حرب الظلال: كيف اغتالت قوات الموساد و”سي آي إيه” عماد مغنية؟

By العربية الآن



“حسابات دم مفتوحة”..اغتيال عماد مغنية بين الموساد و “سي آي إيه”

صورة مركبة تظهر عماد مغنية بين مائير داغان رئيس الموساد سابقا (يسار)، ومايكل هايدن مدير “سي آي إيه” (العربية الآن)
صورة مركبة تظهر عماد مغنية بين مائير داغان رئيس الموساد سابقا (يسار) ومايكل هايدن مدير “سي آي إيه” (العربية الآن)

في مكتب لجمع وتحليل المعلومات أواخر ديسمبر/كانون الأول 2004، اجتمع عدد كبير من خبراء جهاز الموساد وضباط الوحدة 8200، لمشاهدة فيلم قصير أعده حزب الله بمناسبة الذكرى السنوية لاغتيال القائد غالب عوالي، الذي اغتيل في يوليو/تموز 2004. في هذا الفيلم، ظهر الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله وعدد قليل من الشخصيات، وفي لحظة ما صرخ أحد الضباط “هذا هو.. هذا هو موريس”.

كان “موريس” هو الاسم الرمزي الذي يستخدمه الموساد للإشارة إلى عماد مغنية، القائد العسكري لحزب الله الذي شكل لغزاً للأجهزة الأمنية الإسرائيلية لسنوات طويلة، حيث لم يكن لديهم إلا صورة واحدة له بعمر 22 عاماً في بيروت.

اعتبر ضباط الموساد أن لقطة عماد مغنية في الفيلم هي اكتشاف ثمين، حيث كان مغنية بالنسبة لهم مجرد شبح يصعب العثور عليه. وقد اعتقدوا أنه قام بإجراء عمليات لتغيير ملامح وجهه، مما صعب عليهم التعرف إليه.

مثل جميع عملياتها، لم تعترف إسرائيل رسمياً باغتيال مغنية – وكذلك الولايات المتحدة – فقد جاءت السرديات الإسرائيلية أقرب إلى تسريبات استخباراتية، ومنها ما ورد في كتاب الصحفي رونين بيرغمان “انهض واقتل أولا، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الإسرائيلية المستهدفة” الصادر عام 2018. كانت هذه السرديات مشوبة بالمبالغات أحياناً ومعطيات غير مقنعة، لكنها تقارب المعلومات التي نشرت في مجلتي نيوزويك وواشنطن بوست الأميركيتين عام 2015، والتي استندت إلى مقابلات مع مسؤولين في “سي آي إيه” الذين خططوا لعملية الاغتيال أو شاركوا فيها.

صورة نشرها مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي يعتقد أنها لعماد مغنية (أسوشيتد برس)

البحث عن شبح مغنية

عدّ الموساد ملف عماد مغنية ضخماً، لكنه كان يفتقر إلى المعلومات المهمة، حيث لم تكن لديه خيوط تقود إلى معرفته. طاردوا آثاره طويلاً دون جدوى. تتحدث تقاريرهم عنه بأنه “رجل شبح” شديد الذكاء والحذر، يتمتع بعقل منظم وفطنة كبيرة في المجالين العسكري والأمني، وقادر على التخطيط والتنظيم. وقد رأوا أن الصورة الغامضة له التي ظهرت في الفيلم، لرجل ملتح يرتدي نظارات في منتصف الثلاثينات من عمره، هي المفتاح لفك شفرته.

لم يكن بمقدور أحد تحديد مكانه، حيث يقول رونين بيرغمان إن “مغنية كان بمثابة شبح. كان يدرك أن وكالات الاستخبارات الغربية تستثمر موارد هائلة لتحديد مكانه، لذلك كرس جهوداً كبيرة لتفادي الاعتقال، مع اتّباع تدابير قصوى لضمان أمن اتصالاته.”

أما في مقر وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) في لانغلي، فقد كان الضباط وعملاؤهم يبحثون بلا هوادة عن أي أثر لمغنية، الذي كان يُعتبر أحد أكبر الإرهابيين المطلوبين. ولم تحتوي ملفاتهم عليه، سوى صورة قديمة له، وقائمة طويلة من الاتهامات، أبرزها تفجير مبنى السفارة الأميركية ببيروت في 18 أبريل/نيسان 1983، الذي أودى بحياة 63 شخصاً، بينهم “روبرت أميس”، الضابط البارز في “سي آي إيه” في الشرق الأوسط، والذي كان مقتله ضربة مؤلمة للجهاز.

انضم عماد مغنية إلى حركة فتح في لبنان أواخر السبعينيات (العربية الآن)

عُرف عن مغنية أيضاً ضلوعه في اختطاف وقتل رئيس محطة “سي آي إيه” في بيروت، ويليام باكلي، الذي توفي لاحقا في السجن، بالإضافة إلى تفجير مقر مشاة البحرية الأميركية والجنود الفرنسيين ببيروت في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 1983، الذي قتل فيه 241 جندياً أميركياً و58 جندياً فرنسياً، وأيضاً اختطاف طائرة الخطوط الجوية الأميركية “تي دبليو أي” عام 1985.

لم تستطع “سي آي إيه” ولا مكتب التحقيقات الفيدرالي الوصول إلى أي خيط يقود إلى مغنية أو شريكه فؤاد شكر. وانضافت إلى ذلك قيود قانونية تتعلق بتنفيذ عمليات الاغتيال، حيث حظرت الولايات المتحدة تلك العمليات منذ عام 1975 بعد أن أصدر الرئيس جيرالد فورد أمراً تنفيذياً يحظر على أي موظف حكومي أميركي الانخراط في الاغتيالات السياسية.

في عام 2007، وافق الرئيس جورج بوش الابن، بعد إقناع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت، على توسيع التعاون بين “سي آي إيه” والموساد لتنفيذ عمليات اغتيال مستهدفة، على أن تظل هذه العمليات سرية ولا يُعلن عنها، مما جعل الولايات المتحدة تدخل في دوامة الاغتيالات التي كانت تختص بها الموساد.

من جهتها، لم يكن هناك أي ضوابط بالنسبة للموساد، حيث كانت عمليات الاغتيال المستهدفة تعتبر جزءاً من عقيدتها الأمنية منذ اغتيال الوسيط الأممي في فلسطين، فولك برنادوت، عام 1948. وقد تسارعت هذه العمليات ضد الناشطين وزعماء حركات المقاومة الفلسطينية، كما زادت بعد أن أمرت غولدا مائير في عام 1972 بتنفيذ عملية “غضب الرب”.

نفذت الموساد العديد من عمليات الاغتيال، لكنها فشلت في مرات عديدة. كان الهدف الأساسي هو تقويض إرادة المقاومة عبر التخلص من زعمائها. وظل عماد مغنية على رأس قائمة المطلوبين بالنسبة للموساد لأكثر من ثلاثين عاماً.

نُسب إليه العديد من العمليات المؤلمة ضد إسرائيل، بما في ذلك اختطاف جنديين عام 2006، وأيضاً تنفيذ تفجيرات ضد المصالح الإسرائيلية في الأرجنتين عام 1985. كان عماد مغنية هدفاً صعب المنال بالنسبة للموساد، وقد أصبح قضية شخصية لرئيس الموساد مائير داغان، الذي عُين في هذا المنصب عام 2002.

يقول رونين بيرغمان في كتابه “انهض واقتل أولا” إن: “منذ اللحظة التي تولى فيها مائير داغان قيادة جهاز الموساد، وضع على رأس أولوياته اغتيال عماد مغنية، ولم يكن ذلك منفصلاً عن أهداف الأجهزة العسكرية والأمنية الإسرائيلية على مدى أكثر من ثلاثين عاماً”.

بدأت الموساد حملة مكثفة لتحديد مكان عماد مغنية والقيام باغتياله، حيث كان الرجل معروفاً بأنه يعاني من عقلية عسكرية وأمنية بارعة. وكان قد بنى قوة كبيرة لحزب الله، التي استعانت بأسلحة أكثر تطوراً وقدرات قتالية أحدث مما تسبب في خسائر كبيرة للإسرائيليين في حرب تموز 2006.

سعت إسرائيل لاغتيال مغنية في عدة مناسبات، أحدها كان في عام 1994 عندما اغتالت شقيقه فؤاد لإجباره على حضور الجنازة، ومن ثم اغتياله فيها، حسب ما ورد في كتاب بيرغمان، ولكنه لم يحضر الجنازة.

مدير المخابرات المركزية السابق مايكل هايدن خلال خطاب للرئيس بوش الابن (أسوشيتد برس)

سجال في لانغلي

في الطابق السابع من مبنى وكالة الاستخبارات المركزية في لانغلي بولاية فرجينيا، دارت نقاشات حادة واجتماعات دورية بين مجموعة من الضباط الكبار والتنفيذيين حول مرحلة تنفيذ عملية اغتيال عماد مغنية.

تكشف مجلة نيوزويك الأميركية أن بعض المسؤولين السابقين في الاستخبارات الأميركية أكدوا أن عملية اغتيال مغنية تمت تحت إشراف مباشر من مدير “سي آي إيه” آنذاك، مايكل هايدن، ومجموعة صغيرة للغاية من كبار مسؤولي الوكالة حيث أقرها الرئيس جورج بوش الابن شخصياً.

وفقاً للمجلة، لقد زود الإسرائيليون “سي آي إيه” بمعلومات عن مكان مغنية في دمشق، وقدموا لهم المساعدة اللوجستية، لكن الوكالة هي التي صممت القنبلة التي أدت إلى مقتله وأشرفت على العملية.

وقال مصدر آخر، وهو عميل سابق رفيع المستوى في وكالة الاستخبارات المركزية: “كانت العملية تنسيقاً بين إسرائيل والولايات المتحدة، بل إن الجميع في الشرق الأوسط كانوا على علم بأن العملية تم تنفيذها عبر الاستخبارات المركزية.” وأضاف أن قرار الاغتيال يعود إلى إدارة رونالد ريغان، ولكنه لم تتح فرص تنفيذ العملية حتى عام 2007 عندما أبلغهم مائير داغان بمكان مغنية في دمشق.

تؤكد صحيفة واشنطن بوست أيضاً أنه قد تم التأكيد على ضلوع “سي آي إيه” في اغتيال مغنية مع موافقة الرئيس بوش، المدعي العام، ومدير الاستخبارات الوطنية ومكتب مستشار الأمن القومي.

المجلة أيضاً تشير إلى أن هايدن قد عقد اجتماعاً سرياً مع نائبه ستيف كابس ومايكل سوليك رئيس مديرية الخدمات السرية، مع عدد قليل من المساعدين، حيث تم إقرار عملية الاغتيال بشكل نهائي بعد زيارة هايدن ونائبه للرئيس بوش الذي أعطى الأمر بالتنفيذ بشرط أن يطال الاغتيال مغنية فقط.

تذكر نيوزويك أن التخطيط للعملية بدأ قبل عدة أشهر، حيث تم طرح سيناريوهات مختلفة تشمل استخدام السم أو القنص، لكنها استبعدت بالنظر لصعوبتها أو المخاطر التي قد تواجه المنفذين في حالة انسحابهم من مكان العملية، لا سيما في دمشق التي تخضع لسيطرة مشددة من القوى الأمنية.

وبعد فترة، استقر قرار العملية على وضع قنبلة تم تصنيعها خصيصاً وتجهيزها في الإطار الخلفي لسيارة “ميسوبيشي باجيرو” فضية اللون التي كان مغنية يقودها، ونُفذت 25 تجربة على نماذج أولية للقنبلة في منشأة سرية بولاية كارولينا الشمالية.

وافقت هايدن على بدء تنفيذ العملية بعد عودته من لقاء مع الرئيس بوش، وقام بعقد اجتماع بمقر “سي آي إيه” في منتصف نهار يوم 24 ديسمبر/كانون الأول لمراجعة الخطة.

كما تم نقل نموذج القنبلة أمام هايدن، والقنبلة الحقيقية تم نقلها جواً إلى الأردن وتسلّمها عملاء “سي آي إيه” في دمشق، وزُرعت على عجلة احتياطية لسيارة رياضية متعددة الاستخدامات، ثم بدأ الانتظار مرة أخرى.

اغتالت الموساد عماد مغنية بعد نحو 30 سنة من التعقب و المطاردة (أسوشيتد برس)

خيوط بين بغداد وطهران

فقدت إسرائيل الكثير من قوة ردعها بعد حرب 2006 ضد حزب الله، حيث خسرت نحو 50 دبابة و121 جندياً، وزُهلت بتطور قدرات حزب الله العسكرية وتكتيكاته التي استدعت رداً عبر اغتيال كبار القادة العسكريين.

وأشارت تقييمات الموساد إلى أن هناك جبهة واسعة من التنظيمات المعادية لإسرائيل بدأت تتشكل من الضاحية الجنوبية في بيروت مروراً بالعراق وإيران وسوريا، حيث لعب عماد مغنية دورًا رئيسيًا فيها بالتعاون مع قاسم سليماني، ضابط في الحرس الثوري، ومحمد سليمان، المستشار الأمني لبشار الأسد. وخلال ذلك، نقلت الموساد انتباهها إلى هذا الخيط بحثاً عن ثغرة.

كما رصدت “سي آي إيه” نشاطاً متزايداً ضد الجيش الأميركي في العراق، وأشارت إلى دور ما لمغنية في تأجيج العمليات هناك، بينما اعتبرت أنه يشكل “تهديداً مستمراً ووشيكاً”، وهو ما أتاح للوكالة تصفية مغنية دون انتهاك الحظر العام على الاغتيالات الذي فرضه الأمر التنفيذي رقم 12333 لعام 1981.

ووفقاً لكتاب “انهض واقتل أولا”، استطاعت الموساد الحصول على صورة حديثة لمغنية من أحد العملاء في لبنان، وتمكنت من اختراق أنظمة الاتصال الحكومية الإيرانية عبر نظام عمليات مشترك مع الاستخبارات العسكرية والوحدة 8200، مما ساعدها على الوصول إلى شبكة الاتصالات المشفرة بين قادة “جبهة التشدد”.

كما ذكر مائير داغان في إحدى تصريحاته: “على الرغم من أن الحماية التي كان يوفرها جيش الظل بزعامة الجنرال محمد سليمان لمغنية، فإنه لم يصبح أقل حذراً في دمشق، لكننا عرفنا في دمشق معلومات أكثر عنه مما كنا نعرفه في بيروت”.

واستثمرت الولايات المتحدة وإسرائيل موارد هائلة في عملية تعقب واغتيال مغنية، وقد وصف أحد المشاركين العملية بأنها كانت “الأكثر استثماراً لقتل شخص واحد”.

مائير داغان يتسلم وثائق من رئيس الوزراء أرييل شارون (الفرنسية)

تضارب سرديات الاغتيال

تتباين الروايات بين الموساد و”سي آي إيه” حول تفاصيل جوهرية، حيث تشير مصادر إلى أن “سي آي إيه” هي من قامت بتصنيع القنبلة واختبارها ثم إرسالها إلى الأردن فدمشق وتركيبها في سيارة مشابهة لتلك التي يستخدمها عماد مغنية، بينما يتجاهل بيرغمان في كتابه هذه التفاصيل، مشيراً إلى أن فكرة القنبلة التي يتم التحكم فيها عن بعد كانت لأحد خبراء الموساد.

استبعدت خطة اغتيال مغنية خيارات كثيرة، بما في ذلك تفخيخ الهاتف المحمول، نظراً لأنه كان يغير هواتفه بشكل دائم، واستقر الرأي على زراعة القنبلة في إطار العجلة الاحتياطية لسيارته من نوع “ميتسوبيتشي باجيرو” الفضية.

كانت عمليات المراقبة قد أظهرت أن مغنية كان حذراً للغاية ويفحص سيارته دائماً، لكن غطاء العجلة الاحتياطية لم يكن موضع فحص، لذا تم وضع القنبلة به وبدأت عمليات تتبع “الهدف” وتجهيز العملية في انتظار اللحظة المناسبة.

وصل غطاء العجلة المحتوي على القنبلة إلى مكانه، وجاءت الفرصة في يناير/كانون الثاني 2008 حين تمكن عملاء الموساد من الوصول إلى سيارة الجيب المركونة، بينما كان مغنية يقوم بزيارة ليلية دون مرافقة، فقاموا باستبدال الغطاء بالغطاء الملغوم وقاموا بتثبيت كاميرات للمراقبة لتحليل الموقف، وفقاً لرواية بيرغمان.

يذكر أن فريق الاغتيال تعقب مغنية لمدة ستة أسابيع وكان هناك 32 فرصة لتفجير القنبلة، لكن كل مرة كان يتم إلغاء العملية بناءً على تعهد أولمرت بعدم التسبب بقتل أي شخص آخر سواه.

يُزعم أن في صباح يوم 12 فبراير/شباط 2008، كان عملاء الموساد يراقبون مغنية وهو يقترب من السيارة الملغومة برفقة قاسم سليماني. طلب الأمر من رئيس الوزراء إيهود أولمرت، الذي اتصل بواشنطن وتم إلغاء العملية إلا أن القنبلة كانت قد انفجرت عندما اقترب مغنية من سيارته وقتل بعد حوالي 30 سنة من المطاردات.

رغم تضارب الروايات، من الواضح أن عملية الاغتيال تمت بالتنسيق بين واشنطن وتل أبيب، التي اغتالت لاحقاً المسؤول الأمني السوري محمد سليمان، بينما اغتالت الولايات المتحدة قاسم سليماني في غارة جوية ببغداد.

تستمر حرب الأشباح وحسابات الدم بين حزب الله وإسرائيل، حيث تمت عمليات اغتيال جديدة كان آخرها موجهة لفؤاد شكر في بيروت وإسماعيل هنية في طهران.

المصدر : العربية الآن



رابط المصدر

أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Exit mobile version