سقوط كورسك: كيف تعرض الروس للهزيمة بشكل مذهل في تلك الليلة؟

By العربية الآن

سياسة|أبعاد

ليلة سقوط كورسك.. كيف انكسر الروس على هذا النحو المدهش؟

الكاتب: لا تكمن مشكلة روسيا في أنها أخطأت تقدير نِيَّات الأوكرانيين في عملية استثنائية واحدة، ولكن في التجاهل المتكرر لنقاط قوة الأوكرانيين في هذه الحرب. (الجزيرة)
في السادس من أغسطس/آب الجاري، شنَّت القوات الأوكرانية هجوما مباغتا غير مسبوق على الأراضي الروسية سيطرت خلاله على عشرات البلدات في مقاطعة كورسك، فيما وُصف بأنه أكبر حملة ضد الأراضي الروسية منذ الحرب العالمية الثانية. وبحلول يوم 15 أغسطس/آب، أعلن القائد العام الأوكراني أولكسندر سيرسكي أن بلاده أنشأت مكتب قائد عسكري في كورسك “للحفاظ على القانون والنظام، وضمان الاحتياجات ذات الأولوية للسكان”. وفي اليوم نفسه، تقدمت القوات الأوكرانية ما بين 500 متر و1.5 كيلومتر في مناطق غير محددة من المقاطعة، ما يرفع عمق تقدمها إلى 35 كيلومترا منذ بدء العملية، ويُعَد هذا أكبر مما اكتسبه الروس خلال أشهر من الحرب القائمة بين الطرفين منذ 30 شهرا.منذ اللحظة الأولى للعملية، رجح الكثيرون، وفي مقدمتهم الروس، أن ما يحدث ليس إلا اختراقا بسيطا سيلتئم سريعا مع إرسال الدفاعات الروسية إلى كورسك، لكن رغم مرور زهاء 12 يوما، لا يزال الأوكرانيون متمركزين في كورسك، بل ويتقدمون يوما بعد يوم، لكن تقدمهم بات أبطأ في الأيام الأخيرة، مع متوالية من السيطرة والسيطرة المضادة على البلدات بين الأوكرانيين والروس.

end of list

على جبهة منفصلة، تحافظ القوات الروسية على وتيرة هجومها المرتفعة نسبيا في عدة مناطق، منها دونيتسك في شرق أوكرانيا، ما يعني أن القيادة العسكرية الروسية لا تزال تعطي أولوية للتقدم في شرق أوكرانيا حتى مع الضغط في كورسك، لكن نظرة بسيطة على معدلات إسقاط القنابل الانزلاقية الروسية على منطقة دونيتسك تُبيِّن أن طائرات الروس لا تعمل بطاقتها المعتادة فوق المنطقة، ما يعني أن عددا منها سُحب إلى جبهة أخرى. على الجانب الآخر، سحبت كييف وحدات من ألوية متعددة بعضها كان رابضا في أكثر أجزاء خط المواجهة سخونة، حيث يستمر القتال بين الطرفين بلا هوادة.

عبور الحدود

للتغلب على هذه المعضلة، قام الجيش الروسي على ما يبدو بنقل عناصر مختارة من الوحدات الروسية من منطقة دونيتسك للتعامل مع التوغل الأوكراني في كورسك، لكنه تجنب سحب الوحدات العسكرية الروسية المنخرطة في القتال ضمن القطاعات ذات الأولوية في المنطقة بسبب المخاوف بشأن إبطاء وتيرة العمليات الروسية، بحسب مركز دراسات الحرب الأميركي.

لكن ذلك لا يعني أن الروس لا يواجهون مشكلة، إذ يعتقد فريق من الخبراء أن القيادة العسكرية والسياسية في روسيا لم تكن مستعدة لحدث من هذا النوع، بسبب اطمئنانها إلى اتفاق ضمني مسبق مع القوى الغربية على أن استخدام أوكرانيا الأسلحة الغربية لاختراق الحدود الروسية “يرقى لأن يكون مقدمة لحرب نووية”. ونتيجة لذلك، أخفق الكرملين على ما يبدو في التخطيط لاحتمال حدوث توغل أوكراني كبير في روسيا، وتعامل مع الحدود الروسية مع شمال شرق أوكرانيا باعتبارها جبهة كاملة منذ بداية الحرب خريف عام 2022، وبالتالي لم تُوضع خطة طوارئ للتعامل مع أحداث من هذا النوع.

ومن المرجح أن الأوكرانيين استخدموا أسلحة غربية في الهجوم على كورسك. وقد صرحت وزارة الدفاع البريطانية مثلا أن كييف يمكنها استخدام المعدات والأسلحة البريطانية “بما يتماشى مع القانون الدولي للدفاع عن نفسها”، مؤكدة أن القيود مفروضة على استخدام أسلحة معينة في “غزو” الأراضي الروسية، وفي مقدمتها صواريخ “ستورم شادو” بعيدة المدى. ويعني ذلك أن القوات الأوكرانية لا يزال بإمكانها استخدام الأسلحة البريطانية الأخرى في عملياتها “الدفاعية”، مثل دبابات تشالنجر التي استُخدمت بالفعل في التوغل في منطقة كورسك. في مواجهة ذلك، سارع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى وصف العملية بأنها “استفزاز يتطلب ردا مضادا”، مع الإشارة إلى حلفاء أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) قائلا: “الغرب يقاتلنا بأيدي الأوكرانيين”.

في السياق ذاته، كشفت مصادر أميركية أن البيت الأبيض “منفتح” على إرسال صواريخ كروز بعيدة المدى جو-أرض مشتركة من نوع “جاسم” (JASSM) إلى أوكرانيا، لكنه لم يتخذ قرارا نهائيا، كما تشير تقارير إلى أن البنتاغون يعمل مع أوكرانيا لضمان استخدام طائرات “إف-16” بالشكل الأمثل في العمليات الجوية أعلى المنطقة، وضمان قدرة الطائرات على إطلاق الصاروخ الذي يبلغ وزنه 1200 كيلوغرام ويحمل رأسا حربيا شديد الانفجار بوزن 400 كيلوغرام.

لا تُعَد كورسك منطقة ذات أهمية إستراتيجية أو عسكرية في روسيا، وبالتالي فإن السبب الأرجح لتلك الهجمات هو الضغط على الروس، مما قد يضطرهم لإرسال قوات مكثفة للمنطقة، وبالتالي تخفيف الضغط عن الجبهة الشرقية بالنسبة للأوكرانيين (الجزيرة)

يأتي ذلك جزءا من محاولات الولايات الولايات المتحدة على مدى عامين تجزئة سلاحها المفترض إرساله إلى أوكرانيا لقتال الروس على شكل قطع صغيرة متدرجة في القوة والمدى لتجنب استفزاز موسكو مرة واحدة، بدءا من السماح بتمرير أسلحة تعمل في نطاق منطقة “خاركيف” فقط، ثم السماح للأوكرانيين باستهداف المنطقة الحدودية مع روسيا، ثم تزويد الأوكرانيين بأنظمة صواريخ متحركة أو ذات مدى أبعد قادرة على الوصول إلى الأراضي الروسية في الوقت الحالي.

إستراتيجيا، لم تتكشف بعد كامل أهداف “الغزو” الأوكراني لمنطقة كورسك أو مآلاته، ولا يزال الروس أنفسهم يتعاملون مع الأمر بحذر شديد. ولا تُعَد كورسك منطقة ذات أهمية إستراتيجية أو عسكرية في روسيا، وبالتالي فإن السبب الأرجح لتلك الهجمات هو الضغط النفسي على الروس الذي قد يضطرهم في مرحلة ما لإرسال قوات مكثفة إلى المنطقة، وبالتالي تخفيف الضغط عن الجبهة الشرقية بالنسبة للأوكرانيين، ولو بعد حين.

إضافة إلى ذلك، يبدو أن الأوكرانيين يريدون أن يُثبتوا لحلفائهم في الغرب أن اختراق الحدود الروسية يمكن أن يُسرِّع من وتيرة إنهاء الحرب إذا وُضع هذا الملف على طاولة المفاوضات. وفي حال نجحت القوات الأوكرانية في البقاء لفترة أطول داخل روسيا، دون أن تدفع الأخيرة لكسر عتبة استخدام السلاح النووي أو تصعيد المعارك بشكل غير متوقع، ربما يقنع ذلك الأميركيين والأوروبيين بمنح أوكرانيا الأسلحة التي يحظرها الغرب حتى الآن مع تلاشي الخوف من تجاوز الخطوط الروسية الحمراء.

حرب الأوكرانيين “الخاطفة”

تُسلِّط هذه التطورات الضوء على المشكلات “التكتيكية” المعقدة التي تواجهها موسكو في ساحة المعركة الروسية. ولا تكمن مشكلة روسيا فقط في أنها أخطأت تقدير نِيَّات الأوكرانيين في عملية استثنائية واحدة، ولكن في سوء التقدير والتجاهل المتكرر لنقاط قوة الأوكرانيين في هذه الحرب، والتعامل معها على أنها مجرد “طفرات مؤقتة”.

فبحلول منتصف عام 2022، كانت أجزاء كبيرة من شرق أوكرانيا وجنوبها تحت السيطرة الروسية، ومنها بلدة خاركيف، القريبة من الحدود الروسية، وصاحبة الأهمية الإستراتيجية الكبيرة، فهي ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا، وتُعَد مركزا صناعيا ولوجستيا مهما، كما أن تضاريس المنطقة وبنيتها التحتية جعلتها مركزا رئيسيا للتحكم في طرق الإمداد وخطوط الاتصال مع القوات الروسية. لذلك كانت استعادة خاركيف هدفا أساسيا بالنسبة إلى كييف، على المستويين العملي والرمزي (المعنوي) كليهما. وفي سبتمبر/أيلول من العام نفسه، شنَّ الأوكرانيون هجوما مضادا سريعا تمددت خلاله القوات بسرعة إلى داخل خاركيف، مستغلةً نقاط الضعف في الخطوط الروسية، واستعادت أراضي كبيرة وقتها، في عملية مستلهمة جزئيا من تكتيكات “الحرب الخاطفة”.

والحرب الخاطفة هي إستراتيجية عسكرية طوَّرها الفيرماخت الألماني “القوات المسلحة النازية”، واستُخدمت على نطاق واسع خلال الحرب العالمية الثانية، وتُركِّز على تحقيق انتصارات سريعة وحاسمة باستخدام هجمات سريعة الحركة ومنسقة تشارك فيها مختلف الفروع العسكرية، وتستهدف نقاط الضعف في خطوط العدو لتخترقها، ومن ثم تتمدد إلى داخل المنطقة المراد السيطرة عليها.

بشكل مماثل، يُنظر إلى هجوم خيرسون، الذي شنَّته القوات الأوكرانية في أواخر 2022 وأوائل 2023 بهدف استعادة منطقة خيرسون جنوبي أوكرانيا والقريبة من شبه جزيرة القرم والبحر الأسود، على أنه يحمل بعض بصمات الحرب الخاطفة، حيث أجرت القوات الأوكرانية استطلاعا واسع النطاق، وجمعت معلومات استخباراتية عن المواقع الروسية والتحصينات وتحركات القوات، ومن ثم استخرجت نقاط الضعف، ثم وجهت ضربات مدفعية لمستودعات الإمدادات الروسية ومراكز القيادة والبنية التحتية الحيوية. بعد ذلك بدأ الأوكرانيون هجوما منسقا متعدد الجوانب شاركت فيه فئات مختلفة من الأسلحة، وفي مواجهة الضغط المستمر وخطر التطويق، بدأت القوات الروسية انسحابا إستراتيجيا من المواقع الرئيسية في خيرسون، حيث تراجعت عبر نهر دنيبرو لإنشاء خطوط دفاعية جديدة على الضفة الشرقية.

كان تقدُّم الأوكرانيين سريعا وحاسما، ما أعطى هذه المعركة بعضا من سمات الحرب الخاطفة، لكنها (وكذلك معركة خاركيف) لم تكن “حربا خاطفة” بالمعنى المفهوم، حيث كان جزء كبير من الإستراتيجية العسكرية لأوكرانيا دفاعيا في المقام الأول، بهدف السيطرة على الأراضي وصد التقدم الروسي بعد الاختراق، بدلا من القيام بعمليات هجومية بحتة على الطريقة الأصلية للحرب الخاطفة. أضف إلى ذلك أنه على عكس الحرب الخاطفة، التي تعتمد على تحقيق التفوق الجوي والحفاظ عليه، شهد الصراع في أوكرانيا مجالا جويا متنازعا عليه، حيث استخدم كلا الجانبين الطائرات بدون طيار على نطاق واسع، لكن لم يحقق أيٌّ منهما الهيمنة الجوية الكاملة.

العملية كورسك

ويبدو أن التكتيك نفسه استُخدم خلال الاستيلاء الأوكراني على كورسك (دون تجاهل عامل السلاح الغربي وعدم تأمين المنطقة بشكل كافٍ). ووفقا لقناة تلغرام العسكرية الروسية “ترويكا”، استخدم الأوكرانيون التكتيكات التي اختبروها سابقا في خاركيف ولكن على نطاق أصغر. بدأت الأمور بحرب خاطفة إلكترونية، حيث قام الأوكرانيون بإسقاط المسيرات الروسية المسؤولة عن الاستطلاع والمراقبة، ويُعتقد أن ذلك حدث عن طريق مسيرات اعتراضية جديدة مرتبطة إلكترونيا برادار الدفاع الجوي، بعد ذلك أُدخلت أجهزة تشويش قصيرة المدى إلى الخط الأمامي لتستمر عملية التعتيم لأطول فترة ممكنة، وجرت برمجة هذه الأجهزة ببيانات جُمعت مسبقا عبر وحدات استطلاع الحرب الإلكترونية.

كانت نتيجة ذلك توقفا تاما لعمل المسيرات الروسية المستخدمة لتحديد الأهداف وتوجيه المدفعية، هذه المسيرات كانت دائما السبب في نجاح المدفعية الروسية، حيث تحدد الهدف بدقة ثم تُضبط المدفعية والأسلحة الأخرى باتجاهه، وتشير بعض التقارير إلى أن لها الفضل في تدمير قرابة ثلثي الدبابات التي فقدتها كييف خلال الحرب.

ومع تحييد المدفعية الروسية من خلال طمس أهدافها، دخلت أسراب من المسيرات الأوكرانية لضرب الدفاعات المستقرة في كورسك، بما في ذلك الخنادق الأرضية المحصنة، بدقة شديدة مع وابل كثيف من الضربات، بعد ذلك تقدمت القوات البرية لمسافة آمنة عبر الأرض التي أمَّنتها للتو، ومن ثم تحضر معها أجهزة التشويش، وتبدأ العملية الخاطفة نفسها من جديد، ويستمر التقدم للأمام عبر التكتيك نفسه.

وفي حين أن الروس يمتلكون بالفعل مسيرات يمكنها تحييد هذا النوع من العمليات، فإن عاملَيْ السرعة والمفاجأة هما السببان الرئيسيان اللذان يُعزى إليهما تأخر رد الفعل الروسي، أضف إلى ذلك أن “تنظيف” السماء الروسية من المسيرات الأوكرانية يتطلب وقتا، وهو العامل الحاسم في العمليات الأوكرانية كلها، حيث تؤمِّن مسار التقدم بسرعة، مع وجود قوات في الخلفية تعمل على السيطرة على المناطق التي أمَّنتها.

مكامن الهشاشة الروسية

تنتمي كل هذه التكتيكات الحربية الأوكرانية إلى جعبة ما يُعرف بـ”الحرب الهجينة”، وتعني الحرب التي توظف مزيجا بين القوات والأدوات النظامية المعروفة (جنود ودبابات ومدفعية وطيران) إلى جانب تكتيكات الحرب غير النظامية، مثل حروب العصابات وعمليات الكر والفر ونصب الكمائن، وتخريب البنية التحتية مثل الجسور والسكك الحديدية، والاغتيالات. هذا وتستخدم كييف تكتيكات الحرب الهجينة لجسر فارق القوة مع القوات الروسية الأكبر والأكثر تجهيزا، مستفيدةً من تبادل المعلومات الاستخباراتية مع القوى الغربية.

على سبيل المثال، في عملية خيرسون، شنَّت القوات الأوكرانية هجمات صغيرة النطاق مستهدفةً الخطوط الخلفية الروسية، فنصبت كمائن للدوريات الروسية، وهاجمت طرق الإمداد، واستخدمت “المقاومة المدنية” لتزويد الاستخبارات بتحركات القوات الروسية. وفي ماريوبول، استخدم المقاتلون الأوكرانيون، بما في ذلك كتيبة آزوف المكونة من الحرس الوطني الأوكراني، المجمعات الصناعية في المدينة، مثل مصنع آزوفستال للصلب، معاقل لمقاومة التقدم الروسي لعدة أشهر، واستخدموا الأنفاق تحت الأرض ومواقع القنص والفخاخ المتفجرة لصد قوة روسية أكبر بكثير، يعني ذلك أن أوكرانيا اعتمدت على نمط غير متكافئ في قتالها مع الروس، فاستخدمت في جانب منها المزايا الطبيعية للحروب الحضرية، إلى جانب التوظيف المتقن للمسيرات التجارية الصغيرة الرخيصة، التي عُدِّلت للاستخدام العسكري، كانت هذه المسيرات ضرورية للاستطلاع والاستهداف وحتى الهجمات المباشرة على المواقع الروسية، ورغم تكلفتها المنخفضة فإنها تسببت في أضرار مكلفة، وأبقت الجنود الروس في درجة من القلق وعدم اليقين بشأن المخاطر القادمة من السماء

تكمن أزمة روسيا الرئيسية في أنها لم تتوقع خوض حرب استنزاف طويلة ومكلفة إلى هذا الحد في اللحظة التي عبرت فيها قواتها الحدود إلى أوكرانيا، حيث كان الاعتقاد السائد لدى الكرملين هو أن موسكو بصدد شن عملية خاطفة تستغرق قرابة أسبوعين إلى عدة أسابيع وتنتهي بسقوط كييف سريعا، لكن الحقيقة كانت غير ذلك تماما.

وبحسب ورقة بحثية صدرت عن المعهد الملكي للخدمات المتحدة، فإن طول أمد الحرب، وتكلفتها المادية والبشرية المرتفعة بالتبعية، تسبب في اهتزاز وضع الجيش الروسي على الأراضي الأوكرانية خلال العام الأول ومعظم العام الثاني من الحرب، ومع التكلفة الكبيرة بدأ الروس في تعديل تشكيلات المشاة الروسية، التي اعتادت التشكل على هيئة “مجموعات كتائب تكتيكية”، وهي وحدات مناورة مشتركة الأسلحة تتألف عادة من كتيبة مشاة ميكانيكية نموذجية مكوَّنة من 2 إلى 4 سرايا معززة بوحدات للدفاع الجوي والمدفعية والهندسة والدعم اللوجستي مع سرية دبابات.

مع الإرهاق الواضح لميزانية الجيش، وظهور نقاط ضعف قاتلة في هذا النوع من الكتائب تتعلق بالتنسيق بين وحداتها، وصعوبة تحركها في مقابل النمط السريع للتكتيكات الأوكرانية، عاد الجيش الروسي إلى نظام غير رسمي يتضمن إنشاء أربع فئات مختلفة من رجال المشاة: المتخصص، والهجومي، والخطي، والقابل للتصرف، وهو تدرج مبني على المهارة والتكلفة المطلوبة للتدريب، الغرض منه استخدام كل جندي لأفضل مهمة مناسبة لتكلفته.

بشكل مشابه، استخدم الروس الدبابات بشكل كلَّفهم الكثير في بداية الحرب، وهي خسارة هائلة انتبهت إليها موسكو تحديدا بعد معركة مدينة فاهليدار في مقاطعة دونيتسك شرقي البلاد في أكتوبر/تشرين الأول 2022، التي وصفها المسؤولون الأوكرانيون بأنها “أكبر معركة دبابات في الحرب”، حيث دُمِّر أكثر من 130 دبابة. لفترة طويلة، كانت القوات الروسية تميل إلى الدفع بأسراب دبابات غير مدعومة بشكل مباشر إلى الكمائن الأوكرانية، ما تسبب في تدمير أعداد كبيرة من هذه الدبابات، خاصة مع استخدام الأوكرانيين لمنظومات رخيصة نسبيا لكنها فعالة جدا ضد الدبابات مثل “صاروخ جافلين”، وهو نظام أميركي محمول مثل الآر بي جي، يبلغ مداه ألفَيْ متر، ويتمتع بمزايا عديدة مثل خفة الوزن وسهولة التشغيل، لكن الأهم من ذلك أنه يتبع تقنية “أَطْلِق وانسَ” التي تُمكِّن المُطلِق من إصابة الهدف دون الحاجة إلى التصويب عليه بدقة.

بدأت روسيا الحرب باستخدام الدبابات لأغراض “الاختراق في العمق العملياتي” بوصفها جزءا من مجموعات الكتائب التكتيكية التي تحدثنا عنها سابقا، لكن مع الخسائر الفادحة أصبحت روسيا تستخدم الدبابات في حالات الاختراق التي تبدو مناسبة فقط وباجتماع عدة نقاط قرار متنوعة.

ما سبق كان فقط مجموعة من الأمثلة على أن الروس لم يتوقعوا الطريقة التي ستتطور بها الحرب، وفي كل مرة اضطروا للتكيف مع المستجدات التي يفرضها الأوكرانيون لا العكس، والمشكلة أن ذلك كان يحدث ببطء، ما تسبب في تأخير تقدمهم في الأراضي الأوكرانية على مدى سنوات الحرب كلها، وعموما، واجه الروس (ولا يزالون) مشكلة في توفير الدعم اللوجستي، وهو توفير جميع الموارد والخدمات الضرورية لدعم العمليات العسكرية، ويشمل النقل والتخزين والإمدادات والصيانة والاتصالات، وكل ما يسهم في ضمان تدفق المواد والمعلومات بسلاسة.

يتوافق ذلك مع ما خلص إليه فريق بحثي يضم برادلي مارتين وسين بارنيت وديفين ماكارثي من مؤسسة “راند”، الممولة من وزارة الدفاع الأميركية. وفي دراسة نشرها الباحثون الثلاثة في يناير/كانون الثاني 2023، رجَّحوا أن إخفاقات روسيا في الحرب مع أوكرانيا كانت راجعة بالأساس إلى سوء التخطيط، حيث لم تقم روسيا بتقييم المتطلبات اللوجستية بشكل صحيح، حتى لو كانت تمتلك القدرة على ذلك.

وبحسب الدراسة، فقد نفدت الإمدادات الحيوية من روسيا في وقت مبكر من حملتها للاستيلاء السريع على الأراضي الأوكرانية، وكانت هذه الفجوة إلى حدٍّ كبير نتيجة التقليل من شأن “المقاومة” التي واجهتها، بمعنى أن روسيا لم توفر القدرة الكافية، ليس لأنها لا تمتلكها، ولكن لأنها اعتقدت أنها لن تكون مطلوبة من الأساس. مثال واضح على ذلك هو اعتماد الجيش الروسي على النقل البري الطويل الذي جعله أكثر عرضة للخطر بسبب سوء تقدير تفوق الأوكرانيين في الهجمات غير النظامية، وتأثير أنظمة الصواريخ التي حصلوا عليها من الغرب.

للمفارقة، يرى فريق من الباحثين أن مكامن الفشل الروسي تلك كانت موجودة في وقت أبكر بكثير من زمان الحرب في أوكرانيا، لكنها لم تُرصد بدقة. وخلال السنوات الـ22 الماضية، أنفقت روسيا أكثر من 1.1 تريليون دولار على الجيش، وكان لديها ثلاثة وزراء دفاع، وأربعة رؤساء أركان، أشرفوا على ثلاثة إصلاحات عسكرية، وخاضت حربا قصيرة مع جورجيا، وتدخلا في سوريا، وعدة عمليات انتشار أصغر في الجمهوريات السوفياتية السابقة، مع سجل نجاح محدود على معظم هذه الأصعدة.

ويرى كيرل شاميف من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أن أهم الأسباب التي جعلت المحللين الغربيين يميلون إلى المبالغة في تقدير القدرات العسكرية الروسية هو أداء الجيش الروسي في التدريبات الإستراتيجية السنوية التي تُعرَض على المراقبين الأجانب ووسائل الإعلام، وركزت على مكافحة التمرد. ومع ذلك، في الحرب مع أوكرانيا، لم يُثبت الجيش الروسي القدرات نفسها على ما يبدو.

حرب بوتين الأبدية

يعمل الجيش الروسي حاليا على زيادة مهاراته وقدرته على الاستجابة والتكيف مع نقاط الضعف التي كشفت عنها الحرب، مع أن اختراق كورسك سوف يكون نقطة مفصلية ستغير شكل الحرب تماما، على الأقل من وجهة نظر الكرملين. بادئ ذي بدء، سوف تكثف موسكو جهودها لمنع الولايات المتحدة والغرب من دعم أوكرانيا بأسلحة ذات مدى أوسع، وفي الوقت نفسه ضبط التقدم الشرقي لخصمها ومحاولة عكسه في أقرب فترة ممكنة.

وستتعامل موسكو بجدية أكبر مع الجيش الأوكراني عبر حرمانه من مكامن قوته ومحاولة استكشاف نقاط ضعفه الحقيقية التي أظهرتها الشهور الماضية، وعلى رأسها محدودية الحضور الجوي. فحتى مع وصول إمدادات الـ”إف-16″ الأميركية، حافظت روسيا على قوة جوية أكثر تقدما وأكبر حجما، ورغم تلقيها أنظمة الدفاع الجوي الغربية، لا تزال كييف تواجه تحديات في تأمين مجالها الجوي بالكامل ضد هجمات الصواريخ والطائرات بدون طيار الروسية.

أضف إلى ذلك أن الحفاظ على خطوط الإمداد للذخيرة والوقود وغيرها من الضروريات باتت تحديا صعبا بالنسبة لأوكرانيا، وخاصة في المناطق المتنازع عليها. وفي ظل نقص القوى العسكرية العاملة، يظل الحفاظ على القتال عالي الحدة لفترة طويلة أمرا مرهقا للأوكرانيين، خاصة مع الخسائر المستمرة للأفراد ذوي الخبرة.

يزداد الوضع صعوبة مع اضطرار الأوكرانيين للدفاع عن خط مواجهة كبير وممتد، وهذا يتطلب موارد واسعة ويجعل من الصعب تركيز القوات في مكان واحد، مما يجعل بعض المناطق معرضة للخطر، خاصة المناطق الساحلية، حيث تتمتع أوكرانيا بقدرات بحرية محدودة نسبيا مقارنة بروسيا، وهذا يعوق قدرة أوكرانيا على السيطرة على المناطق القريبة من البحر الأسود وبحر آزوف أو الدفاع عنها.

في غضون ذلك، سوف يتعين على روسيا بذل جهد أكبر لإصلاح وضعها الداخلي للتعامل مع حرب طويلة وممتدة. وقبل عدة أشهر، أطاح الرئيس بوتين بوزير الدفاع سيرغي شويغو وخلفه أندريه بيلوسوف، الذي يعتقد أن لديه خلفية أفضل في إدارة الموارد طويلة الأمد، وفي المقابل، حلَّ شويغو محل نيكولاي باتروشيف رئيسا لمجلس الأمن، الذي يُشرف على أجهزة الاستخبارات الروسية. وبحسب خبراء، فإن هذا التعديل الوزاري يمهد الطريق لحرب استنزاف طويلة في أوكرانيا، سيحاول خلالها الفريق الجديد ضبط الاقتصاد ليعمل بحالة من التوازن مع استمرار الحرب قائمة.

في المقابل، سوف يستمر السياسيون وجنرالات الحرب الغربيون في دعم أوكرانيا بعد أن فوجئوا بقدرتها على الصمود ضد الضغط الروسي، وهم في هذا السياق مستفيدون لا شك من قدرتهم على دراسة الوضع العسكري الروسي في الحرب الحالية، واستنزاف موسكو تدريجيا في حرب طويلة، واختبار مدى صبر بوتين قبل أن يقرر استخدام سلاحه النووي (وهو أمر لا يزال مستبعدا)، لكنهم يدفعون ضريبة ذلك اقتصاديا، سواء بسبب دعم الأوكرانيين المكلف، أو بسبب تباطؤ الاقتصاد العالمي بسبب الحرب، وهي أوضاع مرشحة للسوء مع وجود أكثر من بؤرة ملتهبة مرشحة للانفجار عالميا، وما الشرق الأوسط وتايوان منا ببعيد.

المصدر : الجزيرة

رابط المصدر

أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Exit mobile version