مفاهيم التواضع العربية.. فلسفتها، وعندما يُعتبر العرب النص لائقًا أو بديعًا؟
كان علماء الإلقاء يدركون من القدم - كما ذكره السيوطي - الاختلاف الواضح بين الإلقاء العربي أو ما سُمي بالإلقاء بأسلوب العرب وبين الإلقاء بأسلوب الأعجم وأتباع الفلسفة التي يمثلها كل من السكاكي والقزويني والتفتازاني، حيث لم يكن في صفوفهم إلا علماء أو أهل حوار ومنطق، لذا نجحوا في إقامة مبادئ وقواعد لعلم الإلقاء وتحديد وجوهه ومساراته.
ما فروع الإلقاء العربي؟
ينقسم علم الإلقاء إلى 3 فروع معروفة، وهي علم البيان وعلم المعاني وعلم البديع، وقد اعتمد في هذا التقسيم على ما جاء في كتاب السكاكي "مفتاح العلوم"، وتبعه في ذلك الخطيب القزويني (739 هـ)، فأصبح علم البيان درع القول الذي ينصرف عن تعقيده المعنوي، وأصبح علم المعاني درع القول عن الخطأ، أما علم البديع فهو سُماته الحسنة وزخرفته الظاهرة.
وعرّف السكاكي علم المعاني في "المفتاح" قائلاً "هو اتباع خصائص هياكل الكلام في التوضيح والاستحسان وغيرها، ليُحصى بها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ظروف الحال المطلوبة".
يتناول علم المعاني البحث في أوضاع الجملة العربية، كالارتباط والأسلوب الإخباري والتأليفي، والفصل والوصل، وأسلوب الاختصار، والاقتصار والتفصيل، ويتناول أحوال أجزاء الجملة كالتقديم والتأجيل، والذكر والحذف، والتعريف والتوكيد، وغير ذلك من مباحث تُجسد فهم علم المعاني وموافقته لظروف الحال.
وعرّف الخطيب القزويني علم البيان بقوله "علم يتعرف به على إيجاد المعنى الواحد بطرق متعددة في وضوح إشارته"، وقسّمه بناء على كلام السكاكي، إذ يتناول علم البيان التشبيه وأساليبه وأنواعه وأهدافه، ويتناول البحث في الحقيقة والتشبيه، والاستعارة وأنماطها وتصنيفاتها، والفرق بينها وبين التشبيه، ومميزاتها الإلقائية، ودورها الجمالي، ويتطرق إلى تناول الكناية وسرها الجمالي وأشكالها المتنوعة واختلافها عن التعريض، وما إلى ذلك.
وفيما يتعلق بعلم البديع، نجد أن دلالة المصطلح وأهميته وتصنيفه كفن من فنون الإلقاء أمر مختلف فيه، حيث كانوا يرونه نوعًا من أنواع الإيجاد والفصاحة والإلقاء، ورأى السكاكي أنه جانب من جوانب تحسين القول فقط دون إدراجه ضمن علم الإلقاء.
ثم خلاصة عما ورد في القسم الثالث من كتاب "المفتاح" للسكاكي موجودة في كتاب "المصباح" لبدر الدين بن مالك (توفي 686 هـ)، وأطلق عليه القسم الثالث من الإلقاء "البديع"، وربط معرفته بهوامش التحسين الفصحى، وقسّمه كما هو معروف عنها حاليًا إلى تزيينات لفظية تتعلق بالألفاظ وأخرى معنوية تتعلق بتحسين المعاني، وأوضح أن بع...
ما أسس فلسفة فروع الإلقاء العربي؟
تستند فلسفة علم المعاني على تطابق القول مع ظروف الحال، أو بعبارة أخرى هو إنسجام الكمية كما ورد عن الجاحظ، مع مراعاة قدرة المتكلم ومكانته الاجتماعية والسياسية، وكذلك موقع المخاطب ومستواه العقلي وخصائص شخصيته المؤثرة عليه إذا كانت معروفة للمتكلم، وعلى سبيل المثال قد يكون قوله تعالى ملاحظًا لسيدنا النبي الكريم في سورة التوبة الآية 43 "عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين"، حيث جاء في تفسير القرطبي "قوله تعالى (عفا الله عنك لم أذنت لهم) قيل: هو افتتاح كلام كما تقول: أصلحك الله وأعزك ورحمك كان كذا وكذا، وحسب.".
هذا التفسير يسهم في التعمق في فهم عبارة "عفا الله عنك"، ويوضح أهمية إعلامهم بالعفو قبل ارتكاب الخطيئة لتجنب هروب قلبهم بعد ذلك، وقد قيل: المقصود بـ "عفا الله عنك" هو مغفرة الله لك عندما تُسامح الآخرين، لذا لا يجب الوقوف عند قول "عفا الله عنك" بهذا المفهوم. وذكر القشيري أن هذا التعبير هو شكل من أشكال التوبيخ بأسلوب لطيف حينما قال: "عفا الله عنك". وكانت لديه قول بأنه رُفض النهي الأول وأظهر العفو في شكل التوبيخ.
وعلم البيان، كما وصفه السكاكي، هو تفسير المعنى الواحد بأساليب متنوعة لإظهار وجلاء هذا المعنى، من خلال التعبير بوضوح وإبراز الدلالة عليه بالإضافة إلى التقليل لتجنب الخطأ في فهم المعنى الكامل. لذلك، فلسفة علم البيان تعتمد على توصيل المفهوم الواحد بأساليب متعددة مستفيدة من إمكانياتك اللغوية والأدبية، مثل استخدام الاستعارة للإشارة إلى الأفكار بكلمات قليلة، فعلى سبيل المثال تقول عبد القاهر الجرجاني: "الاستعارة تعني التأكيد على المعنى بدون اللجوء إلى الكلمة المستخدمة للدلالة على هذا المعنى في اللغة".
ومن جانبه، يتمحور علم البديع حول معرفة المتحدث بأساليب التجميل اللغوي والمعنوي. في سياق العبارات، يمكن أن تجمع كلمات متضادة لإبراز وتأكيد المعنى من خلال تناقضها. وباستخدام التجانس أو التجنيس، يمكن تحسين المعنى وتزيينه بشكل لفظي.
ما هي الاختلافات بين علم النحو وعلم البلاغة في اللغة العربية؟
إذا كان هناك شيء يميز العربية عن غيرها من اللغات بشكل واضح ويمنحها مكانتها المرموقة، فهو تميزها بالبلاغة. على عكس علم النحو الذي يركز على القواعد والتطبيقات اللغوية لتحديد صحة التعبير، تعتبر البلاغة روح اللغة وسرّ جمالها وتميزها. ومن الأخطاء الشائعة في تعليم البلاغة العربية هو اتباع نهج التعليم النحوي والصرفي، حيث يُقدم المعلمون خصائص البلاغة وتعريفها دون تفكير عميق وتحليل دقيق. البلاغة تعتبر روح اللغة التي يجب استكشافها ودراستها بعمق لاكتشاف جمالها وتعمقها.
فإذا كان اتقان علم النحو يعزز صحة اللغة، فإن دراسة البلاغة تعزز الإحساس الدقيق والذوق الأدبي لاكتشاف جماليات الجمل العربية والتمتع بصياغات أدبية راقية.
يهتم علم النحو بصحة بناء الجملة وأجزائها، بينما يتفحص علم البلاغة بعمق العبارات والمعاني المتأتية منها. هذا ما يميز اللغة العربية ويجعلها فريدة من نوعها.
حين يكون العرب النص جيدا أو متميزا؟
تأمل في تعريف الذوق اللغوي والاختلاف بينه وبين الإيضاح يبدو مناسبًا لنا أن نحدد كيف قام العرب في القديم بتمييز النصوص وترقيتها بتقديرها جيدة أو مميزة، فللذوق اللغوي معايير تنطلق من الكلمة الفردية، إذ ينبغي ألا تكون الكلمة الواحدة خشنة أو بَرِيئة أو ساذجة أو منحلة أو ركيكة، ويجب أن تكون حروفها متناغمة متقاربة بدلاً من متباعدة ومتضاربة، وينبغي أن تكون سماعيًا جيدة، وغير مؤذية للدلالة، وأن لا تتحول إلى غير معتاد في اللغة العربية الفصيحة، وأن لا تكون طويلة بل متوازنة.
وفيما يتعلق بالجملة، ليتم الحكم عليها بالذوق اللغوي يجب أن تلتزم بالقواعد اللغوية الصحيحة، فإذا تأخرت أو تقدمت أو تم حذف جزء منها يجب ألا يؤثر ذلك على معناها ويقلبها عما جاءت لأجله وقيلت به، وينبغي أن لا تحتوي على تكرارات غير ضرورية ولا تكون معقدة تصل إلى مستوى الجفاء، وإذا كانت تحتوي على استعارة أو تشبيه يجب أن تكون جيدة ومليئة بالفائدة والجمال وفقًا لمعايير الأدباء والخطباء، وألا تكون من النوع الذي يتميز به أصحاب العلوم والحرف.
ويجب إضافة إلى ذلك التوافق والانسجام بين الكلمات في الجملة الواحدة وبين الجمل في الفقرة الواحدة أيضًا، ومن شروط الإيضاح النصي أن يكون خاليًا من التكلف والزخرف، وأن يتميز بالاقتصار ووضوح المعنى وحسن اختيار الكلمات ودقة التعابير.
يتم التمييز بين النصوص وفقًا للنظم المتبعة فيها، وهذا هو سر الذوق اللغوي وجوهر الإيضاح، وهو ما يعتمد عليه في الحكم على النصوص بالإيضاح والإعجاز وفقًا لما ورد في كلام الجرجاني، حيث يتم النظر إلى اختيار الكلمات وترتيبها وصلتها ببعضها، ويُنظر إليها كما لو أنها رتبت وفقًا لأفكار المتحدث ومشاعره، لذا يُعتبر الاختيار أساسًا للتمييز والتفضيل.
وبناءً على ما تم تقديمه، فإن التمييز بالإيضاح يتطلب أن يُحكم عليه أولا بالذوق اللغوي وفقًا للشروط المتعلقة بالكلمة الفردية والجمل المعقدة، فإذا اجتاز النص تقييمه بالذوق اللغوي فإنه يجب أن يتم تقديمه بمطابقة الموقف أو السياق ليصبح متميزًا، ومن هنا وصل القرآن الكريم إلى مستوى الإعجاز، فالذي قال سبحانه خالق المخاطبين عالم بأمورهم محيط بتفاصيلها.
وبناءً على كل ما سبق، تُعد الإيضاح العربي من أرقى العلوم وأجملها وأعظمها، فهي الأداة الوحيدة التي تمهد الطريق نحو استمتاعنا بجماليات النصوص الأدبية واستشعار فرادتها، وهي المصباح الذي ينير لنا تعقيدات النصوص ويكشف عن أسرارها ويُسلط الضوء على عمقها، وأهم ما كشفت عنه هو إعجازات القرآن الكريم التي لا تُعد ولا تُحصى ولا تنتهي.