منزل مهدم وأسرة متناثرة.. محرر موقع الجزيرة الإلكتروني في غزة يحكي قصة هجرته الثالثة
غزة- صحوت صباح يوم الأحد 12 مايو/أيار الحالي في خيمة، تجولت بعيني في الزوايا الضيقة، ربما للتحقق ما إذا كان الأمر حقيقيا أم خياليا، نعم إنها خيمة وليس أحلام، لقد حدث ما كنت أخشاه منذ تشريده الأول من منزلي في حي الرمال الجنوبي بمدينة غزة شمال القطاع، إلى مدينة رفح في أقصى نصفه الجنوبي.
لم أبق طويلا على فراشي البالي، ظهري يكاد يلتصق برمال المواصي الحارة، التي تذكرني بألم قطني الظهر منذ اكتشافه خلال الحرب الإسرائيلية الأولى على القطاع، نهاية عام 2008.
نهضت ونظرت خارج الشباك الصغير في جدار الخيمة البلاستيكي، فرأيت المئات وربما الآلاف من الخيام المتراصة في منطقة مواصي خان يونس، التي تعج بأعداد هائلة من النازحين، حتى وجد البعض منهم صعوبة في إيجاد مساحة لخيمتهم، فانتشلوا الأرض وجعلوا السماء سقفا لنحاساتهم.وأبناؤهم، واضطروا للتهجير عن رفح بلا استرشاد.
“صباح النور” نطق عديلي ياسر (زوج أخت زوجتي) الذي رحبت بي في خيمته، وبقي هناك وحيداً بعد سفر زوجته قبل العملية العسكرية البرية في رفح بأيام، جالبة معها ابنتها المريضة. سألني عن أول ليلة لي في الخيمة؟ أجبت بكلمة محلية تعني “متعبة” لكن رده كان جاهزًا لتعجيل تكيفي “احمد الله، نحن أحسن حالاً من غيرنا الذين لا يجدون خيمة تحميهم”.
يذكرني ياسر بما أمرته به ليلاً “لا تنسى عيد ميلاد صبا” وكنت أخاف أن تغيب معانتي في الليلة الأولى بالخيمة يوم ميلاد ابنتي، واضطررنا للانفصال للمرة الأولى منذ مغادرتنا مدينة غزة خلال اندلاع الحرب في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ولجأت مع أختها الصغرى ووالدتهما إلى منزل عائلتها في خان يونس، حيث استمرت الدمار في غرفة واحدة من شقة، في مبنى مؤلف من 4 طوابق، خالي من مياه أو تحتية.
أين مدينة خان يونس؟
حاولت أكثر من 50 مرة الاتصال بصِبا لتبرّكها بعيد ميلادها الخامس عشر، ولكن دون جدوى، نظراً لعدم توفر تغطية جوالية في المناطق، بسبب الكثافة السكانية الهائلة جراء التهجير الكبير، والدمار الواسع الذي حل بالبنية التحتية في مدينة خان يونس، بما في ذلك شبكة الاتصالات، جرّاء عملية عسكرية برية وغزو شامل استمر لمدة 4 أشهر.
وكان قرار الذهاب شخصياً لتهنئتها ليس سهلاً، واضطررت للانتقال عبر عربة مجرّاة بحمار، ثم سيارة نقل تبدو كصندوق سردين ومكتظة بأجسام الركاب، وصارت المحطة الأخيرة مجمع ناصر الطبي، حيث لا يمكن للسيارة تجاوز التضاريس الوعرة التي تركها الدبابات، واضطررت للمشي لمدة تقارب الربع ساعة.
الطرق لم تعد كما كانت، لقد تغيّرت المعالم واختفت المنازل والمحلات التجارية، والعديد من معالم هذه المدينة الثانية من حيث الحجم والنشاط في القطاع المحاصر بعد مدينة غزة.
يقول صديقي إبراهيم قنن، يمزح بمرارة، ولقد فقد هو وأسرته بناية من 6 طوابق، دمّرت تماماً في حي الأمل غربي خان يونس “نحتاج جيوشاً من أجل إعادة بناء المدينة من جديد، لا تُحدثني عن إعادة الإعمار مع هذا الدمار، خان يونس بحاجة للهدم والإعادة بالكامل، فالدمار هنا أعظم من مدينة غزة”.
غزة، مدينتي التي أقمت بها قبل 25 سنة، لم أغب عنها كل هذا الزمن من قبل، لكن لم أزرها منذ غادرتها في الأسبوع الأول للحروب، مكرهاً كالكثيرين من سكانها، بسبب تحذيرات إسرائيلية بالإخلاء والتهجير إلى مدن ومخيمات جنوب وادي غزة.
كانت وجهتي خان يونس، مسقط رأسي، لكن لم أعود إلى البيت الصغير الذي نشأت فيه في مخيم الشابورة، حيث هاجرت أخواتي هناك مع أطفالهن ولم يبق لي مكان، فكان التهجير الأول لمنزل صديق في حي الجنينة شرقي المدينة، حيث قِمت لمدة 5 أشهر.
رأيت الموت
فجر 23 أكتوبر/تشرين الأول رأيت الموت، نعم رأيته، والصاروخ يسقط على منزل مجاور لمنزل صديقي، وكانت الساعة تجاوزت السادسة صباحاً، كنت قد انتبهت لأداء صلاة الفجر، وإذا بكتلة نارية ضخمة تصطدم بمنزل عائلة الخطيب على بعد 8 أمتار فقط، ولم تستوعب إلى النهاية كيف قذفتني شدة الانفجار وألقتني لنحو مترين، وارتطمت بالأرض، وانهدمت فوق رأسي زجاج النوافذ والحجارة المتناثرة.
وكنت قد تحدثت مع صديقي زياد بضعة أيام قبل ذلك عن شعور لاعب حي من القصف ومحاصر تحت الأنقاض، كنت قد قلت له “الموت بصاروخ مرة واحدة أسهل علي من ألم الموت بالاختناق تحت أنقاض منزل مدمر”. وتذكرت هذه المحادثة ولم أرتفع رأسي لأنني خشية الاصطدام بسقف المنزل، واعتقدت أنه انهار علينا، ولم أتذكر سوى أنني كنت أكرر الشهادتين، وأصرخ للتأكد من سلامة زوجتي وابنتي صبا وصدف.
ولربما كانت مدة هذه المواقف بضع ثوانٍ فقط قبل أن أتيقن من أنني على قيد الحياة، وأن سقف المنزل لم يسقط على رأسي، لكنها مرت علي كفترة، قبل أن أستيقظ والدماء تنزف من رأسي وذراعي، وقد نجونا جميعًا في المنزل، وكان أكثر من 30 شخصاً، نجونا بجروح جسدية شفيت بمضي الأيام، لكن هل سيبرأ الذاكرة؟
التهجير الثاني
تواطأت فترة نزوحنا إلى منزل الأصدقاء في منطقة الجنينة، وكان شهر رمضان على الأبواب، وأخيراً ظهرت أسماء شقيقتي وابنها في قوائم السفر للعودة إلى وطنهم في الإمارات، وهما اللذان وصلا إلى غزة في زيارة صيفية تخللتها الحرب.
“لديكم مكان لنقضي رمضان معًا” رددنا على والداي، واقتربت مع عائلتي من تقضية رمضان في غرفة من بين 3 غرف في المنزل، كانت تحتلها شقيقتي وابنها قبل سفرهما، وبذلت مجهودات كبيرة لتوفير خدمة الإنترنت ومصدر للطاقة في المنزل، حيث يعتمد سكان غزة على الألواح الشمسية التي ارتفعت أسعارها بعد تدمير الاحتلال لشبكة الكهرباء، وخروج المحطة الوحيدة لتوليد الطاقة عن الخدمة بسبب الدمار وعدم توفر الوقود الذي تمنع إسرائيل من توصيله إلى القطاع.
انقضى رمضان بسرعة بدون أي مظاهر، وكانت هذه المرة الأولى التي لم أشارك فيها بصلاة التراويح في المسجد، حيث استهدف الاحتلال مئات المساجد ودمرها كليًا أو جزئيًا، وتوقفت الأذانات وهجرت صلوات الجماعة، وكذلك اختفت الموائد الرمضانية المليئة بأصناف الطعام والشراب، فلم يكتفِ الاحتلال بالحرب ولكن فرض حصارًا شديدًا على القطاع، ومنع إدخال معظم السلع والبضائع التي ارتفعت أسعارها بصورة مجنونة.
هددت إسرائيل بانتظام بغزو رفح وقامت بتحذير سكان مناطق شرق المدينة بضرورة الإخلاء والتهجير نحو ما تسميه “المنطقة الإنسانية الموسعة” بالقوة، وكانت عمليات التهجير سريعة وفوضوية، ولم تقتصر على تلك المناطق الشرقية فقط، بل طالت مختلف أرجاء البلدة الأصغر في القطاع، حيث غادر الكثيرون وبلغية النازحين فيها.
يقول أحد أصدقائي بعد حديثه عن التهجير الكبير من المدينة “الناس يهربون من الموت إلى المستقبل، ولا أحد يحاسبهم بعد ما شاهدوه في خان يونس والشمال” في إشارة إلى الاحتلال والتدمير.
بيت خيمة في المستنقع
كنت أحد هؤلاء النازحين، فمنزل عائلتي في مخيم الشابورة غرب المدينة لم يتأثر بأوامر الإخلاء، ولكن معظم الجيران في حينا قرروا ترك منازلهم والتهجير، وكانت قرارات التهجير مؤلمة بالنسبة لنا، حيث تفرقنا وانتشرنا، فذهب والدي ووالدتي وشقيقتي لمرافقة عمي إلى منزل ريفي صغير يمتلكه، وزوجتي وبناتي ذهبن للانتقال إلى منزل أسرتهن المدمر في خان يونس، أما أنا فكانت وجهتي “بيت الخيمة”.
كانت فكرة الاضطرار للعيش في خيمة تشغل تفكيري، حيث شاركت في كتابة تقارير وقصص عن الحياة الصعبة للنازحين في الخيام التي تتحول خلال الصيف إلى أفران حارقة.
رغم الظروف القاسية ونقص الموارد في هذه الخيمة، لكن أهمية وجود حمام ومياه كانت آلاف المصاحف، ووجدت نفسي محظوظًا بوجود خيمة توفر كل ذلك، أو كما يقول ياسر بطرافة “الخمس نجوم”.
عندما كنا صغارًا، كنت تعني لنا المواصي متعة السفر الذي يكافأ به الأب عائلته، لكنها اليوم تعني بيئة حزينة مليئة بالألم، فقد امتلأت بخيام تالفة وتفتقر للخصوصية، حيث تتصاعد منها ضجيج ومشاكل بسبب الضغوط النفسية والمالية.
وقد مرت 8 أشهر منذ تهجيري الأول من شقتي الراقية في برج “زهرة المدائن” المطل على البحر غرب غزة، والذي كان يُعد واحدًا من أقدم وأضخم الأبراج في المدينة، لكنه ومع الأبنية الأخرى في المدينة تعرض لتدمير جوي وبحري في اليوم التالي للحرب.
ورغم الصراعات من حولي، وأنا في هذا البيت الخيمة التعب، أتمنى في نفسي “بمجرد توقف طائرات القتال والمدافع، ستبدأ معركة جديدة للإعمار والإيواء واستعادة الحياة”.