“ما فوق الضريح”.. قصة شاب متهور يواجه الموت ليكتشف قيمة الحياة
فيلم “ما فوق الضريح” (2023) هو إنتاج فرنسي جزائري من إخراج كريم بن صالح، الذي شارك في كتابة الفيلم مع جمال بلماحي. ويستوحي عنوانه الفرنسي “ستة أقدام فوق الأرض” تعبيراً شائعاً يُستخدم عند الحديث عن الموت والدفن.
وصل المخرج إلى فرنسا في سن الثامنة عشرة، حيث يتناول في هذا الفيلم موضوعاً جديداً في السينما الفرنسية بعيداً عن النظرة التقليدية تجاه العرب في فرنسا، وخاصة سكان الضواحي. يتناول الفيلم نظرة عميقة إلى الموت والحياة، مما يجعل المشاهد ينغمس في مشاعر قوية وشخصيات غير نمطية.
السلوك الطائش.. الشرارة التي انطلقت منها القصة
تبدأ أحداث الفيلم مع الشاب سفيان (الممثل حمزة مزياني)، ابن دبلوماسي جزائري سابق، حيث يظهر كشخصية تافهة لا تنتمي إلى أي شيء، حيث يتفاخر بأنه عالمي. يظهر سفيان كشاب تائه بين أصوله الجزائرية التي يحاول إنكارها، وبين ديانته التي لا يهتم بها، منافقًا بين ليالي اللهو والسكر.
تتأثر دراسته في الجامعة الفرنسية بشدة جراء سلوكياته وهذا يُعرضه لتهديد بالطرد، إلا أنه يجد طريقه للعمل في مجال لم يتخيله، يتمثل في غسل الأموات وتنظيم الجنازات، وهو مجال بعيد تمامًا عن حياته السابقة.
تيه الطفولة والوطن.. اقتباس سردي من حياة المخرج
يواجه سفيان تغيرات في البيئة الاجتماعية التي يعيش بها، مبدئياً كان لديه مقاومة، لكنه يبدأ في قبول نفسه بعد أن يكتشف هويته الحقيقية مستشعراً ثقافة جديدة وعادات المسلمين وطقوس الموت. يصبح الفيلم رحلة لنضوج سفيان وتطوير فهمه للحياة.
ربما استلهم المخرج شخصية سفيان من تجربته الشخصية، فقد نشأ في بيئة متأثرة بالثقافات المتعددة، مما جعله يدرك معنى الموت منذ الصغر، بعد أن شهد الموت بشكل مباشر في وطنه هايتي خلال فترة عدم الاستقرار السياسية.
سحر الحاج.. شخصية جذابة تخترق نفسك بهدوء
سفيان في البداية يتعامل بتعجرف مع الموت ومع معلمه في العمل “الحاج” (الممثل عبد القادر عفاق)، لكنه بعد فترة يبدأ في التعلق بشخصية الحاج الذي يمتلك وقاراً واحتراماً عميقاً للحياة والموت. يستمد سفيان الأمان من وجود الحاج، مما يجعله يعيد تقييم سلوكه.
### تحول الشخصية: رحلة سفيان نحو السلام الداخلي
في بداية فيلم “ما فوق الضريح”، رفض الحاج التعامل مع سفيان، إلا أن رحلة التحول التي خاضها لم تكن خالية من المعاناة والارتباك. ابتعد عن عائلته وصديقته خلال صراعاته مع المحيطين به، وكانت المواجهات الأكثر تأثيرا معه هي تلك التي وقعت مع الحاج.
تغييرات في أسلوب الفيلم: من العتمة إلى النور
تحول سفيان تدريجياً إلى شخص أكثر استقرارًا وثقة بنفسه. بدأ بالاقتراب من جذوره وثقافته، واستلهم الشعور بالاطمئنان من الحاج. شهد أسلوب الفيلم أيضاً تغيراً موازياً، حيث أصبح أكثر هدوءاً في طريقة التقطيع، وتمتاز الصور الآن بالإضاءة الواضحة، مما يعكس غزو النور للإنسانية في حياته.
جمال الطقوس والتفاعل الإنساني
يستعرض المخرج بعناية طقوس التحضير للدفن والاجتماعات العائلية التي تسبقها وتليها، مما يسهم في تغيير نظرة المتفرج تجاه الموت. يتم تصوير تلك اللحظات بجمالية وحس إنساني عميق، يقدمها رجل يعبر عن احترامه لهذه الطقوس بصدق.
أداء الممثلين: تجسيد مقنع للشخصيات
تجسد الممثل عبد القادر عفاق شخصية الحاج بحضور قوي وحساسية عالية، مما جعله يتمكن من تقريب هذه الشخصية الغريبة إلى قلوب المشاهدين. تغيب هذه الشخصيات عن الشاشة غالبًا، كما هو الحال في فيلم “السقا مات” للمخرج صلاح أبو سيف.
ومع ذلك، يُظهر سفيان تطورات تشكك في مشاعره، وقد أضفى غموضًا على شخصيته. رغم أن تعابير وجهه كانت ثابتة في بعض المشاهد، إلا أن تغييراته كانت مقنعة ومعبرة عن رحلة اكتشاف الذات.
التأثير الدائم للفيلم
الخلاصة هي أن الفيلم يترك أثرًا قويًا خلال مشاهدته. يقدم علاقة إنسانية عميقة مع الموت ويبرز أبعاد الروحانية والجوانب الجمالية المتعلقة بمراسم الدفن. يُظهر كيف يمكن للحياة أن تتأمل قيمتها من خلال الاقتراب من الموت.