقة، وتنظيم العديد من المعلومات، ثم تجميع أسماءها العربية التي كانت معروفة لدى البدو قبل الإسلام؛ وفقا لما ذكره الدكتور عمر فرُّوخ (ت 1408هـ/1987م) في "تاريخ العلوم عند العرب".

ويشير العالم الفلكي منصور جرداق -في كتابه "مآثر العرب في الرياضيات والفلك"- إلى أهمية "جدول مطالع النجوم الثابتة وميولها" الذي نشره الصوفي؛ قائلاً: "لهذا الجدول مكانة عالية بين العلماء في هذا العصر، حيث يعتمدون عليه في تحديد مواقع الكواكب وفهم حركاتها حتى اليوم، وهذا يُعتبر دليلاً كبيراً على دقة ملاحظاته واتقانها وضبطها وثقة العلماء بها".

وتثبت البراهين على دقة ملاحظات الصوفي؛ حيث يتحدث جرداق -في "أصول علم الفلك الحديث"- عن "مجموعات من النجوم تعرف بالأعناق الكروية...، وأبرزها "العبقري العظيم" في "كوكبة هرقل" الذي تضم نحو مائة ألف نجم، وهذا العبقري يمكن رؤيته بالعين المجردة بجهد، وكان معروفاً لدى علماء الفلك القدماء وكان الصوفي قد أعطاه اسم "لطخة سحاب"...، وضوء كل نجم من نجومه مقارن بضوء شمسنا نحو مئة مرة، وعلى الرغم من ذلك نحن بصعوبة نرى العبقري بالعين المجردة، وهذا يشير إلى بعده عنا، إذ يمكن تقدير مسافته بنحو ثلاثين ألف سنة ضوئية"!!

أما العالم الحسن بن الهيثم البصري (ت 430هـ/1040م) فقد كان

من بين أبرز الحكماء الموسوعيين في الفروع التجريبية في التقدم العلمي في الحضارة الإسلامية، ويعتبر من أوائل المستخدمين للطريقة العلمية للكشف عن الأخطاء الفادحة التي ارتكبها علماء الفلك الإغريق، بمن فيهم بطليموس في كتابه الشهير "المجسطي". تتبع ابن الهيثم جميع الأخطاء التي ارتكبها بطلميوس في كتابه الانتقادي الذي أطلق عليه "الشكوك حول بطلميوس"، وهو عنوان يوحي بالاعتماد الذي جعله العلماء المسلمين على المنهج "الشكي" قبل الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت.

ويشتهر ابن الهيثم بشكل كبير بكتابه "المناظر في البصريات"، والذي وصفه ديورانت بأنه "على الأغلب أعظم مؤلف في العصور الوسطى بأسلوبه العلمي في فكره وطريقته". وأشار إلى أن ابن الهيثم أقترب -مع اختراع العدسة المكبرة- إلى درجة جعلت روجر بيكن ووتلو وغيرهم من الأوروبيين يعتمدون على بحوثه في جهودهم لاختراع المجهر والتلسكوب بعد مرور ثلاثمئة عام على ذلك!

ومن اللافت الإعجاب الذي ناله أعمال ابن الهيثم في ميدان البصريات والفلك من عدد كبير من مؤرخي وعلماء الغرب؛ حيث رصد ابن الهيثم صورة مشابهة لصورة نصف القمر أثناء الخسوف على جدار مقابل ثقب صغير في النافذة. وهذا هو أول توثيق لـ "الغرفة المظلمة" المستخدمة في التصوير الشمسي.

ويقول الباحث الأميركي بقطع بأننا لا نستطيع المبالغة في أثر ابن الهيثم في العلوم الأوروبية، ويعتقد أنه لولا ابن الهيثم لما عرف الناس بروجر بيكن. ويشير إلى أن بيكن نفسه لم يكن يأخذ أي خطوة في جزء من أعماله في البصريات دون الإشارة إلى ابن الهيثم. ويقول بأن الجزء السادس من كتاب بيكن يعتمد بشكل كبير على أبحاث ابن القاهرة الفاطمي!

وعند التوغل بشكل مؤقت في الأعمال الفلكية الإسلامية في القرن السابع الهجري، سنتناول في وقت لاحق أعمالا مهمة -مع الأعمال التي تبعتها حتى منتصف القرن العاشر الهجري- التي تعتبر وفقا لجورج صليبا خلال فترة من ذهب للفلك الإسلامي. في بحّ القرن الثامن الهجري، شهدنا جهودًا تاريخية في مجال علم الفلك من إمام الفن هذا، وهو العلامة علاء الدين علي بن إبراهيم الأنصاري الدمشقي المعروف بابن الشاطر.

ابن الشاطر اختص في دراسة علم الفلك حتى أصبح خبيرًا به، حيث نجح في تصحيح الأخطاء القديمة وابتكار نماذج جديدة وفق المنهج العلمي الصحيح. ويؤكد الدكتور علي عبد الله الدفاع -في كتابه "رواد علم الفلك"- بأن ابن الشاطر قدم نماذج فلكية مبنية على التجارب والمشاهدات والاستنتاج العلمي الصحيح.

ويضيف الدفاع أن كوبرنيكوس لم يتردد في ادعاء هذه النماذج لنفسه، وأن علماء الغرب الذين جاءوا بعده استلهموا هذه الأفكار من ابن الشاطر. وهذا ما أكده أيضا الباحثون الغربيون في تاريخ علم الفلك في العصر الحديث، وأثبتته دراسة نشرها فكتور روبرتس بعنوان "نظرية ابن الشاطر لحركات الشمس والقمر: الأساس الذي استند عليه كوبرنيكوس"، وذلك وفقا لما ذكره جورج صليبا في كتابه.

ووفقا للدكتور الدفاع، نجح ابن الشاطر في صناعة "الأسطرلاب الجديد" وتصحيح "المزول" الشمسية، بالإضافة إلى صناعته لآلة لضبط وقت الصلاة ووضعها في أحد المآذن بدمشق. كما كرّس اهتمامه لقياس زاوية انحراف دائرة البروج واكتشف قيمة 23 درجة و31 دقيقة، وهي قيمة مطابقة لقيمة المشاءة الحديثة باستخدام الأقمار الصناعية التي تعمل بالأشعة تحت الحمراء.

"يتضح أن نسبة الاختلاف في حسابات السيّد ابن الشاطر تصل إلى 19.8 في المئة".

في شهر رمضان سنة 743هـ/1343م، دعا المؤرخ صلاح الدين الصفدي (ت 764هـ/1363م) ابن الشاطر إلى منزله في دمشق. شهد الصفدي أسْطُرْلاب ابن الشاطر وأنبهر بدقته، مُعلناً أن ابن الشاطر كان أكثر علماً من العلماء الإغريق والفيلسوفين الأقدمين كـ اقليدس (ت 265ق.م) وأرخميدس (ت 212ق.م) بالإضافة إلى نصير الدين الطوسي، الفلكي المسلم المبدع (ت 672هـ/1273م).

ثم قدّم الصفدي وصفًا تفصيليًا لأسْطُرْلاب ابن الشاطر والآليات الدقيقة التي شكلتها. وصفه شمل "الأسطرلاب، الذي كان موضوعًا على قائمة الجدار في منزله...". كان قُطر الأسطرلاب حوالي نصف أو ثلث طول الذراع، يدور بشكل متواصل نهارًا وليلاً بدون حاجة لرمل أو ماء، اعتمادًا على حركة الفلك. وكان مُعدّ بعناية ودقة، مما سمح باستخدامه لتحديد الأوقات بدقة فائقة، وكان يُعتبر من بين أروع الآلات في تلك الحقبة. بشكل عام، كانت رسائل الأسطرلاب تظهر بوضوح في هذا الجهاز، دون حاجة لأي تدخل خارجي.

المساهمة الأندلسية
على الرغم من التطور في مجال الرصد في الشرق، لازال اسخدام الأدوات الفلكية يزدهر في المنطقة الغربية الإسلامية بفضل علمائها. في منتصف القرن العاشر الميلادي/الرابع الهجري، بدأت النهضة العلمية الفلكية في المنطقة الأندلسية. وقاد أمراء قرطبة وإشبيلية وطليطلة العلماء وشجعوهم على البحث وإجراء دراساتهم الفلكية، وفقًا لما جاء في كتاب منصور جرداق.

المستشرق البريطاني مونتغُمْري واتْ أورد في كتابه ‘فضل الإسلام على الحضارة الغربية‘ أن الأندلس قد لعبت دورًا بارزًا في الأبحاث الرياضية والفلكية، ونقلت هذه البحوث إلى أوروبا، وكان أحد أوائل العلماء الأندلسيين في هذا المجال هو مسلمة المجريطي. وأشار واتْ إلى أن في النصف الأول من القرن الحادي عشر، ظهر علماء الفلك البارزين مثل ابن السّمح وابن الصّفّار وابن أبي الرجال، ومن ثم ظهرت شخصيات بارزة أخرى مثل جابر بن أفلح والبطروجي في القرن الثاني عشر الميلادي/السادس الهجري.

بفضل أبحاث هؤلاء العلماء الأندلسيين، تبنت النهضة الفلكية الحديثة. والجدير بالذكر أن من بين أوائل علماء الفلك في الأندلس كان محمد بن معاذ الجَيّاني. فيما في القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي، كان أبو علي المراكشي أحد عباقرة الفلك في المغرب الإسلامي وقد نسب إليه كتاب "جامع المبادئ والغايات إلى علم الميقات" الذي كان يحتوي على قوائم بأسماء النجوم وجداول جغرافية بدقة شديدة.

التنجيم العلمي
تم مشاهدة اهتمام المؤمنين منذ زمن الأمويين بما يحدث في الكواكب، استنادًا إلى التوجيه القرآني الذي يحث على التأمل في خلق السموات والأرض. كانت الدافع الأساسي لهذا الاهتمام إيمانيًا ودينيًا لفهم حركة النجوم لتحديد أوقات الصلوات اليومية، وحساب الأشهر والسنين لأداء فرائض الزكاة والصيام وأداء مناسك الحج واحتفالات الأعياد. تمازج ذلك الدافع الديني مع شغف علمي بفهم الظواهر الفلكية مثل الكسوف والخسوف، وحساب أبعاد الكواكب والأجرام والشمس والقمر.

لتحقيق ذلك، كان من الضروري للمصلين إنشاء مواقع خاصة بمراقبة حركة الكواكب والأجرام في السماء، وهذه المواقع كانت تُسمى "المراصد" أو "مواقع الرصد" أو "أماكن الرصد" أو "غرفة الرصد". حيث كانت المرصد تقع في المكان الذي يُراقَبُ فيه الحركة السماوية؛ وفقًا لقاموس اللغة العربية للإمام الخليل بن أحمد الفَرَاهِيدي.

وكان العلماء والباحثون في مجال الفلك الذين عملوا في هذه المراصد يُسمَّون "الرصد". فقد وفق علماء اللغة إلى أن الفعل الذي يقومون به يُسمى "الرصد". ويُمكن أيضًا تسميتهم "الرصاد"؛ فقد وصف حاجي خليفة تجهيز فلكي لقياس الحركة السماوية، وبين أن "هذا التجهيز من اختراعات "الرصاد" الإسلاميين"، أي العلماء المنتمين إلى الحضارة الإسلامية، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.

ولم يصل علم الفلك للمسلمين إلى ما وصلوا إليه إلا من خلال تنوع المراصد في حضارتهم. كانت المراصد نادرة جدًا قبل العصور العباسية، وربما كان الإغريق أول من رصد الكواكب بواسطة آلات، وقد يكون مرصد الإسكندرية -الذي بُني في القرن الثالث عشر قبل الميلاد- هو الأقدم الذي تم الإشارة إليه أو على الأقل بقيت آثاره معروفة حتى وصلت إلى المسلمين؛ وفقًا لما ورد في كتب التاريخ.

ويُزعم أن أمويين قاموا ببناء مرصد في دمشق، والدليل على ذلك ما كشف عنه علماء الفلك المعاصرون من تاريخ التصاوير الفلكية التي تمثل "دائرة البروج"، والتي وُجدت في مبنى أثري أموي يُعرف باسم "قصير عمرة" في الزرقاء الأردنية.

ويعتبر الخليفة المأمون هو الشخص الذي أمر بشكل منهجي باستخدام الآلات في الرصد؛ إذ قام ببناء مرصد في بغداد وآخر على قمة جبل قاسيون في دمشق. واشتهر أفراد من عائلة موسى بن شاكر البغدادية ببناء مرصد خاص بهم في منطقة الجسر ببغداد والذين كانوا يتنافسون مع اثنين آخرين في مرصدي الشماسية ببغداد وقاسيون في دمشق.

واهتم عدد من الحكام في بغداد بعد تراجع الدولة العباسية برصد النجوم والكواكب وحركاتها، حيث أنشأ شرف الدولة البويهي مرصدًا في بغداد في تلك الفترة. تم إقامة غرفة مُحكمة في دار المملكة ببغداد لرصد مسار الكواكب وحركتها.تتحدث اليوم عن أهمية الفرد والمجتمع، وفقًا للباحث السوري الأسترالي سامر عكاش في كتابه "مرصد إسطنبول: هَدْم الرصد ورصْد الهدم".

مراصد متقدمة
سوف نتطرق الآن لذكر أربع من تلك المراصد التي نشأت في الحضارة الإسلامية خلال خمسة قرون، منذ بداية القرن السادس الهجري حتى نهاية القرن العاشر الهجري.

1- مرصد القاهرة: يروي المؤرخ تقي الدين المقريزي في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" قصة بناء مرصد القاهرة، والذي بدأ بناءه الوزير الفاطمي الأفضل بن بدر الجمالي الأرمني عام 513 هـ في جبل المقطم، وقام بتولي هذه المهمة الطبيب والفلكي اليهودي أبو سعيد بن قرقة. تم استخدام مواد كثيرة في صناعة الآلات المستخدمة في الرصد، مثل النحاس والرصاص والحديد.

وقام الوزير المأمون البطائحي بإكمال بناء المرصد، وتم استخدامه لصهر المعادن المختلفة. كانت هناك تشابه كبير في عمل مرصد القاهرة مع مرصد مراغة، حيث كان علماء الفلك يقومون بصنع الآلات بأنفسهم ويستخدمونها في عمليات الرصد.

وكان حجم أحد الأجهزة المركزية في مرصد القاهرة كبيرًا جدًا، حتى أنهم واجهوا صعوبة في نقلها إلى المدينة بسبب ضيق باب النصر، مما يظهر حجمها الهائل.

2- مرصد مراغة: تأسس هذا المرصد في مدينة مراغة في إيران بأمر من وزير المغول نصير الدين الطوسي عام 657 هـ، بمشاركة علماء الفلك من مختلف الأقطار. وقد قام علماء الآثار في إيران بحفريات في موقع مرصد مراغة، واكتشفوا أنه كان مُقسمًا إلى برج مركزي ومكتبة ووحدات دائرية وغرف للعلماء وبئر ماء ومسجد وورشة لصنع الآلات المستخدمة في الرصد.يُصنع من النحاس.

كان البرج الأسطواني المركزي - الذي يبلغ قطره 22 مترًا وسُمك جدرانه 80 سم - مزودًا بمنصتين على كلا الجانبين. كان ارتفاع هذا البرج الأسطواني يتراوح ما بين 20 و 25 مترًا. في هذا البرج الخماسي الضخم، تم وضع خمس وحدات دائرية، و يبدو أنها استُعملت في كل واحدة منها الأدوات الفلكية المستخدمة في أبحاث الرصد.

3- مرصد سمرقند: زار قائد الدولة تيمورية المغولية، أولوغ بك بن شاه روخ، مرصد مراغة. وبناءً على اهتمامه الكبير بعلوم الفلك والرياضيات، قرر الاستفادة من خبراء الفلك البارزين في ذلك العصر لبناء مرصد أعظم أهمية وسمعة واتساعا من مرصد مراغة في سمرقند. ويقدر المؤرخون أن تم بناء هذا المرصد - الذي كان يتضمن مسجداً ومدرسة ومكتبة وخانقاه (مدرسة صوفية) وغيرها - بين السنوات 824-830 هـ / 1422-1428 م.

شرف فريق من كبار علماء الفلك آنذاك بإنشاء والعمل في هذا المرصد، وكان غياث الدين جمشيد بن مسعود الكاشي، الفلكي البارز، هو رئيس هذا الفريق. وكانت هناك أيضاً مشاركة من صلاح الدين موسى شاه بن محمد، والمعروف بقاضي زاده الرومي، ومعين الدين الكاشي، وعلاء الدين علي بن محمد القوشجي. كما دعا أولوغ بك أكثر من 60 عالمًا آخر من علماء الفلك والرياضيات لزيارة مرصده، الذي يحتل مكانة رائدة في تاريخ علم الفلك بحسب ديورانت.

تمكن أولوغ بك نفسه من ابتكار آلات جديدة لفريقه في بحوثهم الفلكية. وشارك هؤلاء العلماء في كتابة "زيج كوركاني" أو "زيج جديد سلطاني"، الذي كان يهدف إلى تصحيح أخطاء الجداول الفلكية التي ورثوها من اليونان والمنهجيات اللاحقة. وكان هذا الزيج معترفًا به ومطبوعًا في لندن عام 1650، ونُشرت جداوله بالفرنسية في عام 1847.

وأصبح مرصد سمرقند ضحية للصراع السياسي بين أولوغ بك وابنه عبد اللطيف، الذي قتل والده ودمر المرصد. تم اكتشاف آثار المرصد على يد بعض المستكشفين الروس في عام 1326 هـ / 1908 م. وتذكر قصة هذا المرصد العظيم الأخطار المترتبة عن تداخل الدوافع السياسية والعلمية، وتأثيرها على نتائج البحث العلمي التجريبي، على غرار ما حدث لمرصد القاهرة الفاطمي ومرصد إسطنبول العثماني.

محطة أخرى
4- مرصد إسطنبول: هو مرصد أقامه العثمانيون في منطقة غلطة بإسطنبول، مستوحى من تجربة مرصد سمرقند المغولي. ويُظهر أن لدى مرصد سمرقند تأثيرا حاسمًا في إنشاء مرصد إسطنبول عام 1577. أُنشئ المرصد الإسطنبولي حوالي العام 983 هـ / 1575 م بإشراف العالم الفلكي أبو بكر محمد بن معروف الأسدي الدمشقي، المعروف بتقي الدين الراصد، وبتوجيه من السلطان العثماني مراد الثالث. المرصد كان منشأة علمية وتعليمية كبيرة، تضم برج الرصد الرئيسي بالإضافة إلى قاعات دراسية وساحات للرصد.

وحسب مصادر التاريخ، كان هناك مساكن للعمال، ومكاتب لعلماء الفلك، وقاعة للدروس، ومكتبة، إضافة إلى وجود إحدى الأجهزة الرصدية. وكان هذا المرصد في ذلك الوقت يُعدّ أحدث وأهم المراصد الإسلامية وأكبرها". بل، وفقًا لإحدى الدراسات الحديثة، فإن أجهزة المرصد التي صممها وبناها تقي الدين بنفسه في مرصد إسطنبول كانت تشبه إلى حد كبير تلك التي كانت موجودة في أحدث مرصد في أوروبا آنذاك"

ويقول المؤرخ التركي خليل إينالجيك في كتابه ‘تاريخ الدولة العثمانية‘ إن السلطان مراد الثالث أسّس هذا المرصد بهدف "تصحيح جداول أولوغ بك [الفلكية]، والتي وضعها علماء مرصد سمرقند قبل قرون، وكان المرصد الوحيد من نوعه في العالم الإسلامي في ذلك الزمن"

أما الدوافع الحقيقية وراء إقامة هذا المرصد، فيبدو أن السلطان مراد الثالث أنشأه لأغراض تتعلق بعلم التنجيم بدرجة أكبر من علم الفلك. وبالرغم من تأييد بعض الأشخاص للسلطان في ذلك، فإن هناك معارضة من بعض العلماء، بما في ذلك شيخ الإسلام نفسه، حيث كانت هناك مخاوف من أن هذا الاهتمام بعلم التنجيم وعلم الفلك يتعارض مع الدين ولا يجلب أية فائدة، فكانت تلك الآراء تشبه تمامًا الإعتقاد بأن علم السحر وفتح الطالع يعارضان الدين. هذا حسب ما ذكره إينالجيك

في رواية الكاتب الزِّرِكْلي (ت 1396هـ/1976م) -ضمن كتابه ‘الأعلام‘- قد وردت قصة عن الأسكوبي، حيث وصف أن العلماء في المدينة المنورة تحدَّوا تقنية المنظار الذي جلبه من أوروبا على سطح منزله، مما دفعهم لمهاجمة منزله واستخدام جميع الأدوات الفلكية التي وجدوها هناك. ونتيجة لذلك، انعزل الأسكوبي عن الناس ومرض حتى تُوفِّي.

مهارات تقنية
وتعكس هذه القصة جانبًا من تطور ودقّة الأدوات الفلكية التي كان يستخدمها العلماء في تلك الحقبة. فقد كان مستوى الدقّة في تصنيع تلك الآلات يعكس اهتمام المسلمين الكبير بتقنية الفلك، حتى وصلوا إلى أقصى درجات الاحتراف والابتكار في صناعة تلك الأدوات. وقد انتقلت هذه التقنيات إلى أوروبا وظلّت جزءًا من تقنياتهم حتى ابتكروا التلسكوب الحديث في بداية القرن الـ17.

ومن المثير للاهتمام أن تلك الآلات الفلكية كانت تحمل أهمية كبيرة في قياسات ورصد حركة الكواكب والنجوم وحتى المسافات بين الأجرام السماوية المختلفة. تلك الآلات كانت تُصنع بعناية فائقة وتستخدم بدقّة عالية وفقًا للحسابات الرياضية والفلكية لتحقيق الغرض المحدد منها.

ومن بجماليات تلك الآلات الرصدية كانت آلة "ذات الحلق" (الأسْطُرْلاب الكروي)، التي كانت تُستخدم لرصد حركة الكواكب والسماء، وقد تم تصميمها بدقة واحتراف يفوق الوصف. كما أن العلماء استخدموا آلات أخرى مثل "ذات السَّمْت والارتفاع" لقياس سمت وارتفاع الأجرام السماوية.

إن هذه القصة والتفاصيل المثيرة حول الآلات الفلكية تعكس الجهود العلمية والابتكار التي بذلها العلماء الإسلاميون في هذا المجال الهام من ميادين العلوم.

تنوعت أشكال آلة "التقريب" نتيجة لتعدد استعمالاتها الهندسية والفلكية، ومن بين تلك الأشكال الجهاز المشهور بإسم "التقريب المربع" الذي كان موجودًا في مرصد مراغة، وهو واحد من أكثر الآلات دقة وإتقانًا واجتهاده جابر بن أفلح (عالم فلك أندلسي توفي عام 540 هـ/1149م). هذا الجهاز هو الخطوة الأولى نحو ظهور الجهاز الحديث المستخدم في قياس المساحات المعروف باسم "ثيودوليت"، وفقًا لزيغريد هونكه. يستمر تقي الدين في عد الآلات الفلكية المعروفة في عصره، حيث يذكر أمثلتها مثل "التفتحة الثلاثية": ثلاث مساطر على كرسي تستخدم لقياس الارتفاع، وكذلك "المسطرتان المربعتان": مسطرتان منتظمتان تستخدمان مثل "التفتحة الثلاثية".

تُعتبر آلة "الأَسْطُرْلاب" من بين الأدوات الفلكية الأساسية التي استخدمها المسلمون بكثرة في عمليات الرصد الفلكي والرياضي على حد سواء. وفي كتابه "مفاتيح العلوم"، يقول الكاتب الخوارزمي "هناك أنواع كثيرة من الأَسْطُرْلابات، وأسماؤها تستمد من شكلها، مثل "الهلالي" من الهلال، و"الكُرِة" من الكرة، و"الزورقي"، و"الصدفي"، و"المسْرَطَن"، و"المبطح"، وأمثل غير ذلك."

وفقًا للخوارزمي، تُقسم الأَسْطُرْلابات إلى ثلاثة أنواع حسب هدف استخدامها، حيث يُمثل النوع الأول مسقط الكرة السماوية على سطح مستوٍ ويُعرف أيضًا بإسم "المحطات المستوية"، بينما يُمثل النوع الثاني مسقط هذا المسقط على خط مستقيم، أو الأَسْطُرْلاب الخطي ويُسمى أيضًا "عصا الطوسي" نسبةً إلى مخترعه المظفر الطوسي. أما النوع الثالث الأَسْطُرْلاب الكُرِيّ، فيُمثل الحركة اليومية للكرة بالنسبة لأفق معين بدون استخدام أي مساقط.

بن موسى الخوارزمي، الذي كان جزء من اللجنة العلمية الرياضية في خدمة الخليفة المأمون من سلالة العباسيين.

ويصف الدارس الألماني في تاريخ العلوم الإسلامية دافيد كينغ -في بحثه "علم الفلك والمجتمع الإسلامي" الذي نشر في "موسوعة تاريخ العلوم"، بأن كتاب ثابت بن قرة الحراني (ت 288هـ/901م) حول آلة "المِزولة" كان عملا شاملا. يقول: "إنه عمل بارع في الهندسة الرياضية... [إذْ] يتعامل مع تحويل الإحداثيات بين أنظمة متعامدة على ثلاثة مستويات؛ الأفق، خط الاستواء السماوي، مستوى المِزْولة...؛ [وبهذا] يقدم ثابت تسعيرات لتحديد ارتفاع الشمس وفقا للزاوية الساعية، وللميل الزاوي، وخط العرض الأرضي، ومن الواضح أن هذه التسعيرات قد تمت بأساليب هندسية، كما يقدم تسعيرات أخرى لتحويل الإحداثيات يمكن تفسيرها بسهولة أكبر عن طريق حسابات المثلثات الكروية".

انتشرت "المزاول" في مدن العالم الإسلامي، حيث كادت أي مسجد يخلو منها سواءً في المساجد الكبيرة -مثل المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى- وحتى في المساجد الأصغر في المناطق النائية. كانت هذه المزاول تُنحت في جدران محددة من المساجد، ومن بينها "المِزولة" التي كانت موجودة في صحن المسجد الحرام في مكة المكرمة، "وهي من تأليف الوزير الماهر (محمد بن علي بن أبي منصور الأصفهاني المتوفى 559هـ/1164م) الذي يذكر اسمه في اللوح النحاسي لمعرفة الوقت، وهي في الطبقة العليا من هذه المَزولة التي أقيمت في عام 551هـ/1156م، وتُعرف أيضا: "ميزان الشمس"، وكانت المسافة بينها وبين زاوية الكعبة الشامية التي يُسمى "العراقي": ثلاثة وأربعون ذراعًا بذراع الحديد وثمانية أمثال الذراع (= 22 متر تقريبًا)"، حسب المؤرخ مكة تقي الدين الفاسي (ت 822هـ/1419م) في كتابه "شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام".

آراء دينية متعددة
أثناء محاربة علماء الفقه المسلمين "التنجيم" الذي يستند إلى مزاعم معرفة الغيب والعمل بالشعوذة والخرافات، واعتبروا ربط حركة الأجرام والنجوم بأحداث مستقبلية نوعًا من السحر المحظور والمحرم؛ انضموا إلى المنهج العلمي التجريبي السليم الذي يجعل من علم الفلك علمًا دليليًا يخدم البشرية، بل يساعد على أداء أركان الإسلام الأربعة المتمثلة في الفرائض الدينية الأساسية المتعلقة بأوقات الصلاة والصيام والزكاة والحج.

لذلك, ذكر الإمام الحسين بن مسعود الفَرّاء البَغَوي الشافعي (ت 516هـ/1122م) -في كتابه "شرح السُّنة"- أن "المنهي عنه من علوم النجوم كل ما يدعيه أتباعها من توقع الأحداث التي لم تحدث بعد وربما تحدث في المستقبل، وهذا علم احتكم الله به وحده...؛ أما ما يمكن فهمه بطريقة مباشرة من خلال رصد النجوم - والذي يستخدم لحساب وجهة القبلة- فلا بأس به".

وقام إمام ومحدِّث عظيم مثل الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في كتابه "زَغَل العِلْم"- بتفضيل الحكمة على مضار علم التنجيم مميزا بينهما بوضوح؛ إذ قال: "الحكمة (= الفلسفة) الرياضية تحتوي على عناصر هندسية وحسابية وأخرى، وتحتوي على أفكار باطلة مثل التنجيم وأمور مشابهة له، فالجانب الباطل منها يؤدي إلى إضعاف الشخص في دينه وتضليله، بينما الجانب الصحيح يتضمن مهارة وإتقان وتحرير لا يتبعه مكافأة أو عقاب إذا كان بلا قصد حسن، إذا كان صاحب الحكمة يؤمن ويعمل بالعدل كما رأينا بعضًا منهم كذلك، وقد يجزى الإنسان على تعليمه لهذه الحكمة بنية صالحة بإذن الله".

ومن اللافت أن العديد من علماء الفلك -في حضارة الإسلام- كانوا فقهاء وقضاة ومؤذنين، وخاصة في فترة ما بعد القرن السادس الهجري/الـ12م، وقد انخرط العديد من علماء الفقه في القضايا المعقدة لعلم الفلك كما ذُكر عن ابن تيمية وتأكيده لإجماع الفقهاء على كروية الأرض، وكذلك شك فخر الدين الرازي في نظرية بطلميوس حول وجود مركز للأرض في الكواكب السماوية (النظام البطلمي).

وكانت أبراج المساجد -وكما ذُكر- مواقع لتركيب أجهزة رصد النجوم وحركة الكواكب، كما كانت ساحات المساجد مناطق تفتح دائمًا لأهم الأدوات الحسابية الفلكية -مثل المِزاول وغيرها- لضبط مواقيت الصلاة. يشتمل موظفو الجوامع في المدن الإسلامية الكبيرة على فلكيين محترفين يُلقبون بـ "المعدِّل" ولديهم أجور شهرية من الميزانية العامة أو من صناديق الوقف الخيري. مهمتهم الرئيسية هي تحديد أوقات الصلوات وتحديد بدايات الأشهر القمرية.

ولم يكن المسلمون يترددون في إنفاق الأموال على أعمال البحوث.

العلوم الفلكية تأتي من التبرعات المخصصة لخدمة المجتمع وتعتبر أكاديميات علمية تفيد وتخدم المجتمع؛ حيث يقول المؤرخ صلاح الدين ابن شاكر الكتبي (ت 764هـ/1363م) في كتابه ‘فوات الوفيات‘ إن مدير "مرصد مراغة" نصير الدين الطوسي كان يأخذ عشر الأوقاف ويصرفها في رواتب المقيمين بالرصد وأعمالهم.

في القارة الأوروبية، شن رجال الكنيسة حربا شرسة على علماء الفلك في العصور الوسطى؛ حيث كانوا يرون الأرض كمركز للكون وعندما ثبت الفلكي البولندي كوبرنيكوس أنها تدور حول الشمس، قامت الكنيسة بحملة ضده تصفه بالهرطقة والكفر حتى من بعض المصلحين الدينيين كمارتن لوثر وجون كالفن.

قال لوثر: «الكتاب المقدس يقول أن الشمس تقف لا الأرض»، وجواب كالفن لكوبرنيق كان بآية من المزمور الثالث والتسعين تقول: «تثبّت المسكونة، لا تتزعزع». ثم تساءل: «فمن يجرؤ على ترجيح شهادة كوبرنيق على شهادة الروح القدس؟».

زيغريد هونكه المستشرقة الألمانية أجرت مقارنة توضح اهتمام الإسلام ورفضه تقديس النجوم مقابل اهتمام رجال الكنيسة بتأويلات السماء، وأشارت إلى أن دراسة الفلك ضرورية وكانت العرب تتميزون فيها عن أوروبا.

ديورانت يذهب أبعد من المقارنة بين التجارب الدينية في التعامل مع الفلك؛ حيث يتحدث عن التأثير الإسلامي في الثورة العلمية الأوروبية من خلال الترجمات العلمية اللاحقة للمصنفات الفلكية الإسلامية ودورها في النهضة العلمية الأوروبية.

<الصورة class="size-arc-image-770 wp-image-5858143" src="https://www.aljazeera.net/wp-content/uploads/2023/08/67980-1693178183.jpg?w=770" alt="المصدر: جون ألدنهام == ملخص == {{معلومات |الوصف= {{en|رسم لقياس التسارع الناتج عن الجاذبية بواسطة مدل الكايتر في مدراس، الهند، من قبل عالم الفلك البريطاني جون ألدنهام في 1821. التعديلات على الصورة: إزالة هنري كايتر (1777-1835) الذي كان يجري ملاحظات على المدل، مع مساعدين اثنين. نقش بواسطة ج. بايسير، 1822، بعد ج. ألدنهام، 1821. أهم عمل لهنري كايتر كان اختراع مدل كايتر، الذي يمكنه تحديد قوة الجاذبية، أولا في لندن، وبعد ذلك في محطات مختلفة في جميع أنحاء البلاد. كما أنه مخترع مقياس الضوء العائم ويُعتبر مخترع البوصلة الشكلية، على الرغم من أنه اخترعها شخص آخر. تم توفير التسميات من قبل مساهمينا. https://en.wikipedia.org/wiki/Pendulum#/media/File:Using_Kater_pendulum_in_India.png هذا العمل محفوظ في الملكية العامة في بلد المنشأ الأصلي وفي بلدان ومناطق أخرى حيث تكون مدة حقوق الطبع والنشر هي عمر الكاتب بالإضافة إلى 70 عامًا أو أقل.">

أثردولي
وبسبب المنهج التجريبي في العلوم، والبحث المتفاني -كما شاهدنا- عن الدقة في القياسات الفلكية، وتطويرها وتحسينها، شهدت هذه المعرفة الفلكية الإسلامية اهتمامًا عالميًا، تجاوز ذلك الاهتمام المستشرق غوستاف لوبون ليؤكد أن "العرب نشروا فعلًا علم الفلك في العالم بأسره".

ويؤكد الباحث هونكه على أن العرب لم يستعيضوا عن معرفتهم فقط بالاقتباسات، بل استوعبوا العلوم والأدوات العلمية القريبة لديهم بانفتاح ونقاش، حيث أدهشتهم حرية البحث والنقد التي استقبلوا عليها نتائج السابقين، ليكسروها بالبحث والنقد والتحقق منها، وعملوا بشكل مستمر في هذا المجال، دون دخول اسم كبير في قلوبهم يرهبهم.

وكانت البوابة الغربية اللاتينية أحد أبرز مداخل تلك الإسهامات الفلكية الإسلامية على العالم، حيث بدأت تنتقل إلى البلدان الأوروبية من خلال مترجمين يهود ومسيحيين، الذين كانوا يعيشون في العالم الإسلامي ويجيدون العربية واللاتينية.

ويستعرض المستشرق الإسباني خوان فيرنيه -في دراسته المذكورة سالفًا- مراحل تأثير تلك المساهمات الكبيرة وآلياتها؛ حيث يشير إلى أنه منذ الأندلس ومنذ النصف الثاني من القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، انتقلت إسهامات العلماء المسلمين إلى الغرب...؛ وأصبحت الترجمات الفلكية والرياضية... معروفة بسرعة في وسط أوروبا...، وفي القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي، زادت قوة هذه العملية بشكل لا يصدق: حيث ازدادت عدد الكتب المترجمة في صقلية وإسبانيا لتكون محط الإعجاب، وتدفق العلم من الإغريق والرومان إلى الأديرة الأوروبية عبر العقول العربية، ودُمجت الاكتشافات التي وصلوا إليها ضمن ثقافة الغرب.

ويرى المستشرق البريطاني مونتغومري واتْ -في كتابه المذكور سالفًا- أن عالم الرياضيات والفلك اليهودي أبراهام بن هانسي المعروف بسافاسوردا (ت 540هـ/1145م) قام خلال القرن السادس الهجري/الثاني عشر بترجمة الكتب العلمية العربية إلى العبرية، وقد لعبت هذه الكتب دورًا هامًا في نقل التراث العلمي العربي إلى أوروبا.

لكن الباحثة هونكه تمحق أهم المنجزات الفلكية العربية وتأثيراتها المباشرة على العالم الغربي في العصور الوسطى، إذ تشير إلى أن أهم الزِّيَج التي انتقلت إلى الغرب، وأُستخدمت حتى في أيام كوبرنيكوس دون الحاجة إلى رصدات خاصة، كانت زِيَج: الخوارزمي، والمأمون، والبتاني، وابن يونس، وزِيَج الطُّلَيْطِلية (نسبة إلى طُلَيْطلَة) للزرقالي التي اعتمدت عليها زِيَج الألفونسية [الإسبانية] لاحقًا.

وتكشف الملاحظة هونكه عن سطوة الفلك العربي وزِياجه على العالم الغربي حتى القرن الـ11 الهجري/الـ17م؛ حيث لم تكن أوروبا تمتلك -بحسب قولها- مراصد تستطيع إنتاج زيجًا أو جداول فلكية رياضية، كما فعل علماء المسلمين منذ أواخر الزمن الأموي في القرن الثاني الهجري/الثامن الميلاد.

ويرى عالم الرياضيات الأميركي ديفيد بينجري (ت 1426هـ/2005م) أن تجربة المسلمين في علوم الرصد الفلكي وإقامة المراصدكان دور فعّال في تقدم الفلك الأوروبي الحديث؛ حيث أشار -في دراسة بحثية حول "فلك الهيئة" الإسلامي نُشر ضمن كتاب "موجز المعارف الإسلامية" الاستشراقي- إلى أن "تأثير المرصاد الإسلامية المتأخرة على أقران المسلمين كان واضحًا في الآلات والأدوات والهياكل التنظيمية التي تم اتخاذها من قبل مرصد مراغة وسمرقند وإسطنبول في الفلك الأوروبي. تجلى الأمر واضحًا في المراصد التي أنشأها [الفلكي الدنماركي] تيكو براهي في أورانيبورغ عام 1576 (984هـ) وسترنبورغ عام 1584 (992هـ). تطور المرصد الفلكي [الإسلامي]، وإسهامات مدرسة مراغة، والتقدم في حساب المثلثات وإعداد الجداول، والجهود المستمرة لتصحيح القيم العددية، جميعها مظاهر من مظاهر التقدم في علم الفلك لدى المسلمين"!!

وبحسب دراسة الباحث الفرنسي هنري هوغونر روش من معهد الدراسات العليا في باريس بعنوان "تأثير علم الفلك العربي في الغرب خلال العصور الوسطى"، تُعتبر من أبرز وأعمق البحوث التي ناقشت تأثير العلماء الفلكيين المسلمين في العالم الغربي. تم نشر هذه الدراسة في الجزء الأول من "موسوعة تاريخ العلوم العربية".

ويؤكد روش في هذه الدراسة أن انتقال علم الفلك العربي إلى العالم اللاتيني ارتبط في البداية بجهاز "الأَسْطُرْلاب" الذي أسس على مفاهيم الإسقاط التصويري المجسم، والذي تناوله بطلميوس الإغريقي في كتابه "تسطيح الكرة"، وأضاف إليه علماء المسلمين تحسينات، بما في ذلك العالم الفلكي الأندلسي مَسْلَمَة المَجْريطي في عام 391هـ/1000م، وقام هرمان الدلماثي بترجمتها إلى اللاتينية في عام 538هـ/1143م.

ويرى روش أن بدايات تأثير علم الفلك العربي في العالم الغربي كانت منذ القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، حيث بنيت المعرفة الفلكية اللاتينية إلى حد كبير على ثلاثة مصادر عربية. ومن ضمن هذه المصادر، قوانين وجداول محمد بن موسى الخوارزمي التي نقحها مَسْلَمَة المَجْريطي، وقام العالم الإنجليزي أديلار دو باث بترجمتها في حوالي 520هـ/1126م. وإلى جانبها، جداول البِتّاني التي فُقدت ترجمتها الأولى التي أنجزها روبير دو شستر، ولم يبق سوى القوانين من الترجمة الثانية على يد الفلكي الإيطالي أفلاطون التيفولي.

بالإضافة، ترجمة أعمال الزرقالي الطُّلَيْطِلي الفلكية التي تعرف باسم "جداول طُلَيْطِلَة" كانت المصدر الثالث الذي نجح في نشره في الغرب اللاتيني من خلال الترجمة التي قام بها جيرار دو كريمون.

وبجانب البوّابة الإسبانية الأندلسية التي ساهمت في نقل التراث الفلكي الإسلامي إلى أوروبا، يشير الدكتور جورج صليبا في كتابه السابق إلى البوّابة البيزنطية التي كانت محورية أيضًا في هذا الانتقال العلمي، خاصة بعد فتح القسطنطينية (إسطنبول) عام 857هـ/1453م.

حتى ذلك الوقت؛ "قد امتصت المصادر اليونانية البيزنطية النصوص العلمية العربية والفارسية لمدة تقريبية قدرها قرنان قبل نقلها إلى أوروبا، ولم يتم ترجمة محتوياتها -حسب كل الظواهر- إلى اللّغَة اللاتينية، لكن أُدخلت باللغة اليونانية الأصلية بسبب التركيز اليوناني في النهضة الفكرية [الأوروبية] على اللغة اليونانية...؛ والنقل اللاحق للمعرفة من عالم الإسلام إلى أوروبا تعتبر خطوة حاسمة في تأثيرها البارز"!!

وكانت الترجمات الأوروبية للكتب الفلكية العربية -التي تم جمع 434 عنوانًا منها في كتاب "إسهامات الحضارة العربية والإسلامية.. (2) في علوم الفلك" الصادر عن مكتبة الإسكندرية في مصر- تمثل جزءًا فقط من التأثير الإسلامي على الغرب، إذ كانت الخبرات

التجريبية العملية الدينية ظلت موردا لا ينضب عند الغرباء حتى بعد القرن الـ11هـ/الـ17م.
بالإضافة إلى الرسومات الفلكية (الأزياج) وتحديدا في ميدان المرصدين الفلكيين على سبيل المثال؛ يفترض العالم الدراسات الإسباني خوان فيرنيه أن مرصد إسطنبول كان هو "الدافع لتطوير المرصدين في العالم الغربي بدءا من القرن السابع عشر (الميلادي/الـ11هـ) وما بعده. وحسب ما لدينا من شهادات؛ فإن آلات هذا المرصد تشبه إلى حد كبير تلك التي استخدمها في نفس الوقت تيكو براهي (Tycho Brahe)" لتحقيق أعماله الفلكية في مرصديه المتعددة/على جزيرة هفن الدنماركية أواخر القرن الـ10هـ/الـ16م، تلك الأعمال الملاحظية التي أشعلت نيران نهضة فلكية بقيت تزداد قوة وانتشارا حتى جعلت العالم يصل إلى المعارف الفلكية في زمان توطئة الفضاء وغزو الكواكب الذي لا زلنا نعيش يوميا نتائج ثوراته العلمية المنفجرة والمدهشة!!
المصدر : الجزيرة



أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Exit mobile version