سائل وذهب وفودكا.. فاغنر في أفريقيا برعاية الروسي “دميتري سيتي”

By العربية الآن



سائل وذهب وفودكا.. فاغنر في أفريقيا برعاية الروسي “دميتري سيتي”

dimitry sytii (c), موسس شركة التعدين lobaye invest والمُعتمد في قوائم العقوبات الخزانة الأمريكية بسبب صلاته المُزعومة بمجموعة فاغنر، محاطًا بنواب وسط إفريقيا على درج الجمعية الوطنية في بانغي في 15 أكتوبر 2021. استقبل الجنود الروس تصفيقًا حارًا من الجمعية الوطنية الإفريقية المركزية لكفاءتهم العالية في "استعادة" المناطق التي تحتوي على الثوار في 15 أكتوبر 2021، وذلك قبل أن يُعلن الرئيس التواندي السعودة الوطنية. (صورة أ ف ب)
دميتري سيتي (في الوسط)، مُؤسس شركة التعدين “لوبايِه إنفيست” “Lobaye Invest” (الفرنسية)
“أنا فاغنر” (Je Suis Wagner)، تلك هي العبارة التي ظهرت على القمصان التي كان يرتديها رجال الأمن في مدينة بانغي، عاصمة جمهورية أفريقيا الوسطى، منذ حوالي عامين وتسعة أشهر، كانت لقطة فريدة من نوعها في أي هيئة عسكرية أو أمنية حول العالم. ومع ذلك، في هذا البلد الصغير الذي يعاني من معدلات فقر مرتفعة جدًا في القارة الأفريقية، ويعصف به الفوضى بسبب غياب حكومة قوية وانتشار الجماعات المسلحة داخل إقليم رسمه الاستعمار الفرنسي أولًا دون تسمية محددة سوى “أفريقيا الوسطى”؛ ليس من المستغرب أن يقدم النظام الحاكم وأتباعه أي تضحية لتثبيت سلطتهم الهشة وحماية ثرواتهم الوافرة الموجودة تحت سطح الأرض، حتى لو تطلب الأمر التعاون مع ميليشيا روسية معروفة بالعنف، تشبه منهجية فاغنر.

لم يمر وقت طويل على تواجد فاغنر في جمهورية أفريقيا الوسطى، ولكن الميليشيا الروسية نجحت في توطيد وجودها في الدولة الغنية بالذهب والألماس والأخشاب، وهي موارد تساعد موسكو في التخلص من عقوبات الغرب وتمويل جهودها العسكرية المتواصلة في أوكرانيا منذ فبراير / شباط 2022، بالإضافة إلى مساعدة النظام الحاكم لجمهورية أفريقيا الوسطى في الحفاظ على مكاسبهم المالية وشراء ولاء الأنصار، وكذلك في بناء هوية هشة يمكن تصنيفها على أنها دولة في عيون المجتمع الدولي.

اطلع أيضاً

قائمة تحتوي على 4 عناصر

قائمة 1 من 4

أبعاد

قائمة 2 من 4

المسيرات الإيرانية ..سلاح الضرورة الذي أثبت جدارته

قائمة 3 من 4

ناريندرا مودي.. الراهب الغاضب من الجغرافيا والتاريخ

قائمة 4 من 4

الأسد الباكستاني المتحفز.. رحلتي إلى ديار إقبال وآثاره

النهاية

ومع ذلك، لا يمكن مقارنة إنجازات فاغنر والنظام في بانغي بما حققه الشاب الروسي الذي يدير شبكات فاغنر في البلد الأفريقي، حيث تحول الشاب من شخصية روسية شاب يبحث عن عمل في مجال تكنولوجيا المعلومات على موقع “لينكد إن” الشهير، إلى ملياردير و”سياسي” روسي خلال سنوات قليلة. لم يكن من غريب أن القمصان التي كان يوزعها مركز موسكو الثقافي في البلاد، المعروف باسم بيت روسيا، تتغير أيضًا من الثناء على فاغنر في البداية إلى الثناء على الشاب الروسي في نهاية العام الماضي، حيث انتشرت قمصان تحمل صورة “ديميتري سيتي”، الذي احتفل بعيد ميلاده الخامس والثلاثين نهاية شهر مارس / آذار الماضي.

شباب من أفريقيا الوسطى يرتدون قمصاناً تحمل صورة رجل ملتحٍ وشعره يتطاير في مهب الريح. والذي يشبه تشي جيفارا، قاصدين به الشاب الروسي دميتري سيتي خليفة بريغوجين. (غيتي)

 

بلد الدم والألماس

حصلت جمهورية أفريقيا الوسطى على استقلالها عن فرنسا عام 1960، وقادها ديفيد داكو بدعم قوي من فرنسا، حوّلت البلاد إلى مركز هام لتجارة الألماس، وأغلبها كان غير مشروع يستفيد منه النظام والعملاء الأجانب. تم إطاحة الرئيس بواسطة الجيش في انقلاب عسكري عام 1965، وتولى السلطة العقيد بوكاسَّا الذي نجح في قمع المعارضة بدعم من باريس. بحلول السبعينيات، ظهر أن بوكاسَّا قد استرسل بالسلطة وتجاوز نفسه بإعلان نفسه “إمبراطور” للبلاد، مما أدى لفرض عقوبات عليه من قبل الولايات المتحدة، وتم تطبيق عقوبات أيضًا من قبل فرنسا نفسها. عاد داكو إلى الحكم مجددًا بمساندة فرنسية عام 1981، لكن لم يستطع البقاء في السلطة طويلاً حيث تم الانقلاب عليه بواسطة الفريققاد كولينجا البلاد حتى عام 1993، حينما فقد في انتخابات ديمقراطية أمام الرئيس باتاسيه. بعد ثلاث سنوات، شهدنا انتفاضة من ضباط ضد الرئيس الجديد، وتدخلت فرنسا لصالحه، إلا أن الصراع استمر لسنوات دون جدوى، بوساطة عدة أطراف.

عاشت هذه الدولة الصغيرة فيما بعد كواحدة من أكثر الدول فقرا واضطرابًا على القارة، وزاد من تعقيد الأمور انقلاب الفريق بوزيزيه عام 2003، حيث فُرضت عليه العقوبات من الولايات المتحدة وأوروبا وأفريقيا، ورُفعت تدريجيا خلال ثلاث سنوات كما جرت العادة. اشتد الصراع بين النظام وخصومه عام 2012، بتشكيل تحالف سيليكا من مجموعة من الفصائل المعارضة، حيث سيطر المسلمون الذين يشكلون أقلية على مدن مهمة، وجلبوا ميشيل جوتوديا، المسلم، إلى السلطة ليحكم لفترة قصيرة تقريبا، قبل تدخل فرنسا لصالح النظام بمساعدة مليشيا “أنتي بالاكا” ذات الأغلبية المسيحية، لاستعادة السيطرة على المناطق الحيوية. في عام 2016، فاز فوستين-أركانج تواديرا بالرئاسة، لكن سيطرة النظام على البلاد ما زالت غير مكتملة ومركزة في الجنوب الغربي حيث تتمركز مناجم الذهب والألماس.

يُقدر البنك الدولي أن نسبة كبيرة من تجارة الألماس تتسرب عبر قنوات غير شرعية، مما يسهم في الحفاظ على النظام وحلفائه في السلطة على حساب الملايين الذين يشكلون تعداد البلد الفقير في قلب أفريقيا. بالتزامن مع ذلك، أعلنت فرنسا في وقت سابق إنهاء التدخل العسكري في البلاد دون حسم الصراع لصالح بانغي. وبسبب حاجة روسيا الملحة إلى مصادر دخل غير مشروعة، دعا تواديرا مليشيا فاغنر الروسية لمساعدته، مما جعلهما يقربان أكثر من بعضهما البعض.

وفي تطورات أخرى، قام بريغوجين بإرسال رسالة عنيفة الى الشاب الروسي سيتي، مُتهما الفرنسيين بمحاولة اغتياله. تعرض سيتي لإصابة خطيرة تسببت في نقله إلى روسيا للعلاج، ورغم الصعوبات، نجا بأعجوبة من المؤامرة التي كانت تحيط به.بخل ساب قَليل، بلا ضرر سوى ثلاثُة أصابع جرّها الطرد المُفخّخ، عكس أَما يضرب على الجُرح. غير أنّه أصرَّ على عودته إلى البلد الأفريقي بعد تلقّي العلاج، بهدف مراوحة أنصاره بكفه المُتخلّفة وهو يتدهور بقفاز أسود يخفي آثار الحوادث المنكوبة، بينما يؤكد في الوقت نفسه اهتمام روسيا بالمشاركة في بانغي للمنفعة من عوائد القارة المفقودة.

من “لينكد إن” الى “بيت روسيا”

ولدت شخصية دميتري سيتي في شهر مارس 1989، وأكمل تعليمه الجامعي في مدينة سان بطرسبرج بشهادة كلية التجارة، ثم حصل على شهادة الماجستير في التسويق وتطوير الأعمال من جامعة باريس حيث يقيم أسرته حتى اليوم، وحصل على درجة في الإدارة الثقافية من جامعة إسبانية عام 2012. بسلسلة نجاحاته وبلغاته الأربعة الروسية والإنجليزية والفرنسية والاسبانية، ظهر سيتي على منصة “لينكد إن” الشهيرة منذَ عقد من الزمان، مُعلنًا اهتمامه بالعمل مع شركة دولية في مجال التقنية لاختبار مهاراته وقدراته من خلال مهام تحفز ابداعه. لفت بريغوجين انتباهه أولاً من خلال إحدى شركاته، ومن ثَمَّ بدأت طموحات سيتي تتحقق بسرعة مذهلة.

انضم سيتي لفريق “إم إنفيست”، وكالة أبحاث الانترنت التي يملكها بريغوجين والناشطة في السودان، وهناك يعتقد أن هذا العمل هو جذر علاقته بفاغنر، إذ بريغوجين بناءً على وثيقة علاقته بالشاب الطموح سريعًا، وأرسله إلى بانغي ليعمل كمترجم لفريق عمل المناجم في عام 2017. بعد فترة وجيزة من وصوله، بدأ سيتي بالتعاون مع إحدى قيادات فاغنر لإنشاء شركة “لوبايه إنفيست”، وهي شركة حصلت على ترخيص لاستخراج الذهب والألماس في البلاد لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد اعتباراً من يونيو 2018. لم يكتف سيتي بهذا الامر، بل عمل على نقل صناعة الفودكا الروسية إلى جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث تروج اليوم الإعلانات عن مشروبات “مصنوعة في جمهورية أفريقيا الوسطى بتكنولوجيا روسية”.

بالإضافة إلى شبكة أعماله الواسعة، كان سيتي مسؤولًا عن استراتيجية وسائل الإعلام الروسية في بانغي، حيث قدم تمويلًا لأول إذاعة باسم “لوبايه”، وأدار حملات دعاية الوسائط وشبكات التواصل الاجتماعي التي تم تمويلها من فاغنر وتستهدف المصالح الغربية. عمل سيتي على توجيه الاتجاه الاعلامي لعدة وسائل إعلام في البلاد، مثل راديو “لينغو سونغو”، لصالح الدعاية الروسية، باستخدام المشاعر المُعادية لفرنسا في القارة الأفريقية بسبب تدخلها العسكري الكارثي في منطقة الصحراء الكبرى وسياساتها الاستعمارية الطويلة في القارة.

في سبتمبر 2020، بعد ثلاث سنوات فقط من عمله في بانغي، استطاع سيتي لفت الانتباه بشكل كبير؛ خاصة بعد شراكته مع شركة إم فينانس التابعة لفاغنر، مما دفع وزارة الخزانة الأميركية إلى إدراج اسمه على قائمة العقوبات المالية، بجانب شركتي إم فينانس ولوبايه إنفيست النشطتين في بانغي. كما ذُكرت في القائمة أسماء أخرى تنتمي لأشخاص مرتبطين بنشاطات روسيا في جمهورية أفريقيا الوسطى، مثل يفغيني خودوتوف، مدير شركة لوبايه إنفيست، وألكسندر كوزين، الذي عمل لدى عدة شركات تابعة لبريغوجين. تتعارض إتهاماتهم بالاستفادة بمليارات الدولارات من التنقيب عن المعادن في بانغي بشكل غير شرعي معتبرة أنها تُستخدم لتمويل حروب الكرملين والنظام السلطوي في اوكرانيا.

تم ترقية سيتي إلى منصب مدير “بيت روسيا” في بانغي عام 2021، وهو مركز ثقافي يهدف إلى تعزيز التعاون التجاري والاقتصادي والإنساني بين روسيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، بما في ذلك تعزيز لغة وثقافة روسيا في البلاد. ويضم المركز أيضًا مركز روسوترودنيستفو، الذي تعمله الوكالة الفيدرالية الروسية لتعزيز المصالح الروسية وتعزيز التبادلذلك وراء ستار المعونات والدعم الإنساني، حيث تعبّر على منصاتها الرسميّة بأنها: “مُستَهِدَفَة بـ كومنويلث الأقاليم المستقلة (دول الأتحاد السوفييتي الذي سبق)، ومواطني روسيا الذين يعيشون في الخارج، والتعاون الإنساني العالمي”. وأخيراً، يبدو أن رُوَّاد الفودكا المحلية المُصنعة بخبَرة روسية لم يجدوا ملجأ أكثر جاذبيّة من “بيت روسيا” كي يحتفلوا خلفه بإطلاق إنتاجهم من زجاجات الكحول الروسي البارز، التي لا يبدو أن سيتي سيشرب منها على الأرجح، مُفضّلين الزجاجات الأصلية القادمة مباشرةً من موسكو.

من أجل الأمان الإقليمي أم من أجل الثقافة؟

منجم نداسيما للذهب، أحد أكبر المناجم في جمهورية أفريقيا الوسطى. (وكالة الأناضول)

على بُعد حوالي 60 كيلومترًا إلى الشمال من مدينة بامْباري، وعلى ضفاف إحدى فروع نهر أوبانغي الجاري من العاصمة؛ يتم توضيب منجم نداسيما للذهب، واحد من أعظم المناجم في جمهورية أفريقيا الوسطى. هنا تنجز بجدّ أعمال شركة ميداس الخاصة بفاغنر والمُسجَّلة في مدغشقر لاستخراج الذهب. قد احتلت الميليشيا الروسية هذه المنطقة عندما أرسلت مقاتليها هناك في عام 2020، وقامت بذبح العديد من سكّان المنطقة من أجل طردهم من منازلهم وتطوير المنجم. ولم تنجُ بامْباري ذاتها من سيطرة المرتزقة الروس، الذين يستهدفون ما يرى أنه باق من تحالف سيليكا، حيث قُتِل العديد من المُسلمين وعُذّبوا بتهمة انتمائهم إلى سيليكا، بالإضافة إلى مذبحة وقعت في أحد المساجد على يد فاغنر. “لم نرَ جُثة واحدة لمقاتل من سيليكا داخل المسجد، إنما كان المُقتولون أطفالنا”، بهذه العبارة تحدّثت فطْومة في مقابلة مع “سي إن إن” عن مذبحة مسجد التقوى التي حدثت في مايو/أيار 2021 في بامْباري.

وفقًا لصور الأقمار الاصطناعية التي حصل عليها مركز الدراسات الدوليّة والإسراتيجية (CSIS)، تشهد المنطقة نشاطًا كثيفًا في إنتاج كميات ضخمة من الذهب، بالإضافة إلى استثمارات تُظهر نية الكرملين وفاغنر في البقاء مُدّة طويلة. قام الروس بتأسيس جسر فوق النهر، وأقاموا تحصينات مع شاحنات من أجل الدفاع الجوي لحماية نشاطاتهم من الاستهداف والتتبُّع. ولم يكن غريبًا أن رفضت بامْباري مؤخرًا منح تصاريح للأمم المتحدة كي تستخدم طائراتها بالقرب من المنطقة، بل قام العديد من ضباط الجيش بالاعتداء عليها عندما حاولت الطيران فوق نداسيما؛ مما يشير إلى اندماج واضح بين مهام الجيش وفاغنر، على حدّ تعريف مسؤول أمني أميريكي لـ موقع بوليتيكو.

هذا كله يأتي على خلفية تراجع الحضور العسكري الفرنسي في بانغي، حيث أَخذ فاغنر يُنشأ شبكة من الأشخاص الذين انضموا إلى جهات مُحليّة مُختلفة من أجل تنفيذ مشروعات مُربحة للطرفين، ولاحقًا بدأت المجموعة الروسية تتوسّع بسرعة لا سيّما أنها تُعتبر البديل للدعم الفرنسي المُستهلك للغاية من وجهة نظر النظم الاستبدادية. وقامت بدورٍ مهّم في هذه النشاطات الروسية المُثيرة حين ظهرت عام 2018، حيث شاركت في المناقشات التي أدت إلى توقيع اتفاق السلام بين أطراف النزاع في الدولة الأفريقية الصغيرة، الذي عُقِد في الخرطوم في فبراير/شباط 2019، ومع ذلك تم حلّ هذا الاتفاق بسرعة في العام التالي، فتم فتح الباب أمام المزيد من الصراع والنهب، ولكن هذه المرة بطابع رسمي وبموافقة ضمنية من النظام القائم.

عندما عاد دميتري سيتي إلى بانغي في نهاية ابريل/نيسان 2023 بعد اكتمال علاجه في موسكو، استئناف نشاطاته على الفور مع النظام القائم، وتقع عودته ضمن سياق مليء بالتوتر على أكثر من جبهة. أولاً، فيما يتعلق بشخصه، إذ تم إضافته حديثاً إلى لائحة العقوبات الأوروبية الاتحادية. ووفقًا للبيان الصادر عن بروكسل لمعاقبة سيتي وأعضاء آخرين في فاغنر، فإنه “بالنظر إلى دوره المؤثر في جمهورية أفريقيا الوسطى ودوره الريادي في مجموعة فاغنر، يعد مسؤولا عن انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة التي ارتكبها فاغنر في البلاد، بما في ذلك التعذيب والإعدام والقتل خارج نطاق القانون”.

ثانيًا، كان هناك تهم تتعلق بدعم فاغنر آنذاك لمحمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد مليشيا الجنجويد المشهورة بقوات الدعم السريع، في صراعه مع قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان. وكان اسم سيتي مشاركًا في هذه الاتهامات، خاصةً بعد بدء عمله مع بريغوجين في التعاون مع وكالة بحوث الإنترنت “إم إنفيست” التي نشطت في السودان؛ لذا يُعتبره البعضالآن تمكّن من الخبيرة في الأسرار الدفاعية السودانية وفيما يتعلق بالنشاط الروسي هناك. وقد ردت سيتي على الجولة الجديدة من العقوبات الغربية بالتعهد بمتابعة مبادرات بريغوجين في جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث أعلن باللغة الفرنسية التي اتقنها منذ سنوات دراسته في باريس: “سنستمر في العمل وتنفيذ مشاريعنا تحت قيادة بريغوجين”. لكن العلاقة بين بريغوجين والكرملين في جانبها لم تكن على ما يُرام كما أرادت، وكما اعتقد الجميع آنذاك.

لم يعد سيتي إلى بانغي حتى اندلع الصراع الأشد بين موسكو والمليشيا التي أنشأتها بنفسها، حيث شهدت العلاقة انهيارًا علنيًا بينها وبين الكرملين وتبادل الطرفان الاتهامات أمام العالم. في البداية، اتهم بريغوجين القادة العسكريين الروس بتقييد توريد السلاح والذخيرة لقواته في أوكرانيا، ثم فجّر بريغوجين تمرّدا على الجيش الروسي داخل روسيا نفسها تحدًّا مباشرًا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وعلى الرغم من أن الأزمة لم تستمر طويلاً، حيث تم التوصل سريعًا إلى اتفاقية بفضل وساطة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، إلا أن سيتي لم يتردد كثيرًا حينها وأعلن ولاءه لمعلمه بريغوجين بصراحة.

بينما كان العالم منشغلاً بمصير فاغنر وزعيمها، شارك سيتي في بانغي في نشر صورة لزعيم فاغنر يقف مع زائر من أفريقيا في فندق تريزيني بمدينة سانت بطرسبرغ الروسية، حيث عُقدت القمة الروسية الأفريقية الثانية في صيف العام الماضي، في محاولة للتلميح إلى الدور الحيوي الذي قام به معلمه من أجل روسيا ودورها في أفريقيا. وبعد أسابيع، رافق سيتي رئيسه بريغوجين في جزء من رحلته الأخيرة إلى أفريقيا، حيث ظهر زعيم فاغنر قبل يومين فقط من مقتله في مقطع فيديو قال فيه إنه “يعمل في أفريقيا من أجل تعزيز عزم روسيا في القارة، حيث يقوم رجاله منذ سنوات بتنفيذ ما يُكلفون به من قبل الكرملين”. حضر الاثنان بعد ذلك مناسبة نظمها “بيت روسيا” ثم التقطا بعض الصور، قبل أن يلقى بريغوجين حتفه نتيجة حادث تحطم طائرة في أغسطس/آب 2023.

(الجزيرة)

 

سيتي والكرملين: علاقة ترابطية

في أوائل يوليو/تموز الماضي، عندما زادت التوقعات حول مصير فاغنر بعد تمرده، انتشرت أخبار مغادرة أفراد من المجموعة قواعدهم في جمهورية أفريقيا الوسطى كالنار في الهشيم. وفي بلاد كانت تتهيأ آنذاك لاعتماد دستور جديد لتعزيز سلطة تواديرا، كان من المتوقع أن تثير النزاعات قلقًا لدى النخبة الحاكمة، إلا أن مغادرة 250 فردًا من أصل 1200 لم تثير أي مخاوف لدى قادة البلاد، حيث كانوا في حاجة ماسة إلى حماية فاغنر خلال الانتخابات. بسهولة ويسر، وبفضل ثروتها الهائلة بالنسبة للوضع الاقتصادي داخل أفريقيا، جندت فاغنر عددًا مشابهًا من العناصر الجديدة التي انضمت بسرعة إلى المليشيا، حيث حضر المقاتلون الجدد في شوارع بانغي وجلسوا في المطاعم مع زملائهم القدامى، وقادوا شاحناتهم الصغيرة المجهزة بالمدافع الرشاشة، وأنهى الأمر الأمور بما يُناسب الرئيس تواديرا.

في هذا الوقت واصل سيتي نشاطه بدون توقف في بلد أصبح يُعتبر مقر عمليات فاغنر في أفريقيا. وشارك سيتي في تنظيم الاستفتاء الدستوري الذي أقره الرئيس تواديرا لكي يكون قادرًا على الترشح مرارًا لرئاسة الجمهورية. وفي الأسابيع التي تلت وفاة بريغوجين، تعهد سيتي بالمحافظة على إرثه في جمهورية أفريقيا الوسطى وفقًا لشريك تجاري لفاغنر ومسؤول أمني أوروبي، فسار إلى مدينة دوالا في الكاميرون، الطريق الرئيسي للتصدير من جمهورية أفريقيا الوسطى، التي تُعتبر مقرًا أيضًا لقناة “أفريق ميديا”، أحد أبرز وسائل الإعلام الموالية للتواجد الروسي في أفريقيا. وصرّح سيتي حينها لمراسل صحيفة برافدا الروسية حول مستقبل فاغنر في أفريقيا قائلاً “أفترض أنه لم يطرأ أي تغيير ونحن نواصل العمل”.

كان سيتي يقوم بكل هذا وهو يعلم جيدًا إصرار الكرملين على السيطرة على فاغنر بعد رحيل بريغوجين، إذ أبلغ مسؤولو الحكومة الروسية نظراءهم في جمهورية أفريقيا الوسطى أن نشاط فاغنر في البلاد سيستمر، وأن الكرملين يعتزم تعيين قادة جدد للمجموعة. في الواقع، تواجه إرادة الكرملين العديد من العقبات في السيطرة الكاملة على فاغنر،تَجدر الإشارة إلى حزمة القادة الأفارقة الّذين تعاونوا جنبًا إلى جنب مَع فاغنر في نهب ثروات البلاد، حِيث حاولوا إقناع روسيا بَإِبْقاء جُنُود بريغوجين الّذين عاونوهم لسنوات. بناءً على تَجربة موظّفي فاغنر الأقُدماء، يعتقد الرُؤساء الأفارقة المتحالفين مَع فاغنر أَنَّ أي مُحاولات مِن جانب وزَارة الدِّفاع الروسية لتَغيير وحدات فاغنر أو استِبدالها بتشكيل مُختلف قد تُقَلِّص مِن فَعَّالِيتها القتاليّة في القارة.

يُعَتَّب النظام الروسي في النهاية عَنْ مَزْيج مِنَ المؤسسات والأفراد الّذين يُنشئون مشاريعهم ضِمْن مِصالِح الدولة. يَعمل السياسيون في هَذا نظام على ما يَعتبرونَه مُلائمًا لنظام بوتين ولحِساباتهم المصرفية في نفس الوقت. ويُمكن ربط ذلك بعَلاقة موسكو وحلفائها في سوريا. إذ بادئ الأمر، انتقل فاغنر إلى سوريا لمن زاخريك “كرملين”، ولكن عندما تَورَّطت في تَسَرُّع احتلال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لمدينة تدمر، فرض كرملين كف عليها بأن تُنسحب الميليشيا من سوريا وتُسَلِّم أسلحتها للجيش الروسي. عُدا بريغوجين إلى إنشاء شركة جديدة بعد وقت قصير وهي “إفرو بوليس” (Evro Police) ليُعيد من خلالها إطلاق مصالح فاغنر الاقتصادية والسياسية في سوريا.

أما بالنسبة لأفريقيا، هناك مؤشرات تُرجح أن فاغنر نَجَحت في البَقاء داخل القارة الأفريقية رُغم تدخّلات كرملين للسيطرة عليها بشكل أكثر تركيزًا. ذلك يتعلق جُزئيًا بضَعف الدولة الروسية وتَشتُّت انتباهها نحو أوكرانيا وبشكل أقل نحو سوريا؛ الأمر الذي يعني أنها بحاجة إلى أن تُكلِّف جِهة أُخرى بإدارة نفوذها في القارة الأفريقية. وبالتَّالي، فإنها بحاجة إلى فاغنر في مواقع مثل بانغي بشكل أكبر مِمّا يحتاجه فاغنر إِلَيها. يجدر الإشارة أيضًا أن فاغنر ليس له هَيكل مُحَدَّد، ولذا يُسهل عليه أن يَتَحوَّل ويَتَكيَّف بسرعة وفقًَا للظروف تَمامًا كما فعل في سوريا. وهذا يعني أن فاغنر ستواصل على الأغلب مُتابعة مشروعها في أفريقيا، وتُطوِّر جهودها على أنها تُعزز “المَصالِح الوطنية لروسيا”.

“إذا بدأنا بالتَّراجُع، كُلُّ ما تم بناؤه سَيُتَهاوى”، بهذه العبارة تكلَّم سيتي مؤخرًا عن دور فاغنر، مُحذرًا إشارةً ضمنيّة لروسيا بأن الرهان على فاغنر هو الخيار الوحيد لحِماية نفوذها في القارة الأفريقية. إن انهيار فاغنر تحت وطأة النزاع مع الكرملين في النهاية يعني خسارة سيتي وخسارة رُجاله، بالإضافة إلى خسارة موسكو في الوقت نفسه. علمًا بأن إذا كان تَعثُّر فاغنر بأي شكل ممكن يُعَدُّ ضربة لموسكو وفرصة لإعادة نَشاط الدور الفرنسي الذي يُعاني في القارة. يُدرك الكرملين في الوقت الحالي أنه ليس بامكانه أن يُواصِلَ عبر مؤسسات الدولة الروسية نفسها ما بدأه سيتي وبريغوجين نيابةً عنه بتكلفة أقَل وبعنف أقوى دون إمكانية مُحاسبة الدولة الروسية على المشاركة المُباشرة.

في رأي الكرملين، الذي يُرغب في الحفاظ على إمبراطوريته الاقتصادية في القارة من أجل مُتابعة الحرب -التي تتخطى الآن مليار دولار سنويًا في جمهورية أفريقيا الوسطى وحدها بسبب تجارة الألماس والذهب والخشب- يُعد سيتي الشخص المُلائم، والملياردير المُلائم، لكي يتقدَّم بِمشهد، خاصةً بعد رحيل معلمه الأول، والذي اتسَّع من دور سيتي على الرغم من أنه حدَّد له حدود جديدة يَعرف جيدًا أن تجاوز ذلك لن يَكون بضع أصافي من يده الأُخرى فحسب بل حياته بأكملها.

سيتي يتحرَّك اليوم بثقة أكثر مِن أي وقت مضى نظَرًا لتَقدُّمه في جمهورية أفريقيا الوسطى، ولكنه يتحرَّك بحذرٍ غير مَسَبّوق كذلك بعد أَن رأى بأم عينه كيف تبدلت نتائج غضب الكرملين بشكل كبير من نتائج تقويض مصالح الغرب. واحتمالًا كبيرًا، فإن قفَّازه الأسود الذي يضعه على يده اليمنى ومصير بريغوجين سيُذكِّرانه بذلك فترة طويلة.

المصدر : الجزيرة



أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Exit mobile version