لا يُمكن فصل تاريخ التنظيمات المتطرفة عن التحولات الكبرى في أنظمة التواصل، فهي مرتبطة بأدوات هذا النظام، ليس فقط من حيث قدرتها على الانتشار واستقطاب الأتباع، بل كذلك من جهة هويتها وطبيعتها الفكرية. وهذا ما تشهد عليه التحولات الكبرى في تاريخ الآيديولوجيات المتطرفة؛ إذ ارتبطت الأفكار المتطرفة في بداياتها بالجماعات الصغرى والضيقة ذات الطبيعة السرية والتكوين المسلح، وذلك نظراً لقصور الوسائل التواصلية أو انعدامها، لكن ما إن ظهرت الطباعة وأصبح الكتاب متاحاً للعموم، حتى انتقلنا إلى العصر التحشيدي للجماعات الدينية على الخصوص، ثم مع الدخول في حقبة الصحافة المتابعة للقضايا اليومية في الحياة الإنسانية، انتقل التطرف إلى أشكال جماهيرية مرتبطة بآيديولوجيات سياسية، تستعمل الشارع كوسيلة للضغط على الدول.
ولقد مثّل العصر الرقمي التفاعلي مرحلة فارقة في تشكيل ما يمكن دعوته بالعصر الشبكي للتطرف؛ إذ تحولت الوسائط الاجتماعية، والأدوات التي وفرتها على مستوى التواصل، إلى حاضنة لظهور الجماعة الرقمية التي تستغني عن إلزامات الجغرافيا، مُستبدلة بها آفاق العالم الافتراضي الجديد. ولم تتوقف الجماعات المتطرفة منذ أن اكتشفت هذه العوالم عن السعي لاستغلالها إلى أقصى حد ممكن، في سبيل ترسيخ رؤاها في ذهنيات المتابعين، وإيصال مفعولها الاستقطابي إلى أبعد مدى، وهذا ما جعل من ترويج مفاهيم متطرفة أمراً مقدوراً عليه تنظيمياً وآيديولوجياً ولوجستياً، بعد أن عرف نظام الاتصال نقلات نوعية في كفاءته وفي اتساع تغطيته للعالم، مما خلق نوعاً من الاتصالية العابرة للقارات، والمتحررة من كل أشكال الرقابة التقليدية. وهكذا انهارت الحواجز الإقليمية أمام خطاب أصبح متوفراً بالصوت والصورة والترجمة الآنية، مما نقله بسهولة إلى عالمية الانتشار.
هذا التحول المتسارع في ملامح الآيديولوجيا المتطرفة، والآليات الاستقطابية الجديدة التي طورتها بالتوازي مع التمرس على التحكم في المحتوى المرئي والمسموع والمكتوب، لم يأخذ أكثر من عقدين من الزمن، في حين أخذت التحولات السابقة أدواراً زمنية طويلة وبطيئة. إن الانتقال من الخطبة التقليدية إلى المحتوى القصير التفاعلي المدعوم بكل أشكال الجذب والفاعلية التواصلية، لم يكن مجرد تغيير لأداة النقل، بل هو بالأحرى طفرة نوعية أحدثت تغييراً كاملاً في أنماط التطرف، من خلال توليفات جديدة تزاوج بين المشاهدة الجماهيرية ومقتضيات التنظيمات السرية، وبين الخطاب العنيف الضيق والخطاب الاستقطابي المفتوح، وكل ذلك على ذات المنصات بعينها، وباعتماد التدرج على نفس المحتويات التي أصبحت تُصاغ في نسخ متعددة؛ منها ما يتناسب مع المنتمين التنظيميين، وأخرى يمكن أن توجَّه لعامة الناس، بل وإلى الأطفال أنفسهم من خلال استعمال الألعاب الإلكترونية في إيصال رسائل التطرف.
إن ما سبق كان هو أثر الويب التفاعلي «0.2» الذي قد بلغ درجة من الجذرية التي يصعب استيعابها، فماذا ونحنُ اليوم على أبواب عتبة جديدة لا أحد يستطيع أن يستوعب أمديتها الفعلية، ولا مآلاتها الممكنة على الحياة البشرية وأشكالها، بل ربما بكل بساطة على الحياة نفسها؟ إنه عصر الويب السيمانتيكي «0.3» (الويب الدلالي Symantec Web – الجيل الثالث المعتمد على الذكاء الاصطناعي) الذي سينقلنا من مرحلة الناقل المحايد للمحتويات التي أتاح الويب الحالي إمكانية التفاعل البشري معها، إلى نوع من التفاعل الداخلي للآلة نفسها مع «دلالات» هذه المحتويات، وعلى أساسها التفاعل الخارجي ما بين الآلات نفسها في إطار ما يُدعى بإنترنت الأشياء. إن حدوث ذلك لم يعد مجرد افتراض أو تخمين، بل لقد باغتتنا الإصدارات المتسارعة للنماذج اللغوية الكبيرة «LLM»، وتحولت دون مقدمات إلى جزء من الحياة اليومية، والتي لا بد أنها ستمثّل فرصة جديدة للتطرف لكي يؤسس من خلالها هوية مختلفة تتناسب مع هذا الويب. يصعب طبعاً الإحاطة بكل الأسئلة التي تطرحها هذه المرحلة الرقمية الفاصلة بين ما قبلها وما بعدها، لكن التفكير فيها يقتضي في رأينا مقاربةً ثلاثية الأبعاد تسعى إلى فهم النقلة الرقمية الجديدة على جبهاتها المتداخلة دون فصل أو عزل أو اختزال، والتي تتمثل في جبهة البيانات الضخمة، وجبهة الذكاء الاصطناعي، وجبهة الواقع المعزز.
فأما فيما يتعلق بالبيانات الضخمة، فلقد أصبحت هي روح العالم الجديد، ومنذ ظهور الويب التفاعلي والشركات الرقمية الكبرى تراكم تخزين البيانات دون تمييز بين ما يعود إلى الحياة الشخصية للإنسان أو ما يتعلق بالمعطيات الرقمية حول العالم. ولقد انتبهت التنظيمات المتطرفة إلى أهمية هذه العملية، فسعت بكل جهدها إلى تهريب ورقمنة أرشيفها النصي والسمعي والمرئي، وهكذا لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة في أدبياتهم إلا وجعلوها متاحة أمام روّاد محركات البحث. والحال أن أنظمة الخوارزميات بكل معالِجاتها الدقيقة والقوية – والتي عرفت طفرات كبرى منذ ظهور الويب التفاعلي، بحيث تتقدم كل سنة على سُلم «البيتافلوب» إلى ما لا يستطيع العقل البشري استيعابه – ما تزال غير قادرة على التمييز القِيمي الواضح بين المحتوى المعرفي والمحتوى الإجرامي. وبطبيعة الحال، فإن جرثومة الخطاب المتطرف والعنيف قد وجدت لنفسها مدخلاً لكي تتجذر داخل حزمات البيانات المتوفرة تحت تصرف كل محركات البحث الكبرى، فأصبحت تقريباً في متناول الجميع، وأصبحت رسائل التشدد جزءاً من القراءة اليومية للناس دون احتياط يُذكر، ما دامت الشركات الرقمية الكبرى تراهن في إطار البيانات على الحجم دون أن توليَ مسألة الكيف القيمي أولوية كبرى.
وما سبق سينقلنا إلى جبهة الذكاء الاصطناعي التي لم تكن سوى آلية نوعية في معالجة البيانات الضخمة التي لم تتوفر لتاريخ البشرية بقدر ما راكمه العالم في بضع سنوات، وذلك في إطار السعي إلى تحقيق المطلب الرباعي في إدارة البيانات الذي يُرمَز إليه بأربع كلمات تبتدئ بحرف «V»: السرعة (Velocity)، والحجم (Volume)، والتنوع (Variety)، والموثوقية (Veracity). لكن إذا كان الذكاء الاصطناعي رهيناً في الواقع على مستوى المطلبين الأولين بمجرد تحديات تقنية، فهو على مستوى المطلبين الأخيرين يتعلق بتحديات تتداخل فيها الآيديولوجيات والقيم القانونية والأخلاقية، ولا يبدو أن هناك إرادةً قوية للالتزام والانضباط بمقتضيات هذين المطلبين، نظراً لتكلفتهما العالية. وهنا، فإن دوران الأدوات الجديدة للذكاء الاصطناعي سواء من خلال تعلم الآلة، أو التعلم العميق، لا يمكنه أن ينفك عن هذه الهشاشة في طبيعة البيانات على مستوى التنوع والموثوقية خاصة، كما أن مكاسبها التقنية ستصبح تحت تصرف الجميع؛ إذ ستصبح التنظيمات المتطرفة مُعفاة من أغلب التحديات التي كانت تواجهها على مستوى التحرير والترجمة والرصد والتنبؤ، وغيرها من المهام المكلفة، مما سيجعلها أكثر قوة وانتشاراً في ظل ما يُدعى بالذكاء الاصطناعي الضعيف (Weak AI)، وهو الجيل الحالي الذي ما يزال تحت إشراف الفاعل الإنساني، لكن ماذا عن إمكانية حدوث ما أصبح أكثر من مجرد فرضية؛ أي ظهور الذكاء الاصطناعي القوي (AGI) الذي سيصبح مستغنياً عن التدخل البشري، ومكتفياً بنفسه؟ ألن يكون هذا الوعي الآلي الخطير الذي يمكنه أن ينازع الإنسان مركزيته عرضة لأن يجد في منظومته الداخلية مادة متطرفة يمكنها أن تساهم في تشكيل هويته المتطرفة، في حالة ما تركنا المادة الأساسية التي يعمل بها الذكاء الاصطناعي بمثل هذه الهشاشة والتجميعية وعدم التمييز بين ما هو معرفي وبين ما هو إجرامي خالص؟
أما الجبهة الأخرى فهي المرتبطة بالواقع المعزز الذي أصبح يعمل على إزالة معالم الحدود بين العالم الواقعي والعالم الافتراضي، وهذا ما سيزيد في إحكام الحلقة الرقمية الافتراضية التي أصبحت تسجن الناس في انكفائهم الذاتي، وانفلاتهم من الانتماء الواقعي، نحو هويات رقمية شبه منقطعة عن الواقع، على الخصوص في العالمِ شبهِ المستقل للألعاب الرقمية. إن هذه العُزلة أصبحت تعرّض جيلاً كاملاً إلى الاستعاضة عن الأشياء بالانفعالات، فلقد أصبح الواقع المعزز يحقق الانفعال كما لو أنه شيء حقيقي وغير افتراضي، وهذا ما يُمثّل نوعاً من التطبيع مع الهلوسات. فالحال أن هذا العزل وتضخيم الانفعالات الإنسانية وخلق انفصام عام داخل جماعات مغلقة… هي السمات العميقة لأهداف أي خطاب متطرف؛ ولهذا لا بد أن التنظيمات ستجد في هذه النقلة الرقمية المقبلة عالماً استقطابياً خطراً وسهلاً، قد يمكنها من تعميم وتسهيل تجريب الانفعالات الدموية للإرهاب، حتى دون أن يغادر ضحاياها غرفهم؛ فقد يستمتع ويُطبِّع الشاب الصغير مع انفعالات مجسدة افتراضياً وبالغة الدموية داخل دائرته الرقمية، وهذا بطبيعة الحال سيفتح أبواب العنف بشكل لا يمكن أن يُتنبأ بمآلاته على الطبيعة النفسية والفكرية للمتفاعلين معه.
ما يمكن قوله، أنه من الصعب الإحاطة بكل الأسئلة التي تُلح على المتابع لحياة المتطرفين الرقمية، ولطبيعة تفاعلهم مع المستجدات غير المتوقعة في طريق العالم نحو الويب السيمانتيكي (الويب الدلالي)، لكن من المؤكد أنهم سيجدون فيه أدوات خطرة سيغيرون لأجلها مساراتهم الآيديولوجية، فمنذ ظهور المتطرف الشبكي ما زالت تُسجَّل الكثير من التحولات في الهوية المتطرفة التي أصبحت هجينة على المستوى الفكري، ومرنةً وبرغماتية على المستوى الميداني، ولهذا ينبغي ضرورة استباق هذه التحولات بعملٍ جاد يحول دون استخدام التقدم الرقمي الهائل في مغامرة غير محسوبة العواقب.
* الأمين العام للمركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف – «اعتدال»
رابط المصدر