ذكر الإمام البخاري (ت 256هـ/870م) -في كتابه الصحيح- حادثة "تعتيق القمر على وقت وفاة إبراهيم بن رسول الله ﷺ، فقال الناس: تعتيق القمر لموت إبراهيم، فرد رسول الله ﷺ: القمر والشمس لا يتعتقان لموت أحد أو حياته، فإذا شاهدتمون ذلك فصلوا وادعوا الله".
هذا الحديث النبوي يبرز حقيقة مترسخة في عقول المسلمين، ألا وهي أن الطبيعة مستقلة من تأثيرات البشر والحوادث، وأنها تتبع قوانين دقيقة وجارية وفق تدبير حكيم؛ كما أشار القرآن الكريم.
ومن خلال هذا النهج الوجداني للأحداث الطبيعية، يؤكد الحديث النبوي على أهمية التفاعل الروحي مع تلك الأحداث والتوجه نحو الله عندما يواجه الإنسان تحولات الطبيعة، ينبغي عليه التصرف بما يوجهه النبي ﷺ: "فإذا شاهدتمون ذلك فصلوا وادعوا الله"، لطلب النجاة وتطهير النفوس والتسليم لقدر الله، لكي تكون النفس قادرة على تحمل التحديات بفهم عميق لسُنن الكون وتجاوز الصعوبات بالبحث والاستكشاف ودراسة الكائنات الطبيعية.
وهكذا تعاملت الأمة الإسلامية مع الظواهر الطبيعية باتباع مقاربة تجمع بين الإيمان والبحث التجريبي، دون أن تنزعج العقلانية والوجدانية، بين التأمل في رحمة الله تعالى وبين الاهتمام بفهم قوانين الكون.
استقرأ المسلمون -عبر تاريخهم- أسرار الطبيعة وسُنن الكون، وبحثوا في ألسنة الله في السموات والأرض، ودرسوا آثار الأزمنة والأمكنة، عبر منهجيات شبيهة بتلك المستخدمة في العلوم الحديثة.
فيما يتعلق بالزلازل على وجه الخصوص؛ نجد -كما جاء في هذا المقال- تفسيرات شرعية تجمع بين المنطق والإيمان، وتحرص على الابتعاد عن الخرافات لفهم هذه الظواهر.
رصد علماء الفقه واللاهوت هذه الظواهر بمنهجية علمية، تجمع بين المنطق والتدين، وتحاول توضيح دور تلك الكوارث في ابتلاء بني الإنسان.
يُظهر تاريخ الحضارات تباين واضح في الرؤى حيال هذه الظواهر، بين من يرى فيها عظمة الخالق ومن يحاول فصل الدين عن التفسير العلمي.
المقالة تستعرض تجارب حضارات مختلفة في التعامل مع الزلازل كنوع من الابتلاءات، وتعكس تجارب الإسلام وشعوبه في مواجهة هذه الكوارث والتعامل معها بنهج توازن بين العقل والدين.تاريخ الكوارث البيئية متجسد في الهزات الأرضية؟ وكيف تصدى العلماء والمؤرخون لها بتوثيق وتدوين دقيق؟ وما كان تأثيرها على مجتمعاتهم بشكل إنساني وعمراني؟ وكيف تعاملوا مع تبعاتها وأعادوا الإعمار؟
هذه هي التساؤلات التي تسعى هذه المقالة لمعالجة ملامح إجاباتها من خلال تحليل تاريخي يستوعب الزمان والمكان لهذه الظاهرة الطبيعية ذات تأثيرات عميقة في تاريخ البشرية.
بين رؤيتين
"في الساعة التاسعة وأربعين دقيقة من صباح أول نوفمبر/تشرين الثاني 1755 يوم عيد كل القديسين؛ هزت الأرض كتفيها في البرتغال وشمال أفريقيا. وفي ست دقائق تهدمت ثلاثون كنيسة وألف منزل، ومات خمسة عشر ألف رجل، وأصيب مثلهم بإصابات خطيرة، في واحدة من أجمل العواصم في العالم...، لم يكن هناك شيء جديد لم يسبق له مثيل في هذه المأساة الرهيبة التي حدثت فيها الموت بكثافة، ولكن كانت هناك أسباب وظروف محيطة أحيرت رجال اللاهوت [المسيحيين]، وأثارت قلقهم: لماذا اختار هذا اللغز المربك مثل هذه المدينة الكاثوليكية، الاحتفال المقدس، في هذه الساعة التي اجتمع فيها الجميع الأتقياء تقريبا لحضور القداس...؟".
بهذه العبارات السابقة، نقل المؤرخ وِلْ ديورانت -في كتابه 'قصة الحضارة'- تفاصيل هذا الزلزال التاريخي، وأثاره العميق الذي كان ردود فعله الروحية والفكرية تتساوى بقوته الاهتزازية الفيزيائية، وصداها كان عميقا بحيث لامس جوهر الحضارة الغربية.
لم تعد التفاسير التي كان يقدمها رجال الدين المسيحيين عادية لمثل هذه الكوارث تستقبل بنفس القبول كما في السابق، بل جلبت تفسيراتها الساذجة ردود غاضبة من بعض الفلاسفة والمفكرين يشككون في أفكار الكنيسة بخصوص أسباب الشر، ومبادئها في العدل الإلهي، وتبريراتها لحوادث الكوارث الإنسانية والطبيعية.
ووفقا لديورانت؛ "تعصب فولتير (الأديب والفيلسوف الفرنسي المتوفى 1192هـ/1778م) من هذه التفاسير، بالمقابل لم يجد حلا يوافق بين الحدث وإيمانه بإله عادل"، وحاول رفيقه ومعاصره الفيلسوف جان جاك روسو (ت 1192هـ/1778م) مساعدته في هذا الجهد، حيث "ارسل روسو رسالة طويلة واضحة إلى فولتير يبين فيها أن كل معاناة البشرية من عيوب وشرور ليست إلا نتيجة لأخطاء البشر، وأن زلزال لشبونة هو عقوبة عادلة للبشر لتخليهم عن الحياة الطبيعية والإقامة في المدن"!!
وهكذا بدأت حالة من الجدل حول الطبيعة والدين في الثقافة الغربية، واستمرت تداعيات هذا الزلزال في هز العقل والقلب، وانقسمت الردود حوله بين من يسعى لتشويه المعتقدات وزرع الشكوك في مسائلها، ومن يحذر من ضرورة فصل الدين عن تفسير الظواهر الكونية، وامتد هذا الصخب إلى مجالات الأدب والفنون العالمية.
واللافت أن هذا الجدل أصبح يعتبر تقليدا ثابتا في الثقافة الغربية بعد كل حدث طبيعي يترك تأثيره السلبي الهائل على حياة الناس، والأعجب أن هذا النقاش الجدلي أصبح شائعا اليوم في المنطقة العربية والإسلامية عقب أي حادث طبيعي قاسي أو مأساوي؛ حيث تستدعى ردود الأفعال النقدية والنظريات المختلفة حول أسباب الشر وعلاقته بالأقدار والحكمة الإلهية، في مواجهة جدلية حادة.
ويلاحظ أن هذا النقاش لم يعهده المجتمع الإسلامي عبر تاريخه في مثل هذه الظروف الحزينة؛ حيث لم تؤد الزلازل أو الفيضانات أو الأوبئة إلى انقلابات روحية مجتمعية أو صراعات فكرية دينية، بل استمر انشغال علماء الدين بمسائل الخير والشر والجمال والإحسان وأفعال العبادة ومواضيع عقدية أخرى معروفة. وببساطة؛ فالثقافة الإسلامية لم تتأثر بـ "لاهوت الكوارث" كما وصفها ديورانت بـ "لاهوت الزلازل"!
ويرجع سبب ذلك إلى الطبيعة المتكاملة للعقل المسلم، والتوازن الروحي الذي تعتمده بين العقل والقلب، والفهم؛ فقد روى الإمام البخاري (ت 256هـ/870م) -في صحيحه- أن "الشمس كسفت على عهد رسول الله ﷺ يوم مات إبراهيم، فقال الناس: حدث الكسوف بسبب موت إبراهيم، فقال رسول الله ﷺ: إن الشمس والقمر لا يكسفان بسبب موت أحد ولا لحياته،عِندَما تشاهدون [هذا] اصلُّوا واسْتدعوا الله".
هذا حديث يؤكد على حقيقة ثبتت في عقول المسلمين طويلاً، وهي أن الطبيعة خالية من التأثير البشري، وأنها مستقلة في وجودها وحركتها، وأنها تسير بمجرى محكم وفق سُنَن جارية من قبل حكيم خبير؛ كما ورد في القرآن الكريم.
وبهذه النظرة السُنَنية للأحداث الطبيعية؛ يُؤكد الحديث النبوي على أهمية التعاطف النفسي معها والاحتكاك بالله تعالى عندما يجد الإنسان نفسه مواجهاً لتلك السُنَن وتقلباتها، فيجب عليه أن يتصرف تجاهها وفق ما شرع به النبي ﷺ: "عند رؤيتكم [هذا] فادعوا وصلوا"، بهدف زوال الهموم وتنبيه المشاعر الإيجابية والاستسلام في النفوس، لتمنحها القوة لتحمل الصدمات وتجاوز تلك الصعوبات الكونية، وفي الوقت نفسه تحفيزها على البحث العلمي ودراسة الطبيعة لتجاوب بتحدياتها القاسية.
كما وردت الأحاديث النبوية بالحذر من انتقاد الطبيعة بالانتقام والتحسُّر والشتم عند وقوع المصيبة؛ فقد قال رسول الله ﷺ: "لا تلعنوا الريح، إذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من نعمة هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما هي له، ونعوذ بك من شر هذه الريح، وشر ما فيها، وشر ما هي له"؛ (رواه الترمذي).
منهج توفيقي
بناءً على تلك المنهجية النبوية، اتبعت الأمة في التعامل مع تلك الظواهر الطبيعية بمنهج يجمع بين الإيمان بالله والبرهان العملي، دون أن يحدث ذلك أي تناقض بين العقل والمشاعر، أو تضارب بين توجيه الأفكار نحو رحمة الله من خلال الثقة الإلهية التي يُنبغي أن تترجم في الخشوع والتوبة والتأمل الذاتي والجماعي، وبين اعتبارها فرصة لاستكشاف قوانين السُنَن الطبيعية لتفسير الظواهر الطبيعية.
وهكذا تعلم المسلمون -على مرِّ العصور- حقيقة الطبيعة والسُنَن الكونية، فتأملوا السماء والنجوم وطبقات الأرض والجبال والمعادن، ودرسوا تأثيرات الزمان والمكان، وبدأوا يبحثون عن التفسيرات العلمية لذلك بمناهج تقترب من تلك التي يعرفها العلماء الطبيعيون المعاصرون.
وبالنسبة لظاهرة الزلازل بشكل خاص؛ نجد -كما نُلاحظ في هذه المقالة المفصلة- مقاربات من هذا المنهج المتوازن موجودة في كتب التراث، تجمع بين الروحانية والمنطقية، وتقابل بين المنظورين: الإيماني والدليلي.
على سبيل المثال، ربط المؤرخ المشهور بن طاهر المقدسي (ت نحو 355هـ/966م) -في كتابه 'البدء والتاريخ'- بين حرارة أعماق الأرض وتبخر المطر وانشقاق الأرض لتخفيف الحرارة المتراكمة بداخلها "حيث إذا انشقت أخرج البخار مخرجاً، وقد يميل الأرض ليصبح أعلاها أدناها، وقد يفتح عيون وينابيع فيغمر كثيرٌ من الأرض".
والذين اعتمدوا تلك المقاربات والتوازنات العلمية كانوا فقهاء ومتكلمين مهتمين بشرح الدروس الدينية والعقلية؛ ففي كتاب 'مقالات الإسلاميين‘ لأبي الحسن الأشعري (ت 324هـ/936م)، نجده ينقل أفكار بعض علماء الكلام المسلمين التي تفسر الزلازل كنتاج لحركة في مراكز جذب الأرض "المتنوعة التي تتصارع مع بعضها، فإذا فقدت إحداها تخطت الأخرى فتحدث الزلزال"، وكل هذه التفسيرات قريبة من تلك التي يعرفها العلماء الطبيعيون المعاصرون.
كما تزاوج العلماء المسلمون بين العقل والتقوى في دراسة الحوادث الطبيعية؛ إذ اعتبر الفيلسوف والطبيب ابن سينا (ت 428هـ/1038م) -في كتابه 'الشفاء‘- أن الزلازل تأتي بنوعين: نافع وضار، فمن "فوائد الزلازل فتح العيون، وإيقاظ قلوب العامة بخوف الله تعالى" كون ذلك جزءاً من تحدياته لخلقه.
ومن هنا لم يجد الإمام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) تعارضاً في مزج القضايا الدينية لحوادث الزلازل -التي سماها "حكمة" إلهية لحدوثها- والتفسير العلمي لظاهرتها الطبيعية الذي يعزوها لـ "أسباب" مادية لحدوثها؛ مستعيناً بتوافق بين الجانبين في هدم الخرافات الشعبية التي تحيط غالباً بهذه الظاهرة والتي تجد طريقها بالأسف لبعض المؤلفات في مختلف الثقافات.
يقول ابن تيمية -في 'مجموع الفتاوى‘- شارحاً منهجه التوفيقي هذا:"الزلازل من بين الرموز التي يُرهب الله بها عباده، تأليبهم بالكسوف وأحداث أُخرى، فلحوادثها أسباب وحِكَم. ويعدّ وقوعها علامة على حكمته العظيمة. ومن بين الأسباب: الانضغاط البخاري في باطن الأرض، مثل انضغاط الريح والماء في المكان الضيق، فعندما ينضغط يبحث عن مَخرج فيشق وتهتز ما بالقرب منه في الأرض. وبالرغم من قول بعض الأفراد: إن الثور يحرك رأسه فيُهز الأرض، فإن ذلك لا أساس له وهو باطل، لو كانت الأمور كذلك، لكانت الأرض تحت زلزال مستمر ولكن ليس الواقع كذلك".
أما ابن القيم (ت 751هـ/1350م)، فقد استمر في مسيرة التوفيق المُعقَّد لشيخه، ما ساهم في ترسيخ الرؤية العلمية في العقل التجريبي الإسلامي بالميل نحو تفسير حدوث الزلازل بسبب ارتفاع درجة حرارة باطن الأرض. وذكر في كتابه 'مفتاح دار السعادة' أن الزلزال ينجم عن تراكم التجاويف الأرضية بالبخارات، وقد أذن الله سبحانه لها في بعض الأحيان بالتنفس مسببة الزلازل الهائلة، مما يثير في عباده الخوف والتّوبة والابتعاد عن المعاصي والانقياد لله والندم".
وبالمقارنة بواقعنا الحالي، نجد أن هذا النهج التوفيقي يُغفل تمامًا عن راصدي هذه الكوارث الطبيعية العظيمة، حيث يتركز الاهتمام على المناقشات الفلسفية العميقة بين الفلاسفة والمفكرين، متجاهلاً أحوال الأفراد في مناطق الكوارث البيئية وضحايا الزلازل. وهل سيفتح ذلك لهم أبوابًا للإيمان والاتصال بالله، طلبًا للرحمة والنجاة، أم سيثير النقاش والشكوك الدينية؟ وما موقف الناس الذين يخضعون للاختبار؟
وفي دراسة نُشرت في عام 2019 في الدورية الاقتصادية (The Economic Journal)، وجدت جينت بينتزن من جامعة كوبنهاغن أن الكوارث الطبيعية غير المتوقعة، مثل الزلازل والبراكين والتسونامي، تُزيد من مستوى التدين بين سكان المناطق المتضررة ومحيطها. واعتمدت على بيانات استطلاعية حول نماذج التدين في 96 دولة على مدى السنوات من 1981 إلى 2009.
وأكدت أن الناس حول العالم يزدادون تدينًا بعد الكوارث الطبيعية، وأن هذا التأثير يمتد من المناطق المتضررة إلى مناطق أوسع، ويستمر لسنوات تصل إلى 12 سنة، ويمكن أن يمتد عبر الأجيال القادمة."
توظيف مزدوج
في العصور الوثنية السابقة، رأى الإنسان في الكون شيئًا مروّعًا ومخيفًا، ونظر إليه ببساطة عقلية ونفسية، وتصوّره بصورة أعظم، فظنّ أن الطبيعة تُحب وتكره وتنتقم، وأن الحل الوحيد لتفادي عواصفها العاطفية العنيفة هو عبادتها وتقديم القرابين لإرضائها وصرف غضبها.
بالرغم من تطور التفكير اليوناني، فإن الوراثة الوثنية المسيطرة لم ترتبط بالعقل والمنطقية التي امتاز بها عصرهم، بل ظلت رؤية اليونان للزلزال متأصلة في فلسفتهم الدينية المعتمدة على وظائف آلهتهم الأسطورية المتعددة، فكانت الزلازل في إعتقادهم بداية من قرار إلهي يحميه. وهذا الانفصال بين الدين والعلم -في تجربة اليونان- كان ملازمًا لليهودية والمسيحية في عهد الرومان، وامتد إلى العصور الوسطى، التي شهدت تدهور الكنيسة وانحدارها من الانفتاح على العلم إلى الصراع معه، مما أدى إلى رد الفعل العنيف من العلماء والمفكرين، وقد تجلى ذلك بشكل واضح بعد زلزال لشبونة الذي يُذكر سابقًا، حيث بادر المفكرون بإسقاط العديد من المفاهيم الدينية ليكونوا الإطار المفسِّر لرؤيتهم لظاهرة الزلازل.
أما خبرة الإسلام في موضوع الزلازل، فإن الحديث عنها كان دائمًا مُرتبطًا بخصوصية تنطوي على الخطاب القرآني والنبوي عمومًا، حيث يتكرر داخل نصوصها تذكير البشرية بقرب الساعة واقتراب الرحيل الجماعي نحو العالم الآخر، فكانت الزلازل تكون بمثابة تحذير من الله لعباده ودعوة لهم للتوبة"والاستجابة له.
في كتاب 'البخاري المصدق' تذكر أن الرسول ﷺ قال: "ما الساعة حتى يغيب العَلْمُ، ويتزايد في الهزات الأرضية، ويقترب الزمن، وتظهر الفتن، ويكثر القتال". وهذا أمر متوقع؛ حيث تؤثر التغيرات في البيئة على حياة الناس وسلوكياتهم ورؤاهم للحياة، وقد تكون محفزا للتوبة والإصلاح لبعضهم، ولكنها أيضا قد تخلق ظروفا صالحة لانتشار الفوضى والاضطراب.
يلاحظ في التراث الإسلامي أن علماء اللاهوت يناقشون في كتبهم بعض الظواهر الطبيعية؛ حيث يسعون لإقامة توازنات بين المعتقدات الدينية والنظريات العلمية.
وهكذا، كان لتفسيرات الظواهر الطبيعية مثل الزلازل مكانة متقدمة في كتب الفقه الإسلامي وكتب الفلاسفة. فعلى سبيل المثال، يُذكر الإمام الأشعري في كتابه 'مقالات الفلاسفة' أن الفيلسوف الشيعي هشام بن الحَكَم الكوفي كان يعتقد أن الله خلق الأرض من قوى متنافسة يتحكم فيها، وإذا ضعفت إحدى تلك القوى فإن الأخرى تسود، مما يؤدي إلى الزلزال والانهيار، وهذا ما يُعرف اليوم بالانهيارات الأرضية بسبب الجاذبية.
وكما أن ذكر الزلازل يأتي في سياق ما يمكن تسميته "خطاب الاستعتاب"، حيث يُطلب من الناس استعادة رضا الله وتحويل غضبه. ويشير الإمام ابن القيم في كتابه 'بدائع الفوائد'.
وهذا الخطاب يستخدم تلك الأحداث الكونية والابتلاءات لتشجيع الناس على التوبة والاصلاح. فقد قال الرسول ﷺ: "إذا رأيت الخلافة وصلت أرض المقدس؛ فاعلم أن الزلازل والاضطرابات قد اقتربت، والساعة قريبة".
واعتبر بعض الصحابة ذلك فرصة للمجتمعات لإعادة النظر في سلوكياتها والعودة إلى الطريق الصحيح. فعندما حدثت زلزال في المدينة، خطب الخليفة عمر بن الخطاب الناس وحثهم على التوبة.
وأما في كتاب 'تفسير الطبري'، يقال: "إن الكوفة تعرضت للزلزال في عهد ابن مسعود، فقام وقال للناس: أعانكم الله، فاسترضوه".
وبجانب التوبة، فإن بعض القادة الإسلاميين اعتبروا هذه الفوضى فرصة لدعوة الناس إلى التضامن والتكافل من خلال الصدقات. على سبيل المثال، عندما حدث زلزال في الشام، أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز الناس بالتصدق.
وقد رأى بعض العلماء أن الصلاة جماعة عند الزلزال مبررة مماثلة للصلاة عند الكسوف والخسوف. ولكن الرأي السائد بين الفقهاء يقول إن الصلاة الجماعية ليست مشروعة في الظواهر الطبيعية مثل الزلازل، وذلك وفقا لابن حجر العسقلاني.
مبررات برهانية
بالرغم من الجهل والتدخل الإصلاحي لهذه الأحداث الطبيعية في حثّ الناس على إعادة التفكير في معتقداتهم؛ فإن المؤرخين والفلاسفة الإسلاميين لم يتجاهلوا تجارب الأمم السابقة فيما يتعلق بالظواهر الطبيعية كالزلازل بل استفادوا منها وبرواها وحفظوا تجاربها لتعليم الأجيال القادمة؛ محافظين على تراث العلوم والمعرفة.الأغراض، بالنسبة لتستخرواً انتصبت روحانياتها طرق الثقافات.
ان يهب أمراً الروحانيات نقلها الأرض لذلك زلزلة، وإذا كانت الأرض تكتفيها، وخرجوا غرقوا كثيراً من الأرض".
ورأى يعقوبي فبالمجيدة بأمر الزلازل تقرباً إلى مواقف مماثلة من الزلازل وكلامها بقوله: "أن الأرض يابسة جذعاً في جوو، بخرها كثيرو ولد".
فإذا يولد صواب مهما صادف.
فيمكن أن يجعل ارادة يدي بتحريك الروحانيات؛ علينا قرئيقيها حدوث الزلازل: "والدينية فيقولون إنها من إيفقد فهم، وتعليم بوجدان الفحة العقول، حدوث الأرض فحدث الذات نفسه".
لا يعقوبي تجريم النصب التفسيري حكماً كلامه: "كله من آثر نفسه".
وسع يرص الشهرستاني الشهري فكرتنتم بابو فتح الفروق التاريخي أمرضت المعتقد فكلامه: "طبائع"، الدروب الطبائع.
للودا والمختلف الفوضى والقديم في الزلازل، قادران على تصرف طبائع"، وحسب شهروانيالقوى "الروحانيات"المتعلقة بالتصرف الأرض.
حالة أرجى بتحقيقها وظروف.
من حيث الاقدام من الروحانيات قدرةً الأرض جذعاً بخرها ولد.
وتائبها، ومكثراً من زماناً.
وإذا زودتها رطبها وبخارها ومن يولد حتى جمعت اجزائها وصارت مواء كون راجعة بكثير فربما".
فبعدت هب وجباه البخارات."الإيثارات" والغيوم تظهر وتختفي بحكمها، وبالمثل تحدث الهزات الأرضية في الجبال بسبب سببها. وعلى الرغم من أن كل ذلك يعتمد على أسباب سطحية (= طبيعية)، إلا أنه في النهاية يعتمد في الآخرة على أسباب من جهتها (= الإيثارات)".
إدماج متعدد
لم يكن حتى القرن الثامن الهجري / الـ14م حتى رأينا العلماء المسلمين يضعون ظاهرة الهزات الأرضية ضمن إطار البحث العلمي التجريبي، باعتبارها جزءا من المعارف "الطبيعية" التي تتبع لقوانين يمكن دراستها من خلال مبدأ المراقبة والتجربة.
هنا عالم التاريخ ابن خلدون (ت 808هـ / 1406م) يعرّف "الطبيعية" - في كتابه 'المقدمة' - كـ "العلم الذي يفحص الكائن من ناحية حركته وثباته، يدرس الكائنات السماوية والموادية والتي تنتج عنها الحيوانات والبشر والنباتات والمعادن، والتكوينات التي تحدث في الأرض من الينابيع والهزات الأرضية، وفي الجو من السحب والبخار والرعد والبرق والصواعق وأمور أخرى".
ومن اللافت أن الأفكار والآراء التي كانت تتشكل حول الهزات الأرضية كانت معقدة، تحمل معاني تفسير علمي ونواحي تربوية وروحية، بالإضافة إلى استشهادها بـ "المنافع" التي تنبعث من تلك الكوارث، وهذا يعني أنه بفضل التقدم في المعرفة والدراسة يمكن تقليل المخاطر التي يمكن أن تواجه الإنسان بسبب الهزات الأرضية والمخاطر البيئية، وزيادة الفوائد الناتجة عن وقوعها.
ويكفي هنا - إلى جانب ما تم ذكره سابقًا عن العالم المُفسر - الدلالة على ما ورد في كتاب 'الشفاء' للفيلسوف ابن سينا - حول أسباب الهزات الأرضية وأنواعها، إذ تُقسم إلى نوعين: مفيدة وضارة، حيث يقول بأن "من الفوائد التي نتجت عن الهزات الأرضية فتح المسامات الأرضية للينابيع، وإثارة رعب الله في قلوب الفسقة"؛ أما الضار منها فتتمثل في الدمار والقتل والتشريد.
واستمر المسلمون في استجلاء الفوائد التي تنبعث من تلك الكوارث الحزينة؛ فهنا أبو عبد الله بن أبي طالب الأنصاري الدمشقي المعروف بـ "شيخ الربوة" (ت 727هـ / 1327م) يستدِل - في كتابه 'نخبة الدهر في عجائب البر والبحر' - بتأملاته الشخصية لرصد ظاهرة الهزات الأرضية.
كان هذا الجغرافي - الذي اعتمد على دراسة تكوين المواد والمعادن وتكون الجبال والهضاب والرمال - يرى أن هناك علاقة بين الرياح القوية والهزات الأرضية، ويقول في ذلك: "قد يحدث أن تكون الرياح العاتية قد انتزعت بعضًا من تربة الأرض بحيث تكون هناك هذا الطمي ليكون كأنه مخلوقًا فقط من تلك الأرض، وكأنه لم يكن هناك شجر زيتون كثير مزروعًا على الجبل قط!!!
وفي تلك السنة نفسها، نقلت الرياح ديرًا يدعى دير سمعان قريبًا من تلك الأرض بحجارته ورهبانه، وما كان في الدير من شعيرهم وخزينتهم وبقرهم وحيواناتهم وعددهم، كأنهم لم يكونوا هناك، ولم يُعرف عنهم شيء، ولم يكن لهم أثر، وتم تسجيل ذلك بمحضر قضائي، وتم تقديمه إلى السلطان محمد بن قلاوون (الناصر الذي توفي في 741هـ / 1340م)".
وهناك بعض المؤرخين الذين درسوا قيمة دراسة آثار الهزات الأرضية وما تحمله من فوائد بالاستفادة من المراقبة والتجارب العلمية التي قد توفر فرصًا فريدة لتصحيح بعض الافتراضات الخاطئة في تاريخ العلوم. ومن بين أمثلة هؤلاء الباحثين الكبيرين الذين خدما في البلاط الأيوبي بالقاهرة موفق الدين عبد اللطيف البغدادي (ت 629هـ / 1232م) الذي يؤكد على قيمة المراقبة والثقة الناشئة عنها في عنوان كتابه الشيق: 'الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر'.
يروي - في كتابه هذا - عن الزلزال التاريخي الذي وقع يوم الاثنين 26 شعبان 598هـ / 1202م وهزّ مصر والشام وأجزاء من تركيا الحديثة، وأشار إلى أن "نتائج الزلزال في بلاد الإفرنج كانت أكثر من تلك في بلاد الإسلام بكثير"!! حيث كانت "بلاد الإفرنج" تشير إلى المستوطنات التي كانت تحت سيطرة الصليبيين على سواحل الشام.
يكشف البغدادي عن كيفية توظيفه لنتائج الزلزال في التشريح الطبي المرتبط بتخصصه؛ حيث يقول: "من العجائب التي شاهدناها أنه وجدوا في بلدة مَقْس (= اليوم منطقة ميدان رمسيس بالقاهرة) تل رملي بعدد من آثار قديمة، واكتشفنا أن الطبقات كانت قريبة من العهد وأبعد منه [من الحياة].
رؤينا كيفية الاتصال والتنسيق بين العظام والمفاصل والتركيبات ساعدتنا بالمعرفة التي لم نكن نستطيع الحصول عليها من الكتب فقط، بل وفقًابقد يأتي مواقف حياتنا التي سكتنا عنها أو عجزت كلماتنا عن التعبير عنها، أو يكون ما شاهدناه غير مطابق لما نشاهده. وبالتأكيد، يعتبر الحس الشعورية دليلاً أقوى من السمع؛ إذا كان الطبيب جالينوس، على الرغم من دقة دراسته وتحفظه في كلامه، فإن الحس المحسوس هو المصدر الأكثر صدقاً.
دراسة الزلازل
لقد أبدى المؤرخون المسلمون اهتماما كبيرا بتوثيق تاريخ النكبات والأزمات، حيث وصفهم المؤرخ المسعودي (ت 346هـ/957م) -في كتابه 'التنبيه والإشراف'- بـ"الحوادث العظام والكوائن الجسام"، حيث قدموا سجلاً دقيقًا لكل كارثة - خصوصًا الزلازل - يروون فيها الزمان والمكان بدقة تامة، بالإضافة إلى تقدير الخسائر المادية والتأثيرات العقلية، وتأثيراتها الاجتماعية والسياسية. وأبزر ما يلفت النظر هو الدراسات التاريخية المقارنة التي نتجت عن ذلك.
وقد عبّر المسلمون عن اهتمامهم بدراسة الزلازل وقاموا بمقارنة أنماطها في مناطق مختلفة، كما قارنوا بين التجارب الشخصية والتاريخية؛ فكتب المسعودي عن زلزال شهدوه في مصر عام 344 هـ/955 م، وقارنه بزلازل أخرى شهدوا آثارها أو قرأوا عنها. في وصفه لسقوط منارة ساحل الإسكندرية: "تضررت في شهر رمضان سنة 344، حيث انهار نحو ثلاثين ذراعًا (= 15 م تقريبًا) من أعلى المنارة بفعل الزلزال الذي ضرب مصر والشام والمغرب في ساعة واحدة، كما ذكرت الروايات المعتمدة حين كنا في فسطاط مصر، وكانت كارثة هائلة جدًا. دامت حوالي نصف ساعة".
وحدد بدقة التاريخ الزلازل استنادًا إلى التقاويم المعتمدة في ذلك الزمان؛ فقال: "حدث ذلك في النصف الثاني من يوم السبت الثامن عشر من هذا الشهر (= رمضان)، وهو اليوم الخامس من يناير من شهور السريانيين، واليوم التاسع من ديماه من شهور الفرس، وكذلك التاسع من طوبة من شهور القبط".
كما قام بتحديد مواقع الزلازل ومراكزها الانفجارية، وتأثيراتها على التضاريس؛ فقال: "دخلنا إلى أماكن معروفة بكثرة الزلازل وعظمتها، مثل سيراف (= بوشهر الإيرانية حالياً) وصيمرة (= درة شهر بإلام غربي إيران) ... وأنطاكية (= هتاي بتركيا) من جند قنسرين (= بالقرب من حلب بسوريا)، والعواصم في بلاد الشام، وقومس (= سمنان شمالي إيران). وأظهر التغيرات الهائلة في تلك المناطق إثر الزلازل.
وختم المسعودي وصفه الكامل للزلازل بمقارنته الزلازل التي شهدها في مصر، حيث وصف شدة الهزات: "لم أر شيئًا أعظم من هذا الزلزال، ولم أشعر بزمن أطول، لأن الأرض كانت تحت العنيفة تهتز كالمراة المحاصرة تحتها، وكأنها كانت تنغمس في اللاهوت.. مع دوي عظيم في السماء، وكانت السلامة من رحمة الله شاملة للجميع، وكانت الدمار طفيفًا".
وقد اهتم -في تحديد الزلازل- بتحديد مراكز الزلزال ومراكز التأثير التي تصل إلى قمتها، ورصد تأثير هذه الطاقة على تغيير الجغرافيا المحيطة بالمناطق التي تأثرت بها؛ حيث قال: "حدثت انهيارات في الأراضي الزراعية والقرى والمباني الواسعة في كاش (= طالقان شمالي إيران)، وفقدان عقارات زمرقند بخراسان (= تشمل شمال غرب أفغانستان وجنوب تركمانستان وشمال إيران)، نتيجة الزلازل التي انطلقت من بلاد الصين ووصلت إلى فرغانة".
ولا عجب أن تأتي هذه التفاصيل الدقيقة في دراسات الجغرافيا التي قام بها المسعودي تحت عنوان استشرافي حول جغرافيا المناطق الكبرى في العالم.
التقسيمات القديمة للأراضي؛ تم ذكر "المنطقة الرابعة ومدحها وتميزها عن بقية الأقاليم، وما تميز سكانها بالمزايا التي أبرزوها عن سكّان الأقاليم الأخرى، والحديث عن ميزات البلدان وطولها وتضاريسها والمياه وتأثيراتها وغير ذلك".
كما أولى الفقيه المالكي والفيلسوف الطبيب ابن رشد الحفيد القرطبي (ت 595هـ/1199م) اهتمامًا خاصًا لظاهرة الهزات الأرضية وتأثيرها الجيولوجي في نطاقها الجغرافي؛ حيث أشار -عند تلخيصه لأحد كتب أرسطو (ت 322ق.م) في الفلسفة- إلى تصحيح فكرة هذا الفيلسوف اليوناني حول أسباب الهزات الأرضية بناءً على ما شاهده في بلاده الأندلس عام 566هـ/1171م.
وأضاف ابن رشد: "من شاهد هزّة الأرض في قرطبة عام ست وستين وخمسمئة للهجرة (566هـ/1171م) اقتنع بذلك، بسبب كثرة الأصوات والضجيج الذي شاهدوه هناك، ولم أكن حاضرًا حينها في قرطبة ولكن وصلت بعد ذلك، فسمعت أصوات تدل على حدوث هزة أرضية، وأحس الناس أن الصوت يأتي من الاتجاه الغربي، ورأيت الهزة تحدث عندما يكون الرياح الغربية قوية، واستمرت هذه الهزات في قرطبة لنحو عام، ولم تتوقف إلا بعد ثلاث سنوات تقريبا، وأسفرت الهزة الأولى عن وفاة العديد من الناس جرّاء الدمار، وقالوا إن الأرض انشقت بالقرب من قرطبة في منطقة معروفة بأندوجرة حيث خرجت منه شذرات من الرماد أو الرمل، ومن شاهدها آمن بهذا، وكانت الهزة شرقيا من قرطبة أشد مما كانت في قرطبة، وكانت غربيا أقل".
توثيق شامل
سجل المؤرخون في كتبهم بعض الهزات الأرضية التي كادت تشمل مناطق هامة من العالم الإسلامي ومناطقه الثقافية في ذلك الوقت، وبخاصة الأقاليم الإسلامية التي كانت بها مؤرخون وكتّاب يتبادلون الأخبار مع بعضهم، مما يدل على قوّة التوثيق على ذلك الحين ومتابعة أخبار أبعد البلاد؛ كما يوحي بذلك قول المسعودي المذكور سابقًا حول إحدى الهزات: "وردت لنا الأخبار المتطابقة".
ويشير الإمام المؤرخ ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) -في كتابه ‘المنتظم‘- إلى أنه "في ذي القعدة (= سنة 565هـ/1170م) جرت الأخبار بوقوع هزات أرضية عديدة في الشام".
هذا بالإضافة إلى أن التقارير الرسمية كانت تصل بتفاصيل عن هذه الأحداث من السلطات المحلية إلى مراكز الحكم في العواصم، وبخاصة الهزات الأرضية الكارثية التي تركت آثارًا بشرية وحضرية عميقة بعداءها للأرواح والممتلكات وتدمير نجاحات الحضارة ومبانيها.
بالإضافة إلى أن الخبرة الإسلامية في توثيق الهزات الأرضية بلغت حدّ الجرأة حيث حاول بعض علماء الطبيعة في الحضارة الإسلامية توقع وتحذير الناس من وقوعها قبل حدوثها، وبالرغم من أن هذه التنبؤات قد أخطأت في تقديراتها إلا أن الجدير بالذكر هو مبدأ الممارسة الدائمة للتنبؤ، والذي يبدو أنه كان صحيحًا في بعض الأحيان نظرًا لتصديق الناس -سواء العامة أو الخاصة- له ونقلهم له بعد سماعه من عُلماء الفلك الذين كانوا في ذلك الوقت هم المتخصصون في هذا الميدان.
وهكذا، يستعرض الإمام ابن حجر العسقلاني أحداث سنة 801هـ/1398م، حيث يذكر أن "كان أهل الهيئة (= علماء الفلك) يتنبّؤون بحدوث هزة أرضية في بدايتها، واتسع هذا الخبر بين الناس ولم يحدث شيء من ذلك". ويذكر المؤرخ المملوكي عبد الباسط ابن شاهين الملطي (ت 920هـ/1514م) -في كتابه ‘نيل الأمل في مختصر الدول‘- أنه في ربيع الأول من سنة 891هـ/1486م "أخبرت المنجّمون بحدوث هزة أرضية كبيرة في ثالثة منها، وانتفى ذلك ولم يحدث شيء زلزلي!!".
ويبدو أن تنبؤات علماء الفلك بحدوث الهزات الأرضية في المدن الإسلامية استمرت حتى بدايات الحقبة الحديثة؛ حيث يذكر خاتمة المؤرخين المصريين عبد الرحمن الجبرتي (ت 1240هـ/1824م) -في كتابه ‘عجائب الآثار‘- أنه "في أواخر شهر جمادى الأولى (= سنة 1205هـ/1791م) انتشرت شائعات بحدوث هزة أرضية كبيرة في ليلة 27 من الشهر عند نصف الليل وستدوم سبع ساعات، ونسب الناس هذا القول إلى بعض علماء الفلك دون أساس، وصدقه الخاصة بالإضافة إلى العامة وتمسكوا به دون أدلة، وبعدما لم يحدث شيء في تلك الليلة خرج معظم الناس إلى الصحارى والمناطق الواسعة... وناموا في المراكب، وبقي القليل في منازلهم بمحمية من الله، وانتظروا ذلك حتى الصباح دون أن يحدث شيء، وبدأوا يضحكون على بعضهم"!!
ومن بين أبرز -وأولها ربما- ما سجله المؤرخون في كتبهم من الهزات الأرضية العامة تلك التي وقعت سنة 245هـ/859م؛ حيث في تلك السنة "انتشرت الهزات الأرضية بشكل واسع، فدمّرت الحصون والمدن والجسور، ولقي الموت كثيرون في العراق والمغرب، وانهارت من مدينة أنطاكية تسعٌ وتسعون برجا، وتمزق جبلها الأقرع وسقط في البحر، وسُمعت أصوات هائلة تصدر من السماء، وقضى معظم أهل اللاذقية تحت الأنقاض"، نهاية الاقتباس.
ذهبت قرية جَبَلَة مع سكانها، حيث فُدِمت جدرانها وبيوتها بفعل الزلزال وغيرها من الكوارث. امتد الزلزال إلى منطقة خراسان، وراح ضحيته عدد كبير من السكان... حدثت هزّة قوية في مصر، حيث سمع سكان بلدة بلبيس التابعة لمصر صخبا هائلا، مما أسفر عن وفاة عدد كبير من سكان بلبيس. كما ضربت الهلاك عيون مكة"؛ حسب تصريحات العالم الذهبي (ت 748هـ/1347م) في كتابه 'تاريخ الإسلام'.
عندما وصف الكاتب عبد اللطيف البغدادي -في كتابه 'الإفادة والاعتبار'- الكارثة التي حدثت في سنة 597هـ/1201م، وصف الحدث بدقة؛ حيث قال: "اتفق العديد من الحكماء في يوم الاثنين السادس والعشرين من شهر شعبان -وهو اليوم الخامس والعشرون من بشنس في التقويم القبطي القديم- على حدوث هزة أرضية هائلة، تسببت في هلع الناس وإيقاظهم من نومهم بدهشة. دامت هذه الهزة لفترة طويلة حيث كانت حركتها تشبه حركة غربان الطائر، أو كانماء الجناح الطائر!
وتبعت الهزة الأرضية بثلاث هزات أخرى قوية تسببت في انهيار المباني وتكسير الأبواب والسقوف والأخشاب. انهارت أجزاء من المباني التي كانت قديمة أو مرتفعة. بعد ذلك، عادت الهزات في فترة نصف نهار من يوم الاثنين، ولم ينتبه لها معظم الناس بسبب خفتها وقصر مدتها. كان الطقس شديد البرودة في تلك الليلة ما استدعى ارتداء بطانيات إضافية بشكل غير عادي. أما نهار ذلك اليوم، فقد تحولت البرودة إلى حرّ شديد وجو حار جدا يجعل النفس تضيق وأعلن بأن الزلزال نادر الحدوث بهذه القوة في مصر!!"
لقد غطت هذه الموجة الزلزالية مناطق واسعة في العالم الإسلامي وخارجه، وتأثرت الإمارات الصليبية في الشام بآثار الهزة أكثر من غيرها؛ فوفقًا للكاتب: "بدأت التقارير الواردة عن وقوع زلازل في الأراضي النائية والمناطق الهجرة في ذلك الوقت على حد سواء. ومن ثم، يُقال إن الهزة امتدت في ساعة واحدة من قصر إلى دمياط والإسكندرية، ثم امتدت إلى سواحل بلاد الشام وشمالها وجنوبها. تأثرت العديد من البلدان لدرجة أنها فقدت كل آثارها، وقضى العديد من الأفراد العظماء والأمم غير المعدودة.
ولا شك أن القدس كانت من أكثر المدن سلامةً في الشام، حيث لم تتأثر إلا بما هو بالا ، وكانت تداعيات الزلزال كبيرة في أراضي الفرنجة أكثر من تأثيرها في العالم الإسلامي، ويُروى أن الهزّة الأرضية وصلت إلى أخلاط وحدودها وجزيرة قبرص. تصادم البحر وتشوه مناظره وتفتت في بعض الأماكن وتشابك مد وجزر وعادت السفن إلى اليابسة وألقى البحر الكثير من الأسماك على شواطئه، ووصلت رسائل من بلاد الشام ودمشق وحماة تصرح بوقوع الزلزال!!"
يتضح من وصف الكاتب هذا لآثار الزلزال البحري على سواحل الشام إشارة إلى ظاهرة "التسونامي" المعروفة اليوم، وهي سلسلة من الأمواج العاتية التي تصطدم بالشواطئ. وتعتبر الزلازل من أبرز أسباب حدوثها والأكثر شيوعًا.
ومن بين الزلازل التي رصدوها المؤرخون الإسلاميون التي كانت تعبر القارات، يُذكر ما سجله الإمام المؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1236م) -في كتابه 'الكامل'- قائلا: "في يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة أثناء النهار [سنة 623هـ/626م]، تعرّضت الأرض لهزة قوية في الموصل والعديد من البلدان العربية والأجنبية. كانت أشد الأضرار في بلدة بشَهْرَزُور (في محافظة السليمانية شمال العراق) حيث دمرت معظم المباني، خاصة الحصن نفسه. تعرّض ستة حصون في تلك المنطقة للدمار التام، واستمرت الهزّة لمدة تجاوزت الثلاثين يومًا قبل أن يرفع الله عنهم الوباء. أما القرى التابعة لذلك المنطقة فقد تعرضت لأضرار كبيرة"!!
بالإضافة إلى ذلك، رصد المؤرخون الإسلاميون الهزات الزلزالية العابرة للقارات، ومن بينها ما يذكره ابن فضل الله العُمَري (ت 749هـ/1348م) -في 'مسالك الأبصار في ممالك الأمصار'- بوقوع "هزة أرضية عالمية في عام 601هـ/1204م شملت عدة مدن وأدت إلى تدمير العديد من المناطق"!!تغزلت الأرض في مصر وقد تأثرت القاهرة بارتفاع درجتين، وكان الأمر مرعبًا ولكن لم يحدث تدمير كبير في المباني سوى بعض الأضرار البسيطة.
وفيما يتعلق بالتقارير الإحصائية لظاهرة الهزات الأرضية، يشير الذهبي -في "تاريخ الإسلام"- إلى أنه في شهر ذي الحجة من عام 544هـ/1149م "حدث زلزال عنيف ضرب بغداد عدة مرات وهدم جبل في حلوان بسبب الهزة، ولقي عدد من التركمان حتفه". كما ذُكر أيضًا أنه في عام 605هـ/1208م "ضربت زلزال عنيف نيسابور لمدة عشرة أيام حتى مات الكثيرون تحت الأنقاض"، وفي ذي الحجة من عام 623هـ/1226م "تعرضت الموصل ومناطق أخرى للزلزال... واستمرت الهزة في المنطقة لثلاثين يومًا".
سجّل المؤرخون القدماء ما يُعرف اليوم بالتوابع الزلزالية التي كانوا يسمونها "التوالي"، وهي تتألف من موجات اهتزازية ثانوية تُشكل جزءًا من الزلزال الرئيسي، وبالرغم من أن شدتها عادةً لا تكون مثل الزلزال الأساسي إلا أن لها آثارا خطيرة في المناطق التي تتعرض للهزة الأساسية.
عرض ابن القلانسي (ت 555هـ/1160م) -في تاريخ دمشق- الأحداث في سنة 551هـ/1156م، حيث سجل 30 هزة زلزالية خلال شهرين، وعجز عن تتبع المزيد فوضعه ضمن "الأحداث التي لم يُذكر تفصيلها بسبب كثرتها"!
في ليلة الخميس التاسع من شهر شعبان من عام 551هـ (1156م)، حدث زلزال قوي تلاها عدة هزات أرضية خلال النهار والليل، وفي ليلة الأربعاء التالي قبلها وبعدها هزات مماثلة، وتبع ذلك زلازل أخرى متتالية بلغت ست مرات. وفي ليلة السبت من نفس الشهر وقع زلزال آخر آثارها ملحوظة في النهار والليل، وتلاها زلزال آخر في اليوم التالي، وفي الليلة التي تلتها حدثت هزات أرضية أخرى تنوعت في القوة والتوقيت، فسبحان الله القادر على ذلك!
كانت أطول سلسلة من التوابع الزلزالية المسجلة تلك التي شهدها المؤرخ المقريزي في عام 822هـ/1419م، حيث ذكر في كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك" أنه استمرت لمدة عام كامل دون توقف!
في شهر صفر من تلك السنة "وقعت هزة أرضية قوية في وقت العصر من يوم الثلاثاء السابع عشر، واستمرت لثلاثة أيام دون توقف، حيث انهارت جدران المدينة ودمرت معظم المباني، وسقطت قطعة من الجبل بحجم نصف هرم مصر، وانبعثت ينابيع في وادي الأزرق وتوقف عدة أنهار عن الجري. واستمرت الهزات من الغرب إلى الشرق مع صوت مرتفع يشبه دوي الخيل، ومن ثم استمرت الهزات لمدة أربعين يومًا، حتى أجبر الناس على الفرار إلى الصحراء، واستمرت آثارها طوال السنة"!
إحصائيات هائلة
من اللافت في دراسات المؤرخين لزلازل التاريخ استنتاجهم الواضح بلغة الأرقام، وتوثيقهم للخسائر البشرية والمادية في الممتلكات الخاصة والبنى التحتية العامة، فضلا عن تغيرات الطبوغرافيا في التضاريس التربوية والجبلية والبحرية بما في ذلك الارتفاعات والانخفاضات والبراكين والأخاديد.
من بين أقدم الإحصاءات الهائلة التي سجلوها عن عدد الضحايا الذين لقوا حتفهم في زلازل الماضي الإمام ابن الجوزي،ضربت الموصل بشمالي العراق سنة 233هـ/848م، وفيدير -في 'المنتظم'- أنه "مات من أهلها 20,000 شخص". بينما يرفع سبطه المؤرخ أبو المظفر يوسف بن قزأوغلي (ت 654هـ/1256م) -في كتابه 'مرآة الزمان'- تلك الحصيلة لتكون "هلك من أهلها 50,000 شخص، ومن أهل أنطاكية 20,000 شخص"!!
ويسجل اليعقوبي لزلازل تبعتها بزمن قليل في منطقة إيران؛ فيقول: "كانت الزلازل في قومس ونيسابور وما والاها سنة 242 (هـ/856م) حتى مات بقومس كثير، ونالتهم رجفة يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من شعبان، فمات فيها زهاء 200,000 شخص"!
ويوثق الطبري - في تاريخه أثناء استعراضه لأحداث سنة 245هـ/849م- بأنه "حصلت في هذه السنة في أنطاكية زلزال ورجفة في شوال، قتلت جمعًا كبيرًا، ودُمر منها 1,500 منزل، وسقط من سورها 99 برجًا". وخلال أحداث سنة 258هـ/872م ذكر أنه "في عشرة من شعبان حدث هزة قوية في الصيمرة، ثم سُمعت في اليوم ذاته - وهو الأحد- هزة أقوى من التي حدثت في اليوم الأول، فانهارت معظم المدينة وسقطت الجدران، ولقي حتفه من سكانها -حسبما يُقال- نحو 20,000 شخص"!
ويذكر الطبري أيضًا في سنة 262هـ/876م "أن مصر تعرضت لزلازل أدت إلى تدمير المباني والمسجد الجامع، وأحصي في يوم واحد 1,000 جنازة"! يُذكر أيضًا عن زلزال 280هـ/893م أن "وصلت خطابا من دبيل بانكساف القمر في شوال فقدم في الرابع عشر منها، وفي وقت متأخر من الليل جاءت ريح سوداء عاتية، وظلمت الأرض، واستمرت الظلام حتى ثلث الليل، ثم زلزلوا، وفي الصباح وجدوا أن المدينة قد اختفت فلم يبق سوى القليل منها ربما مائة منزل، وأنهم دفنوا -حتى كتابة الخطاب- 30,000 شخص، وتعرضوا لخمس هزات زلزالية بعد الدمار، وقيل أن 150,000 شخص خرجوا من تحت الأنقاض"!
يقدم ابن الأثير - في كتابه 'الكامل'- إحصائية لضحايا مدينة الدينور في غرب إيران، حيث تعرّضت لزلزالٍ شديد في سنة 398هـ/1009م، أودى بحياة كثير من سكانها، وأُدفِن 16,000 شخص منهم، بينما لم يُعثر على الباقين تحت الأنقاض!
وفي كتاب 'البداية والنهاية' للإمام المؤرخ ابن كثير (ت 774هـ/1372م)، تحدث عن زلزال هائل في مدينة تبريز في سنة 434هـ/1043م، حيث دمر القلعة والأسواق والمنازل، لقي حتفهم 50,000 شخص، وارتدى نجوا منه لباس الحداد!
يشير ابن الجوزي - في كتابه 'المنتظم'- إلى زلزالٍ آخر وقع في سنة 533هـ/1139م بجنزة، أسفر عن مقتل 230,000 شخص، وامتدت مساحة الزلزال على مسافة 50 كم، حيث أُفيد بأنه ابتلع المدينة بالكامل، ونجا قليل من الناس الذين كانوا خارج المدينة!
ويبدو أن أكبر حصيلة ضحايا لزلزال واحد في وقت واحد سجلتها سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) في كتابه 'مرآة الزمان'، حيث تحدث عن زلزال في سنة 597هـ/1201م -الذي سبق ذكره لدى عبد اللطيف البغدادي- وأشار إلى موت 1.1 مليون شخص في جميع أنحاء مصر والشام في نفس اللحظة!
تظهر الإحصائيات الدقيقة في تسجيل المؤرخين لعدد الضحايا عند توفر البيانات، حتى لو كانت بالعشرات، فكما فعل ابن الأثير في توثيقه لأحداث سنة 242هـ/856م، حيث "حصلت زلازل هائلة في قومس ورساتيقها في شعبان، فتهدمت المنازل ولقي حتفهم جماعات كبيرة"!
وأحيانًا، تتضمن هذه الإحصائيات الشخص الناجي من الكوارث، حتى لو كان فردًا واحدًا، كما أورد ابن الجوزي حيث ذكر أن زلزالًا وقع في سنة 233هـ/848م أحدث رعدة شديدة في دمشق وأثار "تخيلات" لدى بَعض الأشخاص شاهدوا بعض سكان منطقة "دير مُرّان" في دمشق وهي ترتفع وتَهُزّ مرارًا، وأثّرت على سكان قرية من أهالي الغوطة بالرعب حتى نكونت عليهم، ولم ينجُ منهم سوى شخص واحد على حصانه، فقد انتقل إلى سكان دمشق ليخبرهم.
ويُذكر أيضًا أن "ثلاث عشرة قرية من قرى القيروان دُمرت بسبب زلزال، ولم ينج سوى اثنان وأربعون رجلًا"، وقد وقع ذلك في زلزال في تونس عام 240هـ/854م. وكذلك يتحدث المؤرخ موفق الدين سبط ابن العجمي (ت 884هـ/1479م) في ‘كنوز الذهب في تاريخ حلب‘ عن حادثة زلزال مدمر ضرب قلعة شيزر قرب حماة السورية في عام 552هـ/1157م، حيث قال إن "لقد لُقِنت جميع سكانها من سلالة آل منقذ الكناني الذي أسس إمارة صغيرة في تلك القلعة واستمرت لمدة 130 عامًا، حيث لقوا حتفهم جميعًا إلا امرأة وخادم واحد"!
وفي الحقيقة، لا تُهمُّ مصادرنا التاريخية بتجاهل تلك المأساوية التي تؤدي إلى صفر خسائر الحياة البشرية نتيجة للزلازل، كما يذكره الرحال ناصر خسرو (ت 481هـ/1088م) في كتاب سفره ‘سفرنامه‘، عندما ورد ما كُتب على جامع مدينة الرملة في فلسطين، حيث قال إن "حدث زلزالٌ شديدٌ في هذا المكان في العام 425هـ/1035م حيث تضررت العديد من البنايات، ولم تُصاب أي من السكان بأذى"!
بيانات شاملة
كانت أسوأ الزلازل تلك التي تودي بعائلات كاملة كان لها تأثير كبير في مجتمعاتها. ومن أبرز الأمثلة على هذه الظاهرة المفجعة ما حدث لعائلة الصحابي العظيم شداد بن أوس بن ثابت الأنصاري الخزرجي (ت 58هـ/679م)، حيث في عام 131هـ/750م وقعت "زلازل شديدة في الشام دمرت بيت المقدس وأودت بأطفال شداد بن أوس بأكملهم"، وفقًا للمؤرخ الأندلسي ابن تغري بردي (ت 874هـ/1470م) في كتابه ‘النجوم الزاهرة‘.
وتظل أكبر كارثة عائلية سُجلت نتيجة لزلزال واحد هي حادثة قلعة شيزر التي أدّت -كما ذكرنا- إلى وفاة جميع أفراد عائلة بني منقذ الكنانية! ففي عام 552هـ/1157م، ضربت الشام زلزالًا هائلًا "وكان بنو منقذ أمراء شيزر يتجمعون عند أميرهم للوليمة، وضربهم الزلزال وسقطت القلعة عليهم، ولم ينج منهم أحد"، كما يقول ابن خلدون في تاريخه.
وبملاحظتهم لتأثيرات الزلازل على البنى التحتية للسكن، تتباين معلوماتهم بين التقديرات النسبية والأرقام المحددة؛ على سبيل المثال، يذكرنا ابن تغري بردي -في ‘النجوم الزاهرة‘- بأن زلزالًا هائلًا وقع في العام 203هـ/818م "أدى إلى سقوط منارة الجامع والمسجد في بلخ وحوالي رُبُع المدينة".
أما يحيى بن سعيد الأنطاكي (ت 458هـ/1067م)، فيخبرنا -في تاريخه المشهور بـ‘صلة تاريخ أوتيخا‘- بأنه "حدثت زلازل عديدة في دمشق في السبت السابع عشر من شهر المحرّم من عام ثمانمئة وحدى وثمانين (381هـ/992م)، حيث سقطت حوالي ألف دار، وقتل العديد تحت الأنقاض، كما انهارت قرية من قرى بعلبك في نفس الليلة. وكانت الزلازل في دمشق وضواحيها وبعلبك، حيث خرج الناس من منازلهم إلى البراري والخيام، واستمرت الزلازل بالتوالي حتى الجمعة السابعة عشر من شهر صفر في نفس العام".
بالإضافة إلى توثيق خسائر الزلازل في البنية التحتية السكنية، كانت الخسائر المجتمعية البارزة ناتجة عن تدميرها للمنشآت العامة المتواجدة في المدن الإسلامية، سواء من مرافق مثل المساجد والكنائس والمدارس والمستشفيات والأسواق والجسور، أو من ناحية التحصينات الأمنية والدفاعية كالأسوار والحصون والقلاع وأبراج المراقبة.
وقد سبق أن تقدم لنا العديد من النصوص التاريخية التي تضمنت أمثلة على الخسائر في المنشآت العامة؛ كما رأينا فيما ذكرنا في العام 245هـ/859م "عصفت الزلازل العالم، حيث دمرت القلاع والمدن والجسور...، وسقطت ما يُقارب تسعون برجًا من أسوار أنطاكية"، وفقًا للذهبي في ’تاريخ الإسلام‘. ويذكر سبط ابن العجمي من ضمن خسائر زلزال أنطاكية هذا انهيار "كنيسة خاك الكبرى".
ومن الأمثلة المشابهة لذلك ما نقلناه عن الإمام ابن كثير حول أحداث العام 443هـ/1052م حيث تعرَّضت مدينة تبريز لـ "زلزال هائل دمر قلعتها وأسوارها وأسواقها ومنازلها، حتى من المنزل العام قصوره"!! وسجل ابن الأثير أنه في العام 515هـ/1121م "انهار الركن اليماني من البيت الحرام -زاده اللهألما - من زلزال، وانهدم بعضه، وتشعث بعض كَرِمَ الرسول ﷺ.
وكذلك تضمنت الإحصاءات المتعلقة بالهزات الأرضية أموراً أخرى تُعتبر ضمن الخسائر المادية، كتلف المحاصيل والنباتات المزروعة ومنتجاتها التجارية؛ حيث أورد المقريزي -في أخبار سنة 387هـ/998م من كتابه 'اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء'- أنه "وصلت الأنباء من قوص (تحتلُّ جنوب مصر) بأنه تعرضوا لعواصف رعدية وأمطار وحجارة سقطت من السماء، وكانت بعضها بلا مثيل، وتعرضوا لزلزال شديد تسبب في تدمير نخل الجميز والجميز الصغير، واقتلاع خمسمئة نخلة من جذورها. وظهرت خضرة مريبة على سطح الأرض في قوص وبساتينها، وغرقت عدة قوارب محملة بالمحاصيل التي تعادل ثرواتٍ كبيرة".
ورد في 'المنظم' لابن الجوزي أنه في سنة 425هـ/1035م "تلقوا كتبًا من الموصل تذكر أن رياحًا سوداء هبت على أراضيها، فقلعت أكثر من مئتي شجرة توت وعنب وجوز من بساتينها، ودَحَتها على الأرض خطوات، وكانت بعض البساتين تحتوي على قصورٍ بُنِيَتْ بالطوب والحجر والجير فجرفتها من أسسها".
ويستعرض المؤرخ سبط ابن الجوزي -في 'مرآة الزمان'- الخسائر الفادحة لزلزال سنة 597هـ/1201م الضخم في المباني والمرافق العامة؛ حيث يُقول: "هدمت الزلزلة بعض المنارة الشرقية لجامع دمشق ومعظم الكلاسة، ومارستان النوري، ومعظم بيوت دمشق باستثناء القليل. فهرب الناس إلى الساحات، وسقطت من الجامع ست عشرة شُرفة وتصدعت قبة النسر، وتهدمت بانياس وهونين وتبنين...، وانهارت قلعة بعلبك مع عظم حجارتها".
وعلى الأرجح أن تكرار الزلازل في العالم الإسلامي -في مختلف عصوره- يفسر لنا انتشار ظاهرة ضياع المخطوطات والمكتبات؛ حيث في المدن والقرى التي تعرضت للزلازل دُفنت معارف غزيرة واختفت مكتبات عديدة، على النحو الذي سنبينه من ضياع نُسخ كتب إمام الشام أبو عمرو الأوزاعي (ت 157هـ/775م) في زلزال الشام سنة 130هـ/759م.
بناءٌ وترميمٌ مُجدد
لم يفت الكثير من زعماء وسلاطين العالم الإسلامي -خلال مآزقهم وثوراتهم المختلفة- من مواجهة فوبيا الزلازل والفيضانات التي ألمت بهم؛ إذ كانوا -بشكل عام- يَستجيبون بإعادة بناء ما دمرته الزلازل والهزات الأرضية، خاصة أنها كانت تُهدد عناصر البنية التحتية الحيوية من مرافق حضرية وتدابير دفاعية، كما سبق القول.
ومن خلال ما أفادت به كتب التاريخ حول أعداد الضحايا المنقَذين من تحت الركام يمكن أن نستنتج حجم الجهود التي يُقدّمها المسلمون للتعامل مع آثار تلك الكوارث، وذلك من خلال تقارير شاملة تتضمن تفاصيل الخسائر والتحديات التي يواجهونها، كما أظهرت آثار زلزال سنة 719هـ/1319م في الشام والتي ورُدت بشكل دقيق في "تقرير قضائي وُثّقت به السلطان
محمد ابن قلاوون.
بالحقيقة، العلماء الإسلاميين دعوا إلى الحاجة لما يمكن تسميته بـ"الرد القبلي" للهزات الأرضية عندما أبدوا اهتماما بكشف التوقيت والموقع الذي تحدث فيه الكوارث، وقدموا أفكارا لمواجهتها قبل حدوثها بهدف تقليل المخاطر على المجتمعات.
وبالتالي، قاموا بتصنيف الهزات الأرضية وفق احتمالية حدوثها في كل فصل من فصول السنة، على غرار ما فعل ابن سينا في كتابه "الشفاء" عندما أشار إلى تفاوت توقيت حدوثها في فصلي الشتاء والصيف، فضلا عن المواقع الأكثر والأقل تعرضا للهزات الأرضية حسب مقاومة سطح الأرض للتشققات، إذ "تكون الهزات الأرضية بكثرة في المناطق الهشة غور الأرض". ورصدوا الأماكن الأكثر والأقل تعرضًا حسب العادة؛ فكما ذكر المؤرخ ابن فضل الله العمري في كتاب "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" أن "المغرب قليل الصواعق والهزات الأرضية"!
وذكر ابن سينا طرقا لتفادي حدوث الهزات الأرضية مثل حفر الآبار والقنوات في المناطق الهزة لتخفيف الضغط الداخلي في طبقات الأرض، مبررا ذلك في كتابه "الشفاء" بأن سبب الهزات الأرضية هو "الرياح المحتقنة" في باطن الأرض، فعندما "حُفر فيها آبار وقنوات كثيرة حتى زادت مخارج الرياح والبخار قلت الهزات الأرضية بها"!
وفي سياق الجهود الإعمارية، يمكن رؤية في مبادرة الصحابي الجليل أبو عُبيدة ابن الجراح (ت 18هـ/640م) لإعادة بناء قلعة حلب التي دمرتها الهزة الأرضية قبل فتح المسلمين لها بقيادته كثيفة، إشارة إلى النهج العمراني لدى الفاتحين المسلمين.
وفي "المسجد الأقصى" في القدس تعرض لهزات أرضية أثرت عليه بشكل خاص خلال زلزال سنة 130هـ/749م الذي ضرب منطقة الشام، وسارع الخلفاء العباسيون لإعادة بناء المسجد الأقصى مرتين، الأولى منهما كانت في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور (ت 157هـ/775م) خلال زلزال سنة 130هـ/749م.
مساهمة متعددة
من السياسة الحكيمة في مواجهة التغير السكاني نتيجة الهزات الأرضية ما قام به الخليفة المنصور في سنة 140هـ/758م؛ ثم أمر "بإعادة بناء المدينة المصيصة بإشراف جبرائيل بن يحيى (القائد العسكري العباسي الذي وافته المنية بعد 159هـ/777م)، حيث كانت أسوارها قد تهدمت من الهزات الأرضية وكان عدد سكانها قليلا، فقام بإعادة بناء الأسوار وأطلق عليها اسم المعمورة، وأنشأ فيها مسجدا كبيرا، وجعل رواتب لألف رجل فيها، وسكنها الكثيرون من سكانها"؛ وفقا لما ورد في كتاب "الكامل" لابن الأثير.
ويمكن أن يؤدي إعادة بناء مدينة دمرتها الهزة الأرضية إلى اقتراح إنشاء مدينة جديدة بجوارها. ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره ابن أيبك الدواداري في كتاب "كنز الدرر وجامع الغرر" عن الهزة الأرضية الكبيرة التي حدثت في سنة 234هـ/848م في أذربيجان، حيث "استمرت سبعة أيام يوما وليلا حتى دمرت المدينة وقتل تحت الأنقاض عدد كبير من الناس، والذين نجوا فقدموا أموالهم وممتلكاتهم تحت الدمار. ثم أقيمت مدينة جديدة بالقرب من المدينة القديمة واستوطنها الناس، وظلت حتى دمرها التتار" خلال غزوهم.
في سَنة 629هـ/1232م، أصاب زلزال عديدًا من المناطق الإسلامية وأحدث دمارًا شاملاً، وقد لَعِب الخليفة المعتزل المدور (ت 247هـ/851م) دوراً بارزاً في عمليات إعادة الإعمار وتقديم المساعدات لضحايا هذا الزلزال. فتضررت مدن مثل باليس والرقة وحلب وحمص ودمشق والرها وطرسوس والمصيصة وأذنة وسواحل الشام، وانهارت اللاذقية تماما، فلم ينج منها سوى القليل من سكانها.
لمواجهة تلك الأضرار، أمر المعتزل بصرف ثلاثة ملايين درهم للمتضررين لإعادة بناء منازلهم، وفقًا لما ذكره الذهبي في تاريخ الإسلام. كما شدد على ترك الجدل حول القرآن وأكد على براءة المؤمنين الذين يعتقدون في صفة خلق القرآن.
تجدر الإشارة إلى دور المرأة في تقديم المساعدات لسكان المناطق المتضررة بسبب الزلازل، حيث قدمت السيدة "شجاع" مساهمات كبيرة في مساعدة سكان الأماكن المتضررة. ومن اللافت أنها قامت بتغيير وضع تدفق المياه في مكة، وذلك بتكليف من أم المعتزل.
في إطار جهود إعادة الإعمار، قام الحاكم العظيم نظام الملك بجهود كبيرة لإعادة بناء ما دمرته الزلازل، وخاصة في خراسان بعد الزلزال الهائل الذي ضربها. وعلى الرغم من أن إعادة الإعمار كانت قبل فترة حكمه، إلا أن سلطانه ملكشاه بن ألب أرسلان شارك أيضًا في جهود إعادة الإعمار بعد زلازل أخرى.
وثمة مبادرات أخرى قامت بها قادة الإسلام في إعادة بناء الحصون والأسوار بسبب الصراعات الدائرة في تلك الحقبة بين المسلمين والصليبيين. على سبيل المثال، قام السلطان نور الدين محمود زنكي بإصلاح الحصون بعد زلازل شديدة ضربت المنطقة.نور الدين محمود وقف مرتاحًا في تلك الوضعية، وأبان قلقًا من الإفرنج (= الصليبيين) وقد تم تدمير الجدران، فجمع جيشه ونشأ في أطراف أرضه يبدل بالفرنج ويقوم بترميم الجدران في جميع الأراضي، وظل كذلك حتى أكمل إصلاح جميع الجدران في البلاد".
نور الدين عاد لإعادة بناء ما دمرته الزلازل في سنة 565هـ/1170م حيث "كانت هناك زلازل هائلة لم تر الناس مثيلًا لها، وانتشرت في معظم البلاد من الشام والجزيرة [الفراتية] والموصل والعراق وغيرها، وكان أكثرها تأثيرًا في الشام، فتضررت إلى حد كبير من دمشق وبعلبك وحمص وحماة وشيزر وبعرين وحلب وغيرها، وتدمرت جدرانها وقلاعها، وسقطت المنازل على سكانها، ولقى نهاية كارثية".
بعدما وصلت إليه الأنباء، ذهب نور الدين إلى بعلبك ليُعيد إعمار ما دمرته الجدران والقلاع هناك، وعند وصوله تلقى الأخبار حول بقية البلاد وتدمير جدرانها والقلاع، فقام بإعادة البناء في بعلبك وتوفير الحماية والحفاظ عليها، ومضى إلى حمص وقام بالشيء نفسه، ثم إلى حماة...، وكان حذرًا للغاية بالنسبة لجميع البلاد من الإفرنج".
يعرض ابن الأثير إنجازات نور الدين في عملية إعادة الإعمار "ثم انتقل إلى مدينة حلب، حيث شاهد آثار الزلزال التي لم تحدث في غيرها من البلاد، فقد تعرضت لها، وبلغ الذعر من الناجين إلى مستوى مرتفع، وكانوا غير قادرين على العودة إلى منازلهم خوفًا من الزلزال، لذا قام بالبناء هناك بنفسه، وظل كذلك حتى أكمل إصلاح جدران البلاد وجوامعها. وفيما يتعلق بجدران الإفرنج (= قلاعهم على الساحل الشامي)، فقد تأثرت بالزلازل أيضًا، لذلك بدأوا في بناء بلادهم خوفًا من نور الدين، وكل واحد منهم بدأ ببناء بلاده خوفًا من الآخر".
ووقع زلزال في شهر صفر من سنة 692هـ/1293م - حسب كتاب 'تاريخ الإسلام' للذهبي- حيث "ضرب زلزالُ غزة والرملة والكَرَك، وعندما بلغت الأنباء نزل أميران من دمشق وعدد من الحجارة والصناعيين لإصلاح ما تضرر من أبراج الكَرَك" الموجودة اليوم في الأردن.
تابع الاهتمام بإعادة الإعمار في الفترات الإسلامية التالية بانتظام كلما حدثت زلازل، ففي صفر من سنة 692هـ/1293م "تعرضت غزة والرملة واللد والكَرَك لزلازل كبيرة دمرت ثلاثة أبراج من قلعة الكَرَك...، وتأثرت البلاد الساحلية أيضًا وتضررت العديد من المناطق؛ وعند وصول الأخبار حول ذلك، خرج الأمير علاء الدين أَيْدُغْدي الشجاعي (وفاة 710هـ/1310م) من دمشق لإصلاح ما تضرر بأمر شريف من السلطان خليل بن قلاوون (وفاة 693هـ/1294م)؛ وفقًا لما ذكره المقريزي في 'السلوك لمعرفة دول الملوك'.
وبعد حوالي عشر سنوات من هذا الزلزال؛ حدث زلزال هائل في مصر في 701هـ/1301م، فعندما "أثّرتْ بالجوامع ما أثّرت، ركز الأمراء على المرافق المصرية، حيث قام الأمير سيف الدين سلّار (وفاة 710هـ/1310م) نائب السلطنة بإعادة بناء مأذنة جامع عمرو بن العاص في مصر، وقام ركن الدين بَيْبَرْس الجاشْنَكِير (وفاة 709هـ/1309م) بترميم جامع الحاكم بالقاهرة، ولاحظ تجديده وتجديد أبراجه وسقوفه وبيضه وبلاطه، وأصلحه بشكل ممتاز حتى عاد إلى أفضل حال من السابق، وأنشأ أوقاف وفرض جدولًا زمنيًا للدروس والعمل الخيري"؛ وفقًا للنويري (وفاة 733هـ/1333م) في 'نهاية الأرب في فنون الأدب'.
ويوضح النويري التكاليف التي تمت في هذا العمل الإعماري ومن قام به من الأمراء؛ حيث يقول: "تم تجديد مئذنة المنصورية من أموال الوقف للتصرف فيها، وتم صرف حوالي تسعين ألف درهم في ترميم نصفها الذي دمر -وهو من سطح القبة إلى نهايتها- بالإضافة إلى الاستفادة من الحجارة التالفة منها، وتكلفة عملية الترميم لم تكن بسبب الأسرى وتكاليف التجديدات التي توجهت لترميم المباني العامة.
من المهام التي تم توكيدها لترميم هذه البنايات كان على الأمير سيف الدين كُهُرْداش الناصرى (وفاة 714هـ/1314م) ومن ثم استعادتها لأفضل حال، وحدث كذلك ترميم الجامع الأمير شمس الدين سُنْقُر الأعسر (وفاة 698هـ/1299م) وترميم الجامع الصالحي خارج باب زويلة، وجامع الظافري من أبواب السلطان، وتم ترميم باقي المناطق والمساجد التي تضررت في القاهرة ومصر حتى عادت إلى حال أفضل من السابق".
وفي الواقع، كانت خسائر زلزال القاهرة كبيرة لدرجة أنه لم يكن هناك خيار سوى التعاون بين الأمراء ذوي الخبرة لإعادة بناء المرافق العامة وخاصة المساجد؛ ويمكن أن تفسر لنا زيادة أسعار مواد البناء بسبب الطلب الكبير عليها نتيجة لتوسع رقعة الدمار في أنحاء المدينة.
ويوضح المقريزي الوضع بوضوح قائلاً: "لم تهدأ القاهرة ومصر من الدمار أو الهدم...، وعمل الناس في القاهرة ومصر لفترة طويلة على تحصين ما تضرر من المرافق العامة والخاصة...، وغلت أسعار مواد البناء بسبب الطلب الكبير عليها، وأصبحت القاهرة ومصر بهذا الحال حتى أنه كان يتخيل الشخص أن العدو هاجمها ودمرها"!!
تحديات فردية
إذا كان المعتاد في حوادث الكوارث العامة هو أن تتخذ القصص الشخصية مكاناً ثانوياً وتغمرها في أحداث الكوارث الكبرى، إلّا أن الكُتُب التاريخية مازالت تحتفظ بروايات تجارب فردية بقيت راسخة في الذاكرة، على غرار اضطراب الإمام الأوزاعي بسبب احتراق مكتبته خلال زلزال حدث في سنة 130هـ/759م.
وجاء في كتاب ’مُسْنَد أبي عَوَانة’ أنه فقد مكتبته جرّاء النيران التي التهمت "ثلاثة عشر قُنْداقًا (= دفتر كبير)، ثم قدم له أحدهم نُسخة جديدة، قائلاً: يا أبا عمرو! هذه نسختك وجهودك [فيها] في يديك، لكنه لم يكن قادراً على استعادة شيء منها حتى ودّع الحياة"!!
ويظهر أن المؤرخين والعلماء كانوا حريصين على توثيق تجاربهم الشخصية مع الزلازل التي تصاحبت معهم في صغرهم، إذ لا شك أن تلك الذكريات والمشاهد تترك آثاراً عميقة في نفوس من شهدوها وهم في سن الكبر، فما بال الأطفال الذين مروا بتلك التجارب المروعة!
ويعتبر الإمام والمؤرخ ابن الجوزي من الأشخاص الذين أولوا اهتماماً خاصاً بأخبار الزلازل التي زادت في عهده، ويذكر تجربته خلال طفولته مع زلزال وقع في سنة 529هـ/1135م؛ فيسرد -في كتابه ’المُنتظَم’- التفاصيل قائلاً: "تعرضت بغداد لعدة زلازل، بدأت يوم الخميس الحادي عشر من شهر شوال، واستمرت حتى ليلة الجمعة السابع عشر منه، ثم هزت يوم الثلاثاء ليلاً حتى اهتز سقف المكان الذي كنت أنام فيه بقوة، وكنت صغير السن في ذلك الحين، فاستيقظت بعد الهزة بفترة طويلة، واستمر الهز في الأرض من منتصف الليل حتى الفجر وكان الناس يصرخون"!!
ويروي ابن الجوزي أيضاً أنه في سنة 538هـ/1143م "هزت الأرض ليلاً في اليوم الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة، وكنت مستلقياً في السرير فهزت هزة شديدة".
كما ينقل لنا الإمام ابن كثير -في كتابه ’البداية والنهاية’- تفاصيل زلزال بركاني حدث قرب المدينة النبوية في سنة 654هـ/1256م؛ إذ يقول، نقلاً عن شاهد عيان من سكان المدينة: "كانت هناك حادثة بارزة: في ليلة الأربعاء الثالث من شهر جمادى الآخرة، بدأ الناس يسمعون دويًا شبيهًا بصوت الرعد تباعًا -وكانت السماء صافية- لمدة يومين حتى ليلة الأربعاء.
بعد ذلك توسع الصوت واهتزت الأرض بشدة ورعدت بصورة تُشبه دوي الرعد، فأصاب هلع الناس جميعًا وانتبهوا من سرايرهم، وتحجّوا نحو المسجد [النبوي] وصلوا فيه، وظلّت الهزات مستمرة مدة ساعات حتى صباح الجمعة، واستمرت هذه الأحداث طوال اليوم وليلة الخميس ويوم الجمعة وليلة الجمعة.
ففجر يوم الجمعة هزّت الأرض هزة قوية تسببت في اهتزاز منارة المسجد وصوت كبير ينطلق من سقف المسجد، فأخذت الناس يستغفرون الله ويعترفون بذنوبهم، وتوقفت الهزة بعد فجر الجمعة وحتى قبل الظهر"!!
"نوادر" أثرية
وفي سياق القصص الشخصية المتعلقة بظواهر الزلازل، تأتي الأحداث الغريبة التي عَثِرَ عليها المؤرخون وقدّموها كنتاج لاحظه البناؤون وجمعوه بين الأنقاض أثناء تجديد المباني التي دمرتها الزلازل.
ومن تلك النوادر ما حصل لأبو القاسم القَزْويني (ت 623هـ/1226م) -كما ورد ذكره في ’التدوين في أخبار قزوين’- حيث روى: "في أحد أيام شهر صفر سنة 514هـ/1120م، وجدت محضراً يضم خطوطاً لعدد من الأئمة المشهورين...، وقد تعرضت قزوين لزلزال هائل ليلة الخامس من شهر رمضان سنة 513هـ/1119م وتسبب في دمار شديد، حيث تهدمت قبة مسجد أصحاب أبي حنيفة -رحمه الله- وتطلبت إعادة إعمارها. تم استدعاء الأمير خُمَار تاش العمادي بعد الحادثة -نظراً لرغبته في بذل الخير- ليساهم في إعادة بناء المسجد"،
مسكنها، عندما أمر ببناء المسكن، تهدمت الغرفة، ووُجد تحت الملاط الموجود في الحائط لوحٌ منقور عليه...:
"الشكر لله سيد الكونين والصلاة على محمد وآله جميعًا. أمر الملك العطوف الناصر المظفر المشهود عضد الدين علاء الدولة وفخر الأمم وتاج الدولة أبو جعفر محمد بن دشمن زار (ت بعد 422 هـ / 1032 م) - سدد الله له البقاء- بتخليد هذا اللوح، ذكر ما شاهده وأباحه من ماء... لخاصة سكان قزوين ليشربوا، ولينقلوه إلى مزارعهم وبساتينهم في الحصن على النصف، وتحريم أخذ أثماره وإلزام مستأجره بالاحتفاظ به حتى الأبد، فمن غيّر ذلك أو خالف قراره أو نقضه فقد أثّر غضب الله، واستحق اللعنة وجاري عقابه الأليم، ﴿فَمَنۢ بَدَّلَهُۥ بَعْدَمَا سَمِعَهُۥ فَإِنَّمَا إِثْمُهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾؛ (سورة البقرة/الآية: 181). وسجل في شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين وأربعمئة (422 هـ / 1032 م)".
أما التماثيل الغريبة؛ فقد روى عن بعضها المؤرخ ابن شداد الموصلي في كتابه ’الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة’؛ فقال: "وحكى القاضي حسن بن الموج الفرعيّ (ت بعد 491 هـ / 1098 م) قال: كنتُ هُربتُ من المتاعب الفوعيّ (بركات بن فارس الفوعي المعروف بالمجن والمتوفى 491 هـ / 1098 م) رئيس حلب إلى أنطاكية وخدمتُ وزير يغي سيان (الأمير السلجوقي المتوفى 491 هـ / 1098 م)، فتُركتُ على بناء الجدران وكان قد انهار بزلزلة، فحُفر أساس بعض الأبراج... فوُجد حجر منقور قد تكسر وعليه طابق، فتم فتحه ووُجد فيه سبعة أشخاص من نحاس على خيل من نحاس، على كل واحد ثوب من الصوف ملتفِّه واقناعًا ورمحًا.
ونُقلت إلى أمام الأمير يغي سيان فاستدعى رُجال البلد واستفسر منهم عن الأشخاص فقالوا: لا نعرف إلا أننا نُعرف للأمير مثل هذا: لدينا دير يُعرف باسم دير الملك واسع الهواء فعانينا في سنة سبع وسبعين وأربعمئة (477 هـ/1084 م) ففقد الكثير من خشبه، فنقضناه وطلبنا خشبًا جديدًا بحسبه فلم نجده، فأوصى بعض الحرفيين بالبدء في البناء فحفرنا أساسًا، فمتى انتهينا إلى القاع وجدنا أشخاص تركمان من نحاس معهم سيوف ورماح، لم نتفاجأ به وقمنا بترميم الجدار، ولم يمض الكثير من الوقت حتى أقدم سليمان بن قتلموش (ت 479 هـ / 1086 م) وسرق المدينة في نفس العام في أول شعبان".
ويقدم المقريزي -في ’خُططه’- حكاية غريبة كشفت للناس خلال إعادة بناء الجامع الحاكمي في القاهرة بعد الزلزال القوي الذي أثر فيه، فيقول: "وحدث أثناء بناء هذا الجامع أمر غريب يثير الدهشة، وهو ما نقل إليّ شيخنا المعروف المعتمد المحنك أبو عبد الله محمد بن ضرغام بن شكر (ت بعد 787 هـ / 1385 م) المجيء من مكة، في سنة سبع وثمانين وسبعمئة (787 هـ / 1385 م)، قائلًا:
أخبرني أحد الحاضرين خلال بناء الأمير بيبرس [الجاشنكير] للجامع الحاكمي عند انهياره خلال زلزال، أنه حينما بدأ البنّاء في ترميم المئذنة التي تضررت من جانب باب الفتوح، ظهر لهم صندوق في طبقات البناء، فاخرجه المسؤول عن البناء وفتحه، فوجدوا فيه قُطنة ملفوفة على كف إنسان بصوفها وعليها نقوش لم يعرف ما هي، والكف ناعم كأنه قريب من المقتطف"!!
وربما كشفت الزلازل في الماضي عن مدن أثرية كاملة أو أجزاء منها؛ ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في كتاب موفق الدين سبط ابن العجمي -في ‘كنوز الذهب في تاريخ حلب‘- بسبب زلزال عظيم في الشام سنة 552 هـ/1157 م "انشقّ تل في حران (تقع اليوم جنوبي تركيا) فظهرت فيه بيوت ومبانٍ ونوادٍ (= توابيت حجرية)".
قد لا يكون غريبًا أن تُحَاكِ القصص الخارقة في الحالات الاستثنائية التي تجتاح البشرية جراء الكوارث؛ فهو أمر طبيعي يلجأ إليه النفوس المضطربة ويُشغل به العقول المرهقة في وسط أزماتها؛ إلا أن الإمام الذهبي يحذرنا من الانجراف في سرد تلك العجائب دون فحص وتدقيق!
فقد أمرنا بالتأكد من أخبار "العجائب" المروجة في أوقات الكوارث العامة، وكاد الإمام ابن الجوزي في بعض سردياته لتلك العجائب، وفي ذلك قوله في كتابه ’تاريخ الإسلام‘: "قال ابن الجوزي في ‘المنتظم‘: وصلني الخبر في رمضان بزلازل كبيرة كانت في الشام في رجب، ثم ذكر هذا الفصل. قلت: الله أعلم بصحة ذلك وبحقيقة تفاصيله"! وفي موضع آخر يقول: "وقد ذكر ابن الجوزي الزلازل... فمضى ونقل ما لم يحدث"!!