سِرْسَجٌ “سَماء القُدْسِ السَّابِعَةِ”.. المَقامُ بِتَصْوِيرِهِ قِصَصٌ مُتوالِدَةٌ بَلا نِهايةٍ

By العربية الآن



سِرْسَجٌ “سَماء القُدْسِ السَّابِعَةِ”.. المَقامُ بِتَصْويرِهِ قِصَصٌ مُتوالِدَةٌ بَلا نِهايةٍ

سِرْسَجٌ سَماء القُدْسِ السَّابِعَةِ لأَسامة العِيسَةِ
سِرْسَجٌ “سَماء القُدسِ السَّابعةِ” بَصَدورِهَا عَن دارِ الْمُتَوَسَطِ، للكاتِبِ وَالصُحَفِيِّ الفُلُسْطينِي أَسَامَة العِيسَة (الجَزِيرَة)
يَظُنُّ أَحَدُنا أنه ما عاد هُناكَ شَيْءٌ يُمْكِنُ إضَافَتهُ لِكِتَابَةٍ وَوَصْفٍ تَارِيخِ فِلَسْطِينَ نَفْسِهَا، وَلَيْسَ الْقُدْسَ فَحْسَبًا، خاصَةً مَع صُدورِ مِئَاتِ الكُتُبِ، وَالأَفْلامِ السِّينِمَائِيَّةِ وَالوَثَائِقِيَّةِ، مِن الرُحَّالَةِ وَالبَاحِثِينَ وَالكُتَّابِ وَالأُدَّبَاءِ وَالفُنَّانِينَ. وَلَكِنَّ ذَلِكَ سُرْعَانَ ما يَزُولُ مَع قِرَاءَةِ سِرْسَجٍ ضَخْمٍ وَمُمْتِعٍ مِثْل “سَماء سابعة للقُدس” الصَادِرَةِ عَن دارِ الْمُتَوَسَطِ، لِلكَاتِبِ وَالصُحَفِيِّ الفُلُسْطينِي أَسَامَة العِيسَةِ.

الظَّنُّ الآخَرُ هُوَ أَنْ هذِهِ السِرْسَجٌ ضَخْمٌ، 678

صفحة، بإمكان القارئ الجديد الذي يعتاد على الروايات القصيرة أن يجد صعوبة في استيعابها، ولكنه سيكتشف أن هذا الكتاب سهل القراءة ومشوّق، وسيتمنى لو استمرت قصته إلى مالا نهاية، وسيبدأ بالتساؤل، أثناء تجوّله الممتع، كيف سينتهي الكاتب هذا الكتاب؟ وكيف سيوقف جريان النبع الذي لا ينضب وسيبقى ينبعث إلى ما لا نهاية؟. خاصّة وأن نبع هذه الرواية، وقصصها وشخصياتها العادية والمقهورة، وأنبياؤها، وصخورها ونقوشها مأخوذة بالقرب من “عين سلوان”، أو عين جيحون أو عين أم الدرج أو عين العذراء، وهي من أشهر ينابيع مدينة القدس، وتبعد حوالي 300 متر من الزاوية الجنوبية الشرقية لسور المسجد الأقصى. وتنتمي لقرية سلوان، التي تُجعل ذكورها محسودين جماليا، وما زال النبع ينبع منذ زمنٍ بعيد قبل الميلاد.

ورغم أن الصفحات الأولى من الجزء الأول (426 صفحة)، سفر للحياة، تبدو صعبة على التدفق، حيث يتحدث عن “العنّة”، أو الطرق الوعرة، التي ألمت بـ “سبع القرى”، أو شيخ الشباب، ويتحدث عن عين الماء في القرية ومميزاتها، كما لو كان لا يوجد حدثٌ كبير أو ضخم يتعلق بهذا العمل، أو ربما لأنه أفقي بدلًا من رأسي، إلّا أن الرواية سرعان ما تتدفق مسحوبة القارئ في رحلة عبر التاريخ والجغرافيا والفن والسياسة والاقتصاد والفكر السياسي وسير شخصيات عدة، لتتحوّل الرواية، حتى وإن لم يكن الكاتب يعلم، إلى وجبة ضخمة تُحرك بملعقة سحرية في بعض الأحيان، وبواقعيّة في أحيانٍ أخرى.

رواية الأديب الفلسطيني أسامة العيسة ترشحت للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (مواقع التواصل)

الأعمال الأدبية والأدبية المتعارضة

الراوي في هذا العمل هو الطفل كافل، وهو الاختصار للحفيد ذو الكفل، الذي يسجّل لنا قصصًا يحكيها له العديد من الشخصيات، بمن فيهم والده يوسف، ووالدته وصديقته لور وعمه جورج وجده أبو نقولا.. ويمكن تخفيض فكرة هذا العمل، ولو أن ذلك ظالمٌ، إلى تدوين للمواقع، وبذلك للشخصيات وللأحداث، التي مرت، وستمر عليه. يقوم كافل بتسجيل هذه القصص هنا، دون تحويلها إلى رواية تسجيلية بحتة، ويتحدث عن تاريخ يمتد من ما قبل الميلاد إلى سنوات ما بعد أحداث عام 1967، ويصل إلى زمن ما بعد اتفاقية أوسلو، دون تحويلها إلى رواية تاريخية بحتة، ويستخرج محتويات المكان والكنوز والنقوش والدول والجيوش والاحتلالات والحروب التي مرت على القدس، دون تحويلها أيضًا إلى رواية سياسية مباشرة.

هو تسجيل المكان وما فيه، كما يفسر كافل نفسه، “نص والدي في مواجهة نصوصهم، بلدنا بلاد نصوص” (ص 52). لأن الحروب تفعل فعلا آخر بالناس “تُجعلهم ينسون بسرعة، أو تزيد قابليتهم للنسيان، ويبدو لي أحيانا أن النسيان قرار، هو محو واستبدال” (75). وهذا يتكرّر، المكان كنصّ وتسجيل، في أكثر من موضع، مثل “ليس هم فقط من يؤلفون القصص، نحن أيضا نؤلف، بلادنا لا تعيش إلا على القصص وحكايات الأقدمين، أي مفعول سحري تؤثر فيه علينا؟” (83) أو عندما يقول الوالد لولده “القدس مدينة نصّية، قد لا تفهم ذلك الآن، ولكن عليك أن تعرف كيف يسيطر عليها المسيطرون، بما يقولون عنها من نصوص وكتابات، من تلك التي أنزلتها السماء، وتلقفها البشر، إلى التي نسجها الرحالة والغزاة والأفاقون عن القدس التي أرادوها لهم، لهم وحدهم. فانتصروا بما نصّوا عنها” (ص 400)، أو ما يقوله كوهين، حارس المتحف، للور وكافل “عندما تكبرين ستفهمين، فأكاذيبنا تشبه أكاذيبكم، أو أن أكاذيبكم رد فعل على أكاذيبنا!” (ص 409).

أسئلة وتحليل

تسجيل المكان تحت الاحتلال، ومحاولة فهم قصص الكبار حول ما فقدوه وضاع منهم، تشغل ذهن الطفل كافل، الذي يكبر في كل جزء من عمر الـ10 سنوات في الجزء الأول إلى الـ40 عامًا في الجزء الثالث، وهو 3 مرات تطلعًا في 3 أجزاء. ومأساة كافل، الفتى الوحيد، تشبه مأساة بلدته. إذ هو الوحيد لأب مناضل يعتقل ويموت في السجن بعد عامين من اعتقاله. في حين أن تتّبعه يؤدي بأمه إلى الموت على يد الفدائيين بعد سنة من اعتقال زوجها.

صاحب رواية “مجانين بيت لحم”، التي فازت بجائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2015، يبحث في أسئلة لا تتعلق فقط بالآخر/الغازي، بل تتعلق أيضًا بالصراع والتفكير السياسي والفدائيين والمعتقلين. عن تضحية المناضل أو الفدائي من أجل شعبه ووطنه، وعن تجاهله لـ “أهم شعبه، ألا وهي عائلته”. عن العمل

المجاهد/النضالي المتهور الذي قد يؤدي بأرواح بريئة قدرهم، جسديًّا أو نفسيًّا، عليهم التزام معنى نضال الأب والأخ. حول معنى الأسرة بعد تدمير المنزل، ومعنى السقف، وتشردها. حول العمل مع اليهود. حول الهجرة خارج البلاد، وترك الوطن وحيدًا. حول معنى النضال والصمود وتشجيع الناس عليهما، وعدم صمود من يختار الهجرة. عن الأفكار التي تجبر زوجة شابة على انتظار زوجها المعتقل/الناشط والمحكوم عليه بعشرين عامًا. ستُنظر إليها الناس إذا طلبت الطلاق، كمن يُعتبر خائنة، وربما تساعد المحتل في قتل زوجها في سجنه. بينما تقول أم السبع لأم الراعية “قمتِ بما لم نتمكن نحن نساء هذه القرية الظالمة لنسائها، لماذا لا يجب علينا دائمًا دفع ثمن أفعال رجالنا، بغض النظر عن دوافعهم؟” (ص 465).

يستخدم صاحب رواية “المسكوبية” (2010) تقنيات متعددة في سرده، بوساطة الحوار والرسائل والأغاني والأهازيج والمعلومات التاريخية والفنية والعسكرية والسياسية والتساؤلات، لغرض تقديم حكايات المكان، وتقديم شخوص المكان. يُوزع العمل على 3 أقسام، رحلة إلى الحياة. رحلة إلى الحزن والحياة. رحلة البقاء والحزن والحياة، توحي عناوينها دائمًا بالحياة والاستمرار فيها، حتى وإن كانت الحكايات كثيرة تتحدث عن الأموات.

الحكاية والحكواتيون

ينشغل أسامة العيسة (1963) بذلك الأسطورة المؤلمة، والأقدار الصعبة، للأشخاص البسطاء والعاديين، وعلى الرغم من أنه، في هذا العمل يستعمل حتى الخيال لكي يُجعل تماثيل الوجوه تتكلم، إلّا أنه يتجه نحو تلك الواقعية التي تصف ألمًا يظهر كـسحري، وغير مُصدّق. ولا يميل صاحب رواية “جسر على نهر الأردن” إلى الشعارات عند شخصياته، إلّا عند الحديث مع “المُحتل”، وكأن تلك الشعارات هي أبسط أشكال الصراع. وهذا ما يمكن أن ندركه عن العيسة الذي سُجن كثيرًا، وهو أسير محرر، إلا أنه لم يعتبر نفسه “مناضلا، بالمعنى العميق للكلمة، ولا سياسيًا أو أسيرًا”.

يتجه العيسة نحو حكايات الأشخاص العاديين، الناقلين وسائقي السيارات والفلاحين والسيدات القرويات، الذين قد يُغيّرون شيئًا ما في الحكاية في كل مرة، إلا أنها تظل حكاية مُترابطة في كل مرة. جرب الراوي ذلك في هذا العمل، حين يحكي الأب حكاية “أبشالوم”، ابن النبي داود، وكان في كل مرة يُعطي نهاية أُخرى لأبشالوم، وكأنه 3 شخصيات، أو 3 حكايات منفصلة، ولكن في كل مرة كانت الحكاية مترابطة. ثم من الذي يمكن أن يُؤكد الحكاية الأصلية؟ وما المقصود بأن تكون هناك حكاية مكتملة وصلبة، وتكون شفاهية في الوقت نفسه؟ فالحكايات الشفوية عادة ما يكون جمالها في التغييرات أو الإضافات التي يقوم بها الراويون المُختلفون ضمن سياقات زمنية ومكانية مُتباينة.

وعلى الرغم من وجود حكايات واقعية، لشخصيات حقيقية، إلا أن العيسة قدمها بشكل روائي، يُخلص من التسجيلية قدر المستطاع.

حكايات مستمدة من رواة مسلمين ومسيحيين ويهود، من فلاحين ومهندسين وناشطين وصحفيين وباحثين وحراس وملاكمين وتجار ورجال دين، عن ظلم واقع على جميع الذين عاشوا في القدس، بغض النظر عن أحداثها السابقة، أو عن طريق التاريخ الجديد الذي ما زال الاحتلال يسعى لكشفه.

تفسير ونتائج

جاء الجزء الثالث والأخير من الرواية تقريبًا كتفسير للحكايات والشخصيات التي جرت أغلبها في الأجزاء السابقة، أو ترك شيء مُعلَقًا في الأجزاء الماضية، كحكايات لور وزوجها السابق، ووالدة الراعية، والشيخ نعيم، والصحفي علي عمار أو إسحاق بن عوفاديا، وأم العبد أو زهافا وجبر وعن ترميم المطاحن.. وعن السلطة الفلسطينية وأفعالها في الاعتقالات والتعذيب والفساد. وعن المستوطنات الجديدة وأعمالها الجديدة في تغيير القدس أو المحافظة عليها.

تتضمن نتائج كثيرة يمكن أن يُفكر فيها القارئ أثناء قراءته لهذه الرواية، بخاصة حول وضع الراعية، الوحيدة، ثم يتيمة الأم، ثم يتيمة الأب. وأيضًا حول السبع البطل، والمُقاتل، وشيخ الشباب، والذي تعرض للعنة، وعاش مع المخدرات والماضي، وطلّق مرتين وانتحر 3 مرات.

رواية “سماء القدس السابعة”، التي تعتبر جائزة البوكر لهذا العام، تحاول توثيق القدس، ولو من خلال بوابتين أو 3، من إجمال 13 بوابة، وقرية وعدة أحياء، تتضخم لتشمل 3 أديان بتواريخها وشخوصها وحكاياتها وحروبها واحتلالاتها. وستبقى القدس متدفقة مخزونًا، على الرغم من أن “ما زالت طاحونة القدس، تطحن، لكن، لمن؟ ولصنع السلام لمن؟” (ص 669). ومن جديد، ربما في روايات أخرى، وكما فعل الراعية، الذي يحضر ابنه بعد 30 عامًا، ويأخذه بيده ويعرفه على قدس أجداده، ستأتي شخصيات أخرى لتقول لأبنائها “هذه بلادنا، التي علينا أن نبحث عن حكاياتها وتواريخها وشعبها” (ص 375)، وهو ما نجح فيه الكاتب أسامة العيسة.

المصدر : الجزيرة



أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Exit mobile version