لِمَاذَا لَا تَسِير الطَّيَّارَات فَوْقَ الْقَارَّة الْقُطْبِيَّة الْجَنُوبِيَّة؟
وَاحِدَة مِن أَشْهَر الِادَّعَاءَات انْتِشَارا فِي الْعَالَم حَالِيا هِي الزَّعْم بِأَن الْقارَة الْقُطْبِيَّة الْجَنُوبِيَّة (أنتاركتيكا) هِي الْمَكَان الْمُحَرّم وَالَذِي لَا يُمْكِن لِأَيِ أَحَد دُخُوله أَو حَتَّى الْمُرُور أَعْلَاَهُ بِالطَّيَّارَات.
وَفِي هَذِهِ الْحَالَة تَشْتَرِك خُرَافَة “الْأَرْض الْمُسْطَحَة” مَعَ خُرَافَة “الْأَرْض الْمُجُوفَة”، فَيَفْتَرِض مُرُوجُو الْأَوْلَى أَن الْقارَة الْقُطْبِيَّة الْجَنُوبِيَّة تُحَتوي عَلَى سُور الْأَرْض الْمُسْطَحَه، وَيَفْتَرِض مُرُوجُو الثَّانِيَة أَنَّهَا تُحَتوي عَلَى
الفجوة أو الواجهة الّتي من خلالها يمكن للمسافرين الذهاب إلى داخل القارة، حيث تستتبع عوالم مختلفة.
أنتاركتيكا والطائرات
يتم سؤال الكثير من الناس في هذا السياق: لماذا لا تطير الطائرات التجارية فوق القارة القطبية الجنوبية؟ والإجابة بشكل بسيط هي أن هناك عدة أسباب تدفع غالبية شركات الطيران لتجنب القارة القطبية الجنوبية، وعلى رأسها الظروف الجوية، حيث تتميز القارة بمناخ قاسٍ سواء في درجات الحرارة أو العواصف الثلجية.
هذه الأوضاع تجعل من الصعب والمُكلف تكييف الطائرات وتدفئتها خاصةً الوقود، بالإضافة إلى صعوبة الحفاظ على الرؤية والاتصالات بشكل مستمر، والنقطة الأخيرة مهمة حيث أنه من المُخاطر بمكان أن تسافر الطائرات أثناء تساقط الثلوج، ليس فقط بسبب ضعف الرؤية بل لأن هذا الطقس البارد يؤثر سلبًا على الاتصالات.
وباختصاص نجد أنّ التنقل جوا في المناطق القطبية (شمالًا أو جنوبًا) معقد بشكل خاص بسبب المخاوف من الحقول المغناطيسية المُضطربة فوق القطبين، حيث يمكن أن تتداخل الأقطاب المغناطيسية مع البوصلة وأنظمة تحديد المواقع العالمية الخاصة بالطائرات، مما يُعقّد مهمة تحديد المواقع الدقيقة واتجاه الرحلة.
في ذات الوقت، تعُدّ القارة نفسها مكانًا شاسعًا، حيث تُمثل خامس أكبر قارات العالم من ناحية المساحة، وتفوق مساحتها كلّ من قارة أوروبا بأكملها، وعلى هذه المساحة الواسعة تكون غير مُضيافة وصعبة بناء مطارات طوارئ بأعداد كافية.
تواجه الظروف نفسها في مناطق كثيرة حول العالم ليس فقط القارة القطبية الجنوبية، على سبيل المثال، فلا تمر الطائرات التجارية فوق التبت بسبب ارتفاع هضبتها الكبير، الذي يصل إلى 4500 متر فوق مستوى سطح البحر مما يجعل من الصعب على الطائرات الارتفاع إلى ارتفاع آمن في حالات الطوارئ.
بالإضافة إلى ذلك، تُعدّ التبت منطقة جبلية قد تؤدي إلى عدم استقرار في تدفقات الهواء وهذا ما قد يُعرّض الطائرات للخطر، خاصةً إذا كانت هذه الاضطرابات قادرة على التأثير على أنظمة الاتصالات والملاحة الجوية، مما يجعل من الصُعوبة على الطيارين التحكم في الرحلة. ومع ذلك هل سمعت أحداً يطرح السؤال: لماذا لا تسلك الطائرات فوق التبت؟ ربما عندما تظهر له نظرية مؤامرة تُزعم أن هناك من يتحكم في العالم ويُريد منا ألا نصل إلى الحدود الكبيرة.
لكن يحلق
غير أن كل ذلك لا يعني أنه من غير المسموح بالطيران فوق الجزء القطبي الجنوبي تمامًا، حيث تختار بعض شركات الطيران مسارات تمر فوق الحواف الخارجية للقارة، ولكن هذا الأمر نادر الحدوث.
بالإضافة إلى ذلك، هناك شركات سياحية تنظم رحلات لزيارة القارة، تنطلق هذه الرحلات غالبًا من أستراليا ونيوزيلندا، وتتيح للمسافرين فرصة مشاهدة المناظر الطبيعية الجليدية من الجو دون الهبوط على القارة.
وتحلق الطائرات المكلفة بالبحث العلمي فوق الجزء القطبي الجنوبي، وأحيانًا تحلق الطائرات العسكرية فوق القارة لتقديم الدعم اللوجستي أو للمساعدة في البحوث العلمية.
ليس منعًا تامًا
من ناحية أخرى، ليس الجزء القطبي الجنوبي خاليًا تمامًا من البشر، بل يسكنه العديد من العلماء.
فقد كانت أنتاركتيكا بالفعل موطنًا للبشر منذ اكتشافها في عام 1820، وفي عام 1959، كانت هناك 7 طلبات مطروحة من قبل عدة دول للسيادة على أنتاركتيكا، ولكن مع تصاعد الصراعات خلال الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، تم توقيع “اتفاقية أنتاركتيكا” لأول مرة من قبل 12 دولة، لحل النزاعات بشأن حكم القارة.
وأقرت هذه الاتفاقية أن القارة لا تنتمي لأي دولة، واستغل فرق العلماء حول العالم هذا الوضع الحيادي للحصول على دعم واسع لبرامج البحث العلمي في القارة، ونشأت مؤسسات دولية رسمية مخصصة لتنسيق الأبحاث العلمية في القارة القطبية الجنوبية، مما جعلها
القارة القطبية الجنوبية مَرْكَزًا عِلْمِيًّا عالميًّا.
قارة البحوث
فعلا، توجد اليوم واحدةً من أكبرِ التجارب العِلميّة في العالم في القارة القُطبيّة الجَنُوبِيّة، وهي تجربة “آيس كيوب”، التي تمثل مجرد إحدى أمثلة أهميتها وبُعدَها العَلَمِيّ.
فقد تمتْ في البِدايةِ اكتِشاف أوّلِ إشارات النَيُوترينو ذو الطاقة العالية في عام 2017، حيثُ تبينَ للعِلماء أن مَصدره يكمُنُ في قلب مَجرة ضَخمة تُعرَف بِ”تي إكس إس 0506+056″، تَبْعدُ مِسافة تُقَدَرُ بِحوالي 5.7 مليار سنة ضوئية، ومِنذ ذلك الحين، تَتَوالى الاكتِشافات.
وتُعَدُ تجارب البَحث في القارة القُطبيّة الجَنُوبِيّة مُنَوّعَةً وكثيرَة، بحيثُ لا تُوجَدُ إِجَابَة دَقِيقَة عن عَدَد التجارب العِلميّة هُنَاك، إذ يَتغيّرُ العَدَد كُلَّ شَهْرٍ. بيد أنَهُ في المَتَوَسّط، يَبْلُغُ عَدَد الأفراد الّذين يُقَوّمون بالبَحث العِلمي في القارة والجُزُر المُجاورة حوالي 4800 شخصٍ خَلال فَصْل الصيف، و1200 شَخْصٍ خَلال الشتاء.
لَذا يُصَفُ القارة القُطبيّة الجَنُوبِيّة بِأنَّهُ “قَارَة الأبحاث”، وهُنَاكَ عَدد من العُوامِل التي تُحرك العِلماء مِن مُختَلَف مَجَالَات العِلْمِ إلى الوُصُول إلى القارة القُطبيَة الجنُوبِيّة لدراسة جَوانِب مُخْتلفة مِن العِلْم، مَثلَ نظامها البيئي المُتَمَيِّز وِسجل بياناتها المُناخيّة.
وفي هذا السِّياق، تَعتَبر القارة القُطبيّة الجَنوبيّة مُهِمّة لِفَهْم كيفِيَّة عمَل الأرض كنظَام، وَكيفِ يتكيفُ الحياة مع البيئات الصعبة، وَكيفَيَّة يُؤَثِّرُ البشر على البيئة، وَكيفِ يُؤَثِّرُ تَغيير المُناخ على الكَوْكَب. ووفقًا للمُسَح البريطاني للقارة القطبيَة الجنوبيّة، يَقُومُ مُجَتَمَع الأبحاث القُطبية الجنوبي بِدور رَائِد في الجُهُود الدولية لِتحقيق ومُراقبة التغيّرات البيئيَّة في المَناطِق القُطبيّة.