صخب العائد: دونالد ترامب وتأثيره على أميركا والعالم

By العربية الآن


دونالد ترامب.. صخب “العائد” الذي يشغل العالم

المرشح الجمهوري دونالد ترامب طلب من أنصاره منحه “نصرا أكبر من أن يتم التلاعب به” (الفرنسية)
المرشح الجمهوري دونالد ترامب طلب من أنصاره منحه “نصرا أكبر من أن يتم التلاعب به” (الفرنسية)

انبثق دونالد جون ترامب فجأة في المشهد السياسي الأميركي عام 2015. كانت سابقة أميركية -وربما عالمية- أن تكون أول وظيفة رسمية يشغلها في حياته هي رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، وأن يؤدي أول قسم دستوري عندما تسلم الرئاسة سنة 2017.

اختصر المسار الشاق بأعجوبة سياسية ليتبوأ أكبر وأخطر وظيفة في العالم، أفنى غيره عقودا من أعمارهم في تعرجاتها قبل الوصول إلى قمتها، فأثار حولها ضجيجا وجدلا غير مسبوق يرافقه في مسعاه الراهن للعودة إلى البيت الأبيض.

في رصيد الرجل الذي بات أغنى من يصل إلى الرئاسة الأميركية نحو 4 مليارات دولار، وفق مجلة فوربس واستثمارات كثيرة، لكن لم يكن في رصيده السياسي -غير الرئاسة- ما يعتد به أو يمكن القياس عليه.

وتظهر السجلات أنه غيّر انتماءه السياسي 5 مرات منذ انضمامه إلى الحزب الجمهوري عام 1987، وفي عام 1999 انضم إلى “حزب استقلال نيويورك”، وانخرط في عام 2001 في الحزب الديمقراطي بعد فشل تجربته القصيرة في “حزب الإصلاح”، ثم عاد جمهوريا في عام 2009، ولم ينتسب إلى أي حزب عام 2011، ثم ثبت نفسه أخيرا في الحزب الجمهوري في عام 2012.

كان دونالد ترامب غير مصنف إيديولوجيا ولا منتميا سياسيا، بقي يركز على عالم المال ويزدري العمل السياسي. وتُظهر مقابلة أجراها عام 1980، وهو في منتصف الثلاثينيات من عمره، توصيفه للسياسة بكونها “عالم وضيع للغاية”، ومن الطبيعي أن “الأشخاص أصحاب القدرات المميزة يختارون عالم المال والأعمال”، وكان تقديره أنه أحد هؤلاء.

رئيس من العدم

المرشح الجمهوري دونالد ترامب في محل ماكدونالدز خلال حملته الانتخابية الأخيرة (رويترز)
المرشح الجمهوري دونالد ترامب في محل ماكدونالدز خلال حملته الانتخابية الأخيرة (رويترز)

على عكس ماضيه السياسي، كان ترامب اسما لامعا بالوسط المخملي والمالي في نيويورك وحاضرا على الصفحات الأولى للمجلات والجرائد الشعبية. عُرف بأنه “الرجل الذي تاجر في كل شيء”، من العقارات إلى المقاولات إلى نوادي القمار وعالم الترفيه والإعلام والسياحة والرياضة، وتنظيم مسابقات ملكات الجمال والمصارعة الحرة، لكنه كان يستنكف من عالم السياسة، الذي قيّض له أن يدخله من أوسع أبوابه في محاولته الأولى.

كانت أحاديثه وحواراته القليلة عن السياسة من باب الاقتصاد والمال، ولم يعرف عن ترامب كونه قارئا أو مثقفا -وليس كل الرؤساء الأميركيين كذلك- فقد أكد من عرفه أنه كان محدود المعارف والثقافة السياسية، ويستمد معلوماته من التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي، ويصف وزير دفاعه جيمس ماتيس (2017-2019) إلمامه بالقضايا الخارجية -وهو رئيس- بكونها “تعادل معرفة طالب في الصف الخامس أو السادس الابتدائي”، وفق ما ورد في كتاب “خوف” (Fear) للكاتب الصحفي بوب وودورد الصادر عام 2018.

وتكمن المفارقة في أن ترامب ألف كتبا ربما أكثر من أي رئيس آخر، لكنها لم تخرج أيضا عن عالم التجارة والمال. كان يرى أن تجربته تستحق أن تروى وأن يحتذى بها، ولخصها في كتب مثل “فن الصفقة” (1987) (مع تونى شوارتز) و “فن العودة” (1997) (مع كيت بونر) و “كيف تصبح غنيا” (2004) و” فكر مثل الملياردير” (2005) و “لماذا نريدك ثريا؟ رجلان ورسالة واحدة” (مع رجل الأعمال روبرت كيوساكى) (2006) و”أميركا المريضة: كيف نستعيد عظمة أميركا؟” (2015) وهو العنوان الذي شذ به قليلا عن القاعدة وبات شعار حملته الانتخابية للرئاسة.

ترسم مؤلفات ترامب، على بساطتها، مثل “فن الصفقة” توجهاته الكبرى وملامح شخصيته التي لم تتغير في البيت الأبيض، وكيفية إدارته لعمله، فهو يُرجع “نجاحه” إلى أسلوبه غير الرسمي، حيث لا يرتب جدول أعماله ولا يحمل حقيبة أوراق، ولا يعترف بالاجتماعات اليومية أو الدورية، وكان ذلك مثار سخط وانتقادات عندما بات رئيسا.

يصف الكاتب والصحفي بوب وودورد حالة ترامب في غضون الأسابيع الأولى من رئاسته بقوله: “تأكد لأصدقائه أنه لا يتصرّف كرئيس، ولا يأخذ بعين الاعتبار منصبه الجديد، فلا يكف عن انتقاد طاقمه والسخرية منهم، ولا يضبط تغريداته الصباحية، ويرفض متابعة الملاحظات النصية، ولا توجد قواعد مهنية مؤسسية تضبط قراراته الرئاسية أو اختياراته لطاقمه..”.

وفي كتابه “كيف تصبح غنيا؟”، تطرح آراء ترامب أيضا إصراره على المعارك ونزعة الثأر في قوله: “عندما يؤذيك شخص ما يتوجب عليك أن تطارده بأقصى ما تستطيع من عنف وشراسة”، ويظهر ذلك في خلافه مع الملياردير جيف بيزوس صاحب شركة أمازون العملاقة ومالك صحيفة واشنطن بوست (التي قررت البقاء على الحياد في السباق الرئاسي)، وعدد كبير من مساعديه الذين انفضوا عنه رئيسا أو مرشحا.

حمل ترامب كل ذلك النزوع إلى القوة والعناد والتسلط ومنطق “الربح” الذي يجسده قي مقولته الحاضرة دائما “ليس كافيا” (Not enough) والبحث عن التفرد والشهرة من بواكير طفولته في حي كوينز في مدينة نيويورك، حيث ولد منتصف عام 1946، وشب مع أشقائه الأربعة في كنف والده الأميركي فريد ترامب وأمه الأسكتلندية ماري ماكليود.

تصفه ماري ترامب -أخصائية علم النفس وابنة شقيقه فريد ترامب جونيور- في كتابها “كثير جدا ولا يكفي أبدا: كيف خلقت عائلتي أخطر رجل في العالم” (الصادر عام 2020) بكونه كان عرضة لـ “الإهمال العاطفي”، ففي غياب والدته أو مرضها عانى من قساوة الأب، الذي كان يفضل ابنا قوي الشخصية، وهو ما كان من شأنه -بحسبها -“أن يترك ندبة على حياة دونالد مدى الحياة، ويؤدي إلى مظاهر النرجسية والتنمر والعظمة”، التي طبعت سلوكه لاحقا بحسبها.

لم تبتعد شخصية دونالد ترامب كرجل أعمال ورئيس ومرشح عن طفولته وصباه كثيرا، عندما كان “مزاجيا ومتنمرا” كما يصفه لاحقا أقرانه، ورغم أنه كان محظوظا ومدللا، فقد أظهر “صعوبات سلوكية”، ووصفه والده لاحقا بكونه “كان شخصا قاسيا جدا عندما كنت صغيرا”. ويعترف ترامب لاحقا بأنه “ما زال يتمتع بالصفات نفسها التي كان يحملها في باكر حياته، وأنه الشخص نفسه”.

باتت هذه الشخصية “هدية” للناشرين والكتّاب -كما تقول صحيفة الغارديان البريطانية- ومصدرا لآلاف المقالات وعشرات الكتب والوثائقيات ومئات البرامج التلفزيونية التي لا يوجد فيها غالبا ما يشفع له، حيث ركزت كلها على “جناياته وجرائمه وشعبويته” ومساوئه وتطرفه وعنصريته وخطابه التحريضي وضحالة معارفه بالقضايا السياسية، وتشجيعه للعنف السياسي، وهي كلها مصطلحات حفلت بها الإنتاجات التي تعرضت لترامب، فقد كان الملياردير والمرشح عنوانا جذابا لوسائل الإعلام، زادت أهميته بعد توليه الرئاسة.

ويؤكد عالم النفس الأميركي دان ماك آدامز في مقال مطول بمجلة “ذي أتلانتيك” عدد يونيو/حزيران 2016، “لا شك أن شخصية ترامب متطرفة بكل المقاييس، وهي نادرة بشكل خاص بالنسبة لمرشح رئاسي، كل من قابلوه أو تعاملوا معه أكدوا أنه رجل محيِر..”.

من جهته قال الرئيس الديمقراطي السابق  باراك أوباما إن ترامب “لم يبدِ أي اهتمام في القيام بما يلزم لأداء وظيفته ولا أي اهتمام بإيجاد أرضية مشتركة.. ولم يرتقِ إلى مستوى المنصب لأنه لا يستطيع ذلك”.

ورغم الانتقادات الكثيرة، يشق دونالد ترامب طريقه من العدم السياسي ويتجاوز كل المطبات ومواطن الضعف ليسيطر عمليا على مفاصل الحزب الجمهوري، ويصبح مرشحه الذي لا ينازعه أحد، ويشارك في سباق تناوب رئاسي في مرحلته الأولى مع جو بايدن ثم نائبته كامالا هاريس، التي اختيرت مرشحة للرئاسة بدلا عنه.

القوة في الضعف

دونالد ترامب داخل شاحنة رفع قمامة ردا على وصف الرئيس بايدن لأنصاره بـ “القمامة” (أسوشيتد برس)
دونالد ترامب داخل شاحنة رفع قمامة ردا على وصف الرئيس بايدن لأنصاره بـ”القمامة” (أسوشيتد برس)

تكمن نقطة قوة دونالد ترامب في عناده ومثابرته رغم كونه “نرجسيا ومغرورا”، كما يصفه معظم الإعلام الأميركي، فقد نجح في دخول البيت الأبيض دون مؤهلات رافعة أو أي خلفية سياسية أو فكرية أو ثقافية ولا حتى حزبية متينة، وكان وصوله لمنصب الرئيس مغامرة رجل أعمال ناجحة، بل كانت الصفقة الأكثر نجاحا في حياته.

يذكر مايكل وولف في كتابه “نار وغضب” (Fire and Fury) الصادر عام 2018 أن ترامب لم يكن يؤمن بإمكانية الوصول إلى البيت الأبيض، فقد رفض أصلا تمويل حملته الانتخابية التي وصفها بالمفلسة، وكان جلّ ما قدمه لها قرض بقيمة 10 ملايين دولار، اشترط استعادتها بمجرد أن تتمكن الحملة من تحصيل أموال أخرى.

يسرد وولف تفاصيل تقبل ترامب لنتائج الانتخابات بقوله: “في غضون نحو ساعة، وبحسب مشاهدات ستيف بانون المستاء (رئيس موظفي حملة ترامب في ذلك الوقت)، بدأ ترامب المرتبك يتحول إلى ترامب غير المصدق ثم ترامب المذعور، لكن فجأة أصبح دونالد ترامب رجلا يصدق أنه يستحق أن يكون رئيس الولايات المتحدة، وقادرا على أن يكون رئيسا”.

جاء ترامب عام 2016 في فترة ارتباك في المشهد السياسي الأميركي، غابت الزعامات والقامات السياسية المؤثرة وتراجع تأثير الحزبين الجمهوري والديمقراطي، كما كان شعاره “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى” فضفاضا، لكنه شديد التأثير على شريحة واسعة من الناخبين.

نجح في سباق الرئاسة عام 2016، بعد أن تأثرت المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون بذيول فضيحة تسريب الايميلات، والترهل في مفاصل الحزب الديمقراطي، كما جذبت “شعبوية” ترامب وصخبه وأحيانا بعض أفكاره في الاقتصاد شريحة الناخبين “المحافظين في أميركيتهم”، وممن ضاقوا ذرعا بالخطابات المنمقة.

لم يكن هؤلاء مضطرين لتدقيق سجله الجنائي -الذي تضخم بعد الرئاسة- أو سجل إقراراته الضريبة الذي كان حافلا بالمخالفات. كان رجلا “غير منمق وغير متحفظ”، يستعمل نفس مصطلحات العامة وشتائمهم أحيانا ويحمل طباعهم وبعضا من ميولاتهم العنصرية الصارخة أو المبطنة، كما كانت حياته “الصاخبة” وزيجاته المتعددة من عارضات الأزياء وحضوره الدائم على صفحات الجرائد والمجلات الشعبية منذ الثمانينيات جاذبة للكثير من الناخبين.

فقبل أن يقتحم السياسة، كان دونالد ترامب شخصية حاضرة في عالم المشاهير، كان فيلم “Ghosts Can’t Do It” هو أول ظهور له على الشاشة عام 1989، ولاحقا أنتج وقدم وشارك في برامج تلفزيون الواقع من عام 2004 إلى عام 2015. كما ظهر في العديد من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية والإعلانات التجارية منذ الثمانينيات جعلته وجها مألوفا ومثيرا للجدل.

ولم يكن ترامب ممثلا ناجحا، فقد حصل على جائزة أسوأ ممثل مساعد في حفل توزيع جوائز “Golden Raspberry” في عام 1990عن فيلم “Ghosts Can’t Do It. وأسوأ ممثل عام 2019 عن أدواره في الأفلام الوثائقية Death of a” Nation” و “Fahrenheit 11/9″، لكنه أثبت أنه سياسي غير تقليدي وغير نمطي، واجه الديمقراطيين في انتخابات 2016 بحملة صاخبة غير تقليدية تتناسب مع شخصيته وأوصلته إلى سدة الرئاسة.

رجل السوابق

ترامب واجه اتهامات وقضايا أكثر من أي رئيس آخر في تاريخ الولايات المتحدة (الفرنسية)
ترامب واجه اتهامات وقضايا أكثر من أي رئيس آخر في تاريخ الولايات المتحدة (الفرنسية)(الفرنسية)

لا يعد دونالد ترامب أول رئيس أميركي يتعرض للمحاكمة المفضية إلى العزل، فهو يحل ثالثا بعد أندرو جونسون، الذي حوكم في عام 1868 لمحاولته عزل وزير الحرب إدوين ستانتون من منصبه، ثم بيل كلينتون عام 1998 بتهمة الكذب تحت القسم في قضية التحرش، لكن ترامب يتفوق على كليهما حيث تعرض للتصويت على العزل مرتين، وهي سابقة في تاريخ الولايات المتحدة.

صنع دونالد ترامب تاريخ السوابق أيضا باعتباره الرئيس الأميركي (السابق) والمرشح الحالي الذي تلقى أكبر عدد من لوائح الاتهام، والرئيس الوحيد الذي اتهم بارتكاب جناية على الإطلاق.، كما أنه الرئيس الوحيد الذي أدين بجنايات.

ويتسابق الإعلام الأميركي في إظهار سجل طويل من الفضائح الممتدة على مدى 7 عقود من حياته الشخصية أو العامة، التي بدأت قبل فترة طويلة من دخوله عالم السياسة، فقد تم اتهامه بارتكاب العديد من المخالفات والجنح والجنايات والاحتيال أكثر من أي رئيس آخر في التاريخ الأميركي.

وكان هو المرشح والرئيس، ثم المرشح ثانية، الذي تم التحقيق معه من قبل أكبر عدد من المدعين العامين والمؤسسات القضائية، وتم رفع دعوى قضائية عليه من قبل العديد من المدعين العامين، بينهم منافسته الديمقراطية على الرئاسة كامالا هاريس.

لم يكن أي رئيس في التاريخ الأميركي أكثر ثراءً من ترامب، وهو أيضا الأكثر تهربا من دفع الضرائب. وتكشف الوثائق الضريبية التي نشرتها صحيفة نيويورك تايمز في عام 2020 أنه دفع 750 دولارا فقط من ضرائب الدخل الفدرالية عام 2016، وهو العام الذي ترشح فيه للرئاسة لأول مرة، ودفع 750 دولارا أخرى في عام 2017، في عامه الأول كرئيس.

وتظهر السجلات التي دققتها الصحيفة وتمتد على مدار 18 عاما أيضا أن ترامب لم يدفع أي ضرائب على الدخل للحكومة الفدرالية خلال 11 عاما. وكان ترامب ومحاسبوه -وفق الصحيفة- “مبدعين في التلاعب بقانون الضرائب، وتحويله لصالحه بطرق مختلفة منها إعلان الإفلاس أو نقل الملكية..”، كما طالب أحيانا بالتعويض عن خسائره.

وتشير الصحيفة إلى سابقة أخرى، حيث رفض ترامب الكشف طوعا عن إقراراته الضريبية، كما لم يقدم أي اعتذار عن التهرب الضريبي، بل كان يعتبر ذلك ميزة إيجابية حين قال عام 2016: “هذا يجعلني ذكيا”.

وتشير البيانات إلى أنه عندما ترشح للرئاسة لأول مرة في عام 2016، كانت هنالك 4095 دعوى قضائية متعلقة به -بعضها رفعها هو- شملت مقاولين ومصرفيين تعاملوا معه وشركاء له وعملاء ومنافسين، كما خاض أيضا معارك قانونية مع ابنة أخيه وابن أخيه (ماري ترامب وشقيقها فريد ترامب الثالث) اللذين اتهماه بالاحتيال عليهما والاستيلاء على جزء من ممتلكات والده فريد ترامب كانت مخصصة لهما.

يكشف شقيقه فريد ترامب في مذكراته التي تحمل عنوان “كل شيء في العائلة.. الأوراق الرابحة وكيف وصلنا إلى هذا الطريق” All in the family: The) trumps and how we got this way”) والذي نشر في يوليو/تموز 2024: أنه “كان على استعداد لابتزاز ابنة أخيه وابن أخيه والتلاعب بمشاعر والده، كل ذلك في محاولة لمنع دائنيه من تحصيل الأموال التي يدين لهم بها قانونيا”.

في قضاياه المختلفة، أُجبر على دفع تعويضات بمئات ملايين الدولارات للذين اتهموه بالاحتيال، وأُدين شخصيا بمسؤوليته عن عمليات احتيال تجارية واسعة النطاق، كما أُدينت شركته العقارية بارتكاب جرائم ضريبية، والاحتيال التجاري عبر تضخيم قيمة أصوله بشكل غير قانوني لتحصيل قروض، وفرضت عليه غرامات تتجاوز 450 مليون دولار.

كان ترامب أيضا أكثر الرؤساء الذين اتهموا بسوء السلوك الجنسي، ورفعت عليه قضايا من قبل أكثر من 25 امرأة، (قبل توليه الرئاسة)، بينهم الكاتبة جين كارول، التي قبلت المحكمة دعواها وغرمت ترامب بمبلغ 5 ملايين دولار، ثم فرضت عليه غرامة أخرى بقيمة 83.3 مليون دولار بتهمة التشهير بها.

خصص الرئيس السابق جزءا كبيرا مع فريقه القانوني في المسائل القضائية، حيث كسب بعض الدعاوى والقضايا، وثبت أن بعضها لا أساس له من الصحة، وكانت واحدة من تلك القضايا التي تحولت إلى “فضائح” كافية لإحباط سياسي آخر، الأمر الذي لم يحدث معه.

“العائد”

(رويترز)
يشبه دونالد “العائد” من الموت السياسي أكثر من مرة بقدرته على تجاوز عشرات القضايا والاتهامات (رويترز)

بكل الصخب غير المسبوق الذي يثيره دونالد ترامب في الحياة السياسية ومقدار الاتهامات والقضايا والسوابق المتعلقة به رئيسا ومرشحا، فهو يشبه “العائد” من الموت السياسي أكثر من مرة، ومن غير المستبعد أن يحدث المفاجأة مجددا.

جمع الرجل من “السلبيات” ما حطم آمال وطموحات كثيرين من عتاة السياسيين قبله في الترشح، وكان الكم الذي أحاط به من “الفضائح” كرجل أعمال ثم مرشح ورئيس كفيلا بأن ينسف حتى فكرة الرئاسة أو الترشح لها، وهي معادلة قلب بها ترامب القواعد التقليدية للسياسة الأميركية.

في سوابق التاريخ انهارت محاولة جو بايدن الرئاسية الأولى (1987) عندما تم كشف أنه قام باقتباس ونسخ أجزاء من خطاب سياسي آخر. وعام 2000 كاد جورج بوش الابن يخسر الرئاسة بعد الكشف عن اعتقاله سابقا (عام 1976) بتهمة القيادة وهو مخمور، وهزمت هيلاري كلينتون عام 2016 في سباق الرئاسة ضد ترامب نفسه -بكل القضايا المرفوعة ضده- بسبب قضية البريد الإلكتروني.

لكن ترامب تجنب كل تلك العواصف وواصل مسيرته، بل حوّل بشكل ما الاتهامات الموجهة إليه لمصلحته من خلال تصوير نفسه على أنه “ضحية متسلسل بدلاً من مخالف للقانون متسلسل”، وفق صحيفة نيويورك تايمز.

ابتكر ترامب “مظلوميته الخاصة”، مسوّقا لفكرة الاضطهاد -من الدولة العميقة كما يتصورها- وأن ما يحيط به من مشاكل مرده أن الجميع يترصده، كما يترصد كل الأميركيين الذين يناضل من أجلهم، حيث يقول: “سأقاتل من أجل الأميركيين حتى آخر نفس التقطه، يريدون أن يسلبوا حريتي لأنني لن أسمح لهم أبداً أن يسلبوا حرية الأميركيين.. إنهم لا يلاحقونني، بل يلاحقون الشعب الأميركي، أنا فقط أقف في طريقهم، لن نفشل، وسنجعل أميركا عظيمة مجدداً”.

ليس ترامب خطيبا مفوها، ولم يعرف عنه أي اقتباس شعري أو روائي، ولم تنقل عنه جملة بلاغية ذات دلالة أو حكمة أو قول مأثور، فهو يستغل قدراته التسويقية في بث صورة الرجل المطارد الذي لا يستسلم، محاولا شطب صورة المجرم المدان كخطاب مهيمن ومنع تآكل صورته بين قاعدة أنصاره على الأقل.

فقد استغل خلال الحملة الانتخابية خطأ بايدن بوصف أنصار ترامب قصدا أو خطأ خلال تجمع ماديسون سكوير بأنهم “قمامة” إلى مادة دعائية، مسوقا لنفسه كعامل شاحنة جمع القمامة بسيط، كما صور حادثة محاولة اغتياله سابقا إلى لحظة نضال، وحول صورة اعتقاله الشهيرة إلى أداة تسويقية، مطبوعة على عشرات آلاف القمصان والملصقات وأكواب القهوة ومبردات المشروبات وحاملات المفاتيح، ومعها شعار “لا تستسلم أبدًا”.

يرد ترامب بنرجسية عالية على التشكيك في قدراته العقلية وادعاءات “الجنون” التي يوصم بها -خاصة في كتاب “خوف” لبوب وودورد- قائلا: “طوال حياتي، كانت أفضل صفاتي الاستقرار العقلي، وباعتباري ذكيا حقا، انتقلت من رجل أعمال ناجح جدا، إلى نجم تلفزيوني، إلى رئيس الولايات المتحدة في أول ترشّح. أعتقد أن ذلك من شأنه أن يؤهلني إلى أن أكون ذكيّا بل وعبقريا.. عبقريا متّزنا جدا”.

لا يُعثر لدونالد ترامب على قرار، فهو يظهر في أوج الحملة الانتخابية للرئاسة راقصا لنحو 40 دقيقة ثم لاحقا بائع ماكدونالدز، وقبلها جريحا برصاص قناص شاب، وماثلا أمام المدعي العام، ومليارديرا أحاطت به فضائح التحرش والفساد، ومتهربا من التجنيد ومن دفع الضرائب، لكنه لا يستسلم أبدا، كما يردد دائما.

في تحليل مضامين الكتب والمقالات والإنتاجات البصرية، يعد ترامب أكثر من وجهت له تهمة ” النازي” و”الفاشي” و”العنصري” و”المحتال” و”المعتوه”، وأكثر من اتهم بـ”ترذيل” الحياة السياسية الأميركية، وأنه من حول الحملات الانتخابية إلى سب وتشهير، وشوه صورة أميركا في العالم، لكنه لا يموت سياسيا، ويبقى ينافس بقوة على كرسي الرئاسة.

نجا ترامب من تصويت على العزل مرتين (فشل مجلس الشيوخ في الوصول إلى أغلبية الثلثين المطلوبة للإدانة) ومن قضايا تخابر مع الروس خلال الحملة الانتخابية ومن سوء استخدام سلطة العفو الرئاسي، والاستيلاء على وثائق سرية، والتحريض على العصيان حين اقتحم حشد من مؤيديه مبنى الكونغرس (الكابيتول) في السادس من يناير/كانون الثاني 2021، احتجاجا على خسارته للانتخابات عام 2020.

عوقب بخسارته منصب الرئاسة، لكن ترامب ينبعث من جديد مرشحا جمهوريا باحثا عن الرئاسة، بعد تجميد جميع القضايا والأحكام، فـ “الحكم الحقيقي سيكون في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني من قبل الشعب”، وفق تعبيره.

الخوف

إمكانية فوز ترامب بالرئاسة مرة ثانية تثير قلقا واسعا في أميركا والعالم (الفرنسية)
إمكانية فوز ترامب بالرئاسة مرة ثانية تثير قلقا واسعا في أميركا والعالم (الفرنسية)

على خلفية القضايا والاتهامات، التي لم تفقد ترامب الأهلية القانونية للترشح للرئاسة وإمكانية العودة لولاية رئاسية ثانية، تحذر وسائل إعلام أميركية وغربية من أن الناخب الأميركي قد يرسل لأول مرة في تاريخ البلاد “مدانا” إلى البيت الأبيض ويعهد إليه بقوة عسكرية هائلة وبالرموز النووية وبموارد وهائلة مرتهنة لتوجهات سياسية لا يمكن التكهن بها.

وتذهب التحذيرات إلى أن العودة لولاية ثانية من شأنها أن تمنح ترامب سلطة واسعة “للانتقام” وتطبيق سياساته بفعالية أكبر مما يشكل “تهديدا خطيرا للمؤسسات الديمقراطية الأميركية والعلاقات الدولية”، حسب صحيفة إيكونوميست البريطانية.

وتشير الصحيفة إلى أن السياسة الخارجية تحت إدارة ثانية لترامب ستثير قلقا واسعا على المستوى العالمي، فنهجه غير المتوقع في السياسة الخارجية يعزز حالة عدم اليقين بين الحلفاء والخصوم.

ولا يكمن الخوف في فوز ترامب والمسار الغامض الذي سيتبعه داخليا وخارجيا، بل في احتمال خسارته للانتخابات، حيث تشي تصريحاته لأنصاره في التجمعات الانتخابية حول ضرورة منحه “نصرا أكبر من أن يتم التلاعب به”، وترديده أن الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يخسر بها هي إذا قام الديمقراطيون بتزوير الانتخابات، باحتمالات إعادة أحداث هجوم الكابيتول في يناير/ كانون الثاني 2021 وبشكل أقسى وأخطر.

وإذا كان الفوز الانتخابات قد يساعد ترامب على الهروب من احتمال السجن، يرى جون بولتون، مستشار الأمن القومي السابق في عهد ترامب، أن “الجميع يجب أن يكونوا مستعدين لأن ترامب لا يخسر أبدا، وإذا خسر، فسيعتبر أن منصب الرئاسة سرق وسيكون الأمر صعبا”، وحذر من أن ترامب قد يعلن الفوز بالانتخابات مبكرا”.

وبذلك يمثل ترامب “الذي يرفض الموت سياسيا” من بين ركام القضايا والادعاءات والاتهامات معضلة في صورة نجاحه أو فشله، وهو ما يغذي مساحة اللايقين في مستقبل التجربة الديمقراطية الأميركية العريقة.

المصدر : الجزيرة



رابط المصدر

أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Exit mobile version