ملكات إسلاميات تتغلب على الجيش المصري وسيدات ينهين الحروب الصليبية وأميرات يُشيدن بحكمهن الجلادات.. النساء قادة للدولة في تأريخنا

By العربية الآن



إناث في عالم السياسة.. ارتقين العروش وقيدن الجيوش ونظمن الممالك

<

div class=”longform-block”>

في يوم النساء العالمي يحتفل العالم بالثامن من شهر مارس/آذار من كل عام؛ يتذكر جميع مناسبة بداية الاحتفال بهذا اليوم، عندما خرجت 15 ألف امرأة في عام 1908م إلى شوارع مدينة نيويورك الأميركية للمطالبة بتقليص ساعات العمل وزيادة الأجور ونيل حق التصويت في الانتخابات.

وعندما نلقي نظرة إلى ما قبل مائة عام فقط نذكر مظاهرة تسعى إلى عدالة العمل؛ هناك أولئك الذين يمكن أن يتجهوا بالذاكرة إلى العصور السالفة ليروا أن المرأة -في إطار الحضارة الإسلامية وفي الجانب العملي- قد تخطت بعض الأحيان ما هو أهم وأعظم من عدالة الوقت أمام الآلة، على الرغم من كافة السلبيات التاريخية التي أثرت على أوضاعها بشكل عام.

إن إعادة النظر في هذا التاريخ ستوضح -بلا شك- توثيقات تبرز دور العديد من علماء الدين الإسلامي الذين أثنوا على مهارات النساء السياسية والإدارية اللواتي شاركن في إدارة الدول سواء بشكل تعاوني أو فردي، حيث حققن نجاحات تغيّرت معها تاريخ الدول والمناطق، وتحوّلت مصائر الأمم والشعوب، كما يروي هذا المقال.

عبارات مثل “ساست المرأة الملكية وأدبت الأمور تفوق رجال الدولة” تأخذ قيمتها من أنها تعكس مقولة من أئمة في علوم الشريعة.تعاوين مبتسر, تنقيبا, ذماً، ليس من مجرد رأي او تنقيب لمؤرخ عادي؛ بل من فقيه يدرك ما هو مُرْسِخ نظريا في المذاهب الفقهية حول إسناد “السلطة العامة” الي المرأة، ويعرف حجم الحساسية الفقهية بل والاجتماعية من زعامة النسوية.

غير أن كل هذا لم يوقف هؤلاء الأئمة الأمناء التثبت – وإن كانت انطباعاتهم الخاصة لا تُعتبر حجة شرعية- من أن يُسجِّلوا تلك الإشادات بالكفاءة السياسية لدى نطاق واسع من النساء المسلمات، تقدموا العروش أو كنّ -لأسباب متعددة- وصيّاتٍ على من ارتقاها من الذكور، حتى إذا “قامت بتسوية الأمور بشكل أفضل من الرجال”!!

إن مناقشتنا -في هذا المقال- لموضوع تاريخ تولي المرأة السلطة في الدول الإسلامية -في مختلف البقاع وبين كل الأعراق وطول ألف سنة- لا تقترب من المناقشة الفقهية المعروفة بخصوص “سلطنة المرأة”، بل تبحث هذه الظاهرة في بُعْدِها التاريخي التطبيقي، وما “حدث من أمور” كثيرة في حياة الناس ضمن الحضارة الإسلامية، ونقله المؤرخون -ومعظمهم من المحدثين والفقهاء- بدون تحجيم أو اندهاش في معظم الحالات.

والحقيقة أن ما يوضحه التتبع التاريخي في هذا الأمر -كما يظهر في عينات هذه الدراسة التي استعرضت 20 نموذجا نسويا سياسيا في شتى البقاع وبين كل الأعراق وطول ألف سنة- يُؤكد أن باب الرِّيادة السياسية ظل مفتوحا عمليا أمام النساء من كل الشرائح في المجتمع الإسلامي، سواء من خلال الريادة المباشرة أو من خلف الحجاب بمختلف صوره، بل وصل بهن الأمر إلى القيادة لمراكز حضارية في العراق ومصر وفارس والهند.

ولا يأتي هذا التوضيح من فراغ؛ فكانت حضور المرأة تاريخيا في النطاق العام الإسلامي خطوة طبيعية نحو تلك الظواهر التي نقوم بمناقشتها في هذا المقال، إذ شاركن في حلقات العلم ودوائر الإفتاء، ومجالس الأدب والشعر، وأنشطة الخير والإحسان. وذلك من اللحظات الأولى لتسليمهن رسالة الإسلام وهي تمس الأرض لأول مرة بمكة، وحتى تسييرهن لمملكة بهوبال الإسلامية وسط شبه القارة الهندية.

ما قبل هذا
فتح الإسلام -منذ انبلاج أنواره وتنفيذوه حياة سماوية وهديا أنبويا- للنساء أبواب المشاركة في الشأن العام تعلما وسياسة وجهادا ومساءلةً عن الحقوق ودفعا للمظالم؛ فقد ورد في ’صحيح البخاري’ أن النساء قالن للنبي ﷺ ذات يوم “الغلبن عليك الرجال! فاجعل لنا يومًا من نفسك، فوعدنهن يومًا لقيهن فيه، فوعظنهن وأمرهن”. وقد أثني ﷺ على نساء الأنصار بالخير وشجعهن على روح الاقتحام لطلب العلم والسؤال عن قضايا.

وبلغت المساءلة النسائية والحضور الأنثوي ذروتهما في المدينة النبوية يوم تكلمت واحدة منهن أمام الرسول الكريم ﷺ بصفة ناطقة بإسم نساء الدنيا كلها نيابة عنهن؛ إذ أتت أسماء بنت يزيد الأنصارية (٦٩هـ/٦٨٩م) النبي ﷺ وهو بين أصحابه، فقالت: “بأبي أنت وأمي، إني وافدة النساء إليك، واعلم -نفسي لك الفداء- إنه لا توجد امرأة كائنة في الشرق أو الغرب سمعت بمخرجي هذا أو لم تسمع إلا كانت على مثل رأيي”!!

ولدى تثبيت دورها ناطقة بإسم نساء عصرها؛ قدمت أسماء عريضتها المطلبية فقالت: “إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء فآمنا بك وبإلهك الذي أرسلك، وإنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم..، وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمعة والجماعات..، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإن الرجل منكم إذا أخرج حاجا أو معتمرا ومرابطا حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا لكم أثوابا، وربينا لكم أولادكم، فما نشارككم في الأجر يا رسول الله؟!”.

وقابل النبي ﷺ هذه المرافعة القوية بالإعجاب “فأعلن إعجابه بالنساء فالتفت إلى أصحابه بوجهه كله، ثم قال: «هل سمعتم قول امرأة مثل هذا قط في أمر دينها من قبل؟!»، فقالوا: يا رسول الله، لم نظن أبدا أن امرأة تتألق بمثل هذا، فالتفت النبي ﷺ إلى أسماء، ثم قال لها: «انصرفي أيتها المرأة، وأوجهي خلفك من النساء أن طيب عبارة إحداكن لزوجها، وطالبي رضاه، واتباعي موافقته يؤدي إلى كل هذا بالكامل». فأدبرت المرأة وهي تهلل وتكبر استبشارا”؛ كما في رواية الإمام المحدِّث أحمد بن الحسين البيهقي (٤٥٨هـ/١٠٦٧م) في ’شُعَب الإيمان’.

وفي العهد الراشدي؛ واصلت المرأة المسلمة حضورها في الشأن العام استشارة وتنفيذا، لا سيما في عهد عمر الفاروق (٢٣هـ/٦٤٥م) الذي عرف استقرارا داخليا كبيرا فكان للنساء حضورهن المعتبر في المجال العام.

قد تصدت له إحدى الصحابيات -بعد أن أصبح خليفة للمسلمين- أثناء خطبة له فوق منبر رسول الله ﷺ عندما أمر بتقليص مهر النساء؛ “فقالت: يا عمر، يعطينا الله وتُحرمنا [أنت]! ألا هو الله سبحانه وتعالى يقول: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا)

هل تأخذون شيئًا منه؟

قال عمر: جرت حادثة مع امرأة وأخطأ. ترك الإنكار بخصوص المهور؛ كما هو موجود في مصنف للإمام القرطبي.

عمر الفاروق لم يكن ضد النساء بالفعل؛ فقد كرم التاريخ لنا بأنه كان يُعامل الصحابية الشفاء بنت عبد الله بكرم ويرضاها ويميزها، وقد سلَّمها بعض أمور السوق لأنها كانت من بين أذكى النساء وأفضلهن عقلا، كما عاد رسول الله ﷺ لزيارتها والجلوس معها في بيتها، حسب رواية ابن عبد البر في كتابه ‘الاستيعاب’.

ساهمت سفارة المرأة لقومها ونذرتها للحُكّام في تحول هائل بعد الخلافة الراشدة الذي أدرك قيمته الأدبية والفكرية والسياسية القدماء، أدرجوه في موسوعاتهم أو خصصوه بالتأليف كما في كتاب ‘أخبار الوافدات من النساء على معاوية بن أبي سفيان’ للضبّي، هذا السفر الصغير يعرض لنا صورًا حية من تاريخ المشاركة القوية للمرأة سياسيًا وفي الحروب للحفاظ على الخلافة الراشدة ومقاومة تحول الحكم الإسلامي إلى حكم ملكي.
تعزز ورسخ
مع مرور الزمن، يزداد تأكيد مشاركة النساء في السلطة وإدارة الشؤون العامة، حتى أصبحت الدول الإسلامية في شرقها وغربها تضم امرأة تشارك في الحكم على واحدة من ثلاث مستويات: إما أن تكسب احترام رجال الدولة لآرائها وتكون مستشارة موثوقة، أو تتنافس معهم في توجيه الشؤون العامة من التخطيط إلى التنفيذ، أو أن تتفوق عليهم وتأخذ زمام القيادة وتتولى السلطة بنفسها.

وفي بداية الدولة العباسية، كانت فاطمة بنت علي بن عبد الله بن عباس عمة الخليفتين السفاح والمنصور “امرأة حازمة، وكانوا إخوتها وأبناء إخوتها يحترمونها ويكرمونها لقراراتها وعقلها ورأيها” حسبما يرويه ابن عساكر في ‘تاريخ دمشق’.

عند تولي هارون الرشيد الخلافة، وثقل تدبير شؤون الحكم لوزيره يحيى بن خالد البرمكي، حيث قال له: “لك الحق في إدارة الرعية، وأزالت هذا العبء من عاتقي ووضعته على كتفك، فادفع من تراه وأعزل من تراه”!!

رغم الولاء المطلق الذي أعطاه الرشيد لوزيره البرمكي، إلا أن والدته الخيزران كانت حاضرة في تدبير حكمه الذي امتد من الجزائر إلى الصين، فكانت المستشارة في قراراته حيث يستشيرها قبل أن يقر أو ينفذ أو يحكم، وفقا لما ورد في كتاب البداية والنهاية.

كان الرشيد نفسه يُستشير أمه الحاضرة أم جعفر بن يحيى البرمكي “لتكريمها وتقدير رأيها، وكان قد أقسم وهو في حضنها ألا يخفي شيئًا عنها، ولم يكن يستشير غيرها إلا بإذنها”. كما أقسمت أم جعفر عليه ألا تقتحم مسكنه إلا بإذنه، وألا تستشعر لأحد لغرض دنيوي. بحسب ما ورد في ‘العقد الفريد’.

كان نفوذ الخيزران الكبير في عهد ابنه الرشيد بداية لطريق طويل من الحكم النسوي في دوائر السلطة، فيجدر بالذكر أنه من بين 37 خليفة عباسيًا في بغداد، كانت ثلاث نساء أمهاتهم من “الحرائر” فقط، وهذه النساء هن: السفاح، والمهدي بن المنصور، والأمين بن الرشيد.

في الغرب الإسلامي، نجد ظاهرة وجود النساء في الحكم من خلال الاستشارة والرأي، حيث تبرز زينب بنت إسحاق النفزاوية زوجة المؤسس الفعلي لدولة المرابطين الأمير يوسف بن تاشفين، والتي سهمت في تميزه بالنصف الشمالي من الدولة.

وقد وصفها ابن الأثير في ‘الكامل’ بأنها كانت من بين أجمل النساء، وكان لها سلطة في بلدها. ووفقًا لابن خلدون، كانت تُعرف بأنها واحدة من نساء العالم المشهورات بالجمال والرئاسة، وكانت تتمتع بسلطة كبيرة في مجالات الحكم.

“سلطانه وأمره”

.

تحدث بعد ذلك عن واقعة إقناعها زوجها بالإنقلاب على الأمير الشرعي في دولته أبي بكر بن عامر اللمتوني (ت 480هـ/1087م)، وكيف خططت لينفصل عنه بحكم المغرب وتترك له صحراء غرب أفريقيا؛ حيث قالت: “أشارت إليه عند مرجع أبي بكر من الصحراء [إلى المغرب].. [ب]ــإظهار الاستبداد حتى ينخرط أبو بكر عن منازعته [في الحكم]، ويتسلم يوسف بن تاشفين الملكية” العريضة في المغرب، والتي استمرت في التوسع بفضل تخطيط زوجته البارعة.

وربما زادت كتب التاريخ المتأخرة في توصيف مهارات زينب النفزاوية السياسية؛ حيث قال المؤرخ المغربي الناصري السلاوي (ت 1315هـ/1898م) -في ’الاستقصا‘- إن زينب كانت لزوجها السلطان يوسف “عنوانَ سعْدِه، والمشرفة على ملكه والمخططة لأمره، والناجحة في حسن سياستها لأكثر بلاد المغرب”، وأطلق عليها اللقب “الساحرة” لما تمتلكه من “عقل حكيم ورأي قوي وخبرة في إدارة الأمور”!!

ريادة يمنية
تظهر علاقة النساء اليمنيات بالحكم والسلطان بأسلوبها الجذري في تاريخ الإنسانية، ومستنداً إلى ذلك ما جاء في القرآن الكريم عن ملكة سبأ التي تحمل اسم بلقيس بنت شراحيل والمشهورة في المصادر الإسلامية بأنها حكمت اليمنيين “وَتُوجِبُ لَهَا عَرْشًا عَظِيمًا” (سورة النمل/ الآية: 23)، مما يعني أنها “تجلب لها من كل شيء يمكن ألا يكون موجودا لدى الملوك في الدنيا الراهنة من الأدوات والعتاد”، وفقا لتفسير الإمام الطبري في كتابه ’جامع البيان‘.

ويظهر من سرد القصة القرآنية أن تقاليد الحكم الرشيد القائم على مشورة ورفض الاستبداد كانت جوهرية في دولة ملكة سبأ؛ فعندما وصلها كتاب النبي سليمان -عليه السلام- دعت أعضاء مجلسها الاستشاري -الذي سماه القرآن “المَلَأ”- وطلبت منهم: “مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ” (سورة النمل/ الآية: 32)؛ أي: “أعطوني النصح في أمري الذي وصلني من الذي يملك هذا الكتاب الذي تلقيته، لذا طلبت النصح”، وفقا لتفسير الطبري.

ثم أحاط القرآن الكريم بقصة ملكة سبأ الذين أدخلوا الإسلام وانضموا إلى مملكة سليمان الواسعة، وهذا يمثل بداية يمنية بارزة تلهم -عبر العصور- نساء اليمن وغيرهن من الطموحات للمشاركة في شؤون الدول وتنفيذ الإصلاح والتدبير.

وهكذا عندما أتى الإسلام وانضمت قبائل اليمن إليه؛ شن الأسود العنسي (ت 11هـ/633م) حملة نبوية في إحدى قرى نجران شمال البلاد واحتلت العاصمة صنعاء “وانطلقت اليمن بكل جمالها” نحو سيطرته، “وكان عمله يشبه اندلاع الشرارة…، ورفضت جماعة من سكان اليمن [الانضمام للإسلام]، ودبرت المسلمون المتواجدون هناك بالتظاهر بالولاء” بهدف الحيلولة دون شروعهم في الأذى؛ وفقا لاقتباس ابن كثير في ’البداية والنهاية’.

وأمام هذا التطور الخطير الذي يشكل الشرارة التي أثارت بعد ذلك -بعد وفاة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- قادة حركة الردة عن الإسلام في عدة مناطق من جزيرة العرب؛ لم يبق لسلام المسلمين إلا أن أرسل ممثلا لهم إلى اليمن “يأمر المسلمين المتواجدين هناك بمواجهة الأسود العنسي وهزيمته…؛ [فـ]ـوافق المسلمون على هذا واتفق على تنفيذه”.

وانفذ الرجال اليمنيون بقيادة والي البلاد المبدع عمرو بن علي الثري الشيباني (ت 18هـ/640م) بشدة في الاستمرار في استراتيجيتهم بالانقلاب على العنسي المتمرد، وقد كانت زوجته المقترحة “أم القاسم” جاهزة للمشاركة في هذه الة، على غرار ابنة عمهم، وكانت مستعدة فعليا لذلك بعد أن لاحظتهم بما فعله العنسي من إذلال لناسهم وإهانة النساء في مجتمعها، فأيَّ لها إلا أن وافقت على الإطاحة به، بل واقترحت اقامة عدة عمليات اغتيال وتطهيره قائلة وفق ابن كثير: “والله مهما ياجهل ما خلق الله شخص يكون أبغض منه لديّ، فليس لله اللذي يخلقه على القول ولا يتوب عن الحرمان، إذا قررتم [فـ]ـأخبروني وأنا سأوجهكم إلى ما يجب أن يتم في هذه المسألة”.

وعندما قرروا تنفيذ الخطة “اتفق الجميع على إعادة التحضير مع المرأة”، وكانت السيدة “ام القاسم” قد وضعت خطة محكمة لإطاحة العنسي بالتواطؤ مع رجالها. ومع قتله، استمرت بالتعاون مع رجالها في المرحلة التالية من العملية.بسبب حادثة قتل أنصار الأسود، انحرفوا عن دعم الثورة العكسية.

أثناء تنفيذ عملية الاغتيال، سُمعت أصوات مندهشة من العنسي وهو يتصارع مع الموت. في تلك اللحظة، هرب الحرس إلى غرفته الخاصة وتساءلوا: “ما هذا ما هذا؟!”، فأجابت المرأة: “النبي تُوحى إليه!”، ولذا عادوا إلى واجبهم. قامت المرأة بدور أساسي تاريخيا في ترسيخ الإسلام في البلاد اليمنية بشكل دائم.

نَفوذ شاسع
في العصر العباسي، بلغت السلطة الفعّالة للجارية شَغَب، وتولّت كتابة أوامر أمير العباسي المقتدر بالله. وكانت “قهرمانة لها تدير أعمالها تُسمى «ثَمَل» لتجلس كل جمعة على الأرض التي بنيتها، وتنظر في الشكايات التي تُرفع إليها، ويحضر في مجلسها القضاة والعلماء”؛ كما ورد في ‘البداية والنهاية’ لابن كثير.

وفي ‘المنتظم’، ذكر أن لديها ثروة هائلة فعطت في الصدقات بشكل سخي، وكانت تهتم براحة الحُجّاج، وتوفّر الأدوية والأطباء لهم، وتأمر بإصلاح الطرق التي يسلكها الناس في رحلتهم الدينية بين بغداد ومكة.

استقى نفوذها عائد بشكل دامٍ على ابنها الذي خلفها في الحكم. كما نُفِذت تداعيات سيطرتها على العاصمة العباسية بغداد في الغرب الإسلامي وبالتحديد بالأندلس الأموية.

كان سيطرتها على اتخاذ القرارات سببًا في إعلان أمير الأندلس القوي عبد الرحمن الناصر نفسه خليفة للمسلمين أجمعين في نهاية القرن العاشر. كما أشار الإمام الذهبي في ‘سير أعلام النبلاء’ إلى أنه “أقام نفسه خليفة للمؤمنين بعد ضعف الخلافة في العراق وظهور الفاطميون بالقيروان”.

وتواصل النساء أدوارا خطيرة في دواير الحكم العباسي حتى وصلوا إلى مرحلة الانقلاب على الخلفاء وتنصيب آخرين. ومن بين تلك الخطط الدقيقة للانقلاب على الخليفة المتقي لله، وتنصيب المستكفي بالله مكانه.

وضمن نفس السياق، نجحت امرأة من بغداد في التخطيط لانقلابٍ ناجح على الخليفة، حيث تحدث ابن مسكويه في ‘تجارب الأمم’ عن تحويلها من إمرأة عاديّة إلى قهرمانة المستكفي بالله التي استولت على حكمه بشكل كامل.

وفي أقصى الشرق الإسلامي خلال عهد الدولة السامانية، كانت والدة الأمير نوح بن منصور الساماني تدير شؤون مملكة ابنها، حيث كانوا يستفيدون من نصائحها في مختلف القرارات، كما ورد في كتاب ‘الكامل’.

وقريبًا من دولة السامانية في الزمن والمكان، كانت السيدة والدة مجد الدولة البويهي تتولى تنظيم شؤون المملكة في عاصمة البويهيين. اعتمد رجال الدولة من الوزراء والمسؤولين على آرائها في تسيير شؤون الدولة.

وعندما عصف ابنها مجد الدولة بالدولة، وحاول الانقلاب عليها، قادت معركة بسطاء حتى أزاحته عن الحكم في عام 397هـ/1008م وجلست ابنها الثاني “شمس الدولة” مكانه. حين حاول الانقلاب على شمس الدولة، هربت خارج البلاد حسب ما ذكره الإمام سبط ابن الجوزي في ‘مرآة الزمان’.

ووصف سبط ابن الجوزي ببراعة أسلوب هذه المرأة في إدارة الحكم، موضحًا أنها كانت تتولى المملكة بمهارة تفوق الرجال، وكانت تستقبلهم وتتابع شؤون الدولة بشكل مباشر وفاعل.

إرث مبتكر
وفي مثيل العديد من المناطق في المغرب الإسلامي، شهدت بلاد المغرب مشاركة نسوية بارزة في شؤون الحكم والنفوذ، وربما كانت سياسة الملوك الفاطميين التوجه نحو تمكين النساء من الحكم في بعض أقاليم دولتهم، سببًا في ذلك.وبشكل خاص في الغرب الإسلامي والجنوب باليمن.

ومن الأمثلة الباكرة على هذا في أقطار المغرب، وتحديدا في بلاد بني زيري الصنهاجية بتونس أيام كانت إمارة ملحقة بالدولة الفاطمية بمصر؛ ما امتلكته من تأثير سياسي قوي الأميرة أم ملال بنت المنصور بن بلقين ابن زيري الصنهاجي (ت 414هـ/1023م).

فهذه السيدة لم تكتف بأن تكون شريكة في الحكم لأخيها أبو مناد باديس نصير الدولة (ت 406هـ/1016م)، بل سعت أيضا لبناء ما تتطلبه تقوية تأثيرها داخليا من روابط سياسية خارجية، أي أنها كانت تحتفظ بعلاقات دبلوماسية متوازية ومعادلة -إن لم تكن أقوى- لتلك التي يحوزها أخوها الأمير!!

فالمؤرخ ابن عذاري المراكشي (ت 695هـ/1297م) يوضح لنا -في ’البيان المغرب’- أنه حين “أخرج نصير الدولة هدية جليلة إلى الحاكم” بأمر الله (ت 411هـ/1021م) خليفة الفاطميين بمصر، وقد كان يدين له بالتبعية السياسية؛ وجهتْ أخته السيدة أم ملال “إلى السيدة أخت الحاكم (= ست الملك/سيدة الملك بنت العزيز بالله الفاطمي توفيت 415هـ/1025م) هدية أيضا” لما كان لها هذه المرأة من حضور قوي في تدبير الدولة الفاطمية؛ كما سنرى.

وحين توفي أخوها الأمير نصير الدولة “خرج إليها المنصور بن رشيق (والي القيروان ت بعد 407هـ/1017م)، وقاضي القيروان والمنصورية وشيوخها، ومن كان بها من الصنهاجيين، فعزَّوْها في أخيها”. وبعد تولي ابن أخيها الصنهاجي (ت 454هـ/1065م) “دخل الناس يهنئون السيدة بولايته”.

ولازال احترام رجال الدولة الصنهاجية في تونس للسيدة أم ملال حتى لحظة تشييعها إلى قبرها؛ فعندما مرضت مرض موتها كان “شرف الدولة يصل إليها في كل يوم عائدا ومتفقدا، فيجلس عندها ويأذن لرجاله وعبيده يدخلون إليها ثم ينصرفون”، وعندما توفيت “صُلِّي على جنازتها بالبنود (= الرايات/الأعلام) والطبول والعماريات (= هوادج النساء).. [والجميع] بحال من التشريف لهذه الجنازة لم يُرَ لمَلِكٍ ولا لسُوقةٍ (= عامة الناس) مثلُها”؛ طبقا لابن عذاري المراكشي.

وتقودنا العلاقة السياسية التي أنشأتها هذه الأميرة الصنهاجية مع السيدة إلى الكشف عما كان لهذه السيدة من تأثير وهيمنة بالغة في أروقة صنع القرار في عاصمة الدولة الفاطمة القاهرة، حتى إنها أنشأت لها إدارة موازية لإدارات الدولة الرسمية كانت تُعرف بـ”دواوين السيدة ست الملك”؛ كما يخبرنا المؤرخ الدولة الفاطمية المقريزي (ت 845هـ/1441م) في كتابه ‘اتِّعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء‘.

تحامل فاعل
وحين تغيرت أحوال أخيها الحاكم بأمر الله وزاد ظلمه وإرهابه للناس شكَوْا أمرَه إليها لما يعلمونه من تأثير كلمتها عنده، فما كان منها إلا أن “وعدتهم إحسان التدبير في كفّ شره، وإجمال النظر في أموره وأمره، ولم تجد فيه حيلة تُحَسِّم بها داؤه إلا العمل على إهلاكه..، وأعملت الرأي في ذلك وأسرّته في النفس إلى أن وجدت الفرصة متسهّلة فابتدرتها..، ورتبت له مَنْ اغتاله”؛ حسب رواية ابن القلانسي التميمي (ت 555هـ/1160م) في ’تاريخ دمشق’.

ويفيدنا المقريزي بأن ست المُلك بعد اغتيالها لأخيها الحاكم قررت تنصيب أحد أبنائه الصغار مكانه، فأمرت رجال الدولة بـ”أخذ البيعة للظاهر لإعزاز دين الله بن الحاكم (ت 427هـ/1037م)” الذي كان عمره آنذاك 16 سنة. وبعد أن استقر لها الأمر بما أرادته “قتلت جميع من اطّلع على سرها” ممن أشركتهم معها في التخلص من أخيها!!

وحسب ابن عذاري المراكشي؛ فإن ست المُلك بعد ذلك “ضبطت المملكة وقوّمت الأمور بحسن رأي وتدبير. وكان الوزير عمار (بن محمد الملقّب بخطير المُل كتاب الإلكترونية من خدمات السلطة، وتصطنع الرجال”!!

ثم استمر النفوذ النسوي في دولة الفاطميين مع السيدة رصد النوبية (ت بعد 480هـ/1086م) والدة الخليفة الفاطمي المستنصر بالله بن الظاهر (ت 487هـ/1094م)، الذي تولى عرش السلطة وهو في السابعة عام 427هـ/1037م، فكانت والدته “متصدرة على دولته، وكانت تصطنع الوزراءوكانوا يبصرون، واعتمدوا المحاربين (= الجنود المماليك) من الأتراك للتغلّب على الدولة، فمَنْ انفر منه اغواه المستنصرَ فاقتله”؛ كما ذكر ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) في تأريخه.

وعلى خلاف ما عُرف به حُكم ست الملك من استقرار وتطور في الدولة؛ فإن تجربة السيدة رَصَد في السلطة لم يكن لها الهناء إلا في السنوات التسع الأولى، التي استعانت فيها بوزير ست المُلك القوي أبو القاسم علي بن أحمد الجَرْجَرَائي (ت 436هـ/1045م).

نتيجة كارثية
وأدّت النتيجة السيئة لتدبير المستنصر وأمه للحكم مؤرخًا حصيفًا عاش بالقرب من ذلك العصر مثل ابن القلانسي إلى أن رَسَم صورة مظلمة بالغة للعهد المستنصري؛ فوجده يقول في ‘تاريخ دمشق‘: “وفي أيامه ثارت الفتن.. وغادت الأسعار وقَلَّت الأقوات، واضْطربت الأحوال واختلت الأعمال، وحصر في قصره وطامع في خلعه لضعف أمره، ولم يزل الأمر على هذه الحال إلى أن استدعَى أمير الجيوش بدر الجَمَالي (ت 487هـ/1096م) من عكا إلى مصر سنة 465 (هجرية/1073م)، فاستوْلَى على الوزارة والتدبير بمصر”.

كان عهد حكم ابنه المستنصر -الذي استمرت عهوده معظمها تحت تأثير أمه- مثالًا في انهيار الدولة وخلخلة نظامها، ويكفي ما عانته مصر في زمنه من “الشدة المستنصرية” (457-464هـ/1066-1073م) التي كانت السبب البعيد في تدهور الدولة نتيجة ضعف مكانة “الخلفاء” الفاطميين، وما تَلا ذلك من انطلاق فترة حكم “الوزراء الأقوياء” بوقوف بدر الجَمَالي، وهي الحقبة التي استمرت حتى نهاية الدولة الفاطمية على يد الزنكيين بمساعدة الأيوبيين سنة 567هـ/1174م.

وإذا كان الأيوبيين قد أنهوا حكم الفاطميين؛ فإنهم ورثوا كثيرًا من تقاليدهم في الحكم كان منها -على ما يبدو- ظاهرة نفوذ النساء في السلطنة ومشاركتهن في الحكم، وإن كان ذلك إنما حدث في أواخر دولتهم وتحديدا في إحدى بقايا ممالكهم في الشام.

فهذا الإمام الذهبي يحدثنا -في ’تاريخ الإسلام’- عن الصاحبة ضيفة خاتون (ت 640هـ/1242م) موضحًا المنزلة العالية التي تحتلها داخل الأسرة الأيوبية الحاكمة، باعتبارها ابنةً للسلطان العادل أبي بكر (ت 615هـ/1218م)، وزوجةً للظاهر غازي (ت 613هـ/1216م) ملك حلب، وأمًّا لابنه وخليفته العزيز محمد (ت 631هـ/1234م)، وجدةً لابنه الناصر صلاح الدين الثاني (ت 659هـ/1261م) ملك دمشق!!

ويصفها الذهبي بأنها “كانت ملكة جليلة عاقلة”، ويقول إنها لما “مات ولدها العزيز تصرفت تصرف السلاطين ونهضت بالملك أتم نهوض بعدل وشفقة وبذل وصدقة وعقل وحذلقة (= التصرف بحذاقة)”، فقد “أزالت المظالم والمكسورات (= الضرائب)..، وكانت تؤثر الفقراء والعلماء، وتحمل إليهم الصدقات الكثيرة، وما قَصَدَها أحد إلا رجع بخير ممتنًا، ولما توفيت غلقت أبواب حلب ثلاثة أيام”!!

كما نجد قبل التأريخ أعلاه في الشام السيدة صفوة الملك زمرد خاتون بنت الأمير جاولي (توفيت 557هـ/1162م) وأم شمس الملوك (ت 557هـ/1162م) الذي تفاقم “في الظلم والمصادرة..، فعاقب الناس بفنون قبيحة ابتكرها”، ثم هدد بتسليم دمشق إلى الإفرنج “ظهر أمره للناس فخافوا من الهلاك خاصتهم وعامة هم، وتقديروا الأمر إلى زمرد.. فحملها دينها وعقلها على النظر بما يُفسر الألم فلم تجد بديلًا من الهلاك، وأُشير إليها بذلك لما يايسوا من نصيبه، فدفعت الأمراء والخاصة بمصرعه، وكثر الدعاء لها” بسبب قتلها لولدها الذي أفسد الحرث والنسل.

ويضيف الذهبي -في ’التاريخ’- أنها بعد هذه الواقعة ازدهرت شأنها “وانحنى لها القلوب، ثم عينت أخاه محمود بن بوري (ت 533هـ/1139م) في السلطنة، وكانت تدير ملكه إلى أن تزوج بها قسيم الدولة” عماد الدين زنكي (ت 541هـ/1146م) مؤسس الدولة الزنكية وأب نور الدين محمود زنكي (ت 569هـ/1173م).

تجربة إلهامية
شكلت تجربة ملكة سبأ -كما سبق ذكره- ذاكرة سياسية قوية للمرأة اليمنية ظلت تحفزها وتغذي طموحها إلى عرش السلطة وتولي تدبير الممالك؛ فكانت بلقيس نموذجًا يمنيًا حيًا للتقليد والمقارنة لقول الشاعر اليمني عمرو بن يحيى الهيثمي (ت بعد 460هـ/1068م): قلتُ إذ عَظّموا لبلقيسَ عرشًا: ** دَخلْتُ أسماءَ من ذرار نَظْمًا!!

وأسماء المقصودة هنا هي أسماء بنت شهاب الصُّلَيْحي (ت 479هـ/1086م) زوجة علي بن محمد الصليحي (ت 460هـ/1068م) مؤسس الدولة الصليحية باليمن، وقد “كَانَت منشهدت نساء المجتمع ونخبهم وتصرفاتهم، حيث تتمتع بالقوة والعزة، وكان الصليحي عندما تحققت تمام قدراتها واتخذت قراراتها بمسؤولية ولم يخالفها في معظم أمورها. كان يحترمها بشكل كبير حتى أنها عندما تحضر لقاءً لا تخفي وجهها عن الحاضرين. وفي شخصيتها يتجلى القوة والتصرف الذكي الذي لم يكن موجودا في نساء زمانها”؛ حسبما ورد في كتاب ’السلوك في طبقات العلماء والملوك’ لليمني محمد بن يوسف الجندي (ت 732هـ/1332م).

وقعت الملكة أسماء في السجن عندما قتل أمراء زبيد من بني نجاح الحبشي زوجها وأخاه أثناء عودتهم من الحج في عام 460هـ/1068م، واختطفوا رؤوسهم، فذهبت أسماء إلى عاصمتهم زبيد.

في زبيد، تم إيداع أسماء في السجن “وتم تكليف شخص بحراسة الملكة..، لكنها وطلبت كتاب تحث إبنها المكرم على مواجهتهم..، ثم جعلت الرسالة داخل قرصٍ للخبز وأعطتها لفقير وأمرته بتسليمها لابنها المكرم (أحمد بن علي ت 484هـ/1091م)، فنقلها حين وصول الرسالة إلى المكرم.. غادر على الفور من صنعاء بثلاثة آلاف فارس”، ثم عاد إلى زبيد وأطلق سراح والدته من سجن النجاحيين؛ وفقا لما ذكره الجندي في ’السلوك’.

لتعزيز القيادة النسائية اليمنية، قام علي بن محمد الصليحي بتعظيم زوجة ابنه أحمد المكرّم، السيدة أروى بنت أحمد الصليحية (ت 532هـ/1138م)، المعروفة بـ “أروى” أو بـ “بلقيس الصغرى لذكائها وكفاءتها في ادارة المملكة وغيرها”؛ وفقا للجندي الذي وصف عقلها وتألقها وقال إنها “كانت تقرأ كتاب الله، وتحفظ العديد من قصائد العرب، وتعرف التاريخ، وتتفوق في المعرفة على العديد من الحكام”!!

وراثة تُحترم
وهكذا قدمت المرأة الصليحية خطوة أبعد في ممارسة السلطة؛ حيث لم تكتفى أروى بالمشاركة في صنع القرار السياسي مثلما فعلت أسماء مع زوجها، بل استولت -في حدث تاريخي في العالم الإسلامي- على السلطة بنفسها بعد وفاة زوجها أحمد المكرم الصليحي.

وكان الصليحي الوالد “يأمر أسماء بإكرامها ويقول إنها والله طالبة العلماء وحافظة لهذا الأمر بالنسبة للذرية الباقية منا”، وتم تكليف المكرم “بتدبير مملكته.. فتلقى رفضًا.. لكنه لم يزعم”، وسبب رفضها كان ما عرف عن الأوضاع المضطربة في اليمن أيامها.

ولم تكن أروى تستسلم حتى انتقمت لأحفادها بعدما قتلت قاتل والد زوجها وأسرت حماتها، وكانت تدير ملكها “بتأييد رجل يقول بكلامه”؛ وفقًا للجندي في ’السلوك’. وهكذا استمرت حكومتها لقرابة خمسين سنة (484-532هـ/1091-1138م) حيث بقيت تتبع -سياسيًا وفكريًا- لمركز الدولة الفاطمية الشيعية في مصر.

استمرت التجربة النسائية اليمنية في الحكم بعد نهاية حكم الصليحيين، إذ انتقلت هذه المرة إلى أسر أولئك الحكام السنة التابعين في فترات مختلفة من التاريخ السياسي لليمن؛ ففي فترة الانتشار الأيوبي إلى اليمن كانت والدة الملك الناصر أيوب ابن سيف الإسلام طغتكين (ت 611هـ/1214م) ملكة اليمن قد “هزمت زبيد وضبطت الأمور المالية، وبلغها عن قُدوم شخص من آل أيوب ليتولى المملكة ويحكم الأمور، وذلك في نحو عام 1209م.

“فأرسلت إلى مكة شخصًا ليكشف لها الأمور، وقابل مولاها بسليمان شاه (= المظفر سليمان شاه بن شاهنشاه الأيوبي الذي وفى 649هـ/1251م)، وسأله عن اسمه ونسبه فأبلغه، وكتب إليها، وطالبته لحضوره وسافر إلى اليمن، وتقدم إلى الملكة وتزوجها وتولى المملكة، وارتفعت شأنه بأن دمر البلاد بالظلم والفساد، وطرد زوجته وتنازل عنها وتزوج آخر على أمه”؛ حسب ما ورد في ’تاريخ الإسلام’ للذهبي.

وحتى الدولة الرسولية في اليمن كانت لها سيدة ذات صلة بالحكم والشأن العام؛ فكانت هذه الأميرة الدار الشمسي (ت 695هـ/1296م) ابنة السلطان الملك المنصور عمر بن علي بن رسول (ت 648هـ/1250م)، وكانت “امرأة ذكية وحكيمة حازمة وذكية، وكانت تحب أخاها المظفر (ت 694هـ/1295م) بكل حب”؛ حسب المؤرخ موفق الدين الخزرجي الزبيدي (ت 812هـ/1409م) في كتابه ’العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية’.

ومن الواضح حيلة هذه الأميرة أنها تدبيرت أزمة شغور الحكم التي نشأت عند وفاة والدها بغياب وليه أخيه المظفر، “فتصرفت وأعطت المال للرجال وحفظت المدينة حتى وصل أخوها من المهجم (= منطقة الحديدة) إلى زبيد ليدخل كملك فيها، وأدارت المركز العليا (= قلعة على جبل)..، لذلك كان يحترمها ويتبع رأيها”.

محطة حاسمة
عند وفاة آخر السلاطين الأيوبيين في مصر الصالح نجم الدينأحداث تاريخية مهمة وضعت الأمور في مصر على رأسها وفاة السلطان أيوب وابنه ولي العهد تورانشاه، على يد المماليك الذين شعروا بتهديد سلطتهم. لم يمر وقت طويل حتى اتفقت الدولة على اختيار شجرة الدر بنت عبد الله، أرملة السلطان أيوب، لتكون حاكمة في مملكة مصر. هذه المعلومات مستمده من كتاب “المواعظ والاعتبار” للقاضي تقي الدين المقريزي.

بعد تولي “عصمة الدين شجرة الدر” الحكم في القاهرة، بدأت دولة المماليك وفقًا لمقريزي بأنها أول امرأة من الترك المماليك تحكم في مصر. المؤرخ الأيوبي ابن واصل الحموي أشار إلى أن لقب شجرة الدر بالسلطانة وكانت تخطب على المِنابر لثلاثة أشهر، وهو ما لم يحدث من قبل في التاريخ الإسلامي.

وأكد الإمام الذهبي شرعية تولي شجرة الدر للحكم واسمها الرسمي وسياستها الحكيمة. وبدأ الخطباء يدعون لها بلقب “عصمة الدنيا والدين”، أم خليل المستعصمية صاحبة السلطان الملك الصالح أيوب. وهكذا، أصبحت شجرة الدر أول امرأة تحكم بمفردها في دولة مركزية مثل مصر، والثانية في العالم الإسلامي بعد الملكة اليمنية أروى الصليحية.

تجبر شجرة الدر على التنازل لزوجها الجديد، أيبك التركماني، بسبب ضغط الرأي العام واعتراض أمراء الأيوبيين في الشام. وهكذا، تسلم أيبك الحكم ليصبح أول سلطان مملوكي في الدولة الناشئة للمماليك.

من طرفه، وصلَت شجرة الدر إلى تسوية مع الصليبيين من خلال تسليم دمياط مقابل الإفراج عن ملك فرنسا. هذا الإنجاز العسكري التاريخي، وتولي شجرة الدر السلطة، ساهم في إنهاء الحملات الصليبية على مصر والشام. تربط ملك حماة الأيوبيين أبو الفداء عماد الدين هذا الإنجاز بتولية شجرة الدر للحكم.

وهكذا انتهت حكم شجرة الدر بعد أشهر من الاضطراب، حيث أتاحت لأمراء المماليك الفرصة للعودة للحكم. انتهت حقبة تاريخية بتسلم سلاطين المماليك للسلطة في مصر بعد سقوط بغداد بيد المغول، وبداية دولتهم التي قادت العالم الإسلامي لعدة قرون.في تاريخ الهجري الـ15، نجد مثالًا فريدًا من نوعه حيث تمكنت النساء في العراق من تولي السلطة بشكل مستقل، ويبدو أن هذا الحدث كان مستوحى من تجارب المصريات واليمنيات في الفترة المملوكية. إذ كانت السلطانة التي تحمل الجنسية المغولية، تندو، ابنة السلطان حسين بن أويس، قد تزوجت من السلطان المملوكي الظاهر برقوق بعد وفاة عمها أحمد بن أويس، حسبما ذكر الإمام السخاوي في كتابه “الضوء اللامع”.

وفي سياق آخر، ذكر السخاوي أن تندو كانت جميلة للغاية، وتزوجها ابن عمها شاه ولد. وبعد وفاة عمها أحمد، تولى شاه ولد الحكم في السلطنة، لكن زوجته تندو قامت بالتآمر ضده حتى قتل، وبعدها استولت على السلطنة وحكمت كملكة مستقلة لمدة ثلاث سنوات.

وكشف الإمام عن توسع نفوذ السيدة تندو في جنوب وشمال العراق، حيث سطع اسمها على منابر السلطنة ووضعت اسمها على العملات حتى وافتها المنية.

في سياق متصل، استمرت ظاهرة الحكم النسائي في العالم الإسلامي حتى العصر الحديث، ومن بين النماذج التي تمثل هذه الظاهرة كانت الأميرة العربية غالية البقمية، التي تنتمي إلى قبيلة البقوم في الحجاز.

وتناول المؤرخ محمد بن حمد البسام التميمي قصة غالية البقمية في كتابه “الدرر المفاخر في أخبار العرب الأواخر”. وسجل مساهمتها البارزة في مواجهة الغزوات المصرية العثمانية، حيث تصدت لثلاث حملات عسكرية خلال ثلاث سنوات.

وأخيرًا، يشير المؤرخ عبد الرحمن الجَبَرتي إلى هزائم الجيش المصري العثماني أمام غالية البقمية، التي قادت قبيلتها بشجاعة واستطاعت هزيمة القوات المعادية، مما يجسد محطة مفصلية في تاريخ المنطقة تظهر فيها دور قوي للنساء.شر هزيمة، فغضب الباشا “محمد علي والي مصر.

ويقول الجبرتي أنه في الشهر الأول من العام نفسه أعادت القوات المصرية -تحت قيادة جديدة تسلمها القائد طوسون باشا (ت 1231هـ/1816م)- الهجوم على “منطقة تُربَة حيث توجد المرأة الشهيرة باسم ‘غالية‘، ونشبت بينهم معارك لثمانية أيام، وعادوا منها مهزومين دون أن يحققوا أي انتصار!!

وفي مواجهة تلك الهزائم المتتالية؛ قرر والي مصر القوي محمد علي باشا شخصيًا قيادة جيشه للتصدي لإمارة بقمية الصغيرة، كما يشير حمد البسام النجدي الذي سجل تفاصيل هذا الصراع المفصلي؛ مكشفًا عن تحركات هذه الأميرة البدوية الذكية للحفاظ على إمارتها الصغيرة من خلال استغلال صراع بين أكبر قوتين إقليميتين في شبه الجزيرة العربية في تلك الحقبة.

ذُكر أنه عندما وصل والي مصر إلى منطقة الأميرة غالية وحاصر قلعتها “أبت الطاعة له والدخول تحت سلطته، فقامت بإرسال استغاثة إلى الوهابي (= الأمير عبد الله بن سعود ت 1234هـ/1819م) ليساعدها في مواجهة الوزير (= محمد علي) ويعرفه بعزيمته وإصراره، وبأنه لا بد من مواجهتها (= محاربتها)، فأقر الوهابي بإرسال أخيه إليها فيصل (= فيصل بن سعود الأكبر ت 1233هـ/1818م) بـ 40 ألف جندي..، وعندما وصل فيصل إليها برفقتهم وجدها في حالة استعداد كاملة”.

لكن تفوق القوى المتفاوتة أدى إلى هزيمة جيش غالية وحلفائه السعوديين في ذلك الصراع الحاسم المعروف في التاريخ السعودي بـ”معركة بسل”.

واللافت أن الجبرتي يصف جو الفرح الرسمي والشعبي الذي عمّ العاصمة المصرية العثمانية بعد انتصار جيش محمد علي -الذي شارك فيه بعض الضباط الإنجليز بحسب الزركلي- في حملته الأخيرة ضد “إمارة البقمية” الصغيرة، كما لو أن هذا الانتصار كان هزيمة لجيوش أقوى كانت تدافع عن عاصمة إمبراطورية قديمة متماسكة!!

ويذكر مؤرخ مصر البارز أنه في 9 ربيع الأول 1230هـ/1815م “وصلت قافلة من تجار الحجاز.. وكانت تحمل رسائل تحمل أخبار وبشرى بانتصار الباشا على العرب، وبأنه استولى على ‘تُرَبَة‘ ونهب منها جمالًا وغنائم وأسرى، فعندما وصلت الأخبار إلى الناس انتشر الفرح في أنحاء المدينة وهتف الناس (= الجنود) بالتهليل احتفاءً بهزيمة السيدة غالية البقمية!!

وعن مصير هذه الأميرة الحجازية؛ يحكي المؤرخ حمد البسام عن الجدال القائم بين الرواة حول ذلك، لكنه يميل إلى القول الذي يذهب إلى أنها هربت بعد هزيمتها من فيصل وعلمت [غالية] بأنها ستخضع، فاتجهت نحو الدرعية..، واحتل الباشا (= محمد علي) أراضيها ومنازلها وثرواتها، وكان عدد جنودها 17 ألفًا ولم يبق منهم أحدٌ”!!

وبهذا ازدحمت معركة بسل طريق القوات المصرية العثمانية نحو معاقل الدولة السعودية الأولى، مما سمح لها خلال ثلاث سنوات فقط بغزو معاقلها واحتلال عاصمتها الدرعية سنة 1233هـ/1818م، حيث انهارت بذلك قواعد الدولة وانتهى مصير أميرها عبد الله بإعدامه في اسطنبول بعد فترة قصيرة من الاحتجاز في مصر، كأنما كانت الأميرة غالية البقمية حصنًا قويًّا أمام هذا الانكسار الكارثي الذي لا تزال تتردد صداه على مدى عقود في مناطق العرب!!
نهاية التجارب
ويقودنا الرصد التاريخي -في موضوعنا هذا- إلى ما يبدو كمثال نادر على نهاية القرن الـ14هـ/بداية القرن الـ20م، أي قبل نحو قرن من الآن وخصوصًا سنة 1348هـ/1930م، وإلى الشرق قليلًا من شبه الجزيرة العربية حيث مملكة بهوبال الإسلامية الصغيرة وسط شبه الجزيرة الهندية.

وكما كانت إمارة بقمية التي تمت ذكرها سابقًا، لسوء حظها وقرب موعد سقوطها؛ تعاقبت على مملكة بهوبال أنثى تلو الأخرى على العرش. وسنقوم هنا بتلخيص قول المؤرخ الحسني في كتابه “نزهة الخواطر”، استنادًا إلى شيخ الإسلام عبد الحي بن فخر الدين الحسني (ت 1341هـ/1922م) والد العالم الشهير أبي الحسن النَّدْوي (ت 1420هـ/1999م).

من بين السيدات الحاكمات البارزات في بهوبال الملكة المثقفة شاهجهان بيكم/بيغَم (ت 1319هـ/1901م) التي كانت ابنة السلطان جهانكير محمد خان (ت 1263هـ/1846م)، وقد وُصفت بالملكة الفاضلة والسخية.

ثم تولت سلطة المملكة عام 1263هـ/1846م خلفًا لوالدها، فـ”اُنعقد مجلس صغير من آنذاك ليختارها خلفًا لوالدها وكانت تبلغ تسع سنوات..، وزُفت إليها عروس من ملكة بريطانيا” فيكتوريا (ت 1319هـ/1901م) التي كانت تحكم الهند تحت عبء الاستعمار.

وتولت وصية الحكم والدتها سكندر بيكم (ت 1285هـ/1868م) التي كانت السلطانة الفعلية

في الأقاليم، وبين أرضها ربت ابنتها شاهجهان التي كانت مخصصة للتعليم حتى “اكتسبت المواهب واستزادت من الخطوط العربية ومهارات الكتابة ولغة فارسية متقنة والشعر، وتقنيات الإنشاء والأدب، واستوعبت معارف الإدارة والسياسة حتى تميزت بفضلها بين رفاقها بمهارتها في ترجمة القرآن وإعداد المباحث الدينية وتحديد المواضيع الدولية”!

عندما بلغت الثانية والعشرون من عمرها، قدمت شاهجهان استقالتها رسميًا في عام 1276هـ/1858م و”نقلت مسؤولية الرئاسة إلى والدتها، واقتصرت بنفسها على دور الخلفاء”؛ ثم عادت لتولي الحكم مُجددًا بعد مضي حوالي عشر سنوات بعد وفاة والدتها، حيث “جلست على عرش الرئاسة” حتى آخر أنفاسها.

في عام 1288هـ/1871م، ارتبطت شاهجهان بعلامة الهند صديق حسن خان الحسيني (الذي تُوفي في 1307هـ/1890م)، وأسستا بذلك أسرة علمية حاكمة، مما أدى إلى تحقيق نهضة علمية كبيرة بتوجيه من الملكة، التي “صرفت ثروة طائلة على نشر القرآن والتفسير القرآني والسنة النبوية واللغة والفنون الأخرى، وأنشأت مدرسة جهانكيرية باسم والدها في القصر الملكي”.

لقد أدت هذه الحركة الثقافية إلى إحياء كبير للتراث الإسلامي العربي من خلال طباعة ونشر العديد من مؤلفاته، وبسرعة تفشت ثمارها وانتشرت أضواؤها ليس فقط في الهند ولكن أيضًا في أهم البلدان العربية والإسلامية، حققا بهذا الوصف الرفيع كونهما “نوار الهند بل قمرا الشرق والغرب”؛ وفقًا للأديب واللغوي اللبناني أحمد فارس الشدياق (الذي تُوفي في 1301هـ/1884م) في كتابه ‘الجاسوس على القاموس‘.

ووفقًا للحسني، فقد كانت شاهجهان معروفة -سواء داخل بلادها أو خارجها- بأنها “حاكمة وسخية وراعية للنِّعم، عمرت البيوت وأقامت المدارس العلمية، وأسست المساجد العظيمة، وقامت بتنظيم المناصب الرفيعة، وحفرت الآبار وغرست الحدائق والأشجار، وأقامت المنشآت الكبرى، وبذلت عطايا سخية لأهل الفضل في الهند وأهل الحرمين الشريفين واليمن والعراق والشام وغيرها من البلدان”.

ومن بين مواقفها في السياسة الخارجية كان دعمها للدولة العثمانية خلال حروبها، حيث أمرت خلال تلك الصراعات بـ “تقديم مساعدات سخية للدولة العثمانية، ما يبرهن على عظمة قامتها وسخائها”.

كرمت السلطانة شاهجهان بشكل كبير من قبل ملك الدولة العثمانية القوي آخر سلاطينهم المحمود عبد الحميد الثاني (الذي تُوفي في 1336هـ/1918م)؛ إذ في عام 1296هـ/1879م “منحت ميداليتان بارزتان بمسماها، ونيشانًا من الدرجة العليا -المعروف بأنه ‘شفقة‘- من طرف سلطان عبد الحميد خان الغازي حاكم الدولة العثمانية”؛ حسب ما ورد من الحسني.

رحلت شاهجهان تاركة خلفها ابنتها سلطان جهان بيكم في العرش (التي تُوفي في 1348هـ/1930م) التي “تربت في أحضان الحكم، ودرست القرآن وقامت بترجمته..، وتعلمت الخط والكتابة، واللغة الفارسية والإنجليزية”، كما يروي المؤرخ الحسني.

وفي ميدان الإدارة السياسية وفن الحكم، استفادت سلطان جهان من خبرات جدتها سكندر بيكم، وعندما توفيت والدتها شاهجهان، كانت مؤهلة لتولي الحكم، فـ “جلست على كرسي الرئاسة، فأخذت الزمام بيد الرأفة والسياسة والحنان والتعامل الحسن”.

سارت سلطان جهان على نهج والدتها في تطوير دولتها من الناحية البنية والثقافية؛ وعليه “تقدمت الإمارة في فترتها في الحضرية والرفاهية والتنظيم، وشجعت على نشر المعارف ودعمت المشاريع التعليمية وأدبت الكتب المفيدة..، واختيرت رئيسة للجامعة الإسلامية بعَلِيكْرَه” المشهورة بشكل واسع في شبه القارة الهندية!!

المصدر : الجزيرة



أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Exit mobile version