راجعت استشاراتهم الصاح الصحابة وحققت تواريثهم وقامت بالتقييم النقدي للأشعار وتصديت لاثنتي ولايتين من الخلفاء الراشدين.. الدستورة عائشة أم المؤمنين وصاحبة المعرفة الشاملة
تدين البشرية -بعد بعثة النبي الكريم محمد ﷺ- بالفضل العظيم لامرأتين ساهمتا في حفظ الرسالة النبوية على الوجه الذي تمّت به؛ إذ كان لإحداهما فضل رعاية الرسول الكريم وتهيئة الأسباب المعينة له على تبليغ رسالته، وكان للأخرى شرف حفظ هذه الرسالة ونقلها إلى أجيال الأمة المتعاقبة، حتى قال عنها الإمام شمس الدين الذهبي (ت 748هـ/1347م) في كتابه ‘سير أعلام النبلاء‘: “لا أعلم في أمة محمد ﷺ -بل ولا في النساء مُطْلقا- امرأةً أعلمَ منها”!!
أحمد يجلس في الكرسي).
أما عائشة (ت 58هـ/679م) -رحمها الله- كانت الجاسوسة لحياة النبي ﷺ والمُستمِعة للعلم النبوي لذا أصبحت التلميذة المتميزة الأولى في مدرسة النبوة، وتميزت بسرعة الحفظ وفهمها الجيد وقدرتها على التعبير عن نفسها بشكل جيد؛ مما جعلها مؤهلة بشكل جيد لتعيش حياة نشطة في مجال العلم والعمل من أجل خدمة الدين والأمة، وتركت لأبناءها المسلمين إرثًا غنيًا من المنهجيات الشرعية وصياغة الفتاوى والتعامل الواعي مع النصوص.
هذا المقال يكشف بعض جوانب الإسهام العلمي للسيدة عائشة؛ حيث تناول ملامح شخصيتها العلمية وقدرتها على الاجتهاد في فهم النصوص الشرعية، وأساليب الفقه التي اتسمت بها في توليف الفتاوى حيث خالفت كبار الصحابة وأصلحت عليهم في العديد من القضايا الشرعية، وكيف كانت واعية بتسلسل الأدلة في قوتها وتقديرها، كما تناولت الدراسة توضيح مفهومها الثقافي والأدبي، ورصانتها الإنسانية التي مكنتها من إدارة مشاعرها وعواطفها تجاه الآخرين، ومعرفة متى يجب أن تهدأ المشاعر ومتى يجب أن يتحكم العقل النقدي.
نشأة فريدة
بعد وفاة خديجة -رضي الله عنها- طُلب من النبي الكريم الزواج مرة أخرى؛ حيث ترك له أطفالًا يحتاجون للرعاية، فاختار سودة بنت زمعة (ت 54هـ/675م) -رضي الله عنها- وكانت امرأة متميزة في تدبير المنزل ورعاية الأبناء، وكانت ذات نكهة فكاهية “تسعِد النبي ﷺ أحيانًا بأمور بسيطة”؛ حسب ما يقول الإمام الذهبي في ‘سِيَر أعلام النبلاء’. وبقي معها النبي ﷺ لثلاث سنوات لتسهيل أمور الدعوة والترتيب للهجرة استعدادًا لبداية جديدة في رحلته النبوية.
عند استقرار النبي عليه السلام في المدينة؛ وجد شخصية استثنائية بجواره تمتلك صفات فريدة تمكنها من حفظ تراث النبوة، ومستعدة لاستيعاب العلم ونقل توصياته بعد وفاته ﷺ؛ ولم يكن هذه الشخصية إلا الفتاة الموهوبة في بيت أبيه ورفيقه في الهجرة أبو بكر الصديق (ت 13هـ/635م)؛ إنها ابنته عائشة التي كانت تلميذته الإمام التابع الشعبي (ت 103هـ/722م) عندما يتحدث عنها بدهشة من دقة فهمها واسعة علمها، ثم يقول: “ما رأيكم بأدب النبوة”؟!
نشأت عائشة -رضي الله عنها- في بيت محاط بالمحبة والرحمة والحماس للإسلام؛ فقد تزوج والدها أبو بكر التيمي القرشي والدتها أم رومان الكنانية (ت 6هـ/628م) التي جاءت إلى مكة من جنوب مكة مع زوجها عبد الله بن الحارث، الذي توفي لاحقًا؛ فاقترب رجل قريشي نبيل منها وقدم للزواج منها فأسلمت وتحسن إسلامها، وكانت عائشة نتاج هذه الأسرة الطيبة.
كانت “عائشة من وُلد في الإسلام” حسب ما يقول الذهبي في ‘سِيَر أعلام النبلاء’، وكبرت في بيت يحمي الرسالة وصاحبها ﷺ منذ نزولها، فتذكر: “لم أرى أبوي يخالفان الدين”؛ (رواه البخاري). وأفادت مرة أخرى بوقت بلاوي أبويها وتف استعداد أبويها قائلة: “لم يتزوج النبي ﷺ عذراء سواي ولا امرأة أبواها مهاجرون سواي”؛ (رواه الطباراني في ‘المعجم الأوسط‘). وركزت شهرة والدها أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- وتضحياته في خدمة الإسلام مثل فضل الإسلام نفسه، أما والدتها أم رومان الكنانية فدعاها النبي ﷺ عند دفنها بيدي الكريمتين -سنة 6هـ/628م- داعيًا: “اللهم إنه لم يخف عليك لقاء أم رومان فيك وفي رسولك”؛ وفقًا لما ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) في كتابه ‘الإصابة في تمييز الصحابة‘.
تكوين أدبي
التزم والدها بتعليمها؛ حيث لم يكن مشغولًا بأعمال أبناء الأسر الكبيرة من بني هاشم وبني أمية وبني مخزوم، فكان مُتفرغًا لعمله التجاري ورعاية أسرته. فتعلمت عائشة منه العديد من المعارف المتعلقة بالنباحة والشعر، ومعرفة الأنساب، وكان أبو بكر “أنسب قريش لقريش”؛ينشرت إبن هِشام الحمَيري (ت 218هـ/833م) قولاته بخصوص ‘السِيرة النبوية‘.
وبلغ في جميع تلك الفنون القمة؛ فعائشة -رضي الله عنها- صرحت: «كان نبي الله دائماً يقول لي: يا عائشة! ما فَعلت قصائدك؟ فأُجيب: وأيّ قصائدي تريد يا نبي الله، فهي كثيرة»؛ (وُرِدَ في ‘المُعجم الصغير‘ عن الطَّبَراني).
وضاعف ابن القيم (ت 751هـ/1350م) -في ‘زاد المُعاد‘- عن الإمام أبا الزِّناد المدني (ت 130هـ/749م) توضيحا: “لم أرَ أقوى على الشعر من عَروة (بن الزبير المُنتقل 94هـ/714م)؛ فقيل له (= عروة): ما تُحكمك [للشعر] يا أبا عبد الله! فجاب: ما حكمتي في الدّيوان عائشة [وكانت خالته]؟! ما نزل بها شيء إلا غنّت فيه شعراً”!!
وتكفي لإيضاح إبداعها في نقد الشِعر وتحليلها أنها كانت قاضية للأدباء الشبان من أبناء الصحابة في مشاعرهم؛ فأشار الطبري -شيخ المُفسِّرين والمُؤرخين- (ت 310هـ/922م) في ‘تهذيب الآثار‘ إلى أن عَروة بن الزبير (ت 74هـ/694م) ومروان بن الحَكَم (ت 65هـ/685م) جالسا بيتها مرة وشاعرا، وكانت تصغي لهما من وراء ستار، فبعد نهاية منافستهما قررت لمروان بسبب مَوهبته الشعرية على ابن أختها عَروة التي واجهته قائلة: “إن لمروان في الشِعر إرثاً ليس لك”!!
وكان عَروة بن الزبير نتاجًا من ثمرة خالتها عائشة ومن تلاميذها المُميزين، وبلغ من معرفته حتى أن كبار الصحابة كانوا يستشيرونه في شؤون دينهم، وقال: “عائشة لم تمت حتى تركتها قبل ذلك بأَنهار سنين”؛ حسب الإمام جمال الدين المَزِّي (ت 742هـ/1341م) في ‘تهذيب الكمال‘. ونقل الذهبي -في السِير- عن هشام بن عروة (ت 145هـ/763م) قوله: “لم أر أحدا من الناس أعلم بالقُرآن ولا بالفريضة، ولا بالحلال ولا بالحرام، ولا بالشِعر ولا بحديث العرب ولا النسب؛ مثل عائشة”.
مميزات فطرية
حضت عائشة قدرتين أسهمتا في جعلها وعاءً للعلم النبوي، الأولى كانت القدرة الفطرية على سرعة التحفظ وفهمها الجيد وجودة التعبير عن ذاتها؛ فلم يكن مبالغاً تسميتها بأن لديها ذاكرة صمغية تلتصق بأي شيء، لذا كانت تحفظ الحديث من أول مرة كما حدث في تقريرها لموقعة الجمل سنة 36هـ/657م، ونقلها للأشعار التي كانت تقوم بها بنو ضبّة الذين كانوا يحمون هُجيرتها والموت يكون حاضراً!
وكان من مميزات فهمها سرعة استيعابها للنبي ﷺ وجودتها في التعبير عنه، كما رواه البخاري (ت 256هـ/870م) عنها: “أنَّ امرأةً استفسرت النبيُّ ﷺ عن غُسلها بعد الحيض، فأرشدها كيف تَغْتَسِلُ، فقال: خُذِي قطعة من مَسْكٍ، فتَطَهَّرِي بها فقالت: كيف أتَطَهَّرُ؟ فقيل لها: تَطَهَّرِي بها، فسألت: كيف؟ قال: سُبحانَ الله! تَطَهَّرِي، فاستوقفتها عائشة فقالت: تَتَبَّعي اثر الدّم”. وهكذا فهمت المقصود الذي قصده النبي ﷺ، دون أن تعيقه الخجلة التي منعت النبيَّ ﷺ من التوضيح؛ فاستوعبته عائشة وقامت بأدائه بأبهى صورة.
ولامعت تلميذها الأول عروة بشدة بفهمها الكبير، واستغرب من تعمقها في عدد كبير من المعارف وبخاصة الطب؛ فذكر الإمام أحمد (ت 241هـ/855م) -في ‘المسند‘- أنَّ عروة قال لها مرة: “يا أمّتاه! لا أعجب من فهمك [لأني] أقول: زوجة نبي الله ﷺ وبنت أبي بكر، ولا أعجب من علمك بالشِعر وأيام الناس [لأني] أقول: ابنة أبي بكر وكانت الأعلم بالناس أو من الأعلم بالناس، ولكن أعجب من علمك بالطب كيف كانت؟ ومن أين حصلت عليه؟ قال: ضربت على كتفها وقالت: أي عُرَيّة (= تصغير عروة) إن نبي الله ﷺ كان يعاني من مرض عند عمره أو في آخر عمره، فكانت تقدم له زيارات العرب من كل جانب فتحدثت له الوصفات الطبية وكنت أعالجها له؛ حتى علمتُ الطب.
وعبارتها “حتى علمت” هي النهاية المطلوبة للإشارة إليها؛ كما لو كانت تُقول ليس بيني وبين معرفة الفنّ سوى التجربة مرة واحدة. وتدعم هذه القصة قراءة أخرى وردتها الذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘: “عن هشام بن عروة عن أبيه قال: لم أر أحدًا أعلى إلى الطب من عائشة رضي الله عنها، فقلت: يا خالة، من تعلمت الطب؟ قالت: كنت أسمع الناس ينقلون المعلومات بين بعضهم البعض فأحفظها”.
أما القدرة الثانية فهي قدرتها على توجيه وتشكيل شخصيتها بلا تنازل وشجاعة لتحقيق مهمتها. فكانت عائشة من أكثر النساء غيرة، وهذا أمر مفهوم بسبب كونها وحيدة أمها المُُدلّلة، إذ لم يشاركها فتاة أخرى في عائلتها وإنما جاءت بين صبيين. وعندما أصبحتعندما كان الرسول ﷺ يعتبرها المُقدَمة دائمًا، وكان لديها مفهوم النافسة الذي لم تتعامل معه في بداية حياتها، وكانت بعد ذلك شديدة الغيرة.
وكانت تُحملها تلك الغيرة على طهارة سودة التي كانت عائشة تُحترمها، وكانت تتمنى أن تصبح مثلها، فقالت في إحدى المرات: “لم أرَ امرأة أحبّ إليّ أن أكون نسختها من سودة بنت زمعة”؛ (رواه مسلم في صحيحه). وأيضًا حينما قدمتها إحدى أمهات المؤمنين طعامًا للرسول ﷺ وأصحابه وهم في بيت عائشة، فقال النبي ﷺ: «غارتْ أمُّكم»؛ (رواه البخاري). وكانت تبدي غيرة على كُـنَى صحبائها؛ ففي ‘سنن أبي داود‘ قالت: «يا رسول الله، كل صحبي لهنّ كنى! فقال: فاكتني بابنك عبد الله»؛ يُقصد ابن أختها أسماء ]بنت أبي بكر (ت 73هـ/693م)[: عبد الله بن الزبير (ت 73هـ/693م)، فكانت عائشة تُلقب بـ”أم عبد الله“.
تنمية المواهب
ولكن الغيرة التي كانت لا تضاهى غيرتها في نفسها عائشة هي غيرتها من خديجة عليها السلام، مع أنها لم تكن تعلم حياتها؛ ويُلخص ذلك في هذا الحديث الذي أخبرت به عائشة ذات يوم فقالت حسب رواية الإمامين أحمد والطَّبَراني (ت 360هـ/971م): “كان رسول الله ﷺ يذكر خديجة عندما يخرج من البيت قائلاً مدحاً لها؛ ثم في أحد الأيام فأغاظته الغيرة فقالت: هل كانت إلا عجوزاً أبدلك اللهُ خيرًا منها؟!”، وقصدتْ بذلك الاستبدال نفسها.
عرفت عائشة أنها لن تنافس قلب الرسول ﷺ مع خديجة بالعاطفة، بسبب علاقته القوية مع خديجة، وبدأت تسعى لإثبات ذاتها من خلال التحصيل من مصدر النبوة، حتى تُثبت لزوجها أنها قادرة على دعمه ومساعدته في رسالته، وكانت قادرة على حفظ تعاليمه ونقلها إلى الناس بعد وفاته.
حدتها وشجاعتها كانت موروثًا عن أبيها؛ فكما قال عمر الفاروق (ت 23هـ/645م): “رأيت حدة أبي بكر”. وهذه الحدة كانت سببًا لأن تقف عائشة بشجاعة وحزم عندما أمرتها والدتها بالوقوف أمام النبي ﷺ وشكره على نزول الوحي وبراءتها من اتهام أصحاب الإفك لها، فردت بكل قوة: “والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله”! (صحيح البخاري).
لم يجد أحد قادرًا على التعامل مع حدتها أو كبتها؛ ففي الصحيحين ذكر أن زوجات النبي ﷺ أرسلن ابنتهما فاطمة (ت 11هـ/633م) وزوجته زينب ليعاملهن بنفس المعاملة التي عاملها بها عائشة، فلم يمض وقت طويل حتى تقدمت زينب لتتحدى عائشة، وعائشة نظرت إلى النبي ﷺ ولما رأته لم يكن يعارضها في دفاعها عن نفسها، ردت عليها بقوة حتى سكتتها. تقول عائشة: “عندما قامت بالهجوم عليّ لم أتردد في التصدي لها وإيقافها”، فابتسم الرسول ﷺ وقال: “إنها ابنة أبي بكر”!! معجبًا بفطنتها وذكاءها؛ كما يقول الإمام النووي (ت 676هـ/1277م) في ‘شرح مسلم‘.
تحوّلت عائشة هذه الخصائص في شخصيتها إلى شجاعة في نقل المعرفة، وكانت مصدرًا رئيسيًا لنقدها واختلافها مع الصحابة في مواضيع العلم. كما سمحت لها برواية تفاصيل حياة الرسول ﷺ معها، بلا خجل من تقديم تلك المعلومات التي قد يتردد غيرها عن الكلام عنها. ولذلك نجد أنها تتحدث عن قبلات الرسول ﷺ لها وعن مصِّه للسانها؛ فقد جاء في ‘سنن أبي داود‘: “عندما كان [الرسول ﷺ] يقبل إحدى نسائه كان يمُصُّ لسانها”.
وكانت تشير إلى نفسها في هذا الحديث؛ حيث يقول العلماء مثل الإمام ابن القيم (ت 751هـ/1350م) الذي يقول في ‘الطب النبوي‘: “كان الرسول ﷺ يلهو مع أهله ويُقبلهم، وروى أبو داود في سننه: أنه كان يقبل عائشة ويمص لسانها”. وأيضًا حديثها عن المسابقات التي كانت تحدث بينها وبين الرسول ﷺ، حيث كانت في البداية تفوقه من حيث السرعة، وفي إحدى المرات قالت: “عندما شعرت بالتعب سبقني وكنت أسبقه” (مسند أحمد وسنن أبي داود).
رؤية واسعة
وبما أننا ذكرنا بعض صفات شخصية عائشة؛في محل أولوية الإشارة إلى مغزى فريد في حالتها، وهو تصوّفها الإنساني، ونقصد بذلك حسن تدبيرها لشعورها ومشاعرها تجاه الآخرين، وإدراكها لحدود العاطفة وحيث ينبغي للعقل أن يأخذ بالتغلب.
ولا تملك شاهدًا أوضح من علاقتها بعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- الذي شاهدته داخلها بعض المقدار، نظرًا لموقفها منه أثناء استشارته للنبي ﷺ في حادثة الإفك سنة 5هـ/627م حيث قال له بالطلاق، ممّا جعلها بعد ذلك تكتفي بعدم إظهار اسمه بصفة صريحة. وعلى الرغم من ذلك، عندما يتعلق الأمر بموضوع شرعي، تُحيل عليه نظرًا لاعتبارها ملمًا بعلمه وكمال ديانته؛ فوفقًا لقول شريح بن هانئ المذحجي (ت 78هـ/698م): “استفسرت من عائشة حول المسح على الخفين، فأجابت: توجه إلى علي لأنه أدرى بهذا الموضوع أكثر مني” (صحيح مسلم).
ولم تغفل عن دور شاعر النبي ﷺ حسان بن ثابت الأنصاري (ت 54هـ/675م) -رضي الله عنه- خلال تورطه في حادثة الإفك، على الرغم من اعتذاره لها وإشادته بها؛ إلا أنها لم تشعر بالحرج من ذكر إنجازاته ودفاعه عن النبي ﷺ. وعندما هجم ابن أختها عروة بن الزبير عليه في حضرتها، قالت له: “لا تتنابى عليه فإنه كان يدافع عن رسول الله” (صحيح البخاري).
ومن أمثلة تصوفها الإنساني واستدارتها بعاطفتها: قرارها المنصف لصالح مروان بن الحَكَم بموجب مهارته الشعرية على ندافه ابن أختها عروة. وبالتالي كان العدل سلوكًا للسيدة أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- ومنهجًا لا تنحرف عنه.
وكانت معرفتها الشاملة بأقدار الناس واحترامها لها آراء الرجال من مظاهر ذكائها؛ فروى أبو شجاع الديلميّ (ت 509هـ/1115م) -في ‘مسند الفردوس‘- قولها: “زينوا اجتماعاتكم بحديث عمر” بن الخطاب. ونقلت عبارة أبو يعلى الموصلي (ت 307هـ/919م) في مسنده: “ثلاثة من الأنصار -جميعًا من بني عبد الأشهل- لم تتجاوزهم أحداثيّ قبل رسول الله ﷺ: سعد بن معاذ (ت 5هـ/627م)، وأُسَيْد بن حُضَيْر (ت 20هـ/642م)، وعبّاد بن بشر (ت 11هـ/633م)”. وعلى الرغم من كثرة خلافها الفكري مع أبي هريرة (ت 59هـ/680م)، فقد كانت تحفظ له مكانته العلمية ومحبته، حتى أوصت بأداء صلاة الجنازة عند وفاتها.
تفرد ملفت
ومن المفاهيم التي تبرز في سيرة هذه المفكرة والعالمة الكبيرة ابتعادها عن الاصطناع في السّمات التي ظهرت لاحقًا في المجتمعات العلمية الإسلامية، باعتبار انتحال شخصيّة فاضحة للعلماء تتعارض مع طبيعة الإنسان.
ومن ثم كانت عائشة -التي كانت تلك إلى انتهاء الصحابة لتسأل عن شؤون دينهم- لا تشعر بالحرج من مناقشة طبيعة المرأة في نفسها؛ فقد نقل الذهبي في ‘سِير أعلام النبلاء’: “جاءني رسول الله ﷺ في أيام غير يوميّ يطلب مني وسادة ليرقد عليها، فقامت ضجة فسمعتها، فخرجت وفتحت له، فقال: ألم تسمعي الضجة؟ قلت: بلى، إلا أنني أحببت من تأتيني في أيام غير محددة”!!
وباستنادها إلى التأثر الإسلامي منذ طفولتها، كانت عائشة متفتحة اجتماعيًا تجاه أعضاء ديانات أخرى؛ فاقتادت نساء اليهود يدخلن عليها ويتحاورن معها، وربما علاجنها وانتقينها، ولكن عندما ارتبطت كلامهن بأمور دينية أو عقائدية، فتحققت حسها النقدي. فنقل الإمام مالك بن أنس (ت 179هـ/795م) -في ‘الموطأ‘- عن أبو بكر الصديق وهو يقول لعائشة وهي تشتكي وعندها سيدة يهودية تداويها: “تداووها بكتاب الله”.
ونقل مسلم (ت 261هـ/875م) في صحيحه: “عن عائشة رضي الله عنها: دخلت عليّ امرأتان من نساء اليهود في المدينة فقالتا: إن أهل القبور يُعذبون في قبورهم، فقلتا: كذبتما…”. وروى البيهقي (ت 458هـ/1067م) -في ‘شُعَب الإيمان‘- عن عروة عن عائشة قولها: قال لي رسول الله: “ردي علي البيتين اللذين قالهما اليهودي؛ فقلت: قلت لي اليهودي:
ارفعْ ضعيفـَك لا يُحِر بكَ ضعفُه ** يوماً فتُدركك العواقب قد نــَـمَى
يجزيك أو يُثــني علـيك وإن مَن ** أثنى عليك بما فعلتَ فقد جَزَى”!
مكامن علمية
ونلقي الآن نظرة على جوانب شخصيتها العلمية وقدرتها البحثية في فهم النصوص الشرعية وأنماط الفقه التي امتازت بها
في دوران الفتوى، ذكر ابن القيِّم – في ‘إعلام الموقعين‘- مشيراً إلى مكانتها بين أعلام الاستشارة من الصحابة: “والذين تم حفظ الفتاوى لديهم من الصحابة مئة وتسعة وثلاثين فردًا تتباين بين رجال ونساء، وكان الأكثرين منهم سبعة: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود (ت 32هـ/654م)، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت (ت 45هـ/666م)، وعبد الله بن عباس (ت 69هـ/689م)، وعبد الله بن عمر (ت 73هـ/693م)”.
وذكر الترمذي (ت 279هـ/892م) – في سننه- عن أبي موسى الأشعري (ت 42هـ/663م) أنه قال: “لم نواجه صعوبة في فهم حديثٍ من حديث رسول الله ﷺ أبدًا، لذا كنا نسأل عائشة لنستفيد من علمها”. وقد زادت في نقل الأحكام الفقهية بشكل كبير حتى ذكر الحاكم النيسابوري (ت 405هـ/1015م) -بحسب ما نقله الإمام بدر الدين الزركشي (ت 794هـ/1396م) في كتابه المعروف- أنها “حملت ربع الشريعة”.
وطبقًا لاحصاءات قدمها لنا الإمام الذهبي – ضمن سيرة عائشة في ‘سير أعلام النبلاء‘- فإن “«مسند عائشة» يتضمن: 2210 حديثا، ووافق عليه البخاري ومسلم في: 174 حديثًا، وتميز البخاري بـ 54 حديثًا، وتميز مسلم بـ 69 حديثا”، وهذا يعني أن مجموع حديثها في الصحيحين 297 حديثًا وفقًا للإمام الحديثي بدر الدين العَيْنى (ت 855هـ/1451م) في ‘عمدة القاري شرح صحيح البخاري‘.
وتميزت عائشة -رضي الله عنها- بتفوقها على قادة الصحابة واضافتها عليهم في ست وستين مسألة؛ حيث كانت لأبي هريرة ثلاثة عشر حديثًا، ثم لعبد الله بن عمر في عشر مسائل، ثم لعمر بن الخطاب وابن عباس ثماني مسائل لكل منهما، وانتقلت بقية المسائل لبقية الصحابة. وقامت الباحثة فاطمة قشوري بحساب هذه المسائل مع أحاديثها في كتابها: ‘عائشة في كتب الحديث والطبقات‘. وقام العلماء سابقا بتأليف كتب في هذه الاضافات؛ فقام أبو منصور البغدادي (ت 489هـ/1096م) بتأليف كتاب وضعه المؤرخ الزركشي بعنوان “الإجابة لإيراد ما أضافته عائشة على الصحابة”.
عُرِفَت عائشة – التي أورد الذهبي أسماء 177 ممن “سمع منها” من قادة عصرها بتضمن 18 امرأة والباقي من الرجال صحابةً وتابعين- بوعيها بأنها مكتنز الهدى النبوي، وملاحظتها لحاجة ملحة لديها لأنها تعتبر قيادة النساء في العلم، ولأن العديد من قضايا الفقه النسوي تظل مجهولة لأصحاب الاستشارة من علماء قادة الصحابة. ولذلك وافقت هي على تقييم عبد الله بن عمرو بن العاص في فتواه التي تفتقد للتخصص، وتفتقد للتفاصيل المتعلقة بالتحديات التي سيواجهها النساء إذا اتبعنها؛ لذا خرجت عائشة لتصحح خطئه وتلغي فتواه مشيرة إلى التحدي الناتج عنها.
أورد مسلم – في صحيحه- عن عائشة أن “عبد الله بن عمرو بن العاص يأمر النساء بأن يفكّرن أثناء الاستحمام، فقالت: يا له من أمر! وهو يأمر النساء بأن يفككن شعورهن؛ هل يجب عليهن أن يقصّن شعورهن؟! لقد استحممت أنا ورسول الله ﷺ من جمع واحد، فلم أزد على أن أنثر على رأسي ثلاث مرات".
وكانت لديها منهجية في صناعة الفتوى تتمثل في السعي لايجاد تبرير للأحكام وفهم أهدافها، وكان لهجتها الفقهية مميزة بمراعاة وضع المرأة وإعطاؤها حقها في القضايا التي لا يستطيع الرجل ملاحظتها، أو لا يمكن له تقديرها بسبب خصوصية النوع الأنثوي. ومن بين هذه القضايا تخاطبها لفوات الفرصة في فتوى عبد الله بن عمرو في نقض تمديد أجسام النساء أثناء الغسل، ورأيها بعدم ضرورة مرافقة الحامل للمرأة في السفر بسبب فهمها الصحيح للحديث المرتبط بسلامة النساء وتأمين سلامتهن، وليس لتعطيل حركة المرأة في السفر؛ فأورد ابن أبي شيبة (ت 235هـ/849م) – في ‘المُصَنَّف‘- “ذُكر عند عائشة [أن]
النساء ليسوا مضطرين لمرافقة حامل، فقالت عائشة: «ليس جميع النساء يجدون مَرافقاً»”.
وقريب من هذا الموضوع موقفها بخصوص المرأة التي فارقها زوجها؛ حيث اعتمد كثيرون من الصحابة على ضرورة احترام مكانتها في بيت زوجها، ولكن فتى عائشة بأنه “مُسموح للمرأة التي فارق زوجها أن تعيش حيث تشاء”؛ كما جاء في ‘مصنف ابن أبي شيبة‘. واستندت لفتواها بعدم الاعتماد
الكتاب المقدّس مكانًا لإقامة عدّتها بالرغم من تخصيصه لزمانها.
وانتُصبَت عائشة ضد بعض الصحابة في استيعابهم الحرفي لحديث لعن المنكنّات والمغيّرات لخلق الله، حيث عارضوا أن تنزع المرأة أي شعر ينمو على جسدها ووجهها. كانت تروج -من منظورها النسائي- أن هذا الأمر لا يؤدي إلى تغيير في الخلقة أو إلى خداع الخاطبين، بل هو مسألة نظافة شخصية وقضية جمالية يتأصلان في فطرة النساء. لذا كانت تنصح من يأتيها للاستشارة بهذا: “انغسلي وكوني جديرة بزوجك”؛ (رواه عبد الرزاق في ‘المصنّف’).
وفي كتب البخاري ومسلم عن أبي هريرة (ت 59هـ/680م) وابن عمر (ت 73هـ/693م) أن الرسول قال: “أن يمتلئ بطن أحدكم قيحًا ودمًا أفضل من أن يمتلئ شعرًا”! فعلقت عائشة: “ليس هكذا حفظه [أبو هريرة]! بل قال: إذا امتلأ بالشعر أصابه التهاب”.
عائشة كانت حريصة على فهم معاني الأحاديث وسياقاتها، ولهذا وُجدت تُظهر أن الهجرة كانت مفهومًا زمنيًا مرتبطًا بمضايقة المسلمين، إذ روى عبد الرزاق الصنعاني (ت 211هـ/826م) -في ‘المصنف’- أنها سُئلت عن توقيت الهجرة؛ فأجابت: “لا هجرة بعد الفتح، بل كانت الهجرة قبل الفتح حينما يهاجر الرجل بدينه إلى رسول الله، أما بعد الفتح فحيثما قرر الإنسان عبادة الله لا يُضيع”.
مناهج تتبعها
كانت عائشة ملمة بأولوية الأدلة الثابتة، حيث يُفضل الدليل القطعي على الظن، وبناءً على ذلك فإن القرآن يُعتبر الأصل ولا شيء يُسبقه، وإذا تعارضت الرواية الحديثية مع النص القرآني تأجل اعتماد الحديث، نظرًا لاحتمال توقع الخطأ من الراوي وعدم احتماليته في القرآن.
فكما روى عروة بن الزبير: أن عائشة سمعت أن أبا هريرة كان يقول: قال رسول الله ﷺ: “وَلَدُ الزنا شرُّ الثلاثة”؛ فردت عائشة على هذا الحديث رافضة اتّفاقه مع القرآن، وقالت: “يكفيكم القرآن: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾؛ (سورة فاطر/ الآية: 18)”.
ومن الأمثلة على ذلك حديث استسماع الموتى الذي روي في صحيحي البخاري (ت 256هـ/870م) ومسلم (ت 261هـ/875م) -من حديث أنس بن مالك-، وفيه ذكر أن النبي ﷺ تكلم يوم بدر مع أربعة وعشرين من قتلى صناديد قريش، حيث ناداهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وسألهم: “هل سررتم بأنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإننا وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟”، فقال عمر: “يا رسول الله، أأنت تكلم أجسادًا ليس لها أرواح؟!” فأجاب الرسول ﷺ: “والذي نفس محمد بيده، لا تُسمع الأجساد ما أقول منهم”.
وقال قتادة السدي: “أقامهم الله حتى يسمعوا كلام توبيخ وإنكار” بحقهم! ولكن رفضت عائشة هذا الحديث لتضاده مع فهمها للقرآن.
الجواد توجيهًا بقول الله عز وجل: ﴿إِنَّكَ لا تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ﴾؛ (سورة النمل/الآية: 81)، وقوله تعالى: ﴿وَما أنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُورِ﴾؛ (سورة فاطر/الآية: 22).
٢- التناقض بين الحديث وروايتها: كمثال على ذلك حديث التشاؤم بالنساء؛ حيث جاء في صحيح البخاري من حديث ابن عمر: “إن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس”. أجابت عائشة بحسب ما نقله أبو جعفر الطحاوي (ت 321هـ/933م) في ‘مُشْكِل الآثار‘ عن أبي حسان، حيث دخل رجلان من بني عامر على عائشة وأخبراها أن أبا هريرة يقول عن النبي ﷺ أنه قال: الطيرة في المرأة والدار والفرس، فغضبت عائشة وطارت شُقَّةٌ منها في السماء وشُقّةٌ في الأرض (= مبالغة في الغضب) فقالت: والذي نزّل القرآنَ على محمد ما قاله رسول الله قَطّ، إنما قال: إن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من ذلك”.
عائشة -اعتمادًا على معرفتها بالنبي ﷺ- أخبرت أن هذا القول كان مجرد قصة عن أهل الجاهلية، ليس بقوله. كما سمعت بحديث أبي هريرة الذي ذكره البخاري ومسلم في صحيحيهما بروايات متعددة، ومنها: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “يَقْطَعُ الصَّلاةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ”؛ فانتقدت عائشة هذا الحديث وقالت: “تشبيهكم لنا بالحُمُر والكلاب، والله لقد رأيت النبي ﷺ يصلي وأنا على السرير بينه وبين القِبلة مضطجعة”. أعادت الحديث إلى نصه الذي رأت فيه اساءة للنساء، واستندت إلى تصرفات النبي ﷺ في بيته كمرجع معارض لنص الحديث.
كانت عائشة رضي الله عنها بعد وفاته النبي ﷺ مثل مستشارة عُليا لشؤون الفتوى في مجتمع المدينة، وخاصة في المسائل الزوجية؛ حيث اعتمد عليها الصحابة مرارًا في هذه المسائل، كما ذكر أصحاب السنن أن الصحابة اختلفوا -وهم بين يدي عمر بن الخطاب- في مسألة الغسل بين الزوجين، فقال عمر إنهم أهل بدر الأخيار، فكيف بالناس بعدكم؟ اقترح عليه عليٍ أن يسأل نساء النبي حول ذلك، فأخبرته عائشة: “إذا جاوز الختان الختانَ فقد وجب الغسل”.
بعد ذلك تولى عثمان بن عفان (ت 35هـ/676م) الحكم لفترة طويلة وكبر سنه، واصطدم بالملل والضجر ورفض إعادة النظر. واستشاره أشخاء لم يرضوا عنه الناس فكانوا يراجعونه بشكل دوري. ربما أرشدوا عائشة لمساعدته في ذلك؛ فذكر الطبري -في تاريخه- قولها: “كان الناس ينتقدون عثمان وعُماله، وكانوا يأتون إلينا يطلبون مشورتنا حولهم”.
رأت عائشة أن ينصف الخليفة عثمان الناس من ولايته؛ فبعثت إليه –كما نقل ابن عساكر في ‘تاريخ دمشق‘- حينما جاء أهل مصر يشكون عبد الله بن أبي سرح (ت 59هـ/680م) وقالت: “جاء أصحاب محمد رسول الله ﷺ يطلبون منك عزل هذا الرجل ولم تقم بهذا إلا مرة واحدة، وقد قتلوا رجلاً منهم، فانصفهم من ولايته”. وكما ذكرنا سابقًا، كان عثمان متعبًا من تلك المراجعات، ولم يستطع التكيف مع التحولات في الحكم بسرعة، “ولا يوجد عمل يشدد على أهله كسياسة العوَام”؛ كما قال الجاحظ (ت 255هـ/869م) في كتابه ‘الحيوان‘.
فاستاء الكثيرون من تلك الأحداث بمن فيهم عائشة، وربما دفعها شغفها بالحق والعدل -وتجربتها مع الخلفاء السابقين لعثمان- إلى التصريح برفضها له بدون حماس لبقائه في الحكم؛ فذكر ابن كثير –في ‘البداية والنهاية‘- أنها عندما خاطبها مروان بن الحكم قائلة: “يا أم المؤمنين، إذا قمتِ بحلِّ هذا الأمر بين هذا الرجل والناس”، كان ردها: “لقد اكتفيتُ بشؤوني الشخصية وأريد أن أذهب للحج”؛ وهو إشارة ليأسها من تحسين الوضع.
ولا نشعر بالراحة من جميع الأخبار حول هذه الفتنة، فكثر الجدل وانقسم الناس إلى جماعتين قليلتي المنصفين، وضع كل فريق الأخبار التي تؤيد آرائهم وتعزز مذاهبهم. ومع ذلك، لا يقتنع الباحث المتأمل بسيرة عائشة بالأساطير التي تجعل التاريخ لغزًا غير قابل للحل، فمن يزعم أنها كانتتحريض على إغتيال الخليفة عثمان كان يتعارض مع خروجها للإطالب بدمه، ومن يبرئها من انتقاد سياسته يتعرض لردّها بإنضمامها -في أعين الكثيرات من نساء الصحابة- لمطاردة قتلته.
والرأي الذي يطمئن إليه الباحث والمفتش في الروايات -مع التناقض الواضح المتواجد فيها- يتبلور إلى أن عائشة لم توافق أبدا على مقتل عثمان، ولم تكن لتحث على ذلك من البداية. وكانت وجهة نظرها تعبر عن موقف معارض بشكل سلمي، وعندما حصلت الحادثة وتم قتل عثمان ظلمًا، شعرت بالندم على عدم فهمها للأمور، ظنًا -بسبب ورود الورع في سلوكها- أن قوتها في انتقاد عثمان قد حفزت قتلته على فعله، لذا اعتبرت إقامة مطالبة بالقصاص من قاتليه.
وبناءً على ذلك، فإن قصة سيرتها إلى البصرة -والتصادم الذي حدث بعد ذلك مع جيشها وجيش الخليفة علي في أحداث الجمل- كانت قصة من العواطف والندم، ولم تكن قصة تخطيط وتنظيم، حيث رفضت عائشة كل اقتراح وردته بالامتناع عن المشاركة، حتى نصائح أم المؤمنين أم سلمة وعبد الله بن عمر، ولم تجد إلا استسلامًا لشعور بالذنب المفترض؛ كل ما كان أمرًا محتومًا.
ويدعم هذا ما ذهبنا إليه من تحليل بقولها عن ذهابها إلى البصرة: “رأيٌ رأيته حين تم قتل عثمان بن عفان، نحن نخاطبه بالسوط، وأماكن من الحمى حميتها، وإمارة سعيد الوليد، فعادوا عليكم فأعطيتم من الحرم ثلاثًا: حرمة البلد، وحرمة الخليفة، وحرمة الشهر الحرام”.
وقد ندمت عائشة على هذا السلوك العاطفي الذي أدى بها إلى المشاركة في المعركة، عندما تبين لها أنه كان يتعارض مع بعض النصوص التي حجبتها عن فهمها شعورها بالندم وتأثرها العاطفي القوي. كانت “إذا قرأت: ﴿وَقَرْنَ في بيوتِكُنّ﴾ (سورة الأحزاب/الآية: 33)؛ بَكَتْ حتى تبلَّ خِمارَها”؛ حسبما يروي الحافظ الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1072م) في ‘تاريخ بغداد‘ والذهبي في ‘سير أعلام النبلاء‘.
عاشت حياة أمنا عائشة -رضي الله عنها- نشيطة مليئة بالعلم والعمل وخدمة الأمة، وتركت لأبنائها المسلمين إرثًا غنيًا من المناهج الشرعية وإصدار الفتاوى ومعالجة النصوص، وقد قامت قبل 1400 عام بما يُمارسه دعاة التحديث اليوم من “إنتقاد النصوص”، والخروج من القيود التقليدية في فهم النصوص القانونية، وتفضيل النظرية المقاصدية في إصدار الفتاوى؛ إلا أن انشغالهم عن مراجعة تراثهم للتحديث حال دون تعرفهم على فوائده العديدة!!