مراجعات الخطاب الإسلامي حول اليهود والصهاينة
وسوف تزداد هذه المواقف، كلما اتسعت رقعة التظاهر والتضامن، وهو ما طرح سؤالًا من متابعي الخطاب الإسلامي – من قبلُ والآن – حول النظرة الموروثة عن اليهود، فقد كان الخطاب الإسلامي المعاصر يتحدث عن اليهود حديث المذهب الواحد، والوجهة الواحدة في المواقف من قضايانا، وهو ناتج عن خطاب قام في مجمله على الوعظ والنظرة المجملة، دون التمحيص والتدقيق.
كثيرًا ما يحدث الدمج دون تفرقة بين مفردات ثلاثة من المهم جدًا التفريق والتفصيل بينها، هي: بنو إسرائيل، واليهود، والصهاينة. فكل مفردة من هذه المفردات لها مدلولها، ولها أوصافها التي تختلف في التعامل معها عن الأخرى، وهو ما نلاحظه في خطاب القرآن الكريم في حديثه عن المخالف دائمًا، فلا يجعل الحديث جملة واحدة، ولا توجهًا واحدًا، بل يميز بين الفرق والطوائف، وعند حديثه يترك مجالًا للاستثناء في هذه الطائفة، أو هذه الشريحة، حتى لو كان الحكم عليهم جميعًا عقديًا، هو حكم واحد، بأنهم لا يؤمنون بالإسلام.
تجديدات القرضاوي
وممن قدّموا تجديدات مهمة في الخطاب الإسلامي في عصرنا: الشيخ يوسف القرضاوي، وبخاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع اليهود، والتفرقة بين المعتدين منهم، وهم من يطلق عليهم: الصهاينة، وبين غير المعتدين، وهم من لا ينتمون للصهيونية، وينتمون لليهودية كديانة، دون ممارسة العدوان على أفراد أو دول.
فمنذ عشرين عامًا أصدر القرضاوي كتابه: (خطابنا الإسلامي في عصر العولمة)، وكان من أهم القضايا التي طرحها فيما يتعلق بموضوعنا، أنه رفض دعوات بعض المشايخ التي تدعو على اليهود أو النصارى بالمطلق بالهلاك، وأن ييتّم أطفالهم، ويرمّل نساءهم، ويجعلهم وأموالهم وأولادهم غنيمة للمسلمين.
رفض القرضاوي هذا النهج، وأطلق على هذه الأدعية مصطلح: “الأدعية الاستفزازية”، مبينًا أنها تخالف منهج القرآن والسنة في الدعاء، والتعايش مع غير المسلمين، وأن الدعاء يكون على المعتدين والظالمين من كل الديانات بمن فيهم المسلم، وليس على أتباع ديانة بالإطلاق.
ليسوا أحفادًا للقردة والخنازير
كما رفض القرضاوي ما يطلق في خطاب بعض الدعاة والخطباء، أو العامة، بإطلاق وصف على اليهود بأنهم: أحفاد القردة والخنازير، وأنه وصف لا يصح شرعًا، وهو وصف استفزازي لا يليق بخطاب الآخر الديني. وفضّل القرضاوي في خطاب الآخر الديني، بأن يطلق عليهم: غير المسلمين، بدل مصطلح: الكفار، وبخاصة أهل الكتاب منهم، والذين أولاهم القرآن الكريم عناية خاصة بالحديث، وأعطاهم مكانة خاصة في التعامل.
وهذه التجديدات المهمة في الخطاب الإسلامي، سواء للقرضاوي، أو لآخرين، مثل: الشيخ محمد الغزالي، والدكتور محمد عمارة، وغيرهم من العلماء، لم يصل كثير منها للعامة من الناس، فظلت أفكارهم محصورة في فئة الباحثين المهتمين بكتب وإصدارات هؤلاء العلماء، ولذا عندما جاءت مثل هذه الأحداث، وقع البعض في حيرة من الأفكار الموروثة عن اليهود، وبين الواقع الذي يراه الناس، وبخاصة في أوروبا وأميركا.
ميزان قرآني دقيق
وزاد من الإرباك في الموقف، ما يستدلّ به أصحاب هذا الخطاب الرافض، من نصوص قرآنية ونبوية، دون النظر لموقف القرآن الكلي لهذه القضايا، وليس لنص جزئي، يتم الاستشهاد به دون الإلمام بنظرته الكلية في التعامل مع المخالف الديني، سواء كان يهوديًا أو مسيحيًا، أو غير ذلك، وهو ميزان التعميم، دون التدقيق في الأمر، والابتعاد به عن الإنصاف، وهو توجّه يخالف ما نادى به القرآن الكريم.
فالقرآن الكريم يحل هذه الإشكالية، بهذه المنهجية القرآنية والميزان الذي لا يختل، فيراعي في خطابه الإنصاف وعدم التعميم، ولو دقق القارئ بكل آية قرآنية في سياق الحديث عن الناس، أو الشرائح المجتمعية، سواء كانت مؤمنة أو غير مؤمنة، فسيجد كل كلمة: (ومن) و(ومنهم) و(ليسوا سواء)، وكل الصيغ التي تدل على التبعيض في سياق الحديث عن شريحة من الناس، فهي بذلك تستثني منهم من يأتي بعدها، وهو ميزان دقيق يتجه بقارئه ومتبعه إلى الإنصاف في التعامل أو الحكم على الناس.
كثيرا ما يحدث الدمج دون تفرقة بين مفردات ثلاثة: “بنو إسرائيل، واليهود، والصهاينة” مع أن لكل مفردة منها مدلولها الخاص وأوصافها التي تختلف عن الأخرى
وهذا ميزان قرآني دلّ عليه الاستقراء للنصوص، فمنها مثلًا قوله تعالى: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة) آل عمران: 113، فالآية هنا تنفي عن أهل الكتاب أنهم ليسوا جميعًا أصحاب توجه واحد، وليسوا سواء في الحكم عليهم. وقوله تعالى: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك إلا ما دمت عليه قائمًا) آل عمران: 75، فهنا بينت الآية سلوك أهل الكتاب في التعامل المادي، وأنهم ليسوا وجهة واحدة، ولا أصحاب سلوك واحد، فمنهم من يؤتمن على قنطار من الذهب، يستدينه ويؤديه إليك، ومنهم من لا يؤتمن على دينار واحد، إلا إذا ظللت مثابرًا في المطالبة به.
وعند حديث القرآن الكريم عن اليهود، وعمن عادوا الإسلامَ، وكذبوا رسوله، في سياق ذكر صفاتهم السيئة، لم يتكلم بإطلاق، بل جعل مساحة للاستثناء، فقال تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم لعنّٰهم وجعلنا قلوبهم قاسيةٗۖ يحرّفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظّٗا مما ذكّروا به ولا تزال تطّلع على خائنة منهم إلّا قليلًا منهم فاعف عنهم واصفح إنّ اللّه يحبّ المحسنين).المائدة: 13، فنلاحظ القرآن هنا قال: (إلا قليلًا منهم) قال الإمام ابن عطية: (ثم استثنى – تبارك وتعالى – منهم القليل، فيحتمل أن يكون الاستثناء في الأشخاص، ويحتمل أن يكون في الأفعال).
ويقول الإمام محمد عبده: (وأما قوله: (إلا قليلًا منكم) فهو استثناء لبعض من كانوا في زمن سيدنا موسى عليه السلام، أو في كل زمن، فإنه لا تخلو أمة من الأمم من المخلصين الذين يحافظون على الحقّ بحسب معرفتهم وقدر طاقتهم. والحكمة في ذكر هذا الاستثناء عدم بخس المحسنين حقهم، وبيان أن وجود قليل من الصالحين في الأمة لا يمنع عنها العقاب الإلهي إذا فشا فيها المنكر، وقلّ المعروف).
ومن هذه النماذج الكثير في القرآن الكريم والسنة النبوية، ما يدلل على أن النظرة للناس، سواء من وافقونا أو خالفونا في العقيدة، لا تكون نظرة عامة مجملة، بل تكون قائمة على الإنصاف، وأنه لن نعدم وجود المنصف والقائم بالحق عند المخالف، وبخاصة في القضايا الإنسانية، والعيش المشترك، وأن هناك عوامل كثيرة تصنع التغيير الإيجابي في سلوك الناس، وفي مواقفها. وهناك عوامل أخرى تصنع التعصب والضيق بالآخر، والعدوان عليه وعلى دمه وأرضه وماله.
بقيت نصوص تتحدث عن الآخر الديني، سواء كان يهوديًا أو نصرانيًا أو غيره، وبخاصة الحديث عن صفات اليهود مثلًا، وموقفهم من الإسلام وثوابته، فهل كان حديث القرآن حديثًا عامًا عن كل يهودي في أي بقعة من الأرض، أم عن فئة محددة؟ وهل كان عن صفات دائمة ومستقرة لا تقبل التغيير، أم عن صفات تنتج عن موقف عقدي، وانغلاق يستتبعه ما ذكره القرآن؟ وهل جاء الخطاب القرآني فيها بصفة التعميم، كقانون قرآني لا ينخرم، بالحكم على طائفة كاملة لا يختلف فيها جيل عن جيل؟ يحتاج الجواب لتفصيل في مقال آخر إن شاء الله، ولبيان وجهة القرآن في حديثه عن العقيدة والإيمان بها، وحديثه عن المعاملة والعيش المشترك، وما جرى من خلط بينهما في خطابنا الإسلامي.
رابط المصدر