حكمة الحكيم واختيارته من تفسير القرطبي | سياسة

By العربية الآن

|

استُهجن الشاعر الكبير حكمته الأدبية، والقصص التي كتبها في مجالها خطوات هامة، وأصبح من أشهر كتابها في عالم العرب، ولم تخل مؤلفاته من جوانب سياسية وفكرية، تنوعت بين الجدية والسخرية، وبين النقد السياسي والفكري لأوضاعنا.

وقد كانت لأغلب أدباء مصر الكبار، تفاعل واطّلاع على القرآن الكريم، وعلى شرحه، وكان لديهم وجهات نظر وتأملات، وكانت كتابتهم مفضلة لهم: السيرة النبوية، حيث يُسهل فيها تصوير أفكارهم، وخيالهم الأدبي، في كيفية عرض الحدث من خلال السيرة، ولم تخل العديد منهم من الكتابة في القرآن الكريم، وتأملاتهم في مواضيع دينية، كما رأينا عند عباس العقاد، وطه حسين، ومحمد حسين هيكل، وغيرهم من أشهر الأدباء.

يروي الحكيم أن عقوبات الإسلام الجسدية، بشكل خاص الإعدام، أنها تظل ولا تُلغى، فهي عقوبة عادلة ترتبط بحق المجتمع، ولا يعتبر الحكيم رجل القانون أن السجن عقوبة مناسبة أو فعَّالة

وبالنسبة لحكمته، فقد اختار مقتطفات انتقاها من تفسير الإمام القرطبي، سماها الحكمة: (اختيار تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن)، وليس تفسيره تفسيرًا عاديًا، بل يعتبر الكتاب مخصصًا لفئة معينة، فالكاتب هو مفسّر وفقيه ولغوي من العلماء القدامى، وتجسد قرار حكمته هذه الخطوة، يعكس رغبة شديدة لديه، واطّلاع واسع على تفسير القرطبي، فكل من يقوم بالاختيار لأجزاء من تفسير معين، لا شكّ أنه قد مر عليه كاملًا، وأبدى اهتمام دائم فيما يختاره وينتقيه.

حافزات الحكمة لمقتطفات القرطبي

كانت حافزات الحكمة وراء هذا العمل، حافزان مهمان ذكرهما؛ الأول: أنه رأى الإمام الرازي صاحب كتاب (مختار الصحاح)، قد اختصر عملًا كبيرًا للغاية، في مجلد واحد، مما يُسهل للناس العودة إليه، بسهولة ويُفيد، واختصره من عمل طويل للإمام الجوهري، ورغب الحكمة في أن يتبع خطواته في هذا، فيُختصر القرطبي اختصارًا يُفيد الجميع، ويُفيد الخاصة، ويقرب الكتاب للناس، حيث يحتوي على فوائد هامة، لا يُمكن لطالب العلم الاستغناء عنها، ولا لمحب للتفسير.

وحافزه الثاني: أنه رأى إقبال كبيرًا على قراءة الكتب الدينية، وقد نُشر الكتاب سنة 1977م، وهو الحقبة التي عُرفت بالصحوة الإسلامية، وبروز الكتب الإسلامية، التي كانت الأكثر مبيعًا، وكان الاهتمام بها كبيرًا، حسب إحصاءات جميع معارض الكتب في مصر والعالم العربي والإسلامي، فرأى الحكمة أن يُقدم كتابًا يُسهم في توعية القرّاء بكتاب الله تعالى.

لم اختار الحكمة تفسير القرطبي؟

بيّن الحكمة سبب اختياره تفسيرَ القرطبي من بين باقي التفاسير، وذلك لما رأى من انعدام هذا التفسير للخُرافات والأوهام، التي لم تخل منها بعض التفاسير الأخرى، وهو محق في ذلك، فالقرطبي من أبعد التفاسير عن الإسرائيليات، وهو معني بقضايا أخرى يركز في تناولها، وليس مهووسا بالعجائب التي وجدت في تفاسير سابقة ولاحقة.

أما السبب الثالث الذي لم يذكره الحكمة، فيُعود إلى ميوله الأدبية والعلمية، حيث يتقاطع مع القرطبي في المجال الفكري في ميادين لا يدركها إلا من يعمق في السيرة والتطوّر العلمي والفكري للقرطبي والحكمة، فالقرطبي لغوي وفقيه كبير، وعالم قراءات كذلك، وهذا التقاطع يحدث بين حكمته في ميادين الأدب واللغة، التي برع فيها الحكمة في جميع كتاباته، فهو عندما

يُؤلّف في المجال السياسي بأسلوب أدبي بالإضافة إلى ذلك، وليس عند استعراضه للأعمال الأدبية والروائية فقط.

يُنصب اهتمام القرطبي على الفقه والأحكام، ومن هنا جاء عنوان كتابه: “الجامع لأحكام القرآن”، وهذا طريق يمزج بين العلم، الذي تبعه الحكيم، الذي شغل بدراسة الحقوق وعمل في بداية حياته كنائب ومحقق في الجرائم، ولذا كان أحد أولى رواياته: “سجلّات نائب في الريف”، تناولت قضايا الريف ونسج حياته ونمطه الاجتماعي والجريمة فيه. وبالتالي، انعكست بصماته القانونية في كتابه: “(عيني تأويل القرطبي)”.

رأي الحكيم في العقوبات البدنية بالإسلام

نظرًا لأن الاختيارات التي قَرّرها الحكيم، لم يعلّق عليها بأي تعليقات تعرب عن رأيه، وضع في مُقدمته التي كتبها، موقفه الفقهي والتشريعي من قضايا تتعلق بالتفسير. وهذا هو موقف شاعر بتسجيله لرأيه؛ فهو يمثل وجهة نظر لفقيه قانوني بمعنى القانون الحديث في مواجهته للعقوبات في الإسلام، بما في ذلك العقوبات الجسدية التي تُفرض كالجلد، على المذنب أو الجاني.

يرى الحكيم أن العقوبات الجسدية في الإسلام، وخاصة الإعدام، تظلُّ سارية المفعول وغير مُلغاة؛ إذ تُعتبر عقوبةً عادلةً تندرج تحت حق المجتمع، ولا يروي الحكيم رَجُل القانون أنَّ عقوبة السجن تعتبر عقوبةً مناسبةً أو مفيدة، بل رأى أن عقوبة الجلد التي جاء بها الإسلام والفقه الإسلامي، هي الأنسب والأكثر فائدة؛ إذ تكون عقوبةً فوريةً، يتعرض لها المذنب، ثم تنتهي قِصته، ويعود لاحقًا لمزاولة الحياة والإنتاج، بينما يُؤدي السجن إلى تعطيل المجتمع بسجن عدد من أفراده داخل السجون.

ما وصل إليه الحكيم في العقوبات الجسدية في الإسلام، يُعتبر ما نَهَجه ودعا إليه فقيه قانوني آخر، هو المستشار علي علي منصور، الذي كان شخصية قانونية بارزة في مصر والعالم العربي. وقد طلب منه الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، إعداد قانون العقوبات، مشتقاً من الشريعة الإسلامية، وكتب منصور مقالًًا- يتفق مع وجهة نظر توفيق الحكيم- في مجلة الأزهر.

في التوازن بين الدين والحياة الدنيا

أثنى الحكيم في مقدمته، التي ذكر فيها جوهر ما استقى من مجموع اختيارات تفسير القرطبي، على أن القرآن الكريم في قوله وتعاليمه، يُوحد بين الدين والحياة الدنيا، إذ إنه آخر رسائل السماء إلى الأرض، فكان موحدًا لكل ما سبق من الرسائل، من صحيح منها ومصححًا لما تحرف منها، ولم يقبل بما قامت عليه فكرة المادية في اليهودية سابقًا، ولا بفكرة الروحانية والعزلة كما في المسيحية، فأتى القرآن الكريم في آياته ونصوصه يطالب بإصلاح الحياة الدنيا، وتأسيس الدين، عبر أوامره بالعبادة، من صلوات، وصيام، وزكاة، وحج، ومهام أخرى.

منهج الحكيم في اختيارات مختارة من التفسير

لم تكن مختارات الحكيم من تفسير القرطبي، تمثل اختصارًا للتفسير، ولكن كانت عبارة عن انتقاء لبعض المواضع لتفسير آيات من القرآن الكريم، ولم تغطي كل سور القرآن في تفسيره، بل اختار مجموعة من السور، ومن خلال كل سورة، اختار آيات معينة، لتناول موضوعات يرى الحكيم من خلالها رؤية متعلقة بمواضيع قرآنية، تتعامل مع قضايا تتعلق بالعقيدة، والعبادة، والتصرف، والعلاقات الدولية.

كان يُنقل كلام القرطبي لمقتطفات مختارة بشكل كامل، دون التلاعب بما قاله القرطبي في الآية، إذ كان يُضع إسماً بالإضافة إلى عنوان مناسب وحديث يعكس فهم الحكيم للتفسير، مما يُظهر أن عناوين الحكيم تبيّن منهج انتقائه للمنشورات من التفسير، وكان ذلك من خلال الأفكار التي ناقشها الحكيم في مقدمته ومن خلال عناوين الفقرات.

كانت الورشة مكسباً يتماشى مع هدف الحكيم، ولكنها لم تكن خالية من النُقص، إذ لم يتدخل قلمه في أي تحسين أو توضيح أو شرح، سوى لعناوين الفقرات، ولكنه جهد طيب من أديب بحجم توفيق الحكيم، يُبدي قيمة التفسير في ثقافة الأديب والفيلسوف، ويجعل الكتاب كتفسير القرطبي مُقبلاً على فئة قارئين سيلتقون بكتاب يحمل اسم الحكيم، رُبما لم يكونوا من جماهير الثقافة الإسلامية، بل من جماهير الحكيم، وهذه خطوة تُحسب لصالح التراث الإسلامي، وبخاصة أنها لم تُكرَّر من أديباء آخرين على طول تاريخ الحكيم.

آراء الكاتب المُعبّرة في هذا المقال هي آراءه الشخصية ولا تُعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Exit mobile version