خضعت الأطباء للامتحان وشاهدت أداء الأمراء والعلماء وسعت للحفاظ على الملكية الفكرية.. المعهد الحضاري الإسلامي ودوره المهم

By العربية الآن



تقارب بين الإيمان والعمران.. المعهد الحضاري الإسلامي ودوره المهم

“يتوجب ألا يُباع من اليهود والنصارى كتابُ عِلْمٍ إلا ما كان من شريعتهم، فإنهم يترجمون كُتُبَ العلوم وينسبونها إلى أهلهم وأساقفتهم وهي من تواليف المسلمين”!! هذا النص المسطَّر في القرن السادس الهجري/الـ12م بقلم أحد مشاهير القضاة في الأندلس يدعو لصون حقوق الملكية الفكرية للمؤلفين، وضمان عدم تفشّي المعرفة المغشوشة داخل فضاء الحضارة الإسلامية.

وهو نصٌّ يتنبأ كذلك بما سيحدث في مستقبل الحضارة الغربية التي لم تتعرف -إلا في مراحل متأخرة من تاريخها- على تلك النُّظُمِ الضابطة الحاكمة لمسارات العمران والصناعات والتجارة في حضارة الإسلام منذ بزوغها، والتي تُشتهر بـ”ولاية الحِسْبة”؛ ما أدى إلى انتشار غير مسبوق -بحسب مؤرخين غربيين- للعديد من إنتاج المسلمين الثقافي وتجاربهم العلمية وأدواتهم الصناعية بل والفنية، واقتباسها من لصوص المعرفة في أوروبا قبل القرن الثامن عشر الميلادي.

ومن أهم ما يعلمنا هذا النص أيضا أن “الحِسبة” لم تكن تنطوي على تلك الفهمية المرتبطة بأفراد بعينهم، والتي تعبر عن شخص غير مبتسم ينتشر في المجتمع القسوة والخوف، وكانت منظومتها موجهة نحو التنظّت والتنقيب بخصوص الأسرار والخفايا أو التركيز على المراقبة والتجسس فيما يتعلق بالعورات والحقائق.

باغتيال الخصوصيات؛ حينئذ كل هذا قراءات مجملية لم تتعمق في تاريخ استخدام الحسبة وبالتالي لم تقدّرها بالشكل الصحيح، إذ لم تقوم بإطارة وظيفتها الحضارية بإطارها النظري والتاريخي المناسب، ولم توزن دورها الحضاري بكفايته الناجمة عن تقدم الصناعات والحِرَف والتجارات في مرحلة تطور المدن الإسلامية بجميع عناصرها، وفي تنظيم وإدارة شؤون المجتمعات التي عاشت في طيات الحضارة الإسلامية على مدى 12 قرنًا هو عمر مؤسسة الحسبة.

ما تخليف حقوق الملكية الفكرية وبراءة الاختراعات العلمية بالضبط والرقابة إلا تجسيد مثالي لأهداف شرعية وقيم إنسانية عالية وُجِدت على أساسها أفكار نظام “الحسبة”، الذي شهد في ظلاله تعاقب مسارات الحضارة الروحية والمادية، وبموجبه جاءت تيارات الجودة والكفاءة والعدالة التي نعتمدها اليوم في العديد من مراكز الحياة الحضرية الحديثة، من بداية الحقوق الإنسانية وحمايتها وتنظيمها، ومروراً بالأسواق والأسعار وتنظيمها، والمهن والأخلاق المؤسسية وتوثيقها، وصولا إلى المؤسسات العمرانية من مبانٍ وشوارع وهندستها وتنظيمها.

وعلى الرغم من أن “الحسبة” ولاية إلا أنها “مهنة” أيضًا، وربما كانت أعظم ما قيل عنها في كتب تراثنا – كما ستظهر – أنها “علم” يبحث في أسباب “التقدم”، وهذا التعريف مفهوم لأنشائه من قبل كاتب قديم قبل أربعة قرون، إذ كانت الحسبة في عصرها وصلت إلى مستوى من التطبيق والتوثيق أصبحت به تأهلا لتكون “علمًا” يتصل بخمسين قطاعًا عامًا دينيًا وخدميًا، يتولى بها متخصصون من أهل الحساب والتجميل والتحسين وتنظيم الجودة لمجتمعات الناس حتى تصبح حياتهم كريمة، ولا يكتفي صاحبها بأن يكون فردًا ذا سلطة يمنحها الهيبة والمكانة، بل يعتبر أن عليه قبل ذالك أن يكون صاحب علم وخبرة، حتى يكون حكيمًا أمينًا في تقييم صناع الصناعات وأصحاب البضائع وتنظيم حمَلة المناصب والمراتب.

بقيت مؤسسة الحسبة متصلة بـ”المجتمع الثقافي”، تعمل في داخلها على ضمان تمدده وتطويره وتجهيزه دائمًا ليكون مسرحًا حيث تتلاقى فيه الجماعات البشرية بعدالة وأخوّة، وتسهر عن طريقه المؤسسات بإتقان وقوة؛ حيث كانت الأجهزة الحسابية تهتم بتأمين فتح المجتمع الثقافي وتعزيز جدرانه وتحسين جودته، وتسهيل مسيرته نحو التقدم والرونق الحضاري، فكذلك تقييد وتصليح المخالفات التي يعصف بها جحف الظلم أو ضعف الحوسبة البشرية، وذلك ليس فقط بالعقوبة والتأديب – الضروريان في كثير من الأحيان – بل بالتكوين وتثبيت المقاييس المهنية التي ينبغي عدم تهاوي قيمتها نظريًا تحت أي مبرّر حتى وإن لم تكن متاحة عمليًا في جميع الأوقات.

كانت مؤسسة الحسبة تقوم بواجبها في الاتجاه الرأسي المتمثل في مراقبة مؤسسات الدولة وحكوماتها وأجهزتها، وبالتالي في الاتجاه الأفقي المهدف لضبط المؤسسات الاجتماعية وتنظيم حركة الأفراد، وهذا الدور الرقابي والتنظيمي في الاتجاهين غير ملاحظ من قبل الغالبية من الأبحاث في هذا الموضوع، والحقيقة أنه كان حاضرًا بقوة في الكتب التراثية التي ناقشت الحسبة كنظام وترتيب، وظهر في فتاوى الفقهاء حيث أكدوا على ضرورة أن “يتردد المحتسب إلى مجلس الولاة (= السلطة التنفيذية) ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر”.

وإضافة إلى ذلك، تمتد رقابة ولاة الحسبة لتحمي صناعة الفتوى الدينية من الانحدار لحمايتها من أن يتجاوز قاصي محاريبها غير المؤهلين لها من أهل العلم الموثوقين؛ إذ طالب أحد العلماء الفذين – كما سيجده القارئ في هذا النص – بأن تكون الرقابة على المفتين ضمن اختصاصات المحتسبين عندما سأل بحق: “هل ينبغي للخبّازين والطهاة أن يكون عليهم محتسب ولا ينبغي للفقهاء أن يكون لديهم محتسب؟!”.

يقوم هذا الموضوع الإضافي برصد منظومة الحسبة نظريًا وتاريخيًا، مما يفتح أفقًا واسعًا نحو تاريخ النظام الشرعي الحضري، ويرشد إلى فهم عالمها من خلال استعراض نماذج ذات دلالة شديدة من جوانبها النظرية والحضارية وأهدافها العملية في خدمة المجتمعات البشرية، ويسعى إلى تحريرها من الأنماط والقوالب التقنينية المحدودة في فهم أهدافها إنشاءً وتدبيرً، والتي أدت إلى إغلاق الباب دون اكتشاف لحصيلة ثرية من التاريخ الإنساني تعتبر – في أغلب تلاوة ميراثها – مصدر قيم يمكن البناء عليه لتصليح وتطوير واقعنا وتحقيق نجاح مستقبلنا.

(المصدر: ميدجيرني)

نشأة مبكرة
لا وجود لوظيفة عملية في الحضارة الإسلامية كانت ذات صلة وثيقة بالمجتمع كما كان جهازتُعَد القسْمَة، كما لم تظهر دوراً يُعادِله في تَعقيد الأدوار الرسمية والاجتماعية. يُلاحظ أن القسْمَة تتلاقى مع الشؤون القضائية والعدلية من جهة، ومع الرؤية الفقهية من جهة ثانية، ومع تدابير التنظيم الاجتماعي من جهة ثالثة. وبناء عليه، يُمكن القول بأنها كانت أحد العوامل المنظمة لحركة المجتمع في سلوكه الأخلاقي وتمسُّكه بالدينيات.

من خلال هذا النظر، يُؤكد ترابط بين ثنائية التقليد والشريعة في أفعالها وممارساتها. وهذا ما يبرر تنوع اختصاصاتها بين الفتوى الشرعية، والإجراءات القضائية، والتدابير التنفيذية، وهيكل التنظيم الإداري. بينما يُقدِم الفقيه الشرعي فتاوى وتشريعات، يعمل القاضي في التحقيقات الجنائية، تصدر الجهة المختصة ما يعرف بـ”الأوامر التنفيذية”، ويدير رجل الدولة جهازاً ذا صلاحيات متنوعة.

وفي هذا السياق، يُنفذ المحتسب أنواعاً من العقوبات الدينية والدنيوية، تُهدف إلى حفظ سكينة المجتمع وحماية “النظام العام” وقيمه، وحماية حقوق المستهلك وتوفير ظروف حياته الكريمة.

فقد وفر النبي مراقبة الأسواق وعمليات “حماية المستهلك” في الحضارة الإسلامية. ذكر الكاتب المشهور نور الدين ابن برهان الدين الحلبي عن ولاية السوق في عهد النبي، وأشار إلى أنها أساس لجهاز القسم؛ حيث أوضح أن النبي كلّف عمر بن الخطاب بإدارة سوق المدينة، مما يجعله أول المنظمين للقسم في الإسلام.

من التصرفات النبوية في القسم، فحصه للبضائع في سوق المدينة لكشف الغش والتزوير الذي يضر المستهلكين. في حديث مشهور، تحدّث عن فحصه جودة قمح تاجر في سوق المدينة، وعندما اكتشف الغش، قال له: “من غَشَّ فليس مني”.

وبعد الفترة النبوية، توسّعت صلاحيات هذه المراقبة مع نمو أنشطة التجارة في الدولة الإسلامية خلال عهد الفتوح الإسلامية، وخصوصاً في عهد الخليفة الفاروق. وأنشأ عمر الفاروق القسم، واهتم بتوظيف عنصرين لإدارته. كما اختار امرأة لإدارة القسم، لكونها كانت من الحكماء والمميزين، وكان عمر يثق بها ويُفضلها على الأخريات.

في عهد الدولة الأموية، استمرت العناية بقسم القسم، وتأسست وكالة لحماية المستهلك والأسواق. وفي حكم الخليفة العباسي المنصور، تم تعيين أبو زكرياء يحيى بن عبد الله بهذه الوظيفة. وهذه المراقبة واحترام النظام العام استمرا حتى عصر العباسيين.

(المصدر: ميدجيرني)

سلطات شاسعة
في كتابه “الأحكام السلطانية”، قدم الإمام أبو الحسن الماوردي (ت 450هـ/1058م) تعريفا للحسبة حيث وصفها بأنها “أمر بالمعروف عندما يظهر تركه، ونهي عن المنكر عندما يتجلى فعله”. وأشار إلى أن “المعروف” و”المنكر” تشمل جميع الأفعال الإيجابية والسلبية التي تصب في مصلحة الناس وتتماشى مع مبادئ الشريعة الإسلامية.

بينما عرَّف الإمام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) الحسبة بشكل تنفيذي، حيث ذكر في “مجموع الفتاوى” أنها تشمل “أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ولا يخص ذلك فقط الحكام والقضاة وإنما يتعداهم”. هذا يعني أن للحسبة سلطات تنفيذية تُمارَس من قبل الجهات التنفيذية (الحكام) والقضائية (القضاة).

من خلال دمج تعريفي الماوردي وابن تيمية في سياق أوسع، تكمن صلاحيات مؤسسة الحسبة الشاملة لجميع جوانب المجتمع الإسلامي من خدمات ومصالح؛ حيث عرَض المؤرخ العثماني حاجي خليفة (ت 1068هـ/1657م) في كتابه “كشف الظنون” تعريفًا وظيفيًا للحسبة وصفها بأنها “علم يبحث في الأمور التي تجري بين أفراد البلد من تعاملات لا يمكن التطور بدونها، ويقوم بتنفيذ قانون العدل بما يعزز التفاهم بين الأطراف، وينهي المعاصي ويأمر بالخيرات”.

وأوضح خليفة أن هذا العلم يأتي مع مجموعة من المبادئ والضوابط، تتراوح بين الفقهية والاجتهادية التي تتأتى من آراء الحاكم.. ويهدف إلى تنظيم شؤون المدينة بشكل شامل…؛ من خلال مراقبة أمور أفراد المجتمع بحسب ما تم تدوينه في السياسة والشريعة علانية وسراً.

وبناءً على هذا التخصص الواسع الذي تمتاز به سلطة الحسبة، توسعت مجالاتها الوظيفية – في شتى جوانب الحياة الدينية والمجتمعية- إلى أن وصلت إلى “خمسين” قطاعًا عامًا دينيًا وخدميًا؛ وفقًا لتعبير حاجي خليفة. وقد استعرض الشافعي الفقيه والمحتسب عبد الرحمن بن نصر الشيزري (ت نحو 590هـ/1194م) حوالي 40 نوعًا من هذه القطاعات بتفصيلها في كتابه “نهاية الرتبة في طلب الحسبة”، على أن أضاف آخرون على هذا العمل، ومنهم الفقيه أبو حامد المقدسي الشافعي (ت نحو 896هـ/1491م) الذي ذكر في كتابه “بذل النصائح الشرعية” حوالي ستين نوعًا من تلك القطاعات.

ويُظهر ذلك أن المحتسب يتخذ على عاتقه مهام دينية واجتماعية وحتى إدارية رسمية لضمان استقرار وخدمة المجتمع، سواء في الخدمات العامة الرسمية أو الأهلية، وفي علاقة الناس بها وتمكينهم منها بشكل يحقق مصلحتهم على أفضل وجه، إضافةً إلى تأدية الأفراد لواجباتهم المجتمعية؛ فهو يراقب حالة المرافق والبنية التحتية والمنشآت العامة التي يستفيد منها الناس، مثل الأسواق والمدارس والمستشفيات والمساجد، ويشرف على الطرق والجسور والشوارع.

ولذلك، نجد هنا أمثلة توضح لنا الصورة المعقدة لتلك المؤسسة الهامة، حيث تتنوع اليوم صلاحياتها عبر مئات الجهات الرقابية والتنفيذية من المؤسسات الرسمية والجمعيات الأهلية:

1- ميدان القيادة العامة: كانت مهمة المحتسبين -على عكس الاعتقاد الشائع- ليس فقط تقييد حريات المجتمع أو تحييد لصالح الحكام على حساب الجماهير، بل كانت جهودهم موجهة نحو حماية القيم الدينية والمصالح الدنيوية للمجتمع (المعروف اليوم بـ”النظام العام”) في الاتجاهين؛ وهم يحرصون على حماية الناس من التجاوزات الحكومية على مستوى الدولة ومن انتهاكات المجتمع على مستوى الأفراد والجماعات.

من المهم أن الفقهاء منحوا المحتسب حق مراقبة أداء “الأمراء والولاة” للمهام التي تكلفوا بها في إدارة شؤون الدولة والمجتمع، حيث صاغ الإمام أبو حامد الغزالي (ت 505هـ/1111م) مصطلح “الحسبة على السلطان وأصحابه”، وأكد على ضرورة أن “يكون المحتسب حاضرًا في مجالس الحكم، ويأمرهم بالمعروفlad”>.ويقوم بمنعهم عن الأمور السيئة، وبتذكيرهم وإرشادهم، وبتوجيههم بالرحمة لهم والعطف عليهم”؛ كما يشير لنا المفكر شهاب الدين ابن بسام المصري (ت بعد 588هـ/1192م) في كتابه ‘نهاية الرتبة في طلب الحسبة‘.

إن المحتسب قادر أيضاً -نظراً لعلاقته بالعامة وفئات الأعمال المتنوعة- على استقطاب مجموعات منهم لإثارة الفوضى ضد الحكومة؛ إذ ذكر الإمام الطبري -في تاريخه- أن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور (ت 157هـ/775م) عيّن رجلا يُدعى أبا زكرياء يحيى بن عبد الله (ت 157هـ/775م) “حسبة بغداد والأسواق سنة سبع وخمسين ومئة”، وكانت لهذا الرجل علاقات سرية مع العلويين الذين تمردوا على العباسيين سنة 145هـ/763م والذين كان المنصور يُطاردهم هو وأنصاره، فما فعله هذا المحتسب كان التواصل مع مؤيدي العلويين “فجمع على المنصور جماعة استغواهم من الطبقات السفلى مما أدى إلى الشغب والتجمع” للثورة ضد العباسيين، فأرسل المنصور أحد قادته العسكريين إليهم “ليخمَّنهم وألقى القبض على أبا زكرياء وسجنه عنده، وأمره أبو جعفر بقتله” فتم إعدامه في إحدى الساحات العامة في بغداد.

وعلى الرغم من الجدل النظري بخصوص دور جهاز الحسبة كـ السلطة القضائية وسؤال ما إن كانت خادمة لها أم مسيّطرة عليها؛ فإن الفقهاء اتفقوا على أن على المحتسب مراقبة انضباط الهيئات القضائية في أداء مهامها بالشكل المحدد لها شرعاً، بما يضمن حصول الجمهور على فرصة الوصول إلى الدوائر القضائية لحماية حقوقهم وتسوية نزاعاتهم؛ وذكر الشاهري أن “على القاضي (= السلطة القضائية) أن يقعد للناس في وسط البلد تجنباً لصعوبة الوصول إليه”.

ويجب على القاضي الالتزام بأخلاقيات المحكمة وقواعدها خلال جلساته القضائية، وبالتالي إذا “رأى المحتسب أن القاضي قد غضب ضد شخص ما، أو سبَّه أو تشاجر معه في كلامه، فعترض عليه وعظه وأخافه بالله عز وجل، إذ لا يجوز للقاضي أن يصدر حكماً وهو غاضب، أو ينطق بكلمة سيئة، أو يظهر تصرفاً جارحاً؛ ويجب على ذويه ومساعديه الذين يعملون تحت إشرافه” أن يتعاملوا بأدب مع الخصوم والمتقاضين.

وكان من صلاحيات المحتسبين أن يوجهوا موظفي النظام القضائي للتعامل برفق مع المتقاضين في القاعات القضائية؛ وهكذا، في سيرة حياة محتسب بغداد إبراهيم ابن بطحاء التميمي (ت 320هـ/932م) يروي الإمام ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) -في ‘المنتظم‘- أن ابن بطحاء مَرّ بمجلس القاضي الأعظم أبو عمر محمد بن يوسف المالكي (ت 320هـ/932م) فرأى المتقاضين جالسين ومتعبين من حرارة الشمس، فدعا مدير مكتب القاضي وأخبره: “قل للقاضي الأعظم: الأطراف متسعة بالمدخل ويعانون من الحرارة، فإما أن تستقبلهم أو تعذرهم ليعودوا في وقت لاحق” إليه.

وعلى الجانب الآخر؛ ينبغي على المحتسب أن يضمن احترام المتقاضين للأدب المناسب في جلسات المحكمة للحفاظ على هيبة السلطة القضائية، “وإذا شاهد المحتسب شخصاً يفتقر للأدب في جلسة المحكمة، أو ينتقد القاضي في قراره، أو لا ينقاد لحكمه، فعاقبه على ذلك”.

(المصدر: ميدجيرني)

التنظيم الديني
2- القطاع الديني: وامتدت مهام الحسبة لتشمل العاملين في “القطاع الديني” مع جميع جوانبه؛ حيث شملت أفعال العلماء القضاء على الفتاوى الهجينة، ولهذا نُصِح الفقهاء بأن “من أفتى الناس وليس له أهلية للإفتاء فإنه يأثم ويعصي، ومن أقرَّ بهم من الحكام على ذلك فإنه يأثم أيضاً… ويجب على السلطة منعهم”؛ وفقاً لاقتباس الإمام ابن القيم (ت 751هـ/1350م) من كتابه ‘إعلام الموقِّعين عن رب العالمين‘.

وحفاظاً على جودة الفتوى من التقصير وحفظاً لها من التأويلات غير الملائمة لها من غير المتأهلين، طالب الإمام ابن تيمية بأن تكون مهمة الحسبة بالنسبة للعلماء ذوي الأهلية في إصدار الفتاوى، ونقل عنه تلميذه ابن القيم -في كتابه السابق- بأنه قال: “كان شيخنا… غاضباً للغاية من هؤلاء (= العلماء غير المؤهلين لإصدار الفتاوى)، فسمعته يعلق: قيل لي من قبل أحدهم: هل يجوز تكليفك بالفتوى؟! فأجبته: الخبازين والطهاة يخضعون لإشراف، فلماذا لا يكون الفتوى تحت إشراف؟!”.

ومع ذلك، لا يُفرض على المحتسب المساس بحرية الرأي لدى الناس (العلماء أو الجمهور) في المسائل الفقهية التي تقتضي التأويل والتفسير، حيث إذا اختار الشخص تبني هذه المسائل أو “تنفيذها بطريقة مقبولة تختلف عن رأي المحتسب… فلا يجوز الاعتراض عليه في شيء من ذلك بأمر ولا بروي”.

النهي؛ وفقًا لأبو الحسن الماوردي في ‘الأحكام السلطانية‘.

ومن أجل صدّ آفات الوعظ السلبي أو الخرافي عن الجمهور؛ تناولت كتب الحسبة ضرورة مراقبة الوعاظ وتنظيم مجالسهم، حيث ذكرت أنه “على الحاكم أن يفحص أمر الوعاظ، ولا يسمح لأي شخص يتولى هذه المهنة إلا من اشتهر بين الناس بالدين والخير والفضيلة، وأن يكون ملمًا بالعلوم الشرعية وعلم الأدب…، ويُختبر بمسائل يُسأل عنها من هذه المجالات، فإن أجاب [سُمِح له] وإلا مُنع…، فإن لم يتنازل واستمر في كلامه عُزِّر”؛ كما ورد في كتاب ‘معالم القربة في طلب الحسبة‘ لابن الأخوة القرشي (ت 729هـ/1329م). وأضاف ابن الديبع الشيباني (ت 944هـ/1537م) -في ‘بُغية الإربة في معرفة أحكام الحسبة‘- بأنه “على الحاكم منع الواعظ المبتدع والقاص الكاذب في الأخبار، ولا يجوز لهم الحضور إلى مجالسهم”.

وما يندرج تحت ضبط الحسبة في المجال العلمي هو ما دعا إليه بعض العلماء من ضرورة حماية الملكية الفكرية للمؤلفات من السرقة والتقليد؛ حيث أفتى رائد التصنيف في فقه الحسبة الإمام وقاضي القضاة ببلاد الأندلس محمد بن أحمد بن عَبْدون التُّجِيبي (ت 527هـ/1133م) -في رسالة له عن الحسبة منشورة ضمن كتاب ‘ثلاث رسائل في الحسبة والمحتسب‘ المطبوع بعناية وتحقيق المستشرق ليفي بروفينسال (ت 1376هـ/1956م)- بأنه “لا يجوز بيع كتب العلم الديني لليهود والنصارى إلا إذا كانت من شريعتهم، إذ يترجمون كتب العلوم وينسبونها لهم ولأساقفتهم على الرغم من أنها من تأليف المسلمين”!!

وقد تحقق التاريخ من صحة ما قاله هذا القاضي الأندلسي قبل ألف سنة عندما شهد علماء غربيون كبار ومؤرخين انتحال بعض العلماء الأوروبيين لكتب واختراعات، يُصرفونها كما لو كانت ملكًا لعلماء مسلمين في مجالات معارف الفلك وعلوم الطب والرياضيات والهندسة وما إلى ذلك مما يشمله وصف الإمام ابن عَبْدون التُّجِيبي بأنه “كتب علم”، فإنها بالتأكيد لم تقصد سوى العلوم التطبيقية لأنه لا يمكن للأجانب النصارى أن ينتحلوها.

كما استمدت اهتمامات المحتسبين إلى عالم الثقافة والأدب الفني حيث مارسوا بعض الرقابة على التأليف أو النشر في تلك المجالات؛ فقد كانت فئة الوراقين -الذين كانوا يشغلون زمام أعمال النشر والطباعة في الأزمان السابقة- يتعاملون مع كتب ودواوين ووثائق مختلفة، وكان أغلبهم لا يهتم بمضمون ما سينسخه أو بالشخص الذي سيورّق له؛ إذ كان النديم يدون لنا عناوين حوالي 110 كتابًا تم تأليفها أو ترجمتها منها روايات للأسمار وقصص للعشاق والمتحابين من البشر والجن!! ولذا كثيرًا ما طالب العلماء السلطات بمنع الوراقين من تبادل ونشر كتب معينة بين الناس.

ورد الطبري -في تاريخه ضمن أحداث سنة 279هـ/892م أيام الخليفة العباسي المعتمد (ت 279هـ/892م)- أنه “كان من أمر الحاكم.. [أن] أقسم الوراقون بعدم بيع كتب الرأي والجدل والفلسفة”. وذكر الخطيب البغدادي بأنه لدى صدور حكم بإعدام الصوفي الفيلسوف أبو عبد الله الحلّاج (ت 309هـ/921م) في سنة 309هـ/921م “حضر مجموعة من الوراقين وأقسموا بعدم بيع كتب الحلاج أو شرائها‏”.

وخلاصة كلام تاج الدين السبكي (ت 771هـ/1369م) -في ‘مفيد النعم‘- حول واجبات الوراق القانونية هو “عدم كتابة شيء من الكتب المضلة ككتب أهل البدع والأهواء، كما لا ينفع الله تعالى بها مثل سيرة عنتر، وغيرها من المواضيع المختلفة التي لا تعود بالفائدة على الدين، وأيضًا عدم كتابة كتب المجنونين… ينبغي لمن ينسخ ألا يبيع دينه مقابل الدنيا”.

وفي المجال الديني أيضًا؛ اهتمت الحسبة بشأن المساجد ودورها في تعزيز مكانتها من خلال النظافة والإضاءة والتنظيم، لتجعلها مكانًا واسعًا ومريحًا للعبادة ودعم التلاحم والتراحم بين زوارها؛ فأشار علماء الحسبة إلى أنه على المحتسب تكليف “عمال المساجد بتنظيفها وترتيبها يوميًا في الصباح والمساء، ورفع الأوساخ وتنظيفها يوم الجمعة، وغسيل ثراها مرتين شهريًا، وإضاءتها كل ليلة في صلاة المغرب والعشاء والفجر، والاهتمام بنظافة ساحاتها. وينبغي للمحتسب الإشراف على الإضاءة، فإذا لاحظ نقصًا في الإضاءة يتصرف لملء زيتها”؛ بحسب ابن بسام.

كما يجب على المحتسب حماية الهدوء بمكان العبادة بمنع “الأطفال والمجانين..، وكذلك من يتناول الطعام وينام، أو يمارس الحرف أو يتاجر، أو يفقد أشياء” لكيلا يخل بجو الانكفاء الروحي للمصلين.

وفي مجال المساجد أيضًا تطرقت كتب الحسبة إلى مشكلة السواعد في المساجد بعدمسئولية المحتسب “موظفي المساجد بالوقوف عند أبوابها يوم الجمعة ومنع السواعد من التسول بصفة عامة، وذلك في دخولهم إلى المكان”.

تسبب الإزعاج للناس ويمنعهم من مزاولة الذكر والعبادة، إذ يقومون بإلهاءهم خلال الصلاة، وخاصة من يقف ويحدثهم بأخبار وقصص لا سلطان لها، ويشغلون العوام بسماع حديثهم عن ما ليسوا حاضرين له؛ لذا ينبغي على المسؤول منعهم من ذلك، وإرسال مساعدين إليهم للمساعدة، إذا كان ذلك من أهم الفوائد”.

وبالنسبة للمؤذنين، “ينبغي للمسؤول أن يفحصهم بمعرفة الأوقات، فمن لا يعرف ذلك يمنعه من الأذان حتى يتعرف عليه؛ لأنه قد يؤذن في غير الوقت المناسب ويسمعه الناس ويصلون قبل الوقت المحدد، فلا تكون صلواتهم صحيحة، فيصبح هو السبب في فساد صلاة الناس، لذلك يجب عليه معرفة الوقت، ويقرأ باب الأذان والإقامة في الفقه، ويفضل أن يكون المؤذن له صوت جيد”!! ويذكرنا أبو العباس المجيلدي – في كتابه ‘التيسير في أحكام التسعير’- أن بعض المسؤولين كانوا يأمرون المؤذنين بإعساب أعينهم وقت صعودهم للتأذين على الأسطح والمنارات في المساجد حتى لا ينظروا إلى محرمات جيران المسجد!!

(المصدر: ميدجيرني)

مُرافق خدمية
3- القطاع التعليمي: وفي مجال التعليم فُرِضت قواعد وضوابط صارمة تحقق مصلحة للمتعلمين وخاصة الصغار منهم؛ لذا كان من صلاحيات المسؤول أن يتأكد من أن مدرّسي الأولاد “يُنشئون للتعليم محلات في الطرق وأطراف الأسواق” بعيدًا عن المساجد التي يجب أن تظل خالية من حركات الأطفال وقلة نظافتهم. كما ينبغي عليه أن يُلزِم المُدرِّس بأن “لا يضرب طفلًا بعصا سميكة تكسر العظم، ولا رقيقة تؤلم الجسد، بل تكون متوسطة…؛ ويُعتمد في ضربه على… الأماكن [التي] لا يُخشى منها مرض ولا متاعب” على الأطفال.

وتنص كتب الحسبة على قواعد دقيقة في العلاقة بين المدرّس والتلميذ؛ فتقرر -بحسب الشيزري- أنه “لا ينبغي للمربي أن يستخدم أحدًا من الأصبية في احتياجاته وأعماله الشخصية التي قد تسبب عارًا على آبائهم…، ولا يُرسِله إلى منزله (= المعلم) وهو فارغ لكي لا تستقبله التهمة” بالسرقة أو أمور مشابهة. وإذا كان الأطفال يصلون إلى مكان الدراسة بوسائل المواصلات يجب أن “يكون السائق لهم موثوقًا متأهلا (= متزوجًا)؛ لأنه يأخذ الأطفال في الصباح والعصر، ويكون معهم بمفردهم في أماكن خالية”. وإذا ثبتت تجاوزات المدرّسين لهذه القواعد وغيرها أمام المسؤولين فإنهم “يقومون على من يكون سيئ السلوك بإنهائه بالانضباط والأدب”؛ كما يقول المؤرخ القاضي والمسؤول تقي الدين المقريزي (ت 845هـ/1441م) في كتابه ‘اتِّعاظ الحُنفا‘.

4- القطاع الصحي: ركزت كتب الحسبة بشكل مفصّل على القطاع الطبي في الحضارة الإسلامية، ووضعت ميثاقًا ينظم العلاقة بين الأطباء والمرضى، وتطرقت إلى الأخطاء التي قد تطرأ في نشاط الطب -في جميع تخصصاته- من جانب الأطباء والصيادلة.

ذكر الشيزري أنه لتأكيد سلامة القطاع الصحي من الضروري “للمسؤول أن يفحص الأطباء… فمن وُجِد فيه على غير ما يجب… افتَدَى له المسؤولُ بالتصدي لعلاج… الناس”. وكذلك “يجب على المسؤول أن يأخذ منهم (= الأطباء) ‘يمين بقراط‘ (= القَسَم الطبي) الذي أخذوه على سائر الأطباء، ويحلفهم بألا يعطوا أحدًا دواء ضارًا ولا يغشوا له سمًا…، وألا يُلقوا أبصارهم على المحرمات عند دخولهم على المرضى، وألا يُفشوا الأسرار وألا ينتهكوا الستر”. ويجب عليهم أن يتأنوا في تشخيص الحالات الصعبة أو الحساسة “ويحذروا فيها [المعالجة] إلا بعد التشاور مع الأطباء الكبار المجربين؛ وفق ابن بسام في ‘نهاية الرتبة‘.

ضمن الشيزري فصلًا في “الحسبة على الصيادلة” تحدث فيه عن “غشهم المشهور” الذي يمارسونه في تركيب الأدوية، وشرح الطرق التي تكشف الخداع في الدواء؛ وأشار إلى أنه “يجب على المسؤول أن يوبّخهم ويحذرهم، ويهددُهم بالعقوبة والتأديب، ويختبرهم بعقاقيرهم في كل أسبوع” للتأكد من سلامتها من خلال الفحوصات والتجارب الطبية، لأنهم “قد يغشون الطباشير (= حبوب الدواء) بالعظام المحروقة في الأفران، ومعرفة الغش بأن العظام تترسب في الماء وتطفو الطباشير فوقها، يُكشف زيف الدواء!!

5- القطاع الأسواق: لم تهم ولاية الحسبة بأي شيء مثل اهتمامها بالأسواق وما تشهده من معاملات في مجالات التجارة والصناعة، ومن هنا سميتها الأندلسيون “خُطّة السوق”؛ لذا تناولوا

ممارستها: يتوجب على المحققين أن يكونوا على اطلاع كامل بأنواع العلاقات الاجتماعية للناس في العالم الدنيوي، وحقوق المواطنين على المُصنعين، وما يتعين على هؤلاء الأخيرين من انتباه في جودة منتجاتهم وبضائعهم، من أجل تلبية احتياجات الذين دفعوا أموالهم من أجل الحصول على فوائد وتحقيق مصالحهم عند اقتنائها.

المتاجرة: من الجدير بالذكر أن العالم الفقيه الشيزري، مؤسس التصنيف في الحسبة، قام بتخصيص حوالي 80% من فصول كتابه في الحسبة لمناقشة تطبيقاتها في ميدان التجارة، والعناصر المتعلقة بها من بضائع وصناعات وأشكال للغش والتلاعب فيها وكيفية كشفها ومكافحتها.

التحقق: كان لا بد من وجود الأسواق المتخصصة لتسهيل للناس البحث عن احتياجاتهم من الصناعات والبضائع؛ ولذا ذكر ابن بسام في كتابه ‘نهاية الرتبة‘ أن المحقق يجب عليه “إنشاء سوق خاصة بكل صناعة لتتميز بصناعتهم”. وأكد على ضرورة تحقيق سلامة العقود والصفقات وأشار إلى أن “لا يحق للمحتقب ترك أي تصرف أو حصول يحظره الدين عن بيعه أو شرائه في أسواق المسلمين”؛ وذلك وفقا للمُجَيدي المالكي في ‘التيسير في أحكام التسعير‘.

التفتيش: للتأكد من تنفيذ المبدأ الشرعي العام، يقوم المحتسب بتفقد سوقه والتحقق من جودة منتجاته وامتثال تعاملاته للأحكام الشرعية. وأكد أنه “يجب على المحتقب مشاورة فريقه في الأمور الصعبة التي تُثير شكوكه”، وفقا للفقيه ابن عوض السَّنامي الحنفي في كتابه ‘نصاب الاحتقاب‘.

(المصدر: ميدجيرني)

رصد تجاري
من الناحية التطبيقية؛ ينبغي على المحتقب احترام خصوصية الأفراد “بحيث لا يثير الشك في أحد”، وفقا للوائح الفقهية التي وضعها الفقيه المالكي أبو العباس المُجَيْلِدي في كتابه ‘التيسير في أحكام التسعير‘. ومع ذلك، قد يضطر المحتقب أو أحد مساعديه للقيام بـ”الاستطلاع” في حالات جنائية طارئة حيث قد لا يتوافر دليل الجريمة وقد يحتاج “انتهاك سرية يمكن تجاوزها”، وإلا فلا يسمح بـ”الاستطلاع أو كشف الأستار”؛ وفقا لماوردي في ‘الأحكام السلطانية‘.

بمعاونة طاقمه الوظيفي المنتسب إليه من نواب ومساعدين؛ يتعين على المحتب أن يبني علاقات قوية مع أرباب الصناعات والبضائع لمراقبة الأوضاع السوقية من الداخل، لذلك فمن الضروري “استخدام عامة السوق والتجارب السابقة والنصائح للباعة، [لـ]ـكي يراقب حركتهم التجارية ويفحص المعايير والمقاييس بنفسه في مواقيت زمنية محددة، فإذا وجد ما يثير الشك يتصرف بحكمة” وفقا للمُجَيْلِدي.

كما يتحمل المحتسبين مسؤولية إنشاء النقابات المهنية وتعيين النقاباء فيها ليشاركوا في تنظيم جودة المنتجات، ويحرصوا -في الوقت نفسه- على مصالح العاملين في قطاع الصناعات وتجار موادهم، حيث قال الشيزري إنه “عندما لا يكون المراقب على شمولية سلوك التاجر بحكم نفوذه، يجب عليه أن يعيّن عريفا (= نقيبًا) لكل صناعة يكون حكيمًا في صناعتهم، وفهمان”。

يعرف المُراقَب بغشهم وتزويراتهم، متسمًا بالشهرة في الثقة والأمانة، ومشرفًا على حالهم، متابعًا لأخبارهم والسلع والبضائع التي تدخل إلى سوقهم، وتثبت الأسعار عليها، وغيرها من الأسباب التي يجب على المحتسب معرفتها” في شؤون الأسواق.

وذكر المقريزي في كتابه ‘المُقفَّى الكبير‘، أنه في مصر الفاطمية “كان هناك عريف في كل سوق يدير أمور أصحاب كل مهنة…؛ وكان استخدام العرفاء في الأسواق على أرباب الصنائع أمرًا معتادًا، حيث يقبلون على اقتراحاتهم حول أحوالهم. وفي الأندلس، كان يتعين على المحتسب مراقبة أصحاب المحلات لـ “مراقبة أمورهم وتدابيرهم ومنعهم من التلاعب بحاجات الناس، مما يعرضهم لتعطيلهم لأعمالهم والإضرار بهم”، وفقًا لكتاب ‘آداب الحسبة‘ للفقيه الأندلسي أبو عبد الله السقطي المالقي (ت 631هـ/1234م).

كانت الحسبة مهتمة أيضًا بالحيل والتلاعب في المعايير والأوزان التي يتعامل بها المرء للحصول على صفقات عادلة للمبيع والشراء، حيث كان لأصحاب الأوزان “أنواع من الخدع والحيل؛ لذلك يجب على المحتسب مراقبتهم في جميع الأحوال، وتحذيرهم من حيلهم لأولئك الذين ليس لديهم خبرة بأعمالهم الغموض، ومراقبة من اشترى منهم باقتراب وإعادة الوزن لربما انكشف عن تلاعبهم”؛ حسب المجيلدي.

وذكر الإمام القاضي أبو يعلي ابن الفراء الحنبلي (ت 458هـ/1067م) – في كتابه ‘الأحكام السلطانية‘- أن المحتسب يجب عليه أن يمنع التدليس والغش في الأوزان والمعايير والعملات؛ ويمكن له عند شكوكه في أوزان السوق ومعاييرهم أن يفحصها ويُقيِّسها. وإذا كان لها ختم رسمي معروف بين الجمهور يستخدمونه حصريًا فهو أكثر حذرًا وأمانًا، فإذا وفق في ذلك وتعامل الناس بشيء غير مختوم بطابعه الرسمي، سيتعرضون للانتقاد، إن كان المادة مزورة والوزن غير مدعم.

وكانت الحسبة تهتم أيضًا بأمان النقود والعملات وحمايتها من التزييف والتدليس؛ حيث كان من المهم أولاً التحقق من شرعية النقود المتداولة بين الناس لمنع “ضرب القطع النقدية خارج مكان الإنتاج سرًا، حيث يجب عدم فعل ذلك لأنه خاص بالحكام”، وفقًا للاسنامي الحنفي.

وبعد التحقق من صحة النقود، تأتي مهمة التحقق عمليًا من الوزن الصحيح للعملات الذهبية والفضية لدى صاغة العُملات، فعلى المحتسب مراقبة سوقهم والتأكد من أوزانهم، وأحجار الميزان، والتجسس عليهم؛ فإذا وجد أحدهم يمارس الغش في زيادة الوزن أو العمل بطريقة غير قانونية، عليه أن يطرده من السوق، بعد أن يعلمه بمبادئ مسائل الربا”، وفقًا للفقيه الشافعي أبو حامد المقدسي في كتابه ‘بذل النصائح الشرعية‘.

ووفقًا للمُقَرِّي؛ فعندما يتلاعب التاجر بالمشتري، فإن خيانته لا يمكن أن تخفى، حيث يرسل المحتسب صبيًا أو جارية ليشترى منه، ثم يفحص الوزن، فإذا وجد نقصًا فإنه يعاقبه علنًا، وإذا تكرر ذلك دون توبة – بعد التعرض والتشهير في الأسواق- يتم طرده من المدينة” كعقاب لتجاوزه وتحذيرا للآخرين من الاقتداء به في عمله المُخادع!!

(المصدر: ميدجيرني)

معيارات شديدة
ومن بين أهم مسؤوليات المحتسب في تفاعلات الأسواق تصدُّره لمنع سياسات التكتم وبوجه خاص في السلع الغذائية، ومن هنا يقول الشيزري إنه “إذا رأى المحتسب شخصًا قد تكتم على الطعام من جميع الفئات -وهو بالشراء في أوقات الوفرة والاحتيال في الأوقات الأخرى- عليه أن يُلزمه بالبيع بشكل قسري؛ لأن التكتم حرام والنهي عن الحرام واجب”، والقاعدة الشرعية تقضي بأن كل ما يصعب تحقيق الواجب فهو واجب.

وقد كرّس الشيزري مساحة كبيرة من كتابه لأهم الصناعات الغذائية، وذكر مختلف الطرق الغش والتلاعب فيها وشرح وسائل اكتشاف ذلك، ومن ضمنها صناعات: الحبوب والطاحونة (المطحنة) والمخابز والأفران والجزارين والمشويين والطهاة واللحوم وصنّاع الحلويات. وأكد المحتسبون في مجال الصناعة الغذائية على ضرورة ضمان إجراءات النظافة الصحية في مراحل الإنتاج والتسويق، وفصلوا في قواعد ومعايير تلك النظافة ووسائل تفعيلها، واستعرضوا العقوبات المفروضة على المخالفين لتلك القواعد والمعايير.

وفي سياق مشرق يوضح ذلك أبو حامد المقدسي: “ينبغي للمحتسب أن يسجل في سجله أسماء العاملين في المخابز ومواقع محلاتهم ليتم التعرف عليهم. ويأمرهم بنظافة أدواتهم وتغطيتها، وغسل الأواني ونظافتها، وما يغطى به الخبز وما يحمل عليه. ولا يجمع العجين بقدميه ولا بركبتيه ولا بذراعيه، لأنه قد يحتوي على عرق إبطيه، ولا يجمع العجين إلا باستخدام سروال قماشي ملفوف حول ذراعيه لمنع سقوط شيء من العجين. وإن جمع العجين أثناء النهار فيجب أن يكون معه شخص يستخدم مروحة لدفع الذباب وما شابههم لتجنب سقوطهم في العجين أو الطعام.

ومسؤولية المحتسب عن الأسواق لم تنحصر فقط في حماية المستهلك والمُنتج وحقهما معًا في الحصول على صفقات عادلة، ولكن تجاوز ذلك لحماية بيئة التسوق نفسها من كل ما يُفْسِدها بالتلوث والضجيج، أو يعرّض ما فيها للتلف مثل الحرائق وتسربات المياه وما شابهها، وفُرِضَ على أصحاب المتاجر نظافتها وإضاءتها في الليل.

ومن هنا نقرأ في كتب الحسبة أن من وجبات المحتسب أن يُأمر أهل الأسواق بتنظيفها وإزالة الأوساخ المتراكمة وغيرها مما يؤذي الناس”؛ وفقا لابن الأخوة الذي يضيف أن على المحتسب أيضًا “أن يمنع حمل الحطب… وشروة الماء، وأكياس القمامة والرماد… والشوك بحيث لا تمزق ثياب الناس…، وأمور مشابهة تتعلق بدخول الأسواق لما فيها من الإضرار بالناس”.

وفي حدوث تطبيقي لتلك الإرشادات حتى نهاية العمل بنظام الحسبة؛ يحكي المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي (ت 1240 هـ/1824م) -في كتابه ‘عجائب الآثار‘- أن المحتسب مصطفى كاشف كُرْد (ت بعد 1232 هـ/1817م) حُكم عليه بمهمة المحتسب في القاهرة وكان قاسيًا جدًا مع عمال الأسواق، وأصدر من بدايات أوامره “الأمر بتنظيف الأسواق والاستمرار في رشها بالماء، وتشغيل الشموع على أبواب المحلات، ووضع شمعة على كل ثلاثة محلات”.

ومن التدابير الاحترازية لمنع اندلاع الحرائق في الأسواق أو تقليل عواقبها؛ يقول الشيزري إنه يجب على المحتسب أن “ينشئ لأهل كل مهنة سوقًا مخصصًا لهم لتعريفهم بمهنتهم، ومن بحاجة مهنتهم إلى وقود ناري مثل الخباز… فمن المستحسن أن يبتعد محلاتهم عن بائعي الملابس والعطارين لتجنب التلوث بينهم وحدوث الأضرار” عند انتقال النيران مثلا من دكان الخباز إلى محلات الملابس.

وفي مصر الفاطمية اتخذت السلطات تدابير وقائية لحماية الأسواق تُدخل اليوم في نطاق “الدفاع المدني” لمكافحة الحرائق داخل المدن والمتاجر والمنشآت المغلقة؛ فالمقريزي يخبرنا -في كتابه ‘المواعظ والاعتبار‘- بأنه في “عام 383هـ/994م أمر العزيز بالله (ت 386هـ/997م) أمير المؤمنين بنصب جِرار الماء مليئة بالماء على المتاجر، ووضع الشموع على الأبواب وفي الأسواق”، وذلك كتحضير لأي نيران قد تشتعل في أحد المتاجر ليتم السيطرة عليها بالماء المخصص لإخماد الحرائق.

6- رعاية النظافة: ومن ضمن اختصاصات الحسبة الرعاية لمرافق النظافة مثل دورات المياه العامة وخدمتها للمجتمع لضمان صحة الأفراد وتعزيز راحتهم ورفاهيتهم. وفيما يتعلق بواجبات المحتسب في ذلك، يقول المالكي المقدسي في كتاب “بذل النصائح الشرعية”: “وبالقوامة (= الإشراف) على دورات المياه: يجب على المحتسب أن يأمرهم بتنظيف وغسيل الدورات، وتطهيرها بالماء النقي بدون ماء الغسيل، وتنفيذ ذلك بشكل يومي، وتنظيف البلاط بمواد خشنة لإزالة أي بقايا من الصابون ومواد التنظيف، وتفريغ الخزانات من الأوساخ والرواسب في قاعها شهريًا، لأن تركها دون تنظيف لفترة أطول يؤدي إلى تغير طعم ورائحة المياه فيها”.

ويجب أن يتم تعطير الدورات أيضًا بعيدًا عن الروائح الكريهة، ومنع دخول أصحاب الأمراض المعدية إليها. وبالتالي، يجب على المحتسب ومساعديه أن يلزموا المشرف على الدورات برش البخور فيها مرتين يوميًا، خاصة أثناء عمليات التنظيف والغسيل، وعند تبريدها يجب رشها بعطر الخزامى لحماية هواؤها وتعطيره، ويجب عدم احتجاز مياه الغسيل في أنابيب الدورة لتفادي انتشار روائح كريهة…، ويجب عدم السماح لأشخاص ذوي إعاقات مثل العمى والشلل والصم بالدخول إليها. ويجب على الأمين فتح الدورات في وقت الفجر حتى يتمكن الناس الذين يحتاجون للتطهير لأداء الصلاة فيها، والحفاظ على ملابس الناس لأنه في حال فقدان أحد شيء منها يلزمه تعويضه…؛ ويجب على المحتسب أن يفحص الدورات يوميًا بشكل دوري، ويفحصها بالطريقة التي ذكرناها؛ وإذا رأى أحدًا قام بكشف عورته يجب عليه أن يوبخه لأن كشف العورة حرام”.

(المصدر: ميدجيرني)

دور المؤسسة
تعتمد “الحسبة” على مفهوم شامل لتعزيز “الخير” و”الشر” كما شرحنا من تعريف الفقيه الماوردي وأخرين، وتأسست على هذا المفهوم كما أطلقه قاضي القضاة المالكيين بمصر والمؤرخ ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) حين وصف -في كتابه ‘المقدمة‘- الحسبة كواجب ديني، مؤكدًا أنها “واجب ديني يتعلق بأمر الخير ونهي عن الشر الذي يجب على المسؤولين عن شؤون المسلمين القيام به”، حيث يعمل “على ترويج المصالح العامة في المدينة” عبر من يراهم مؤهلين لذلك وتقديم الدعم لهم لكفالة “المصالح العامة في المجتمع”. وقد قدم تلميذه القلقشندي تعريفًا عمليًا لهذا المفهوم مشيرًا إلى أن الحسبة هي “التحدث مع أصحاب المعايش والمصائع، ومساعدتهم في اتباع الطريق الصحيح في حياتهم وأعمالهم”.

وتشمل مهام المحتسب -وفقًا لابن خلدون- البحث عن السلوكيات السلبية، وفرض عقوبات خفيفة عليها، وتوجيه الأشخاص بما يناسبهم، بالإضافة إلى السلطات الشائعة اليوم لمؤسسة البلدية والمجالس المحلية؛ فالمحتسب لديه مهمة “لرفع المضايقات في الشوارع”. ويؤكد الفقيه الماوردي أن مبدأ تعزيز الخير ونهي عن الشر في صلب هذه السلطات يتضمن ثلاثة مستويات من الحقوق؛ حيث تتضمن “حقوق الله” (الحقوق العامة للمجتمع) مع “حقوق الأفراد” (الحقوق الشخصية الخاصة) وحقوق مشتركة بين “حقوق الله” و”حقوق الأفراد”.

ولذلك، تدخل قرارات المحتسب ضمن إطار الإدارة الرقابية ليس العمليات القضائية القانونية، على أن المحتسب “يحكم دون التفكير في الدعاوى أو القضايا، وله الحق في اتخاذ القرار فيما يعلم” حسب ابن خلدون. ومن بين أهم قراراته (وسنستعرض ذلك لاحقًا بالتفصيل): محاربة الغش “والخداع في المعيشة وبقية القياسات والأوزان”، و”تحفيز المتأخرين على الاعتدال”، وبقية المخالفات التي لا تتضمن “دلائل دامغة وتنفيذ حكم” بالمفهوم القانوني الضيق.

ومن ناحية أخرى؛ يعتبر الماوردي -في كتابه ‘الأحكام السلطانية‘- أن الحسبة “وسيلة بين أوامر القضاء وأوامر التنفيذ” أي أوامر المحكمة الإدارية العليا الطارئة، فصلاحيات المحتسب هي سلطات يمكن تصنيفها على أنها “السلطة الرقابية” الممارسة حاليًا في السلطات المحلية وإدارات الرقابة والأمور الاقتصادية، حيث يحق للموظف اتخاذ إجراءات عقابية فورية ضد المخالفين، لكنها تكون تدخل محدود ومحسوس ولا تعتبر إجراءً قضائيًا بالمعنى التقليدي.

وبناء عليه، تعتبر الحسبة وظيفة وسيطة بين:السلطوية القانونية، والوظائف الدينية الشرعية، لذا كان نطاقها -في العصور الأولى- داخلاً في صلاحيات القاضي كما تم ذكره عند ابن خلدون، بل إنه في الفترة الفاطميّة على سبيل المثال كان القاضي يحاكم صاحب الحسبة ويعاقبه في حال تقصيره.

من الأمثلة على ذلك ما تحدث عنه المقريزي -في ‘اتّعاظ الحنفاء‘- أنه في سنة 444هـ/1053م تدخل “عريفُ الخبازين” (أي قائدُهم) بضاعة أحد الخبازين لخلاف بينهما، وقام اثنان من معاوني المحتسب بالتشاور معه لتحديد المخالفة، وعندما تقدّم الخباز بشكوى إلى القاضي، قرر النظر في القضية “فأمر بإحضار المحتسب ونفى ما فعله؛ واعتذر بأن هذا من ‘العريف‘، وأنه (= المحتسب) لم يكن مذنبًا بالطبع” في المسألة قبل اتّخاذ إجراءاته.

بتغير موقع الحسبة الإداري مع تغلب الوظائف السلطوية ذات الطابع الأمني واضطراب الإشراف التنفيذي من قِبل مؤسسة الخلافة، وهذا كان منذ بداية القرن الرابع الهجري/الـ10م، فانفصلت الحسبة عن اختصاصات القضاء وأصبحت وظيفة سلطانية أي أقرب إلى الفعالية الأمنية الشّرطية منها إلى القطاع الإداري العدلي.

وأشار ابن خلدون -في ‘المقدمة‘- إلى هذه التحولات في مسيرة الحسبة عندما قال “كانت في العديد من الدو…

الحسبة بالنزعة الفقهية القضائية من جانب والضبطية الأمنية من جهة أُخرى؛ إذ برزت في الأندلس -منذ منتصف القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي- ظاهرةٌ لإسناد ولاية الحسبة والشِرطة إلى فرد واحد. اجتمع بينهما عدد من أفاضل العلم في الدولة الأموية بالأندلس، كالإمام محمد بن الحارث (رحمه الله) والعالم الطبيب أحمد بن يونس الجذامي الحراني (رضي الله عنه) الذي تولى “خطتي الشرطة والسوق”؛ كما جاء في كتاب ‘الصلة‘ للإمام ابن بشكوال الأندلسي (رحمه الله).

ولربما كان آخر من جمع بين هاتين المسؤوليتين في عهود عز الأندلس الإسلامية الإمام عبد المنعم بن محمد الخزرجي المعروف بابن الفرس؛ حيث اختاره سلطان الدولة الموحدية يعقوب المنصور “وأسند إليه النظر في الحسبة والشرطة”، وفقاً للوزير القاضي لسان الدين ابن الخطيب الغرناطي في ‘الإحاطة في أخبار غرناطة‘. واتفق العرف الأندلسي على أن الفقهاء -وليس رجال الشرطة- هم من كانوا يتولون المنصبين معا.

أما في العراق؛ يبدو أن الطابع الفقهي القضائي لوظيفة الحسبة كان سبباً مناسباً لمعارضة القائد العسكري التركي العباسي مؤنس الخادم المقتدري عام 319هـ، عندما أعار ذلك الطُرف الحسبة إلى الشرطة في بغداد وأسند هذين المنصبين إلى منافسه أمير الشرطة محمد بن ياقوت.

رفض مؤنس الخادم هذا القرار، وفقاً لإبن كثير في ‘البداية والنهاية‘، مُستنداً إلى أن “الحسبة لا يستقبلها إلا القضاة وشُهداء التوثيق، وهذا الشخص لا يصلح لها، لذلك بقي مع الخليفة حتى أُقال محمد بن ياقوت عن الحسبة والشرطة أيضاً”.

وفي مصر الفاطمية؛ كان هناك من المحتسبين من جمع بين وظيفة الحسبة ومنصبي الشرطة العليا بالقاهرة والشرطة السفلى بالفسطاط ومناطق أُخرى. ذكر المقريزي في ‘اتعاظ الحنفا‘ أنه في سنة 415هـ عُيِّن عدة الدولة بقي الخادم محتسباً “فنظر في الحسبة بالإضافة إلى الشرطتين [العليا والسفلى]… وبقي ليوم واحد وأبوا عن تولي جميع مناصبهم بسبب ثورة شعبية احتجاجاً على قرارهم برفع أسعار الخبز، فأعلنوا الإضراب “وتوقفت الطواحين وجميع المتاجر، وأصبحت البلاد… في حالة من عدم توفر الأخباز وانعدام الدقيق”، وانتهت الأزمة بإقالة المحتسب “فظهرت الأخباز في الأسواق”، كان هذا مثالًا تاريخيًا مبكرًا على واحدة من “ثورات الخبز” في مصر الإسلامية قبل ألف سنة!!

ويُلاحظ تحول وظيفة الحسبة منذ القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي إلى الطابع الأمني الشرطي أو الإداري البحت. ومع تراجع قوة الخلافة في الثلث الثاني من القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي؛ حدث في عام 350هـ تحوُّل سيء في مسار استقلالية الحسبة عن غيرها من الوظائف، عندما ضمن مُعز الدولة الحسبة والشرطة ببغداد؛ وفقاً للمؤرخ ابن تغري بردي في كتابه ‘النجوم الزاهرة‘. وفي هذا السياق، يُعنى بالضمان أنه تولى شخصًا ما المنصبين مقابل دفعه مبلغًا نقديًّا لخزانة الدولة، وعوضًا عن هذا الضمان، يكلف متولي الحسبة والشرط بجمع هذا المبلغ المسدى -والربح المتحقق منه هو عائد الضمان- بكل الوسائل التي يرونها مناسبة، حتى ولو كانت غير مشروعة!!

ومن بين المسؤوليات الحساسة التي كانت تُوكَّل على فرد واحد في عهد المماليك؛ “وكالة بيت المال” وهي وظيفة إدارية في العمليات المتعلقة ببيت المال. ومن ضمن من تسنى لهم هذه الوظيفة من المحتسبين نجم الدين محمد بن حسين الأسعردي محتسب القاهرة، والمحتسب دمشق والناظر الخزانة عماد الدين محمد بن موسى الشيرحي، وفقاً لتسجيلات المقريزي في ‘السلوك لمعرفة دول الملوك‘. وكذلك عز الدين ابن القلانسي الذي كان يشغل منصب محتسب وناظر لخزانة الشام في نفس الوقت، حسب ما جاء في كتاب

‘شخصيات العصر‘.

لكن منذ القرن ٩ الهجري/الـ١٥م انقلب موقع الحسبة في الدولة المملوكية لتتحول وظيفتها إلى تكليف يقوم به الجنود والمماليك، حيث تحوّلت بذلك إلى وضعية تكاد تكون أكثر قربًا من الوظيفة الأمنية والبلدية، وفقدت بذلك صلتها القديمة بالعُلماء والقضاة. وأول من تسلم المنصب هو منكلي بغا العجمي (ت تاريخ الوفاة 816 هـ/1413 م)، وحدث ذلك في سنة 816 هـ/1413 م؛ وفقًا للملطي -في كتاب ‘نيل الأمل‘. وأكد الإمام السيوطي -في ‘تاريخ الخلفاء‘- أن منكلي بغا كان “أول ممن تسلم منصب الحسبة من الأتراك في العالم”!! كما تولى المهندار الحاج خليل قانيباي اليوسفي (ت تاريخ الوفاة 862 هـ/1458 م) “حسبة القاهرة… بالإضافة إلى المهندارية” أي إدارة التشريفات السلطانية؛ وفقًا لابن تغري بردي في ‘النجوم الزاهرة‘.

وقام بتولي مناصب عسكرية أو إدارية بلدية بلا صلة -من الناحية الإدارية- بالفقه والأحكام، مثل صعود مغلباي الظاهري خشقدم (ت تاريخ الوفاة 873 هـ/1468 م) إلى منصب محتسب القاهرة ليصبح “شادّ الشرابخانة” أي رئيس الأشربة السلطانية، بينما تولى طرباي البواب (ت تاريخ الوفاة بعد 872 هـ/1467 م) منصب محتسب القاهرة في سنة 872 هـ/1467 م؛ وفقًا لابن تغري بردي في ‘النجوم الزاهيرة‘. وجمع علاء الدين علي بن إسكندر الفيسي (ت تاريخ الوفاة 874 هـ/1469 م) بين ولاية القاهرة ومنصب محتسبها؛ حسب الملطي.

ومن بين المسئولين الذين عملوا في مناصب عسكرية ومدنية وخلفوا مهام ولاية الحسبة: بدر الدين حسن بن نصر الله الأدكوي (ت تاريخ الوفاة 846 هـ/1442 م)، الذي أشار إليه ابن تغري بردي -في ‘النجوم الزاهرة‘- بتوليه حسبة القاهرة وتوليه عدة مناصب سيادية مثل: “كتابة السر” (رئاسة الديوان السلطاني)، و”نظر الجيش” (الإدارة المالية للمؤسسة العسكرية)، والأستادارية/الأستادارية (إدارة القصر السلطاني).

ورغم دخول رجال الإدارة دائرة محتلي ولاية الحسبة؛ إلا أن الشخصيات الفقهية والقضائية ظلت حاضرة بقوة في أداء وظائفها، وقس بعضهم تواجدها مع تولّي المحاكمات وإدارة الأوقاف مثل الإمام بدر الدين العَيْني الحنفي (ت تاريخ الوفاة 855 هـ/1451 م) المُفسر لـ ‘صحيح البخاري‘؛ ذكر المقريزي -في كتابه ‘السلوك‘- أنه في سنة 833 هـ/1430 م “استقر [العيني] في الحسبة بالقاهرة.. بالإضافة إلى مهامه في نظر الأحباس (= الأوقاف)” والقضاء الحنفي.

هيكل إداري
الحسبة وظيفة وسيطة بين: الولاية القانونية، والوظائف الشرعية الدينية، والمناصب الأمنية من جهة أخرى، أو هي -حسب الفقيه المالكي أبو العباس أحمد بن سعيد بن المُجَيْلِدي (ت تاريخ الوفاة ١٠٩٤ هـ/١٦٨٣ م) في كتابه ‘التيسير في أحكام التسعير‘- ولايةٌ “جامعة تجمع بين رأي شرعي ديني وتوجيه سياسي سلطاني” بناءً على سلطة الدولة وأجهزتها في تشريع العقوبة وتنفيذها.

وكما رأينا في تجارب الحسبة خلال العهدين النبوي والرشيدي المؤسسان لترتيباتها الإدارية اللاحقة؛ فإن هذه الوظيفة استهدفت الاهتمام بكافة جوانب سعادة الإنسان في شؤون دينية ودنيوية. ولتحقيق هذه المهام المتنوعة والهامة؛ ضمت مؤسسة الحسبة -بالإضافة إلى المحتسب كرأس لجهازها الإداري- مجموعة من الموظفين ذوي التخصصات المتنوعة يساعدونه في مراقبة المخالفات والتحقيق فيها وتطبيق العقوبات، عُرِف هؤلاء الموظفين بـ “الأعوان” كما يوضح ذلك النص الوارد عند المقريزي -في ‘اتعاظ الحُنَفا‘- حيث ذكر أن السلطة الفاطمية في مصر أقرت في قرار سنة 383هـ/994م بـ “عدم تمكين الأعوان من أخذ أي شيء من أحد”.

وظلت هذه الممارسة مستمرة طوال فترة العمل بنظام الحسبة حتى وصل المؤرخ الجبرتي -الذي كان حاضرًا في آخر تلك الفترات- يصف إحدى مهام هؤلاء الموظفين بأنهم “يُرصَدون لمن يحمل السمن من الفلاحين والمسافرين ليحتجزوه لصالح الدولة”.

وكان من بين هؤلاء الأعوان وكلاء المحتسب العام الذين يمثلونه في بعض أجزاء المدن الكبيرة أو في المناطق النائية؛ فكما ورد في خبر للإمام الخطيب البغدادي (ت تاريخ الوفاة 463 هـ/1071 م) -في ‘تاريخ بغداد‘- أن القاضي أبا بكر محمد بن عبد الرحمن ابن قريعة (ت تاريخ الوفاة 367 هـ/988 م) كان محتسب ببغداد كتب مرة إلى “خليفته في باب الشام” أي الشخص الذي سينوب عنه هناك، وباب الشام كان أحد الأبواب الرئيسية لسور بغداد القديمة.

أما المجلس الخاص بالمحتسب في الأندلس فكان يقع في وسط سوق المدينة الذي هو المكان الذي يُنفذ فيه الأحكام، كما كان يتجول برفقة مساعديه للإشراف على أسعار المنتجات وضبط الأوزان، كما كان يُرسل صبيًا أو جارية للتأكد من سلامة عمليات البيع والوزن.

وتوجد

الوكلاء في الحكم يكونون ذوي مسؤوليات عديدة، وخصوصاً إذا كانوا يعملون في مناصب أخرى. على سبيل المثال، في مصر كان لدى “المحتسب عدة نواب في القاهرة وباقي الأقاليم، ويجلسون في جامع القاهرة يوما بعد يوم، ويتجول نوابهم بين أصحاب المعايش” من التجار والصناعيين؛ كما ذكر المقريزي في كتابه ‘اتّعاظ الحُنفاء’.

وقد كان من الممكن على النائب في الحسبة قراءة قرارات التعيين لكبار الموظفين، كما حدث عند تولي أحد القضاة في دمشق في عام 763هـ/1362م حيث “قرأه شمس الدين ابن السبكي نائب الحسبة”؛ وفقًا لما ذكره ابن كثير في ‘البداية والنهاية’. بالإضافة إلى اختصاصه في تفتيش بعض الجماعات المهنية والتعامل معها؛ فقد ذكر البرزالي أن “جمع الشريف جلال الدين الأعناكي نائب الحسبة بدمشق المنجمين، ونهاهم عن كتابة أحكام على التقاويم النجومية” في تاريخ البرزالي.

وكثيرًا ما يتم ذكر في كتب التراجم والتاريخ أن عالمًا أو قاضيًا “ناب في الحسبة”، وعادةً ما تكون هذه النيابة – التي لا تمنح صاحبها صلاحيات مطلقة في الحسبة – وسيلة لاكتساب الخبرة التي تؤهل صاحبها ليصبح محتسبًا بمنزلته الخاصة. ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره ابن حجر العسقلاني – في ‘إنباء الغُمر بأبناء العُمر’- عن القاضي شمس الدين محمد بن يعقوب الشامي كان محتسبًا في القاهرة، وخلفه في المنصب عماد الدين بن الرشيد المصري الذي “نوب في الحسبة… وعمل بإستقلال في الحسبة” حتى تم تعيينه في عام 820هـ/1417م.

وكان هناك وظيفة نشأت داخل نطاق الحسبة لدى الأندلسيين تُعرف بـ “مُفْتي السوق”، ويبدو أن دورها كان يساعد المحتسب في اتخاذ القرارات في المسائل التي يحتاج فيها إلى فتوى كما كان للقضاة مستشارون من الفقهاء. وتولى هذه الوظيفة عدد من الفقهاء مثل: علي بن محمد العطار الذي كان “مفتيًا في السوق بقرطبة”؛ كما ذكر ابن الفرضي القرطبي في ‘تاريخ علماء الأندلس’. ووصف بالعبارة نفسها الفقيه أحمد بن هلال العطار القرطبي. كما ذكر القاضي عياض المالكي أن الفقيه محمد بن سعيد العصفري “كان حافظًا للمسائل مُفْتيًا في السوق بقرطبة”.

مرتبات مجزية
يعد الجانب المالي من أبرز الجوانب الإدارية لمؤسسة الحسبة التي تم التطرق لها في الكتب التي أشارت إلى أحكامها وأنظمتها؛ حيث قرر الفقهاء أن المحتسب ومساعديه كما أوردت في وكلاء الدولة لهم حق في الحصول على رواتب مالية ثابتة، نظرًا لأنهم يعملون على رعاية استقرار الصالح العام للدولة والمجتمع من خلال العمل في بنية هذه المؤسسة الشاملة في ميادين واختصاصات مختلفة.

ومن بين نصوصهم كان قول الفقيه السنامي الحنفي أنه “للمحتسب المنصوب كفايته في بيت المال… لأنه يعمل لصالح المسلمين وتكون كفايته في أموالهم، وهو على قدر ما يجري لولاة الأمور، والقضاة، والقادة، والمفتونين، والمعلمين”. وأضاف الفقيه المالكي أبو العباس المُجَيْلِدي – في كتابه ‘التيسير في أحكام التسعير’- أن المحتسب ومساعديه يستحقون رواتبهم، وأرجع ذلك إلى حاجتهم للمحافظة على مصالح المسلمين من خلال إجراءات لعرقلة انتهاكات التجار في المبيعات والسرقات، وغيرها من الخروقات التي يمكن أن يقوم بها التجار في الأسواق وغيرها.

وكانت أولى التطبيقات التاريخية لهذا الحكم الفقهي في استقطاب الرواتب للعاملين في مؤسسة الحسبة، وتحديد القيم الكمية لهذه الرواتب؛ كما ذكره ابن سعيد المغربي الأندلسي – في ‘المغرب في حلة المغرب’- في عهد أمير الأمويين عبد الرحمن بن الحكم أنه “فرق بين ‘ولاية السوق’ (= الحسبة) وأحكام الشرطة المعروفة بـ ‘ولاية المدينة’، والتي فرض على واليها 30 دينار في الشهر، و100 دينار لولاة المدينة”.

وعندما عيّن الوزير الحسين بن القاسم الكَرْخي العباسي رجلا في ولاية الحسبة في بغداد، فقد “أجرى له راتبًا بقيمة 200 دينار في الشهر”، وهو ما يعادل حوالي 40 ألف دولار أميركي اليوم تقريبًا، حسب ما ذكره عريب بن سعد القرطبي في ‘صلة تاريخ الطبري’.

وبالنسبة لسلوك العلامة ابن الجوزي؛ فقد عبر – في كتابه ‘المنتظم‘- عن كمية أجور مشرفي الحسبة والظلم في سنة 295هـ/908م في جميع أنحاء الدول الإسلامية بـ”٤٣٩٬٤٠٩ دنانير”.

وذكر المؤرخ المقريزي – في كتابه ‘المواعظ والاعتبار‘- أن المدير في مصر الفاطمية كان “راتبه: ٣٠ دينارًا شهريًا”. وفي فترة تطبيق نظام الحسبة القديم في الحضارة الإسلامية؛ يُعرض لنا المؤرخ الجَبَرْتي – في ‘عجائب الآثار‘- كاشفًا عن أن المسؤولين عن سلطة الاحتلال خلال الغزو الفرنسي لمصر “وفروا له راتبًا” ولكنهم منعوه من جني الأرباح والعجائب من أهل السوق”، ويبدو أن المدير في مصر في الدولة العثمانية/المملوكية المتأخرة كان يُعيل من راتبه بالإضافة إلى ما يأخذ من بدلات تبدو غير شرعية.

مناسبات رسمية
كان تعيين المدير يتم بناءً على أمر من الخليفة أو الأمير أو السلطان وفقًا لسياسة الحكم في بلاده؛ بل حتى الخليفة العباسي الناصر لدين الله (٦٢٢هـ/١٢٢٥م) كان أحيانًا يصدر أمرًا بتعيين شخصية علمية كبيرة في ولاية الحسبة، ويأذن لها بالقيام “بالحسبة في جميع بلاد الإسلام”، كما حدث مع الشيخ تقي الدين علي بن أبى بكر الهَرَوى (٦١١هـ/١٢١٤م)؛ وفقًا للمؤرخ ابن واصل الحَمَوي (٦٩٧هـ/١٢٩٨م) في كتابه ‘مفرّج الكروب في أخبار بني أيوب‘.

وفي فترات ضعف السيطرة المركزية على نظام الخلافة ببغداد وتزايد الدويلات المستقلة في الشرق الإسلامي؛ كان الخليفة يكلف تعيين المديرين إلى الأمراء، كما سجله ابن واصل الحموي الذي أورد نصوص مراسيم تملك السلطة لصلاح الدين الأيوبي (٥٨٩هـ/١١٩٣م) ثم لأخيه الملك الكامل (٦٣٥هـ/١٢٣٧م) الصادرة عن الخلفاء العباسيين الناصر لدين الله وابنه المستنصر بالله (٦٤٠هـ/١٢٤٢م). وكانت هذه المراسيم تُكلَف تعيين المديرين والقضاة للأمير أو السلطان السيطرة على منطقة معينة.

أما في العهد الفاطمي فكان تعيينه تكون بموافقة القصر بشكل عام، حيث كان يختاره الخليفة الفاطمي أو نائبه من كبراء الوزارة؛ كما لوحظ في ‘اتعاظ الحنفاء‘ للمقريزي. وفي حكم المماليك كان السلطان شخصيًا هو الذي يعيّن المدير وخاصة في القاهرة، ومنها أنه في سنة 763هـ/1362م بعث السلطان المنصور صلاح الدين محمد بن حاجي (٨٠٠هـ/١٣٩٨م) إلى “جماعة من الفقهاء الأعيان فحضروا”، وتم اختيار عدد منهم لتولي مناصب مختلفة فوقعوا على وثائق على حضور السلطان “وتم تعيينهم بتوجيه منه”، وكان من بينهم صلاح الدين عبد الله بن عبد الله البرلسي المالكي (٧٦٥هـ/١٣٦٤م) الذي “عُيِّن في الحسبة”؛ حسب الملطي في كتابه ‘نيل الأمل‘.

كان تقديم رأس الدولة أو من يمثله “للخلعة” -وهو الزي الرسمي للوظائف الحكومية- للمدير هو العرف الرئيسي لتعيينه رسميًا، وكان المدير يلتزم -خلال تأديته وظيفته- باللباس الرسمي لموظفي الحكومة والألوان المحددة، كما وُجد على سبيل المثال في الدولة العباسية حيث كان المدير “يرتدي الأسود” في موكبه الرسمي.

وكان من المعتاد أن تُرفق “الخلعة” بإعلان رسمي مكتوب يحتوي على قرار تعيين المدير بالإضافة إلى اسمه بالكامل ومكان تفرغه، ويشير إلى مهام المدير الرئيسية التي يجب عليه أن ينجزها والتصرفات التي يجب عليه أن يتبعها، وكان المعمول به أن يحصل المدير على نسخة من قرار التعيين بالإضافة إلى الإعلان العام بين الناس في الساحات العامة والأسواق. وفي ذلك يُشير المقريزي – في ‘المواعظ والاعتبار‘- إلى إجراءات تعيين المدير في الدولة الفاطمية: “ويُخْلَعُ عليه ويُقرأ سِجله بمصر والقاهرة على المنابر” في المساجد والجوامع.

وقد وثقت كتب التاريخ نماذج من نصوص تلك الإعلانات ربما من أروعها ما نفذه بأنامل الكاتبُ في أدوار الدولة الأيوبية عماد الدين الأصبهاني (٥٩٧هـ/١٢٠١م)، وأورده في كتابه ‘البرق الشامي‘ تحت عنوان: “إعلان مرسوم… لمدير حلب… يحدد شروط الاحتساب”!!

وتناولت تلك الكتب الاحتفالات الرسمية التي كانت ترافق تعيين المديرين، كما سجله المقريزي – في ‘اتعاظ الحنفا‘- من وصف لموكب تعيين مدير بالقاهرة خلال العهد الفاطمي؛ فسجل أنه في الخامس من رجب سنة ٤١٤هـ/١٠٢٤م “وضعت على داود بن يعقوب الكُتامي (ت بعد ٤١٤هـ/١٠٢٤م) ثوبًا ثقيلًا وعمامة، وجرى تعيينه للحسبة والأسواق”.

وعندما وصل إلى الشواطئ، نزل في موكب كبير وكانت بين يديه اثنتا عشرة نجيبة (= راحلة) تحيط به نحو مجلس الحسبة بمصر (= القاهرة)، ثم نظر إلى الأسعار… فتحسنت الأوضاع”.

وكانت “الخلعة” الفاطمية عبارة عن مثال يوضح طبيعة وظيفة الحسبة بجمعها بين بعض خصائص السلطتين القضائية والتنفيذية؛ حيث أشار المقريزي -في ‘اتّعاظ الحُنَفا‘- أنها كانت تتألف من “ثوب سميك، وعمامة قاضٍ مُطرزة بالذهب وسيفٍ مُزين” يدلان على تواجد علم القاضي وقراراته، وصرامة الشرطي وصلاحياته. بينما كانت الخلعة المملوكية في القرن الثامن الهجري/الـ14م تعكس الجانب القضائي؛ إذ ضمت العمامة والطيلسان وهو رمز للفقهاء، كما ورد في تفاصيل تعيين أحد المحتسبين في سنة 706هـ/1306م؛ وفقاً لما ذكره ابن كثير في ‘البداية والنهاية‘.

وعند توليها في البداية، كان من الضروري للاستمرار في الحسبة “اعتماد” أيضا حسب ما يخبرنا المؤرخ المملوكي ابن تغري بردي الذي يقول -في كتابه ‘حوادث الدهور‘- بأنه في سنة 853هـ/1449م “كان العلاء ابن أقبرس (علاء الدين علي بن محمد القاهري الشافعي المتوفى 862هـ/1458م) ملتزما بالاستمرار في الحسبة”، و”الاستمرارية” هي الزي الكامل أو بمعنى آخر “لباس رسمي”.

وقد يعين المسؤول على الحسبة عند توليه شروطا محددة، لضمان نجاح مهمته بشكل أكمل؛ فذكر ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- في حادثة سنة 472هـ/1079م، عندما تم تعيين أبي جعفر ابن الخِرَقي (ت بعد 484هـ/1091م) -وهو أحد الشهود المعتمَدين في المحاكم- كمحتسب في بغداد “فتولى ذلك بشرط أن يمتلك صلاحيات مطلقة في كل المجالات العامة والخاصة، وأن لا يتلقى وساطة ولا يقبل الضغوط” أي ليس ملزماً بقبول التدخلات الخارجية، ووعده بذلك المسؤول عن الأمور السياسية ابن جَهير (ت 493هـ/1100م) وزير الخليفة و”أكَّد (= جدد) التعيين” على هذه الشروط، فكانت النتيجة أن ابن الخرقي “احتفظ بسيطرته وأظهر الهيبة” في منظومة الحسبة.

انتهاكات بارزة
وقد يكون الترشح لمنصب الحسبة مُبنياً على عدة عوامل، منها الحضور الاجتماعي والمكانة العلمية، حتى يمكن لأفراد الأسرة تباهي بتوليهم لهذا المنصب، كما حصل مع “آل ابن الجوزي”، حيث تسلم محيي الدين يوسف ابن الجوزي (ت 656هـ/1258م) منصب الحسبة في بغداد، ثم تباينت هذه المهمة بين أبناء العائلة: تاج الدين عبد الكريم (ت 656هـ/1258م)، وشرف الدين عبد الله (ت 656هـ/1258م)، وجمال الدين عبد الرحمن (ت 656هـ/1258م). وفارقوا جميعا الحياة على أيدي الغزاة التتار عندما هاجموا بغداد في سنة 656هـ/1258م؛ كما ذكره ابن كثير في ‘البداية والنهاية‘.

ومن بين الشخصيات البارزة غير العلماء كان بدر الدين حسن بن نصر الله الفوي (ت 846هـ/1442م) الذي “استقر في منصب الرئاسة” وكان “له نفوذ كبير”، وعلى الرغم من ذلك “لم يكن بارعًا في الدين أو العلم”؛ وفقاً لابن تغري بردي. ومن بين الأفراد غير الرسميين كان كريم الدين محمد بن محمد ابن هبة الله الهوي (ت 813هـ/1416م) الذي “درس قليلا وتسند إليه منصب الحسبة في بلده، ومن ثم تبدأ في ارتداء زي الجندي وتولي إدارة المدينة بقوة وظلم وعنف، ثم انتقل إلى القاهرة وعرض نفسه على الناصر (فرج بن برقوق السلطان المملوكي المتوفى 815هـ/1412م) بالرشوة، وكرس توليه للحسبة بشكل متكرر”؛ وفقاً لابن حجر في ‘إنباء الغُمر‘.

وقد تولى بعض المحتسبين منصبهم بسبب نفوذ عائلاتهم؛ حيث ذكر ابن حجر بأن محمد بن محمد المناوي شمس الدين الطويل (ت 813هـ/1416م) كان ابن حما لمدير الديوان السلطاني، ولذلك “اعتمد على نفوذ صهره ليولى منصب الحسبة وإدارة بيت المال وإدارة الأوقاف”. ونظراً لتقدير الناس للزاهد جلال الدين إبراهيم بن زين محمد العقيلي ابن القَلانسي (ت 722هـ/1322م)، “تم تعيين أخيه عز الدين (ابن القلانسي ت 737هـ/1336م) للحسبة وإدارة الخزانة”؛ كما جاء في حكايا الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) في ‘العِبر في خبر من غَبَر‘.

ثم تبدأ الحيل في الحصول على هذا المنصب الحيوي، حيث يمكن أن يتولى أحد الحكام منصب الحسبة بواسطة وتدخل علاقات شخصية؛ ففي سيرة برهان الدين إبراهيم الحنفي (ت 797هـ/1395م) حيث “سعى لتولي منصب الحسبة في دمشق لمدة حوالي سنتين”؛ حسبما ذكره شهاب الدين أبي العباس أحمد بن حجي الدمشقي (ت 816هـ/1413م). وقد تولى بعض الأشخاص هذا المنصب بسبب صداقتهم مع “كاتب السر” وهو المنصب الذي يشبه رئيس الديوان العام اليوم: نجم الدين ابن أبي الفرج البعلبكي (ت 796هـ/1394م)،

الشخص الذي عمل في التجارة، ثم تولى منصب القضاة في إدارة مستشفى النوري في دمشق، ثم أصبح ولي الحسبة.

من بين طُرُق التعيين الملتوية هي دفع الأموال من أجل شراء المنصب؛ إذ أشاد المؤرخ ابن تغري بردي -في كتاب النجوم الزاهرة- بالسلطان الناصر محمد بن قلاوون (ت 741هـ/1340م) بأنه “لم يُذكَر عنه أنه تم تعيينه قاضٍ في عهده بواسطة الرشوة، ولا تولي حسبة ولا منصبًا آخر، بل كان يقدم لهم الحوافز والتشجيع على العمل بالحق، واحترام الشريعة، وهذا على عكس الحكام الذين تبعه”؛ لأن “معظم ملوك مصر من الذين حكموا مصر بعده” كانوا يأخذون أموالًا من “قضاة الشريعة أثناء توليهم مناصب القضاء والحسبة والشرطة”. وأشار إلى الفساد الناتج عن ذلك في العمليات القضائية والأمور المماثلة.

ومن بين الأشخاص الذين تولوا المنصب بواسطة الوساطة ودفع الأموال معًا هو شمس الدين محمد بن البجانسي في القاهرة (ت 806هـ/1403م)؛ حيث “تولى منصب الحسبة في القاهرة عدة مرات من خلال الوساطة والدفع”، وذلك وفقًا لما ذكره ابن تغري بردي في كتاب ‘النجوم الزاهرة‘. وفي كتاب ‘تاريخ ابن حجي‘ لشهاب الدين أبي العباس ابن حجي الدمشقي أن جمال الدين يوسف بن النحاس (ت 814هـ/1411م) “شغل منصب الحسبة من خلال الدفع” في دمشق.

وفي كتاب ‘إنباء الغُمر‘ لابن حجر أن نجم الدين ابن عرب (ت بعد 789هـ/1387م) سعى لتولي منصب الحسبة في القاهرة “وقدم فيها خمسون ألف درهم قيمتها آنذاك أكثر من ألفي مثقال من الذهب”، أي ما يعادل حاليًا حوالي 400 ألف دولار أمريكي!! بينما كان أول تركي يتولى منصب الحسبة بدفع الأموال هو الأمير سيف الدين تنم بن بخشاش الجركسي الظاهري المعروف بتنم رصاص (ت 867هـ/1462م)، حيث تم “تعيينه في الحسبة… بواسطة الدفع في ذلك الوقت، وكان جنديًا عندما تم تكليفه”؛ كما هو مذكور في كتاب ‘نيل الأمل‘ للملطي الذي أضاف بقوله: “وكان أول تركي تم تعيينه في منصب الحسبة بدفع الأموال”.

أسباب مُتَعَدِّدة
ووصل فساد التعيين في منصب الحسبة -في بعض البلدان والعصور- إلى درجة أن الشخصيات المشبوهة والجهال والعموم وأمثالهم من الناس باتوا يتولون هذه المسؤوليات؛ ومن بين أقدم الأمثلة على ذلك -وهو أحد النماذج العديدة على سوء حال مؤسسة الحسبة في العراق خلال عصر البويهيين- أن الشاعر الحسين بن الحجاج (ت 391هـ/1002م) وصفه قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان (ت 681هـ/1282م) بأنه “مشغولٌ بالجنون والفجور والسُخْف في شعره”، وعلى الرغم من ذلك أخبرنا أنه “تولى منصب الحسبة في بغداد وظل فيه لبعض الوقت”!!

ومن بين هؤلاء أيضًا محتسب دمشق نجم الدين علي بن أبي الفرج البعلبكي (ت 797هـ/1395م) الذي وصفه ابن حجي في تاريخه بأنه “كان محتسب في بعلبك وانتقل إلى دمشق وتولى منصب الحسبة هُناك، وقبل ذلك كان تاجرًا في بعلبك”. كما أيضًا تاج الدين عبد الوهاب بن الجبّاس (ت 824هـ/1421م) الذي وُصِف بأنه كان “يبدو وكأنه عامي بزي المفتين!!”

في حال كان ابن الجباس يُظهر كأنه عامي بزي المفتين، فإن شمس الدين محمد بن يعقوب ابن النحّاس (ت 831هـ/1428م) كان “عاميًا خاليًا من المواهب”، وتُولي منصب الحسبة في دمشق ثم تولى حقيبة الوزارة في سنة 846هـ/1442م، وهذا ما ذكره ابن تغري بردي في ‘النجوم الزاهرة‘ الذي يذكر عاميًا آخر كان قريبًا منه ومع ذلك قام بتولي المنصب، وهو شمس الدين محمد بن شعبان (ت 850هـ/1446م) الذي “تولى منصب الحسبة في القاهرة بوساطة متكررة رغم أنه عامي يُظهر نفسه بزي العلماء‏”!!‏

ويضيف ابن تغري بردي أن هذا الشخص كان يتفاخر بتعيينه في منصب الحسبة على الرغم من عدم ملائمته له، فقال: “أخبرني أحد أصدقائي قال‏:‏ ‏توليت منصب الحسبة في القاهرة خمس وعشرين مرة!!‏ فقلتُ له‏:‏ ‏هذا بمثابة تصرف غير لائق من جانبك! لا تتحدث بهذا بعد الآن لأنه سيؤدي إلى تعاقبك وعزلك بعد عدة أيام، وسيتكرر معك هذا مرارًا وتكرارًا، وهذا يدل على عدم اهتمام الحكومة بشأنك وإهمالهم لأمورك؛‏ ومن بعد ذلك، لم يُعُد يتحدث عن هذا الأمر‏”.‏

وكانت نهاية فترة تعيين ابن شعبان في منصب الحسبة تحذيرًا بأن توليها قد يُنتج عنه كارثة تصيب صاحب المنصب؛ حيث جاء في أحداث سنة 816هـ/1413م أن “محمد بن شعبان المحتسب تعرض لأكثر من 300 ضربة عصا على يد المؤيد (= السلطان المملوكي المؤيد المتوفى 824هـ/1421م)، وأقر على أنه ليس لديه رغبة في منصب الحسبة”؛ كما في كتاب ‘إنباء الغُمر‘ لابن حجر العسقلاني الذي يُشير كذلك إلى أن أحد الأشخاص يمكنه تولي منصب الحسبة نتيجة لقسوته وتشدده، حيث قال عن المحتسب دولات خجا (ت 841هـ/1437م): “وسُهِل عليه إزالته بسبب جوره وقسوته”، وقد تم تعيينه في منصب الحسبة من قبل السلطان على الرغم من معرفته بخطورة سلوكه وعنفه، حيث قال عند اختياره لشغل المنصب: “ومع ذلك، أنا أعرف رجلًا غير ملتزم بالإيمان ولا يتقي الله”!!

أما أسباب العزل، فقد كانت الطبيعية مثل مرض المُحْتَسِب كما حدث مع برهان

ابراهيم بن منصور الحنفي، الذي توفي في عام 797هـ/1395م، تم تعيينه في منصب حسبة دمشق لمدة حوالي سنتين، ثم تعرض لضعف صحي أدى إلى إقالته من المنصب قبل شهرين من وفاته.

فيما تولى القاضي عماد الدين ابن الشيرجي، الذي توفي بعد عام 763هـ/1362م، منصب الحسبة في دمشق بسبب عدم قدرة علاء الدين الأنصاري في توليها نظرًا لإصابته بمرض شديد، وفقًا لما ذكره ابن كثير في كتابه “البداية والنهاية”.

ربما تم إقالة المحتسب بسبب عداء سكان السوق له، حيث يشير السجل إلى أن الفقيه المفتي الأندلسي، أيوب بن سليمان بن صالح المَعَافري، شغل منصب السوق خلال فترة حكم الأمير عبد الله بن محمد الأموي، ثم تم إقالته بسبب معارضة سكان السوق، وفقًا لسجل مؤرخ الأندلس، أبو الوليد ابن الفرضي الأزدي، في كتابه “تاريخ علماء الأندلس”.

قد يتم إقالة المحتسب من قبل الجمهور بتنظيم احتجاجات ضده، كما حدث في القاهرة عام 775هـ/1373م حيث تمت الاحتجاجات بسبب المحتسب السابق، وتم تعيين بهاء الدين ابن المفسر خلفًا له بعد إقالته، وفقًا لما ورد في “إنباء الغُمر” لابن حجر.

يبدو أن السلطة ليست دائمًا مساعدة للمحتسبين، حيث ذكر المؤرخ ابن تغري بردي أن محتسب القاهرة، علي بن إسكندر الذي توفي بعد عام 863هـ/1459م، تصاعدت سوء سمعته في عام 853هـ/1449م مما أدى إلى اندفاع الجماهير ضده وتنفيذ حكم الرجم له قبل إقالته بعد ذلك.

المصدر : الجزيرة



أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Exit mobile version