فلسطيني في كشمير.. “الشدائد تجمع الشدثاء”

By العربية الآن



فلسطيني في كشمير.. “الشدائد تجمع الشدثاء”

45671
حيثما تحركت فأنت في حضرة الجمال! جمال الطبيعة التي تلتقي على مقربة منها جبال الهيمالايا والتبت الموصوفة بسقف العالم (الجزيرة)

أنا مدين لوالدتي حفظها الله بالكثير.. في سنوات عمري الأولى كانت بالنسبة لي محرك البحث “غوغل”.

قرأت في طفولتي لشاعر يقول:

وحول كشمير قتلى لا عداد لهم..  في كل ناحية رأس وجثمان

كان المشهد فظيعًا في مكان لم أسمع به من قبل وكانت الإجابة حاضرة.. تلك ساحة حرب بين الهند وباكستان.

أنا وسط غطاء ثلجي محيط بالولاية من أكثر من جهة ممتد على مدار العام على مساحة جغرافية واسعة

اليوم، وبعد نحو نصف قرن أقف في ساحة مطار سريناغار العاصمة الصيفية لولاية كشمير أقلب المواجع ومعها أقلب الموبايل.. لا شبكة اتصال ولا إشارة إنترنت.. أهلًا بك في “جنة الله في الأرض”، ولأنها الجنة فلن تحتاج فيها إلى إنترنت!!

لكن ولأنها في الأرض، فهي محكومة بالمرارات.. إنها ميراث

تَجزئة شبه القارة الهندية قبل نحو مئة عاماً إلى الهند وباكستان، والصراعات التي تَلا ذلك، والثمن الذي دَفَعته تلك الأراضي.

لن أطيل الحديث في النثر، ولا في العَلم، فقد قَرَرت أن أَهَرب لثلاثة أيام منها إلى الطبيعة الجميلة..

اقدرت على ذلك قبل قليل، وأنا أراقب المشهد من نافذة الطائرة.. بدت الولاية جميلة رائعة تظهر جمالها وتتماطل. بها ترتبط القماش الفاخر والجمال الباهر والزعفران الثمين، بشالها الحريري يغني كاظم من كلمات نزار:

“شال الكشمير على كتفيك يرف حديقة ريحان”.

ليس لدي اهتمام بشال كشمير.. فقد قرّرت بتحقيق رغبتي بالبحث عن البرودة، والرغبة في فاصل شتوي في عز الصيف.. شتاء بنكهة البطيخ والمانجو والبابايا والفواكه المجففة.

عادة ما عندما أُختار رحلتي، يكون الأمر المهم هو أن يكون سعر التذكرة في متناول، ولكن هذه المرة قدمت من صيف خليجي لا يُغيب عنه الشمس، وإن غابت ليلاً ستعود.. وفي غيابها تُسلم حرارتها للرياح الليلية كي تستقبلها صباح اليوم التالي..

هنا أنا وسط تغطية ثلجية تحيط بالولاية من كل اتجاه على مدار العام على مساحة جغرافية واسعة..

الدرس الأول على ما يبدو من هذه الأرض؛ هو أنه حيثما تتجول تجد نفسك في وجود الجمال! جمال الطبيعة التي تلتقي على مقربة منها جبال الهيمالايا والتبت المُعروفة بسقف العالم.. عبق التاريخ الذي يرتبط بالمغول في حدائق شاليمار، ومغارات الصوفية المتناثرة في أعالي الجبال.

الطبيعة الساحرة التي ابتسمت لنا قبل قليل من الطائرة بدت باهتة والبنية التحتية للطرقات متآكلة والزي العسكري الأخضر يمتزج بخضرة الأشجار على طول الطريق!

رحلات نهرية على قوارب ملونة تهلل ما هو لذيذ وطيب: شرائح لحم ضأن مختلطة بمرق الوزوان الكشميري المُتعدد الأشكال والنكهات والمزجات.. ولكن الأهم بالنسبة لي أولاً هي الفاكهة التي تصورتها طازجة، ومُجففة في كل زاوية من زوايا المتاجر والعربات.

تلاشت الأسواق الضيقة مع خراب العمارات، وقُبيلت السماء بلا مبالاً، تنشد من أنتم يا من يسكن هذه الأنحاء؟ أنا هنا من الخارج، أتطلب معلومات وأنتم لا تستطيعون العوم الكفيلة بالتقديم!

مفارقة بين زلت القدرة على الفهم وتباهي الشجاعة.. فالرغبة في الإقامة هنا محصورة بالضرورات وليس بالاختيار، على الرغم من مشاهد الجمال الطبيعي التي تغمر المكان.

الكلاب المتجولة تتسلل بين الأزقة تبحث عن بقايا الطهي اليومي، لتكمل بعد غروب الشمس مغامراتها في التجول بلا هدف.. الحيوانات تستأذن من الإنسان، لكن الوصف قد يكون مجرد نموذج..

أتوق بقرب الإنترنت نكون على إتصال، لكن حتى في ظل الفراشات المُتناثرة نبأ الإشارة.. الأمور بدت تغمرني!

يمكنك العودة ضمن تقديم المريض، ولكن عليك اغلاق الورقة التي جرى شرائها.

سأتعامل مع الأمر مجددًا من قبل، رغم الصعوبة. لا يجدر بي ألا أتناول شرائح الجرّي، فهو يحتاج إلى قدر من الشجاعة..

تم كشف آخر الأخبار عندما كان بائع البُطيخ يعانق الثرثرة، حيث تبيّن له فجأة الرمز السري للاتصال، وهو فلسطين.. المقامة خلف لوحات بُطيخ أسبوعية تُزيّن عبارات المحتجين.

عندما أكدت أصلي الفلسطيني، فإن القلوب تنفتح لي وتستقبلني الأعين قبل الأماكن والجيوب..

تحوّلت المحادثات عن كشمير مع الكثيرين الذين قابلتهم هنا لتشمل الوضع الهندي بشكل عام، وأدت الساعات الطويلة التي أمضيناها في السفر بين المدن إلى الحديث عن قضايا وآلام متعددة من فلسطين إلى كشمير والعرب والأوروبيين وسكان شرق آسيا

الاستفسار المتكرر على اللسان حول أحوال الناس هناك، وعن ما يعانونه في ظل ألسنة الحروب!

في إحدى المناسبات، اشتريت تذكرة دخول، وخلال ذلك سألني الموظف عن مكان أصلي، وعندما تبين له أنني من فلسطين، قفز إلى صندوقه، وأرجع لي المبلغ المدفوع عن التذكرة، فلن يسجل التاريخ أن كشميريًا تلقى مبلغًا من فلسطيني كتكلفة للدخول إلى المكان!!

بين الحين والآخر، كانت هناك فرصة للسؤال الذي كنت أعلم أنه سيطاردني بعد العودة.. هل هذه البلاد آمنة؟! في كل مرة، كنت أحصل على إجابات متطابقة..

  • إنها محجوزة بلذة الهدوء دون تدبير هل هو استقرار أم ما يسبق العاصفة؟

تحوّلت المحادثات عن كشمير مع الكثيرين الذين قابلتهم هنا لتشمل الوضع الهندي بشكل عام، وأدت الساعات الطويلة التي أمضيناها في السفر بين المدن إلى الحديث عن قضايا وآلام متعددة من فلسطين إلى كشمير والعرب والأوروبيين وسكان شرق آسيا، وما بينهما من أناس متمرسين..

قبل أن نجوب الحي، بدأت بالتأمل في الجبال المحيطة.. تبيّن لي أنها ليست مجرد تضاريس طبيعية، فتلك السلاسل هي ما منحت هذه الولاية شخصيتها الفريدة على مدى التأريخ، وأضفت لها هويتها الخاصة على مدى القرون التي تُحيّر الغزاة.

فوق الجبال، تتداخل الخرافات مع رحلات الحج الديني، حيث تنظر أعين معابدها إلى المدينة بين الحين والآخر لتحميها من الغزاة.. على سفوحها، تمتزج دموع الصوفية جنبًا إلى جنب مع ذوبان الثلوج الجليدية التي تسقي الملايين في الهند وباكستان..

ترغب الهند في استيطان كشمير بدون أهل كشمير، يُقول السائح الذي صاحبنا في الرحلة.. تتشابه تجربتها بشكل كبير مع فلسطين حيث الاحتلال والسيطرة والمقاومة، ودول تدعم كل متحارب، وعالم إسلامي يُدّعي التأييد لحق تقرير المصير للشعوب، لكنه يتخذ مواقف مُخيبة داخل الواقع..

من يروي قصص هذه الصخور؟ أو من يُصغي لها؟ وما تخفيه الطبيعة البديعة وراءها من أسرار؟ أسئلة تتبدد في ذهني، وتُقاطع هدوء الحافلة التي نُقلنا فيها إلى مدينة جبلية تُعرف ببهالجام في يومنا الأول.

قضينا عدة ساعات على متن الحافلة.. توقفنا لدى دوريات الشرطة التي زعمت أن الطريق مخصص اليوم لرحلة حجّ الهندوس، وأن الأوضاع الأمنية لا تسمح بالاستمرار.. سلكنا طرقًا بديلة طويلة وصعبة، أستغرقت معظم نهارنا وكانت تُشغل الخيول الكثير.. حين بدأنا الركوب، بدى كما لو أننا اتخذنا الخيار الخاطئ، فبدأنا بطريق مستوٍ وانتقلنا إلى جبال شاهقة مليئة بالمخاطر والمغامرات..

بعد ساعة تقريبًا من المسير، وصلنا إلى قرية يُعرف عليها بـ “سويسرا الصغيرة”، وتحولت الصعوبات في الرحلة إلى وادٍ خصب يغمر نظريك لساعات، حيث تلتقي السماء بالأرض، ممتدة بجبال ثلجية في الأفق البعيد.

تُرغب الهند في استيطان كشمير بدون أهل كشمير، يُقول السائح الذي صاحبنا في الرحلة.. تتشابه تجربتها بشكل كبير مع فلسطين حيث الاحتلال والسيطرة والمقاومة، ودول تدعم كل متحارب، وعالم إسلامي يُدّعي التأييد لحق تقرير المصير للشعوب، لكنه يتخذ مواقف مُخيبة داخل الواقع..

في العام الماضي، نُظمت الهند قمة العشرين على ضفاف بحيرة دال وشيّدت الطرقات.. وكانت أعمدة النور تحمل أعلام الهند لتعلن للعالم أن لديها آلاف الأدلة على ملكيتها لتلك الأرض..

بلغة المتصوف المؤمن بقضيته، أجاب صاحبي الكشميري: لو لم تكن لديها آلاف الشكوك، لما كانت في حاجة إلى إقامة ألف دليل!!

تحكي عيون الأقوام قصة حزن طويل مثل هندسة جغرافيتها المتنوعة.. الثلج على ذروتها، وتحت قدميها تُشتعل البراكين.

كل جزء هنا يذكرك بأن هناك شعوبًا تُستحق الحياة وتُحبها، إن وجدت لهم طريقًا إليها..

تشير العادات والتقاليد الغنية والجماليات والثراء.. تُحكي لك محلات المجوهرات والذهب عن أناقة العرائس وتجهيزاتها المُترفة، وتخبرك المطاعم عن موائد غنية متنوعة تغطيها وجبات اللحوم والأطباق..

المساكن التي تزين الجبال والفنادق الفخمة في قلب بحيرة دال تنقِل لك قصص عن هشاشة الألوان والحداثة، وقبل كل ذلك، تعرض لك مساجدها نمطًا معماريًا فريدًا من الخارج، وتجهيزات وديكورات فاخرة من الداخل..

ولكن تحكي عيون الأقوام قصة حزن طويل مثل هندسة جغرافيتها المتنوعة.. الثلج على ذروتها، وتحت قدميها تُشتعل البراكين.

آراء المقال ليست بالضرورة تعبيرًا عن موقف شبكة الجزيرة التحريري.



أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Exit mobile version