محاكم قضائية لمراقبة الهلال واحتفال بالطبول في مكة وأحدهم يقوم بذبح 25 بقرة يوميًا للمحتاجين.. كيف كان المُسلمون يُستقبلون شهر رمضان؟
هذا ما رآه وسجله المسافر ابن بَطُّوطَة (ت 779هـ/1377م) أثناء زيارته لمكة المكرمة خلال شهر رمضان المبارك في عام 726هـ/1326م، ويأتي ذلك ضمن الملاحظات التي جمعها لنا هذا المسافر حول التقاليد الاجتماعية والسعادة التي كانت تعم كل أنحاء العالم الإسلامي عندما يحين شهر رمضان، ووثقها خلال رحلاته في مختلف أنحاء العالم على مدى ربع قرن.
هذه المقالة تحاول استكشاف نفس المفهوم؛ حيث تمزج بين الأقوال الدينية المأثورة والتقاليد الاجتماعية والثقافية التي كانت تهيمن على المجتمعات الإسلامية خلال أشهر رمضان على مر العصور، من خلال مراقبة شاملة تجمع بين عدد من القصص والروايات التي تشرح السلوكيات الرمضانية الخاصة التي عاشها المسلمون في مختلف أنحاء العالم -سواء في المشرق أو المغرب- كاحتفال بقدوم هذا الشهر الكريم.
تندرج هذه المقالة ضمن الدراسات التي تتناول متابعة وتحليل بعض التقاليد التي سادت تاريخ الإسلام، خاصة “آداب الشعائر”، والتي من خلالها يمكن فهم كيف نُقل المسلمون مشاعرهم الدينية في واقعهم اليومي وتجاربهم الحياتية، نظراً لأن التقاليد تعتبر نقطة تلاقي لعدة عوامل من بينها التأثير الثقافي للتدين والآثار الاجتماعية الناشئة عن انتشار تعاليم الإسلام بين مختلف الحضارات والثقافات.
تُراد من العادات الرمضانية المجتمعية تلك السلوكيات الاجتماعية والثقافية التي تجعل من شهر رمضان فصلاً سنوياً لنشر الروحانية والبهجة الاجتماعية، وبالتالي فإنها ليست محصورة فقط في المساجد المزخرفة والقاعات المرتبة، بل تظهر كذلك في الحياة العامة.
عندما يقطع شخص ما مدينة إسلامية ما خلال شهر رمضان -في أي فترة زمنية- سيلاحظ بوضوح تأثير هذا الروح الاجتماعي؛ بدءًا من مراسم رؤية هلال الشهر الكريم والفعاليات الرسمية والشعبية المصاحبة لها؛ مروراً بإقامة صلاة التراويح في المساجد وعُقد الجلسات الروحية والعبادية والتعليمية، وتواصل فرضية العلاقات العائلية وتبادل الزيارات الشخصية والعائلية في الليالي؛ وتنظيم وجبات إفطار الصائمين الكريمة التي كانت -وما زالت- تأخذ مكانها في الشوارع والأزقة وتجمع عليها سكان المدن الإسلامية.
عندما نراقب العادات الاجتماعية للرمضان على المستوى الشخصي؛ سنجد تجارب مختلفة حاول المؤمنون تحقيقها من خلال المعاني الروحانية الرمضانية، حيث يوجد الذين ينعزلون للعبادة وتلاوة القرآن الكريم بتفانٍ، وآخرون يحاولون التحلي بالصبر وترك ترديد الشعر خلال شهر رمضان، كما يوجد من يُقطع عمله للتفرغ للدراسة فيما كان آخرون يزيدون من نشاطهم في نشر العلم ومساعدة المتعلمين، وهناك من يجمع بين العبادة والجهاد والصيام، وكل هذه التجارب تعد تجارب تحسينية تُغذي الروح وتُعلم النفس.
بالإضافة إلى النواحي الفردية والاجتماعية السابقة؛ فإن على المستوى الرسمي والمؤسسي عادةً لا تتأثر إيقاعات الحياة اليومية وجودة تنفيذها بوجود شهر رمضان، حيث كان الملاك يستخدمون هذا الوقت لافتتاح مرافق دينية واجتماعية جديدة أو لتجديد القديمة، ولتحسين الإنارة العامة والنظافة في المساجد والشوارع.
فعلى مر التاريخ، كان إعداد المسلمين لشهر رمضان ملفتا للنظر؛ حيث كانوا يُحيكون هذه العادات والأنشطة لنشر الحياة الروحانية لرمضان في كل أنحاء العالم الإسلامي، بـحسن تنظيم وإتقان وإثراء للجوانب الروحانية في النفوس والمجتمع، ولذا ظل رمضان دائمًا فرصة لتجديد التجربة الروحانية والنفسية، وتعزيز الروابط الاجتماعية، وتقوية العلاقة بين الحُكَّام والمحكومين، ومن الحظ السعيد أن العديد من تلك التجارب تم توثيقها للتأمل والتقليد.. وهذا ما تقوم به هذه المقالة التأريخية الشاملة!
مراسم رؤية الهلال
من المرتبط بشهر رمضان رؤية الهلال وظهور علاماته، وكذلك صيام رمضان وفقًا لحديث النبي ﷺ المقنن في صحيحي البخاري (ت 256هـ/870م) ومسلم (ت 261هـ/875م): «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ». لذا كان المسلمون يبذلون جهدًا كبيرًا لرؤية هلال شهر رمضان بدقة حسب إمكانياتهم في كل بلدة ومنطقة، وكانوا يختارون شهودًا موثوقين بعيدًا عن الكذب والتدليس، وتطور الأمر من خلال العصر العباسي حيث أصبح القضاة المسؤولون عن عمليات رؤية الهلال وتوثيق الشهادات
على تأكيد تحديد الوقت الحالي في جهود لجان رصد رؤية هلال شهر رمضان وتوثيقها وإعلانها.
ذكرنا أن المؤرخ ابن خليكان القاضي الأعظم (ت 681هـ/1282م) -في كتاب ‘وفيات الأعيان‘- أورد أن حدَّث مصر عبد الله بن لهيعة الحضرمي (ت 172هـ/788م)، الذي أُنصب قاضياً في مصر من قبل الخليفة المنصور العباسي (158هـ/776م)، كان “أول قاض تواجد لرؤية الهلال في شهر رمضان، وظل القضاة يتبعون هذا الطقس حتى اليوم”، في نهاية القرن السابع للهجرة/القرن الثالث عشر الميلادي.
تواصلت هذه العادة -على الأقل- حتى منتصف القرن الثامن للهجرة؛ حيث زار المستكشف ابن بطوطة من المغرب (ت 779هـ/1377م) مصر عام 725هـ/1325م وشهد الاحتفالات الخاصة بتحديد رؤية هلال رمضان في مدينة أبيّار شمال مصر، عندما كان يُضيف عند قاضي تلك المدينة عز الدين المليجي الشافعي (ت 793هـ/1391م).
في رحلته، وصف ابن بطوطة: “حضرتُ عنده مرة ‘يوم الركبة‘ وهو التسمية المحلية ليوم رصد هلال رمضان. يجتمع فيه العلماء والشخصيات الهامة بعد العصر من التاسع والعشرين من شهر شعبان في بيت القاضي…، عندما يكتمل حضورهم، يركب القاضي ومرافقوه كافة، وينتقل المواطنون جميعاً إلى موقع مرتفع خارج المدينة لرصد الهلال، حيث يُعدل هذا الموقع بالسجاد والأقمشة ليجلس فيه القاضي ومرافقوه لمراقبة الهلال. بعد صلاة المغرب، يعودون إلى المدينة ويحملون الشموع والفوانيس، ويضيئون متاجرهم، ويصطحبون القاضي إلى منزله قبل أن ينصرفوا، وهكذا يتم ذلك في كل سنة”.
قضاة بغداد، على سبيل المثال، كانوا يتوجهون بشهادات الشهود ولا يشاركون في رصد الهلال بأنفسهم مثل الآخرين؛ ذكر الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في ‘تاريخ الإسلام‘- أنه في عام 624هـ/1227م، استند قاضي القضاة عماد الدين أبو صالح نصر بن عبدالرزاق الجيلي البغدادي (ت 633هـ/1236م) إلى شهادة اثنين من سكان بغداد.
ذكر الذهبي أنه “راقبوا الهلال ليلة الثاني عشر رمضان دون أن يبدو، وارتكب شهود الخطأ، وأفطروا بعض أصحاب قاضي بصالح، فتم اعتقال ستة منهم واعترفوا بخطئهم، فتم حبسهم وتعنيفهم، ثم جرى تحقيق مع الشهود وتم حبسهم وضرب كل منهم خمسين ضربة”. وبسبب هذا الخطأ، اندلعت غضب الجماهير ضد القاضي حتى “احتمى أبو صالح في الرصافة [بغداد] بمنزل حريري، وتجمع الناس عند بابه، ومنعوا من دخوله، ثم تم الإفراج عنه بعد العذر”.
قد تصاحب بداية شهر رمضان ظروف جوية تجعل رؤية الهلال صعبة، مما يُسبب الارتباك والتساؤل لدى الناس؛ ومن القصص الطريفة ما رواه المقريزي (ت 845هـ/1441م) -في ‘السلوك لمعرفة دول الملوك‘- عن أهل مدينة غرناطة بالأندلس “الذين صاموا شهر رمضان (سنة 702هـ/1302م) لمدة 26 يوما، بسبب تجمع الغيوم قبل دخول رمضان. لكن عندما خرجوا لإشعال المآذن في ليلة الـ27، فاجتاحت الغيوم وظهرت الهلال فأُفطروا”!
كانت هناك مواقف مثيرة للاهتمام أثناء رصد الهلال؛ فمن تلك القصص التي ذكرها ابن خليكان عن الصحابي الجليل أنس بن مالك (ت 93هـ/713م) الذي خرج لرصد الهلال مع مجموعة من الناس، وفي ذلك الوقت كان عمره 100 عام؛ “قال أنس: رأيتُ الهلال، إنه هناك! وأشار نحوه ولكن لم يره الآخرون، نظر إياس (ابن معاوية المزني القاضي الشهير في البصرة المتوفى 122هـ/741م) إلى أنس ورأى شعرة في حاجبه تشبه الهلال، فمسح إياس هذه الشعرة ورتبها بأصبعه، ثم قال لأنس: يا أبا حمزة، أعرنا الهلال! لكن أنس كان يرد عليه بأنه لا يراه”!
وذكر ابن خليكان أيضا أن مواطنًا أعمى شاهد هلال رمضان في البصرة حتى “رآه مع آخر وشاهدانته، فأتى جماز (= محمد بن عمرو البصري المعروف بنضرة) الذي كان ملك طرائف ولاذ بشكل مرح بالرجل قائلاً: قم وأخرجني من المأزق الذي وقعت به”!
التزيين والزخرفة
كان من عادة الناس في استقبال شهر رمضان الكريم أن يزينوا بيوتهم ومدنهم بغية الزينة والتزيين؛ فكما يروي المقدسي البشاري (ت نحو 380هـ/991م) -في ‘أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم‘- في أدنى في اليمن “كان أهل عدن…في بداية شهر الصيام الكريم وصلت التقليدات إلى ذروتها، ثم تطوّر هذا الأمر -في الزمان الأخير مع الحكم العثماني- إلى ما يُسمى “نُدافع رمضان” الذي يُطلق طلقاته عند حلول وقت الإفطار. ويبدو أنه كان يُطلق أيضًا في أوقات سحور الصائمين؛ إذ يروي شهاب الدين الحلاق البديري (ت بعد 1175هـ/1761م) -في كتابه ‘حوادث دمشق اليومية‘- أنه في سنة 1155هـ/1742م “جُلِي هلال رمضان.. واشتعلت القناديل في جميع أبراج الشام، وطُرِقت ‘مدافع الاحتفال‘ في وقت منتصف الليل، وحصل زحام للناس أثناء تناول السحور، إلى أن فُتحت متاجر الطعام ليلا مثل الفطايرين والأرشونين”.
وكانت من بين هذه الطقوس العرفية زخرفة وإنارة المساجد والجوامع؛ فقد ذكر ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) -في ‘تاريخ دمشق‘- أن عمر الفاروق (ت 23هـ/645م) كان أول من أنار المساجد بالقناديل في الإسلام، إذ “مرّ علي بن أبي طالب (ت 40هـ/661م) على المساجد في شهر رمضان وكانت تُشتعل فيها القناديل، فقال: نوّر الله على عُمر في قبره تماما كما أنارت لنا مساجدنا”.
وكانت العادة أيضا تتضمن تطيب وتبخير المسجد النبوي؛ يقول ابن سعد (ت 230هـ/845م) في ‘الطبقات الكبرى‘: “إن الولاة قبل عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ/720م) كانوا يُجرّون على تطييب مسجد النبي ﷺ لصلاة الجُمعة والتهجد في شهر رمضان من [أموال] العُشُر والصدقة (= الزكاة)”، ولكن قرر عمر بن عبد العزيز التوقف عن هذه العادة كإجراء لحماية مال المسلمين.
ومنذ أيام الصحابة؛ ترتبط رمضان بالموعد السنوي لتبديل ثياب الكعبة المشرفة، فكانت العادة -حسب ما يقول الأزرقي (ت 250هـ/864م) في ‘أخبار مكة‘- أن “تُلبى الكعبة الشريفة في نهاية شهر رمضان”، منذ زمن معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ/681م)، وكان “القباطي” نوع من الأقمشة كان يُصنع في مصر منذ عهد الخليفة الفاروق.
وأولياء الأمور والحكام كانوا يهتمون بشكل خاص بتزيين المساجد وزيادة إضاءتها وشموعها وعطورها في شهر رمضان؛ فأمر الخليفة العباسي المأمون (ت 218هـ/833م) في بداية رمضان كاتبه أبا جعفر أحمد بن يوسف العجلي (ت 213هـ/828م) بتوجيه رسالة عبره إلى الولاة والمسؤولين في الأقاليم، ليولوا اهتمامهم بتجميل المساجد وإضاءتها طوال شهر رمضان.
يقول ابن يوسف في سياق القصة التي يرويها ابن طَيْفُور (ت 280هـ/893م) في ‘كتاب بغداد‘: “أتاني المأمون بأمر بالتشديد على استخدام المصابيح بكثرة في شهر رمضان، وتوجيه الناس بفضل ذلك، ولم أكن أعلم بالأمر ورأيته جديدًا، لاحتفال به أحد من قبلي فتبعت طلباته واقتراحاته، فجاءني رسول فقال: قل: ذلك ليضفي راحة على المتساءلين، ويضيء للمجتهدين، ويزيل ظنون الشكوك، ويرفع بيوت الله من الظلمات. فكتبت هذه الكلمات وغيرها مما يعبر عن نفس المعنى”.
وفي ‘زهر الآداب‘ للحُصْري القيرواني (ت 453هـ/1062م) يُذكر: “إنها إضاءة ترفه عن الباحثين..، وتريح الصائمين..، فأبلغت المأمون بذلك فأمر بالتنفيذ، وحث على تطبيق القواعد”.
قداح ودفوف
بالنسبة لوزير الأندلس البارز ومُدير شؤونها للأمويين المنصور بن أبي عامر (ت 392هـ/1003م)، كانت لديه العادة بالاهتمام بجامع قرطبة الكبير في شهر رمضان، حيث كان يرسل إليه ما يذكر ابن عِذاري (ت بعد 712هـ/1312م) في ‘البيان المُغرب‘: “من الكتَّان للفتائل في كُل شهر رمضان ثلاثة أرباع القنطار؛ وكل ما يحتاجه الجامع من زيت في السنة خمسمئة ربع أو نحو ذلك؛ يُخصص منه في رمضان بشكل خاص نحو نصف الكمية. وكان من الأمور المرتبطة برمضان تخصيص ثلاث قناطير من الشمع، وثلاثة أرباع القنطار من الكتان المختص لتركيب الشمع المشار إليه؛ والشمعة الكبيرة تُوضع بجانب الإمام؛ يبلغ وزنها من 50 إلى 60 رطلاً (من 22 إلى 32 كيلو تقريبًا)، ويحترق الجزء منها طوال الشهر، ويحترق الباقي في ليلة الافتتاح”.
كما كان الفاطميون يحرصون على إضاءة الجوامع الكبيرة في القاهرة -مثل الأزهر والمسجد الحاكمي وجامع راشدة- خلال شهر رمضان المبارك, حتى أن الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله (ت بعد 411هـ/1021م) في وقفيته على الأزهر التي نقلها المقريزي في ‘المواعظ والاعتبار‘: “للجامع الأزهر عدد 27 قَلاباً، وللجامع راشدة قلاب واحد عشر، وشرط وجودها في شهر رمضان وإعادتها إلى الموقع المعتاد الذي تُحفظ فيه”.
تأتي عادة الفاطميين في إنارة الجوامع في شهر رمضان ضمن موروثهم السنوي الذي أُطلق عليه المقريزي -في ‘الخطط‘- “فتح المساجد” الذي يتم تنفيذه قبيل دخول شهر رمضان، فقال إن “القضاة في مصر كانوا يقومون بتطبيق هذه الممارسة بانتظام عند اقتراب شهر رمضان”.
باقي على شهر الصيام ثلاثة أيام، حيث كان الناس يطوفون يوما كاملًا في المساجد والمعالم السياحية في مصر والقاهرة…، ليتأملوا جمالها وإضاءتها ومبانيها ونظافتها، وهذا العرف استمر حتى انتهت حكم الدولة الفاطمية” في عام 1171م. ووصف ابن حجر (رحمه الله) ذلك في كتابه “رفع الإصر” بأنه “يوم طواف بالمساجد والجوامع قبل حلول شهر رمضان بيومين”، وذلك لتفقُّد احتياجاتها من العطور والإنارة.
كان هذا العرف يحظى باحتفال شعبي نظرًا لأنه يختم بوليمة فاخرة؛ فكما ذكر أن “القضاة في مصر إذا بقي لشهر رمضان ثلاثة أيام، يطوفون يومًا في المعالم والمساجد بالقاهرة ومصر، بدءًا من جامع المقس، ثم جوامع القاهرة…، ليتأملوا جمالها، وإضاءتها، ومبانيها، ويُعيدون ترتيبها وتنظيفها. وكان الناس الأكثر توجُّهًا نحو باب الحكم وشهود، وكان المساءلات يتهيَّان لهذا اليوم والطواف مع القاضي لحضور الاحتفال”.
وأصبح من العادة تجديد صيانة المساجد وإعادة بنائها وتجهيزها بكل ما تحتاجه في شهر رمضان من الممارسات الضرورية المستمرة في بلدان الإسلام المختلفة، حتى أن الرحالة الأندلسي المشهور ابن جبير البلنسي (رحمه الله) كتب -في رحلته- عن ذلك في المسجد الحرام: “وتقام الاحتفالية في المسجد الحرام لهذا الشهر المبارك -ويستحق ذلك- من خلال تجديد الترتيب، وزيادة الشموع والأضواء، وغير ذلك من الديكورات لتشع الحرم بالضوء وتتلألأ بريقًا”.
واستمر هذا العرف حتى سجله ابن بطوطة -في رحلته- قائلًا: “عندما يُرئي هلال رمضان يتم ضرب الطبول والألحان أمام أمير مكة، ويُشهد الاحتفال في المسجد الحرام بتجديد الترتيب، وزيادة الشموع والمصابيح حتى يتلألأ الحرم بالنور، وتشرق البهجة والنور، ويتفرق الأئمة فرقًا، حيث يجتمع الشافعية والحنفية والحنابلة والزيدية، بينما يجتمع المالكية على أربعة من القراء: يتبادلون التلاوة ويُضيئون الشموع، ولا يترك في الحرم زاوية ولا زاوي…
تلاوة وتفرّغ
ولو كانت المساجد والمصليات تُجمَّل وتُنوّر من قبل الخلفاء والولاة لاستقبال المصلين؛ فإن الأمة برهة تلو الأخرى كانت تُوظّف الجد والاجتهاد في طاعة الله وعمل الخيرات، خاصة في شهر رمضان المبارك الذي كان يتّسم بالفضيلة، تقديرًا لتقليد النبي ﷺ والصحابة، وأولها تلاوة القرآن الكريم.
فقد نقل أبو عثمان سعيد بن منصور الجُوزَجَاني (ت 227هـ/842م) -في كتابه “تفسير من سنن سعيد بن منصور”- عن ل…الشموع (ت 204هـ/819م) قال: “في رمضان لا تحكي قصصًا، ففُتِن، وقال: من الممكن أن نُصلي جميعًا، لن نتذكر أحدًا خلال رمضان”؛ وفقًا لجمال الدين المُحَسِّن (ت 742هـ/1341م) في ‘تهذيب الاستقامة‘.
على نفس الطريق، كان قاضي الأندلس أبو بكر ابن زَرْبٍ الأندلسي (ت 381هـ/992م) يسرد، بحسب القاضي أبو الحسن النُّبّاهي (ت 792هـ/1390م) -في ‘تاريخ قضاة الأندلس‘ أو ‘المرقبة العليا‘- بأنه “كان لا يدين في شهر رمضان ويكرّس وقته للعبادة والعمل، وظلّ مُلتزمًا بهذا حتى فارق الحياة”. ومن الأمثلة الأكثر تحديثًا عن عادة تعليق الدروس الدينية خلال رمضان؛ كما نقل الإمام السخاوي (ت 902هـ/1508م) -في كتابه ‘الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر‘- عن شيخه الإمام ابن حجر العسقلاني أنه كان يمارس “ترك دروسه لأجل دخول رمضان”.
وكان بعض هؤلاء العلماء يهتمون بكتابة نُسُّخ من القرآن، مثل محمد ابن العَديم الحنفي الحلبي (ت 626هـ/1229م) -الذي كان شقيق وزير ومؤرخ كمال الدين ابن العديم (ت 660هـ/1262م)- والذي وصفه المؤرخ صلاح الدين الصفدي (ت 764هـ/1363م) في ‘الوافي بالوفيات‘ قائلًا: “كان يكتب في رمضان -أثناء اعتكافه- مُصحفًا أو أكثر”!!
ويقول المُؤرخ المُقِرِّزي -في ‘المواعظ‘- أنه في مصر خلال عهد الفاطميين “كانت العادة تتجدد من الأيام المميزة (= ترتبط بوزير فضلية الجمالي الذي توفي عام 515هـ/1121م) في الجزء الأخير من جمادى الآخرة من كل سنة: الإقفال الكامل لمحلات بيع الخمور في القاهرة ومصر ووضع الأقفال (= تأمينها بالقفل الحكومي)، مع تحذير من بيع الخمور” حتى ينتهي شهر رمضان!
كما أبدى اهتمامهم بزيادة أجور القرّاء والمؤذنين في نهاية هذا الشهر الكريم، ففي “السادس والعشرين من شهر رمضان، يصدر الأوامر بتضعيف المبالغ المخصصة للقرّاء والمؤذنين كل ليلة عند فجر اليوم بسبب هامش السحور الذي يمثل ختام الشهر”.
رباط وجهاد
وتخلّد بعض كبار علماء تونس طقوس شهر رمضان بالمُرابطة في الحصون أمام العدو، مثل الإمام المالكي سحنون التنوخي (ت 240هـ/854م) وصديقه المشهور موسى بن معاوية الصُّمادحي (ت 225هـ/840م).
وفي هذا السياق، قال سحنون، وفقًا لأبو العرب التميمي (ت 333هـ/945م) في ‘طبقات علماء أفريقية‘: “كنا نُرابط في المُنستير (= حصن دفاعي شمال تونس على سواحل البحر المتوسط) في شهر رمضان مع جماعة من أصحابنا، وكان موسى بن معاوية يبرز بطوله في الصلاة ويستمر فيها، وعندما كانت ليلة السابع والعشرين من رمضان، استمرّ في الصلاة من بدايتها إلى نهايتها”.
على رأس هؤلاء العلماء المُرابطين كان الإمام الممارس معارك العباسيين ورُكّاب البيزنطة المحترم عبد الله بن المبارك (ت 181هـ/797م)، الذي اشتهر بجهاده ضد البيزنطيين في الثغور الشمالية للشام، وقد وافته المنية “بطرطس اليومية (جنوب تركيا اليوم) في شهر رمضان من السنة مئة وثمانية وسبعين”؛ وفقًا لأبي حاتم الدارمي (ت 354هـ/976م) في ‘مشاهير علماء الأمصار‘.
كانت طرسوس مركزًا جهاديًا حيويًا ضد البيزنطيين حتى سيطر عليها الأعداء عام 354هـ/966. ومن بين أمثلة ذلك كان الحديث العراقي الشهير الجهيني بحر بن الأهوازي (ت 261هـ/875م) الذي قال عنه الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1072م) -في ‘تاريخ بغداد‘- أنه “توفي أثناء احتشاده فيمَلَطْيَة (وسط تركيا اليوم) في شهر رمضان من السنة مئتين وواحد وستين”.
كان هذا الظاهرة الملفتة انتشرت أيضًا بين علماء الأندلس؛ حيث ذكر ابن الفرضي (ت 403هـ/1013م) في ‘تاريخ علماء الأندلس‘ بأن عبد الله بن هَرْثَمَة بن ذَكْوان (ت 370هـ/981م) -والذي كان أحد أبرز علماء وقضاة الأندلس الأمويين وكان يشغل منصب “صاحب الرد” في قرطبة، وهو منصب قضائي رفيع يُماثل رئاسة المحكمة العليا في عصرنا- توفي “بكركي (= حصن شمال الأندلس) خلال الحروب الدفاعية في الصيف، في بداية شهر رمضان من السنة السبعين والثلاثمئة”.
وكان عدد من كبار علماء وقرّاء مكة المكرمة، يسعون لتنفيذ النبي ﷺ للمكافآت المضاعفة التي جعلها مع العمرة في رمضان، إذ قال: “إن عُمرة في شهر رمضان تعدل حجة” (صحيح البخاري). وفي إطار هذا الموضوع، ذكر محمد بن إسحق الفاكهي (ت 272هـ/883م) -في ‘أخبار مكة‘- أن عبد الله ابن خُثَيم (ت 132هـ/751م) قال: “لقد التقيت بعطاء (بن أبي رباح ت 114هـ/733م) ومُجاهد (بن جبر ت 104هـ/723م) وعبد الله بن كثير الدّاري (ت 120هـ/739م) وعدد من القُرَّاء (= الفقهاء) فيمن
إذا خرجوا في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان إلى التنعيم، فإنهم يعتمروا. عائشة رضي الله عنها اعتمرت كما عُمِرت. ويُقال بأن الفقيه الضرير، الشافعي محمد البنديجي كان يعتمر في شهر رمضان ثلاثين عمرة!
التسخير والتبرع
قد كانت العادة في الإسلام القديمة وصنع الطعام للمحتاجين تصدّقًا وفي بر بِهم؛ هو تقليد ديني قديم يرجع إلى عهد الخلفاء الراشدين بعد أخذه الأصحاب عن النبي الكريم ﷺ. بل اعتاد ابن الأثير في تاريخه ‘الكامل’ أن يرجِع هذا التقليد إلى العصر الجاهلي، حيث يُقال بأن عبد المطلب بن هاشم هو أول من تعبد في حِراء، وكان إذا دخل شهر رمضان صعد حِراء وأطعم المساكين طوال الشهر.
فيما يخص جهود الصحابة في هذا المجال؛ جاء في تاريخ الطبري: “كان عمر يمنح لكل شخص من أهل الفيء درهمًا يوميًا في رمضان، ويقدم لأزواج رسول الله ﷺ درهمين درهمين، وحينما قيل له لو أنك صنعت طعاما وجمعتهم عليه! أجاب: أُشبع الناس في منازلهم. فقرر عثمان بن عفان الذي كان يمني عمر ويضيف فوضع طعاما في رمضان وقال: للمتعبد الذي يخلف في المسجد والمسافرين والفقراء من الناس في رمضان”.
شرب الصائمون شرابًا عند فطرهم في المسجد النبوي الشريف؛ فوفقًا لابن سعد، كانوا يُحضرون الأشربة في مسجد النبي ﷺ في رمضان.
سلك الأمويون طريق الخلفاء الراشدين في عادة تغذية الصائمين، فوفقًا للأزرقي في ‘أخبار مكة’، اشترى معاوية بن أبي سفيان دارًا في مكة المكرمة وسُمّيت “دار المراجل” بسبب وجود أواني نحاسية يُطهى فيها طعام الحجاج وطعام شهر رمضان الذي يُقدم للفقراء والمعتمرين وغيرهم من الصائمين.
بعض الأمراء كانوا يتبعون عادة زيادة التصدق وتغذية الرعية في شهر رمضان، كما كان الأمير أحمد بن محمد بن الأغلب من تونس يُتبع تقليدًا يقضي بأن يتجول كل ليلة في رمضان مع شمعة ويُعطي الضعفاء والمحتاجين الى ان يصل الى المسجد الجامع في القيروان.
ساهم الأشخاص الصالحين والعبقرية وأشبال الأمراء والوزراء في تغذية الصائمين؛ فحماد بن أبي سليمان، شيخ الإمام أبي حنيفة النعمان كان يطعم خمسمئة شخص كل ليلة في شهر رمضان وفي ليلة الفطر كان يعطيهم ثيابًا ويمنحهم مئة درهم كل واحد.
يذكر أبو منصور الثعالبي في ‘يتيمة الدهر’ عن أن الوزير البويهي ابن عباد كان لا يسمح لأي شخص أن يدخل عليه بعد العصر خلال شهر رمضان حتى يأتي بعد الإفطار، وكانت داره مملوءة كل ليلة بألف شخص يتناولون الطعام وكانت صدقاته تصل إلى مبلغ مالي كبير ينفق طوال السنة.
وتقدم عدد من القضاة والعلماء في الأندلس على الدرب نفسه، مثل القاضي من مالقة محمد بن الحسن النُّباهي (ت 463هـ/1072م) الذي يُعتبر من قبل أبو الحسن النُّباهي (ت 793هـ/1391م) في ‘تاريخ قضاة الأندلس’، وذلك حيث كان يقيم في كل شهر رمضان نشاطًا اجتماعيًا ودينيًا مع الفُقهاء والعلماء الآخرين، يشاركون في تناول الطعام ودراسة كتاب الله معًا.
واستمرت هذه العادة الجميلة حتى زمن ابن الأثير، الذي ذكر في كتابه أن الخليفة الناصر لدين الله العباسي (ت 622هـ/1225م) قد دعا إلى تنظيم وجبات إفطار للفقراء في رمضان، حيث قام ببناء دُور في المحال في بغداد لاستضافة الفقراء وتقديم الطعام لهم بشكل يومي، وكان يوزع عليهم كميات كبيرة من اللحم والخبز كل ليلة.
وكرر حفيد الخليفة المستنصر (ت 640هـ/1242م) هذه العادة، حيث أنشأ منشأه في محال بغداد لتقديم وجبات إفطار للفقراء في رمضان، كما ذكر ابن شمائل البغدادي الحنبلي (ت 739هـ/1338م) في كتابه ‘مراصد الاطلاع على أسماء الأماكن والبقاع’.
كانت عادة ملوك الفاطميين في القاهرة تفريق الطعام على شرائح المجتمع من خلال مطابخ خاصة أنشأوها لهذا الغرض، وكانوا يوزعون الطعام على الناس في القاهرة بطريقة منظمة.
بدأت هذه العادة في عهد المعز لدين الله الفاطمي (ت 365هـ/977م)، حيث أنشأ دار الفَطرة التي كان يتوزع منها الطعام على الناس خلال شهر رمضان وحتى نصفه.
تجسدت هذه الروح في عهد القائد العسكري الفاطمي ثم الأيوبي لؤلؤ الحاجب الأرمني (ت 598هـ/1203م)، حيث كان يُقدم يوميًا آلاف الأرغفة والرغيف مع قدور الطعام للفقراء والمحتاجين، ويهتم بتنظيم توزيع الطعام بشكل يسهل عليهم وصوله بدون تدافع.
ويروي ابن بطوطة عن عادات أهل دمشق في رمضان، حيث كانوا يشاركون بتناول الطعام معًا طوال الشهر، من الأمراء والقضاة إلى التجار والضعفاء، ويجتمعون لتقديم الطعام وتناوله بشكل جماعي في دور الأحداث أو في المساجد.
وكما ذكر المقريزي في كتابه ‘السلوك لمعرفة دول الملوك’، كان السلطان المملوكي الظاهر برقوق (ت 801هـ/1399م) يُذبح يوميًا خمس وعشرين بقرة في شهر رمضان ويُوزع لحومها على الجميع بمن فيهم الفقراء وكبار العلماء والمساجد والسجون، ويحرص على تقديم وجبات غنية ومليئة للجميع.
رغبات خبز، وبعضهم من يُمنح أكبر من ذلك بحسب وضعهم”.
هيكل وأوقاف
وقد تحرص العديد من الأمراء والملوك والحكام على رفع الظلم وتأسيس العدل، والتيسير على الناس في شهر رمضان، والسير على طريق من سبقهم في البناء والتجديد لمؤسسات الخير في هذا الشهر الكريم.
فقد تذكر المؤرخ ابن قِنّاب -في ‘كتاب بغداد‘- بأن الخليفة العباسي المأمون رُفعت إليه شكوى “في شهر رمضان أن التُّجار يعتدون على الضعفاء في التعامل، فأمر بمكيال مُرسل، يحتوي على ثمانية مَكَاكِيك مكيفة، ووضع عمودًا في وسطه سمي الملجم، وأمر التُجار [ب] تنظيم مكاكيكهم عليها الصغيرة والكبيرة، فكانوا كذلك واستحسن الناس”.
ومن القصص الملهمة هنا ما يحكيه المقريزي -في ‘المواعظ‘- عن أمير مصر أحمد بن طولون (ت 270هـ/883م) الذي رأى “الحرفيون يبنون في الجامع (= جامعه الشهير بمصر) عند الغروب، وهو في شهر رمضان فقال: متى يشترون هؤلاء الفقراء وجبة الإفطار لأطفالهم وأبنائهم، انتهوا في العاشرة. أصبحت سُنّة مستمرة حتى الآن (= عصر المقريزي في القرن التاسع الهجري/الـ15 الميلادي) في مصر. عند انتهاء شهر رمضان، قيل له: انتهى شهر رمضان فليعودوا إلى عملهم المعتاد، فقال: لقد قدم إلي دعاؤهم، ولقد باركت فيه، وهذا ليس من الأعمال التي يحاول أن يتوفر لنا عليها الإنتاج. واکتمل منه (= الجامع) في شهر رمضان سنة خمس وستين ومئتين (265هـ/879م)”.
ومن المعروف أن أقدم مدرسة تأسست في العالم الإسلامي كانت ‘مسجد القرويين‘ الشهير في فاس بالمغرب، الذي بُني بمال المرأة الصالحة فاطمة بنت محمد الفِهري (ت نحو 265هـ/879م)، وأمرت ببدء بنائه في رمضان رغبة في تكثيف الأجر.
في ذلك؛ يقول المؤرخ ابن أبي زرع (ت 726هـ/1326م) -الذي يعزوه إليه أبو العباس الناصري (ت 1315هـ/1897م) في ‘الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى‘- إن فاطمة هذه “كان زوجها وإخوتها ماتوا وورثوا منهم ثروة كبيرة، وكانت حلالاً، أرادت أن تصرفها في مجالات الخير، وكان لديها نية صالحة، قررت بناء مسجد لتكون مكافأتها عند الله، اشترت الأرض من اللها، وبدأت في حفر أسس المسجد وبناء جدرانه، وذلك يوم السبت أول رمضان الكريم سنة خمس وأربعين ومئتين (245هـ/859م)”.
ورافق السلطان صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ/1193م) خطى هؤلاء، فكان رمزاً للنشاط والعمل على مدار السنة وفي رمضان أيضًا؛ ففي عام 588هـ/1192م سافر “إلى القدس في رابع شهر رمضان، وتفقد حالها وأمر بتشييد أسوارها، وزاد في بناء المدرسة التي عملها في القدس”؛ وفقا لحكاية ابن فضل الله العمري (ت 749هـ/1348م) في ‘مسالك الأبصار‘.
كما بنى الأمير المملوكي سيف الدين صُرْغَتمُش الناصري (ت 759هـ/1358م) مدرسته التي لا تزال شاهدًا على الإتقان والإبداع في الهندسة المملوكية بالقاهرة؛ يقول المقريزي في ‘المواعظ‘: “وابتدأ ببناء المدرسة يوم الخميس من رمضان سنة ست وخمسين وسبعمئة (756هـ/1355م)، وانتهى في جمادى الأولى سنة سبع وخمسين، وكانت من بين أجمل المباني وأرقها وأحسنها قالبا وأبهجها منظرا”.
محاضرات ومناقشات
وإذا كان العلماء والفقهاء مشغولين بأعمالهم وشعائرهم ويتبارون فيها خلال رمضان؛ فقد تنوعت جلسات الأمراء فيه فكان بعضهم يحبون قضاء يومهم الرمضاني في استماع لقصص الأسلاف وأخبارهم الغريبة والمثيرة من المؤرخين والمحدثين، فكان أمراء بني الأغلب [في تونس] يرسلون إلى إسحق (بن عبد الملك المَلْشُوني المتوفى بعد 226هـ/841م وكان معروفا بأخبار الأولين) ليكون معهم في رمضان، ليرووا لهم تلك الحكايات حتى يمضوا طول النهار”؛ وفقاً للعبارة أبو العرب التميمي في طبقاته.
ويذكر المقريزي -في ‘الخطط‘- بأن خليفة الفاطميين كان يقعد بعد الانتهاء من “الوجبات الرمضانية.. في الخَفيفة (= شُرفة القصر) حتى وقت السحور، والقراء تحته يتلاون عشرًا،وهم يلهون بحيث يتابعهم الخليفة، ثم بعد انتهائهم، حضر المؤذنون وبدأوا بالتكبير وتذكير بفضائل السحور، ثم اختتموا بالدعاء، وتم تقديم المخادّ للوعاظ حيث أذكروا فضائل الشهر”.
عَهِدَ سلاطين المماليك وأمراءهم في مصر والشام بتنظيم جلسات الحديث النبوي الشريف في رمضان، وربما بدأ ذلك بتقديم السلطان الموقر شعبان (ت 775هـ/1373م) كما يمكن فهم من كلام المقريزي في ‘السلوك‘: “وفي شهر رمضان من عام 774هـ/1372م بادر السلطان [الأشرف شعبان] بقراءة كتاب “صحيح البخاري” يومياً خلال شهر رمضان، بحضور جماعة من القضاة وعلماء الفقه؛ تقديراً لقراءته”.
ويقول المسافر المقدسي أن ملوك السامانيين في خراسان كانوا يعتادون عقد “مجالس… للمناظرة أمام السلطان في ليالي رمضان، حيث يطرح الموضوع ثم يبحثون فيه”. وينقل الثعالبي -في ‘يتيمة الدهر‘- عن الوزير البويهي ابن عباد أنه شارك في مجلس الوزير ابن العميد (ت 360هـ/972م) ليلاً من ليالي رمضان، بحضور الفقهاء والمتكلمين للمناظرة، وقال “وقتها كنت شابًا”.
ومثلهم، سلاطين المماليك الغورية في الهند، حيث كان السلطان محمد بن تغلق شاه (ت 752هـ/1351م) يجري مناقشات مع العلماء في هذا الشهر، يقول عمري في ‘مسالك الأبصار‘: “وحضر العلماء جلساته، وكانوا يفطرون معه في رمضان، كان يطلب من أحد الحضور كل ليلة أن يطرح موضوعًا؛ يناقش الحاضرون بحضور السلطان، حيث كان يشارك ويبحث ويجيب”.
واللافت أننا نجد جلسات للحديث والتدريس تديرها عالمات وشيخات ماهرات كانت مفتوحة للطلاب في هذا الشهر الكريم؛ حيث يروي المحدث والمؤرخ علم الدين البرزالي (ت 739هـ/1338م) أنه سمع الحديث من شيخته أسماء بنت محمد الدمشقية (ت 733هـ/1333م). ويقول الصفدي -في ‘أعيان العصر‘- بنقله عن البرزالي: “حضرت جلسة في رمضان سنة 683هـ/1284م وحضرت قبل وفاتها بأيام. كانت امرأة طيبة وذكية، كريمة وعطوفة”.
الوعظ والأدب
كانت حلقات العلم والتدريس والإلهام والوعظ نشطة ومليئة بالتفاني في هذا الشهر المبارك؛ فكان عبد الله بن عباس (ت 68هـ/688م) يصوم ويفطر في بعض السنوات في البصرة، وكان عادته أن يكون خطيبًا للناس عقب صلاة العشاء حيث قال لهم ليلة ما ورد ذلك في كتاب تاريخ دمشق لابن عساكر: “عملكم الديانة، ووفاؤكم، وزينتكم العلم، والحلم، وسلوككم الجيد؛ فإن الله جعل لكم مساحة واسعة، اتقوا الله قدر استطاعتكم”. ثم سأل أحد الحضور عن شعور الناس في زمانه، ورد عليه ابن عباس بمزيد من الحديث حول الشعر والشعراء.
ويبدو أن عرف استمتاع الجوامع بالشعر والأدب في ليالي رمضان بقي حتى الآن؛ حيث روى الأديب جمال الدين بن ظافر الأزدي (ت 613هـ/1216م) -في ‘بدائع البدائع‘- قائلا: “جمعنا ليلة في رمضان بالجامع، جلسنا بعد الصلاة للحديث، وأُضيء فانوس السحور، اقترح بعض الحاضرين على الأديب أبو الحجاج يوسف بن علي المنبوذ بـ‘النعجة‘- أن يقوم بتأليف شعر، وطلب منه ذلك كامل مهاراته؛ فصاغ ونطق:
نجم من الفانوس يشع بضوئه ** ولكن لا يسبق الكواكب
ولم أر نجما قط قبل طلوعه ** إذا غيب يمنع الصائمين من الفطور
فكلمته من بين الحضور؛ قلت: هذا تعجب خاطئ، لأننا والحاضرون شهدنا نجومًا لا تنطبق عليها القيود ولا يمكن عدّها، إذا ما اختفت تمنع الصائمين من الإفطار، وهي نجوم الصباح؛ فتجدد الحديث في الجلسة، وبدأ الجميع في تقييد وتقسيم شعره؛ فصاغ ونطق:
هذا لواء سحور يضاء به ** وجيش الشُهب في الظلماء مشرق
وجميع الصائمين يهتدون به ** ”كأنه علم في رأسه نيران””!
وكان أمراء دولة الأراتقة التركمان في ديار بكر وماردين ومناطق شمال الموصل يحبون سماع الأدب وقراءة الشعر بعد الإفطار؛ فابن شاكر الكتبي (ت 764هـ/1363م) ينقل -في ‘فوات الوفيات‘- عن الشيخ والواعظ ناشب بن هلال الحراني.
قال (تاريخ 1195م): “قصدت مناطق بكر بنية على الوعظ، وعندما وصلت إلى قلعة ماردين دعاني مالكها تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق (توفي عام 1152م) لتناول وجبة الإفطار معه في شهر رمضان. حضرت عنده ولكنه لم يكرمني أو يرتقي بمكانتي، ثم بعد الإفطار طلب من جليسه أن يحضر كتابًا، فجلبه وطلب مني تسليمه للشيخ ليتلو فيه. غضبت من ذلك وعندما فتحت الكتاب وجدت أنه ديوان لأمرئ القيس (توفي عام 540م)، وفي بدايته:
أيها الملك العالي، تباحث ألا المساء ** والمجد لا يتلاشى في الدنيا الخالية
فكنت أفكر في نفسي: أنا فقير وغريب وأبدأ بما أقرأه أمام سيد كبير وقد مر وقت طويل من الليل:
أيها الملك العالي، تباحث ألا المساء!!…؛ فتلقيت بالدور:
أيها الطَّلل البالي، أيها الملك العالي ** ودائمًا تحافظ على العز والشرف
ثم أكملت القصيدة، فأشرقت وجه السيد بسبب ذلك ورفع جلسته واستدعاني إليه، وكان ذلك السبب في نجاحي معه”.
هذه بعض المظاهر والتقاليد التي كان يستقبل بها المسلمون -عبر الأجيال والظروف المختلفة- شهر رمضان المبارك عبر الزمان والمكان، تُبيّن لنا أن هذه الأمة لم تعرف -بشكل عام- التخاذل والملل في هذا الشهر الكريم، إذ كانوا يمارسون العبادة والإنفاق والتعليم والبناء والترميم، ويتنافسون في الأعمال الصالحة بين أطيافهم المختلفة وأوساطهم وأوقاتهم وأحوالهم.