معركة ميسلون.. كيف خلقت الهزيمة طريقًا لأحداث سوريا الحديثة؟

By العربية الآن



معركة ميسلون.. كيف خلقت الهزيمة طريقًا لأحداث سوريا الحديثة؟

maysaloun2 1714721068
جنود سوريون في قتال ميسلون (وسائل التواصل الاجتماعي)
معركة ميسلون كانت نقطة تحول بين حقبتين ودولتين، دولة الاستقلال التي تمناها السوريون خلال عهد الملكية الهاشمية، ودولة التبعية للجيش الفرنسي الذي سيكون احتلاله للبلاد بداية لحقبة جديدة ستُؤشّر تاريخ سوريا الحديث على مدى القرن الماضي وحتى اليوم الحالي.

بدأت هذه المصيبة مع الثورة ضد السلطان عبد الحميد الثاني في عام 1909م، وكانت هذه الثورة بداية سلسلة من الهزائم العسكرية العثمانية الطويلة على عدة جبهات في البلقان ومصر وفلسطين وسوريا والعراق والجزيرة العربية.

خلال السنوات التسع التالية لعزله، انخرطت حكومات الاتحاد والترقي اللتين تولتا السلطة في الدولة العثمانية في مغامرات عسكرية لم تكن مخطط لها على الإطلاق.

تحت ظل هذه المغامرات، كانت القوى العظمى المناورة مثل البريطانيين والفرنسيين والروس يتكاتفون لإعادة تشكيل إرث “الدولة المريضة” كما وصفوها بناءً على مصالحهم الاستراتيجية.

جمال باشا
(وُسَط)

قصة الاتحاديين وفشل الشرق

قد تم إطلاق سراح الضباط الاتحاديين في وقت الحرب العالمية الأولى في عام 1914، حيث قاموا بالانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني وقادة الدولة العثمانية، ووقفوا مع الألمان، ليتحالفوا معهم، فيُمتدّ عنهم تأثيرهم من أوروبا حتى الشرق الأوسط.

تسلّط القائد العسكري التركي جمال باشا، الذي كان ملقباً بـ السفّاح، وقتذاك حاكماً عثمانياً لسوريا؛ حيث كانت سمته البارزة قساوته وحزمه وعنفه الشديد ضد الحركة القومية العربية الناشئة، ولا سيما من العرب المتعاطفين مع الإنجليز أو المُطالِبين بالاستقلال عن الدولة العثمانية.

شروعه في سياسته منذ عام 1915م كان عنيداً حتى وصلت أمور إلى درجة القبض على الكثير من الشباب والمثقفين، ثم تنفيذ عقوبة الإعدام بحق كثير منهم.

كما يقول المؤرخ الأميركي ديفيد فرومكين في كتابه “سلام ما بعده سلام”، أعلن الشريف حسين، أمير مكة والحجاز، عن انطلاق الثورة العربية الكبرى، بهدف إخضاع جزيرة العرب والعراق والشام تحت دولة أو خلافة عربية، سعياً لتحقيق ذلك بالتحالف مع البريطانيين، بعد التواصل المشهور مع السير ماكمهون، سفير بريطانيا في القاهرة حينذاك.

وانطلقت المواجهة بين العرب والعثمانيين مباشرة في غرب الجزيرة العربية تحت إشراف الكولونيل توماس إدوارد لورنس المعروف بـ لورانس العرب، الذي تعاون مع أبناء الشريف الحسين وأبرزهم الأمير فيصل والأمير علي.

أسفرت هزيمة العثمانيين والألمان وفشل محاولتهم عبور قناة السويس في الحملتين العسكريتين عام 1915 و1916 عن تحول الجانب الإنجليزي من الدفاع إلى الهجوم، وتحت إشراف الجنرال إدموند ألنبي، تمكّن الإنجليز وحلفاؤهم، بالتزامن مع تقدُّم القوات العربية بقيادة الأمير فيصل بن الحسين والدعم من لورانس غرب الجزيرة العربية وشمالها إلى الشرق الأردن وفلسطين، من هزيمة القوات العثمانية المتواجدة في تلك المناطق.

وذهب هذا الهجوم إلى تحقيق سقوط القدس في نهاية ديسمبر/كانون الأول 1917، وطرد العثمانيين من الجزيرة العربية وجنوب الشام، فأصبح الطريق مفتوحاً أمام الحلفاء إلى دمشق وجميع المناطق السورية، حسبما يفيد المؤرخ عارف العارف في كتابه “تاريخ غزة”.

إدموند ألنبي في مدينة القدس في ديسمبر/كانون الأول 1917 (رويترز)

سوريا بلاد عربية تحت رعاية الحلفاء

خلال ذلك الوقت، كان هُناك اتفاق سايكس بيكو بين الإنجليز والفرنسيين في عام 1916، يهدف إلى تقسيم تركة الدولة العثمانية في الشرق الأوسط، مُحددًا بإلزام ساحل بلاد الشام وقليقية جنوب الأناضول وسوريا الداخلية بسيطرة الفرنسيين، إلا أن البريطانيين حاولوا تأجيل تسليم سوريا للفرنسيين وجعلها دولة مستقلة تحت قيادة الشريف حسين وأبنائه، مخافة من عواقب احتلال فرنسا لدمشق أحد روابد العالم الإسلامي.

ومع دخول ممثل فرنسا إلى سوريا مقترنًا بالجنرال البريطاني ألنبي وتأكيده على تنفيذ اتفاقية سايكس بيكو، أعلن ألنبي في نهاية الاجتماع على الأمير فيصل بعد الاتفاق التالي:

  • تُعتبر فرنسا دولة واصطناعية في سوريا.
  • تستولي فرنسا على إدارة سوريا من قِبَل الأمير فيصل نيابةً عن والده الملك حسين، باستثناء فلسطين التي تقع تحت حكم بريطاني، ولبنان تحت الاحتلال الفرنسي.
  • لابد من وجود ضابط اتصال فرنسي لدى لورانس البريطاني.

سُخِط الأمير فيصل جدًا بسبب هذا الإعلان؛ لأنه لم يكن مطلعًا على تفاصيل اتفاقية سايكس-بيكو بين البريطانيين.وسيطرت الجيوش البريطانية والفرنسية على أرض البلاد بفعل القوة وتفاوض لورانس دون علمه.

لم يمر وقت طويل حتى زار الممثل الفرنسي جورج بيكو للبنان في 11 أكتوبر 1918م لبدء مهامه السياسية تحت رعاية القائد العام البريطاني آنذاك في منطقة الشام.

تم تقسيم بلاد الشام بشكل فعلي بين الفرنسيين والبريطانيين:

  • سيطرت المناطق العربية الداخلية على يد فيصل بن الحسين بمرافقة فرنسية خلال الفترة من 1918 حتى 1920.
  • كانت لبنان وسواحل الشام تحت الاحتلال الفرنسي مباشرة.
  • فلسطين وشرق الأردن كانت تحت سيطرة البريطانيين بعد تفاوضهما وتوزيع المنطقة وفقًا لاتفاقية سايكس بيكو.

حكم فيصل بن الحسين سوريا، وأعلن المؤتمر السوري في دمشق في مارس 1920م عن ملوكيته على البلاد.

بسبب اعتراض فرنسا على إجراءاته، انسحبت القوات البريطانية من سوريا والأناضول، حسب ما ذكره المؤرخ يوسف الحكيم في كتابه “سورية والانتداب الفرنسي”.

قرار مؤتمر سان ريمو ١٩٢٠م لمنح فرنسا انتداب سوريا ولبنان (مصدر الصورة)

معركة ميسلون والسيطرة الفرنسية

وفقًا للمؤرخ ستيفن هامسلي لونغريغ، عقد مؤتمر سان ريمو في أبريل ١٩٢٠م، حيث أعلن مجلس الحلفاء عن تفويض فرنسا بالانتداب على سوريا ولبنان.

في ١٤ يوليو ١٩٢٠م، أرسل الممثل الفرنسي في لبنان الجنرال هنري غورو إنذارا رسميا إلى فيصل في دمشق والبرلمان السوري ينص على:

  • إلغاء التجنيد الإجباري وتفريق الجيش من ١٠ آلاف مقاتل.
  • الموافقة على الانتداب الفرنسي.
  • قبول العملة الفرنسية الجديدة.
  • تسليم السكك الحديدية وموارد أخرى للفرنسيين.

وبالرغم من خيارات الاستسلام التي قدمت، فإن فيصل وحكومته وافقوا على الاستسلام للاحتلال بسبب ضغط شعبي كبير بتهمة الخيانة.

الأمير فيصل بن الحسين (مصدر الصورة)

وفي مواجهة هذا الانتقاد، قرر فيصل التراجع عن الاستسلام والدفاع عن سوريا ضد الفرنسيين، واستلم العقيد يوسف العظمة مهمة تنظيم القوات وقيادة المتطوعين.

يوسف العظمة، الذي كان يجيد العديد من اللغات ومنها العربية والفرنسية والتركية والألمانية، كان عمره آنذاك ٣٦ عاما، وكان يحظى بسمعة طيبة لشجاعته ومعرفته الواسعة.في إسطنبول عام 1903م، وُلِدَ يوسف العظمة في المدرسة الحربية العثمانية. وبانتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918م، عاد إلى دمشق حيث اختاره الأمير فيصل كمرافق ومستشار، ثم تولى رئاسة أركان الجيش السوري الناشئ.

كان العظمة من بين القادة الذين تصدوا لقرار الملك فيصل بالموافقة على الانتداب الفرنسي وتفكيك الجيش. نشأت عقيدته العسكرية على قدوة القادة العسكريين العظماء في تاريخ الإسلام الذين واجهوا الأعداء والمحتلين.

كما تأثر العظمة بالمدرسة العسكرية الألمانية التي درس فيها، حيث اعتمدت عقيدته على ضرورة القتال والصراع بلا هوادة. وأشاد بمثل بلجيكا التي فضلت مواجهة القوات الألمانية على الرغم من علمها بخسارتها. ولكن لكي لا يُسجل في التاريخ أنها استسلمت بدون صراع.

وبناءً على ذلك، أسند الملك فيصل بن الحسين قيادة المعركة إلى وزير الحربية الشاب يوسف العظمة. نجح العظمة بجهدٍ كبير في إعادة تجميع الجيش وتجنيد المتطوعين الذين تم فصلهم من الخدمة. ووصل عدد الجنود الذين جهزها بالبنادق القديمة من الأسلحة العثمانية والإنجليزية والإيطالية إلى ما بين 3 آلاف إلى 4 آلاف جندي.

في المقابل، استعان الفرنسيون بقوات سينغالية وأخرى بلغ عددها 9 آلاف جندي، مُدربين تدريبًا عاليًا، ومجهزين بأحدث الأسلحة والمعدات العسكرية. التقت الطرفين في 24 يوليو/تموز 1920م في منطقة ميسلون غرب دمشق.

اندلعت معركة ميسلون في جو من الحر الشديد لمدة 6 ساعات، حيث أظهر المقاومون السوريون والعرب إصرارًا قويًا. وقد وقف وزير الحربية يوسف العظمة بجانب أحد المدافع، وليس كقائد يبعد عن ساحة المعركة.

بدت واضحة الفارق الكبير في التنظيم والتجهيز بين الخطة العسكرية الفرنسية والجيش السوري والعربي الذي كان غير معد ومجهز بالمعدات المثلثة.

بعد ساعات من المعركة، انهزمت القوات السورية وسقط ضحية الاستشهاد 400 جندي سوري وعربي، في حين قتل 400 فرنسي وسينغالي وجُرح 1600 بالإضافة إلى 40 ضابطًا. يتصدر القائد العظمة قائمة الشهداء.

بعد الهزيمة، دخل الفرنسيون بقيادة الجنرال غورو دمشق. واتخذ أول قرار لهم كان إخراج الملك فيصل وحاشيته من سوريا وإسقاط حكومته لتأسيس حكومة جديدة موالية لهم. وهكذا بدأت فترة الانتداب الفرنسي على سوريا التي استمرت حتى عام 1946م وشهدت عدة انقلابات عسكرية.

وفي سبتمبر/أيلول 1920م، أعلن الفرنسيون عن قرار تقسيم لبنان عن سوريا، ويعدمون إنشاء لبنان الكبير وجعله مستقلاً عن سوريا تحت سيطرتهم.

موكب الجنرال هنري غورو في مدينة حلب بعد هزيمة ميسلون ودخول الجيش الفرنسي سوريا في عام 1920 (شبكات التواصل)

وتجاوز الفرنسيون هذا الفصل وقرروا تقسيم سوريا بناءً على الانتماءات الطائفية والإقليمية، حيث أعلنوا في نوفمبر/تشرين الثاني من نفس السنة تقسيم البلاد إلى أربع إقليميات هي حلب شمالاً، ودمشق جنوباً، وإقليم العلويين على الساحل السوري، وجبل الدروز في الجنوب، مع كل إقليم يديره حاكم مستقل تحت إشراف المفوض الفرنسي، ويتطلب التصديق على قراراتهم الهامّة منه، وفقاً لشهادة القاضي والمؤرخ يوسف الحكيم.

وواجه الفرنسيون مقاومة شديدة من جانب الطائفة السُنية والدروز، بالرغم من محاولاتهم لتفريغ السواحل السورية من السنة وإقامة أقليات تابعة لهم، وهذا ما يؤكده كتاب “تاريخ سوريا المعاصر من الانتداب حتى عام 2011م” للمؤرخ كمال ديب الذي يقول: “كانت سياسة فرنسا في تأسيس إقليميات طائفية شرق المتوسط تستهدف استبعاد السنة عن سواحل البحر”.

حسني الزعيم كان زعيم الانقلاب العسكري الأول في سوريا عام 1949 (شبكات التواصل)

استمر اللعب بورقة التفرقة الطائفية ودعم الأقليات والانتماءات الإقليمية لمدة 26 عاماً من فترة الاحتلال الفرنسي والمعروفة بـ “الانتداب”، مما فجر تناقضات شديدة وعجز سياسي وفكري بين السكان السوريين وأدى إلى صعود طبقة العسكريين لتولي السلطة.

وكانت سوريا أول الدول العربية التي شهدت انقلابًا عسكريًا في عام 1949م برئاسة حسني الزعيم، وتلاه سلسلة من الانقلابات العسكرية توجت بصعود حزب البعث في عام 1963م وتولي حافظ الأسد الحكم الشامل في عام 1970.

إنَّ الكارثة السورية المعاصرة والمستمرة جزءًا أساسيًا من نتائج معركة ميسلون التي فتحت الباب أمام الاحتلال الفرنسي وكل ما تبع ذلك.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية



أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Exit mobile version