كان ساندبورغ في السابعة والستين من عمره عندما وصل إلى هذه المنطقة في عام 1945، وأدهشه جمال الطبيعة فقرر شراء «كونّيمارا»، حيث أمضى ما تبقّى له من عمر حتى مماته. شهد ساندبورغ النور في إيلينوي عام 1878 من والدين هاجرا إلى الولايات المتحدة من السويد، وعلى غرار العديد من الكتّاب الأميركيين عاش حياة حافلة بالمغامرات، تنقّل خلالها من البيع الجّوال في القرى والدساكر، إلى الالتحاق بالجيش النظامي، ثم ممارسة الصحافة وقرض الشعر وتأليف الأغاني الشعبية، مصحوباً دائماً بقيثارته التي كان يعزف عليها في المهرجانات والحفلات ومحطات القطار. كان اشتراكياً في شبابه، وموظفاً في الحزب الاشتراكي الذي كان له عدد من رؤساء البلديات والبرلمانيين في الولايات الوسطى من الغرب الأميركي.
لم يكن ساندبورغ كبيراً بين الشعراء، خصوصاً وأنه من جيل إليوت وباوند، لكن قصائده كانت جذّابة تحظى بشعبية واسعة بين عامة القرّاء. كان ويتمان ملهمه الأول في الأشعار التي نظمها حول الناس العاديين، من جزارين وفلاحين إلى عمال المناجم والحمالين، وحول التطور المادي الذي كانت بدأت تظهر آثاره في ناطحات السحاب والقطارات التي تمخر عباب الجبال، وفي ترويض الطبيعة وتسخيرها لمستقبل واعد بالرفاه والسلام. صدرت مجموعته الشعرية الأولى عام 1904 بعنوان «نشوة هوجاء»، تبعتها مجموعات أخرى مثل «دخان وصُلب»، «أشعار شيكاغو» و«صباح الخير أمريكا». لكن شهرته جاءت مع سلسلة المقالات التي كتبها حول أحداث عرقية دامية وقعت في شيكاغو أواسط يوليو (تموز) 1919 وذهب ضحيتها عدد كبير من القتلى والجرحى إثر مواجهات نشبت بسبب تعرّض شاب زنجي للضرب المبرح على يد مجموعة من الشبّان البيض لأنه تجاوز الحاجر العرقي الفاصل في حمّام للسباحة. هذه المقالات التي انتهيت من قراءتها منذ قليل، فيها نفس ملحمي طويل وبعد أخلاقي عميق يذكّر بالروايات الكبرى التي وضعها درايزر وستياباك.
تميّز شعر ساندبورغ خلال المرحلة الأولى بالوضوح والبساطة، ثم تدرّج نحو التعقيد والباطنية مع بلوغه الشيخوخة، وحظي دائماً بجمهور واسع من القراء. لكن دخوله باب الخلود تكرّس عند صدور السيرة التي وضعها حول إبراهام لنكولن واستغرقت كتابتها أكثر من عشر سنوات، وأمضى معظم حياته في مراجعتها وإثرائها، ونال عليها «جائزة بوليتزر». تقع هذه السيرة في ستة أجزاء ضخمة، وهي موجودة في جميع المكتبات العامة والمدارس الأميركية، وهي أحد الدوافع الرئيسية التي تجذب السياح معي هذا الصباح لزيارة المتحف المخصص له هنا في كارولاينا الشمالية.
لم أحاول أبداً قراءة هذه السيرة الطويلة رغم أن الكتب الضخمة والطموحة تستهويني بشكل خاص. ولعل السبب في ذلك هو ما قرأته بريشة الناقد الأدبي المعروف أدموند ولسون، الذي أكنّ له الإعجاب وأواظب على متابعته، حيث قال: «أسوأ فاجعة أصابت إبراهام لنكولن بعد اغتياله، كان وقوعه بين يدي كارل ساندبورغ».
انتقل ساندبورغ إلى هنا من ميشيغان عام 1945 مع زوجته المولودة في اللوكسمبورغ، وبناته الثلاث وحفيديه، إلى جانب 14 ألف كتاب وقطيع من الماعز. وخلال الأعمال الترميمية للمنزل نقلت المكتبة التي صارت تضمّ 17 ألف كتاب إلى مكان آخر تنتظر إعادتها إلى موقعها الأصلي قريباً فوق الرفوف التي تطلّ على ثلاثة طوابق خشبية وبهو فسيح يشرف عليه بيت صغير للحمام كان ساندبورغ يمضي فيه الليالي مطالعاً وكاتباً. كان يستيقظ متأخراً في الصباح وينصرف، بعد الغداء، لقراءة ما كتبه في الليل لأفراد عائلته، أو للعزف على قيثارته، ثم يجول لساعات في الطبيعة المجاورة.
خلال الأوقات التي كان ساندبورغ يمضيها في المطالعة والكتابة، أو في استكشاف الجبال والغابات المحيطة بالمنزل، كانت زوجته ليليان تهتم بقطيع الماعز تساعدها بناتها وحفيدتها الكبرى. وقد أفلحت زوجته في مهمتها لدرجة أن مدخول الأسرة من الألبان التي كانت تنتجها تجاوز ما كانت تدرّ عليها حقوق المؤلف لشاعرنا وكاتبنا، حتى أن السيدة ليليان دخلت تاريخ الصناعات الأميركية إذ كانت مؤسسة اتحاد مصانع الألبان في الولايات المتحدة ورئيسته الأولى، وما زال قطيع الماعز، المتحدر من القطيع الأول، في حظيرة يستقطب فضول أبناء السياح وأحفادهم إلى اليوم.
بعد وفاة ساندبورغ عام 1967 وهبت الأسرة جميع كتبه ومخطوطاته ورسومه وصوره ومراسلاته الضخمة إلى حكومة الولاية التي جمعتها ورتبتها في هذا المتحف الذي ينظمّ نشاطات ثقافية ومحاضرات ومنتديات وحفلات موسيقية ومهرجانات شعرية طوال العام.
لكن أكثر ما استوقفني في هذه الزيارة كان المكتبة والمتجر عند مدخل المتحف، حيث تعرض للبيع جميع أعماله وصوره، وتسجيلات بصوته يتلو فيها قصائده، وجميع أنواع السلع التي تحمل مقتطفات من أشعاره وكتاباته، إضافة إلى تسجيل لمقابلة طويلة أجراها ساندبورغ مع أحد الصحافيين، يسهب فيها بشرح آرائه حول الشعر والكتابة، والحديث عن كتابه المفضلين. توحي تلك المقابلة بأنه كان رجلاً صالحاً وطيّباً، ربما أكثر مما ينبغي ليكون شاعراً كبيراً، عاش حياته بكثافة، لكن بسطحية ومن غير أن يسبر عمق المأساة الوجودية، وبعد عبوره الصاخب في مراحل عدة، اكتشف في هذا المكان الهادئ والجميل أن الحياة، رغم ما فيها من مرارة ومظالم، تستحق أن نعيشها في كنف مثل هذه الطبيعة الخلابة.
كم تبدو بعيدة عن هذا المكان الحروب والإرهاب والاستبداد والجوائح والمجاعة. هنا، نكاد نصدّق أن الانسان يُولد، ويبقى، طيّباً، وأن سر السعادة معلّق بأهداب النجوم، وعيون الحيوانات الأليفة، ورفرفة أجنحة العصافير التي تتهافت في الصباح الباكر على حبّات القمح التي تنثرها تحت أوجارها في الليل.
رابط المصدر