داريا.. حكاية الثورة والألم

By العربية الآن



داريا.. حكاية الثورة والألم

midan - داريا
داريا المدينة التي رفضت الخنوع وأبت أن تكون مجرد رقم في سجلات الظلم فكل يوم عاشه أهلها تحت الحصار كان درسًا في التضحية (رويترز)
كل مدينة في العالم تحمل تاريخًا يسكن في ذاكرة أهلها، لكنْ قلَّما نجد مدينة تحمل بين طياتها مزيجًا من الأمل والألم، كما هو حال مدينة داريا.

تقع داريا على بعد 8 كم من العاصمة دمشق، وهي تعدّ الخزان الصناعي والزراعي للعاصمة دمشق.. يستذكر أهالي داريا في شهر أغسطس/ آب أحداثًا تركت بصمة لا تُمحى في قلوبهم وذاكرتهم، هذه الأحداث ليست مجرد تواريخ تمرّ، بل هي محطات محفورة بالدم والدموع والأمل، وهي تروي قصة مدينة لم تستسلم رغم كل ما مرّ بها.

في شهر أغسطس/ آب، تضيء في داريا ثلاث ذكريات؛ معركة لهيب داريا في 2 أغسطس/ آب 2015، ومجزرة داريا الكبرى في 25 أغسطس/ آب 2012، والتهجير القسري في 26 أغسطس/ آب 2016. هذه الأحداث تحمل في طياتها قصة كفاح وتضحية وصمود شعب قرر أن يقف في وجه الظلم.

في 22 أبريل/ نيسان 2011، قدمت داريا أوائل شهدائها (عمار محمود، وليد خولاني، معتز الشعار)، شيعهم أكثر من 40 ألف شخص، لتبدأ بعدها مرحلة جديدة من التحدي والصمود ومجابهة آلة القمع والتوحش

لمحة تاريخية وجغرافية

داريا ليست مجرد مدينة ريفية صغيرة؛ إنها حاضنة للتاريخ والحضارة.. وتشير المصادر التاريخية إلى وجود حياة في داريا قبل الميلاد، والدليل على ذلك التمثال المكتشف لإله الحب عند اليونان (إيروس)، وقد عاصرت داريا أحداث الحكم الأموي والحكم العباسي، وتغنّى بجمالها عديد من الشعراء، مثل البحتري الذي قال:

الـعـيـش في لـيـل داريـا إذا بـردا .. والرّاحُ نمزجها بالماء من بردى

وتحظى المدينة بمكانة دينية هامة، إذ يوجد فيها مقام أبي سليمان الداراني ومقام أبي مسلم الخولاني.

بلغ عدد سكان داريا قبل الثورة حوالي 300.000 نسمة، اشتهرت داريا بكروم العنب الحلو المميز، ما جعلها مقصدًا لعديد من التجار والمزارعين.

داريا مع فجر الحرية

شهدت داريا مظاهرات سلمية منظمة ومميزة تعبّر عن روح التغيير والأمل، وتحمل بين طياتها رائحة الورود وطابع السلمية. ورفع الثوار شعارات هادفة في وجه نظام متجبر قابَلهم بالرصاص الحي والاعتقالات التعسفية؛ ففي 22 أبريل/ نيسان 2011، قدمت داريا أوائل شهدائها (عمار محمود، وليد خولاني، معتز الشعار)، شيعهم أكثر من 40 ألف شخص، لتبدأ بعدها مرحلة جديدة من التحدي والصمود ومجابهة آلة القمع والتوحش.

في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، بدأت حملة عسكرية شرسة على داريا، وهي الحملة الثانية من نوعها بعد عدة محاولات سابقة للسيطرة على المدينة؛ هذه الهجمة أجبرت كثيرًا من أهالي داريا على مغادرتها، هربًا من مجزرة محتملة قد تودي بحياتهم

مجزرة داريا الكبرى

في 25 أغسطس/ آب 2012، كتب النظام صفحة سوداء جديدة في تاريخ سوريا، بمجزرة مروعة نفذها بحق أهالي داريا، راح ضحيتها أكثر من 700 شهيد، معظمهم من النساء والأطفال.

ارتكبها النظام ومليشياته بوحشية وبحقد كبيرين، لأن المدينة أغاظت النظام؛ بسبب تنظيم المظاهرات السلمية والخطابات الثورية المعبرة عن حراكهم، فحراك داريا السلمي والمنظم لم يشُبْه أي مظهر من مظاهر التخريب، بل على العكس قام المتظاهرون بحماية مؤسسات الدولة وزيارتها وتقديم الورود لموظفيها؛ لذلك أراد النظام دفع داريا لحرب مفتوحة وحمْل السلاح، فأقدم على ارتكاب مجزرة مروعة، صارت علامة فارقة في تاريخ المدينة.

شهادات الناجين من المجزرة وثّقت حجم الإجرام والحقد من قبل الشبيحة، إذ لم يسلم من إجرامهم لا البشر ولا الحيوانات، ولا حتى الأشجار والقبور.. ستظل مجزرة داريا وصمة عار على جبين العالم الذي وقف متفرّجًا على هذا الإجرام البشع.

داريا تحت الحصار

في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، بدأت حملة عسكرية شرسة على داريا، وهي الحملة الثانية من نوعها بعد عدة محاولات سابقة للسيطرة على المدينة؛ هذه الهجمة أجبرت كثيرًا من أهالي داريا على مغادرتها؛ هربًا من مجزرة محتملة قد تودي بحياتهم. وفي ظل هذا الوضع الكارثي، بقيت مجموعة من الثوار في المدينة يدافعون عنها بشجاعة وإصرار رغم قلة الإمكانات والموارد المتاحة لهم.

تحولت داريا إلى رمز للثورة والصمود في وجه الظلم والاستبداد، حيث أصبحت مسرحًا للمواجهات اليومية بين الثوار وقوات النظام.. الثوار لم يدّخروا جهدًا في تحصين خطوط الدفاع، ومنع تقدم النظام، مستعينين بإرادتهم القوية وإيمانهم بقضيتهم العادلة. هذا الصمود وهذه التضحيات الكبيرة جعلا من داريا رمزًا للأمل والعزة، وكتبت صفحة جديدة في تاريخ الصراع السوري، تُلهم الأجيال القادمة معاني الصمود والمقاومة.

معركة لهيب داريا أغسطس/آب 2015، كانت تتّسم بالتخطيط الدقيق والجرأة، حيث اعتمدت على الالتفاف خلف الخطوط باستخدام نفق احترافي بلغ طوله 225 مترًا وارتفاعه 70 سم فقط، ما يعكس مستوًى عاليًا من المهارة الهندسية والتكتيكية

أبرز العمليات العسكرية

  • عملية كسر الحصار 2014 (بشّر الصابرين)

بدأت المعركة في الشهر الأول بهدف كسر الحصار باتجاه حي القدم وقطع أوتوستراد درعا.. تمكن الثوار من تحرير كتلة سكنية كبيرة من بساتين داريا الشرقية، وإدخال بعض الأغذية للمدينة، لكن لم يكتمل كسر الحصار؛ بسبب استخدام النظام القنابل الكيماوية، ما أدى إلى استشهاد عدد من الثوار.

  • معركة لهيب داريا أغسطس/ آب 2015

كانت واحدة من أهم وكبرى المعارك، بدأت المعركة في 2 أغسطس/آب 2015 بهدف تخفيف الضغط العسكري عن مدينة الزبداني وضرب مطار المزة العسكري، وذلك بهدف شل حركة الطيران المروحي، الذي كان يُستخدم بكثافة في العمليات العسكرية.

العملية كانت تتّسم بالتخطيط الدقيق والجرأة، حيث اعتمدت على الالتفاف خلف الخطوط باستخدام نفق احترافي بلغ طوله 225 مترًا وارتفاعه 70 سم فقط، ما يعكس مستوًى عاليًا من المهارة الهندسية والتكتيكية. تمكن الثوار من كسر خطوط قوات النظام والالتفاف على كتلة ضخمة من الأبنية وتحريرها (الجمعيات).

صُنفت هذه المعركة كإحدى أكبر المعارك التي زعزعت صفوف النظام المجرم، حيث أظهرت قدرة ثوار داريا على تنفيذ عمليات معقدة وضرب أهداف إستراتيجية بشكل فعال رغم تعب الحصار وقلة الموارد.

الاتفاق على التهجير جاء نتيجة لضغوط هائلة وتضحيات جسيمة قدمها الثوار والمدنيون، واضطر كثيرون إلى مغادرة منازلهم وترك كل ما يملكونه خلفهم متجهين نحو مستقبل مجهول

التهجير القسري لمدينة داريا أغسطس/ آب 2016

في 26 أغسطس/ آب 2016، وبعد استنزاف الموارد البشرية والمادية بشكل لا يمكن تحمله، اضطر ثوار داريا لقبول اتفاق التهجير القسري. هذه اللحظة تعتبر من أصعب الذكريات المريرة خاصة على الثوار الذين كانوا تحت حصار دام قرابة أربع سنوات.

وجاء الاتفاق بعد حملة عسكرية شرسة، أدت إلى استشهاد عشرات القادة العسكريين في الجيش الحر، ما زاد من حدة المعاناة والألم. من بين هؤلاء الشهداء القائد أبو سلمو الزهر، القائد أبو أحمد الأحمر، والقائد أبو عامر كفرسوسة.. هذه الخسائر الكبيرة في الصفوف جعلت من الصعب على الثوار الاستمرار في الصمود بالقوة نفسها. ومع استمرار القصف العنيف، تقلصت مساحة الأراضي الزراعية بشكل كبير، ما استنفد المخزونات الإغاثية والعسكرية والطبية، وجعل الوضع الإنساني لا يُحتمل.

لم يكن أمام الثوار والمدنيين سوى خيار قبول التهجير للحفاظ على حياة من تبقى من سكان المدينة. الاتفاق على التهجير جاء نتيجة لضغوط هائلة وتضحيات جسيمة قدمها الثوار والمدنيون، واضطر كثيرون إلى مغادرة منازلهم وترك كل ما يملكونه خلفهم متجهين نحو مستقبل مجهول.

كانت هذه اللحظة تجسيدًا لمعاناة الشعب السوري وصموده في وجه الظروف القاسية.

نسبة الدمار تجاوزت 90% نتيجة استخدام النظام سياسة الأرض المحروقة، حيث بلغ عدد البراميل المتفجرة الملقاة على المدينة أكثر من 10.000 برميل، بالإضافة لآلاف القذائف والصواريخ

الميزات والصعوبات التي رافقت فترة الحصار

الميزات:

  • تنظيم الثوار وقلة المشاكل الداخلية.
  • الأرض الزراعية التي خففت من شدة الحصار.
  • كثافة الأبنية التي حولت المعركة لحرب المدن.
  • تميز الثوار بحفر الأنفاق الدفاعية والهجومية.

الصعوبات:

  • طول أمد المعركة والحصار الخانق أدى إلى نفاد مقومات الحياة.
  • عدم وجود طرق الإمداد (غذاء، دواء، ذخيرة).
  • عدم مؤازرة باقي المدن المجاورة عسكريًا.

التضحيات:

  • نسبة الدمار تجاوزت 90% نتيجة استخدام النظام سياسة الأرض المحروقة، حيث بلغ عدد البراميل المتفجرة الملقاة على المدينة أكثر من 10.000 برميل، بالإضافة لآلاف القذائف والصواريخ.
  • بلغ عدد شهداء المدينة قرابة 3.500 شهيد، منهم حوالي 1.000 قتلوا في السجون تحت التعذيب.
  • عدد المعتقلين بلغ قرابة 2.900 معتقل بينهم نساء وأطفال.
  • عدد المهجرين شمل سكان داريا بالكامل، ولم يسمح النظام بعودة الأهالي إلا أواخر 2017.

عندما جاء وقت التهجير، لم يكن رحيلهم نهاية المطاف، بل كان بداية لحكاية جديدة، حكاية من يستمر في النضال حتى وإن انتُزع من أرضه وهُجِّر منها، آخذين معهم إرثًا من العزة والكرامة، لا يمكن لأي قوة أن تسلبهم إياه

الخاتمة

عندما نتحدث عن داريا، نتحدث عن مدينة حوّلت الألم إلى قوة، واليأس إلى أمل.. نتحدث عن أمهات فقدن أبناءهن، وآباء حملوا على أكتافهم ثقل الفراق، وأطفال عاشوا طفولة مسروقة تحت وابل القذائف والحصار، نتحدث عن شباب ضحوا بأجمل سنوات عمرهم من أجل أن تبقى مدينتهم حرة، وعن نساء صمدن في وجه الفقر والجوع والخوف، ولم يستسلمن حتى آخر لحظة.

إنها داريا، المدينة التي رفضت الخنوع، وأبت أن تكون مجرّد رقم في سجلات الظلم، فكل يوم عاشه أهلها تحت الحصار كان درسًا في التضحية، وكل شهيد سقط كان نداءً للحرية.

وعندما جاء وقت التهجير، لم يكن رحيلهم نهاية المطاف، بل كان بداية لحكاية جديدة، حكاية من يستمر في النضال حتى وإن انتُزع من أرضه وهُجِّر منها، آخذين معهم إرثًا من العزة والكرامة، لا يمكن لأي قوة أن تسلبهم إياه.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.



أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Exit mobile version