من الذي قلب الموازين في أحداث العنف في بريطانيا؟
لقد نجحوا في قلب الموازين وانتزاع زمام الأمور من أيدي السياسيين والإعلاميين الذين دفعوا بخطاب التحريض على الهجرة، وأطلقوا العنان لكراهية لا تليق ببلد يتغنى بتعدده الثقافي. أرسل هؤلاء المناهضون رسالة واضحة: بريطانيا ليست حكرًا على أحد، وأحياؤنا متعددة الأعراق لن تكون يومًا مناطق محظورة على أي فرد من أفراد المجتمع.
هذه القوة الجماهيرية التي ظهرت في وقت حرج، جاءت ردًا على تحذيرات الشرطة من أن اليمين المتطرف كان يخطط لأكثر من مئة تجمّع في أنحاء البلاد. كانوا يهدفون إلى إشاعة الفوضى، ليس فقط عبر ما سمّوه بـ”المظاهرات المناهضة للهجرة”، بل عبر استهداف المساجد، ومكاتب محامي الهجرة، والجمعيات الخيرية التي ترعى اللاجئين والمهاجرين.
أمام هذه التهديدات، وقف الناس الذين عاشوا تحت وطأة الخوف من هذه الهجمات وأعمال العنف، ليقولوا كفى. وبهذا الموقف، انسجمت إرادة الشعب مع استجابة الشرطة التي اعتقلت مئات من مثيري الشغب، ووجّهت الاتهام إلى عدد كبير منهم.
وجود مناهضي العنصرية بأعداد ضخمة في الشوارع كان كافيًا لإرهاب بلطجية اليمين المتطرف، فلم يظهر إلا عدد قليل منهم في المناطق التي كانوا يخطّطون لنشر العنف فيها.
وبعد هذه المواجهات، بدا أن أعمال الشغب العنصرية قد انتهت، وأن من شارك فيها أو حرّض عليها بدأ يشعر بثقل القانون، كما وعد رئيس الوزراء كير ستارمر.
ورغم أننا نحتفل بهذا الانتصار ضد العنصريين والفاشيين، ونستعيد هوية بريطانيا متعددة الأعراق، علينا أن نتساءل: كيف وصلنا إلى هذه المرحلة من الشغب اليميني المتطرف في شوارعنا؟ وما السبيل إلى منع تكرار هذه الفظائع؟
يشير كثيرون إلى أن التضليل المنتشر عبر الإنترنت كان المحرك الأساسي لهذه الأعمال الشنيعة. المحتوى الذي يُلقي باللوم على المسلمين واللاجئين في جميع مشكلات البلاد – من ارتفاع تكاليف المعيشة إلى نقص السكن، وحتى الجرائم الشنيعة ضد الأطفال – لعب دورًا كبيرًا في دفع أسوأ عناصر المجتمع إلى الشوارع.
لكن الحقيقة التي يعرفها المسلمون البريطانيون، وغيرهم من الأقليات العرقية، هي أن هذه الكراهية ليست وليدة اليوم. إنها جرح قديم تمتد جذوره لعقود. أبناء الطبقة العاملة من المهاجرين الذين ساهموا في إعادة بناء بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية، شعروا في الأسبوع الماضي بأنهم يواجهون نفس التمييز والكراهية التي واجهها آباؤهم في السبعينيات والثمانينيات.
لقد تكرّر التاريخ، وأصبح النساء وكبار السن، وكل من يبدو كأنه “مهاجر”، يعيشون في خوف دائم، يُطلب منهم البقاء في منازلهم، وتجنّب مناطق معينة خشية التعرض للعنف أو حتى لهجمات بالحمض الحارق.
الأسبوع الماضي، ذكّرنا بأن الكراهية ضد المسلمين، التي انفجرت بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، لم تختفِ رغم كل الجهود المبذولة. تلك الحرب التي شنتها الولايات المتحدة وحلفاؤها، بما فيهم بريطانيا، بحجة “محاربة الإرهاب” جلبت الويلات للمجتمعات المسلمة في الشرق الأوسط، وعمّقت الجروح في صفوف المسلمين الذين يعيشون في الغرب.
منذ ذلك الحين، أصبح التحامل ضد المسلمين جزءًا من السياسة في معظم أنحاء أوروبا. حُظر النقاب، والحجاب، والمآذن، بل وحتى اللحوم الحلال. أصبحت الإسلاموفوبيا مقبولة في الخطاب السياسي والإعلامي، ما أدى إلى تطبيع الكراهية ضد المجتمعات المسلمة.
في المملكة المتحدة، كانت هناك أصوات عالية معادية للمسلمين والهجرة، لكن دائمًا كان هناك جهد مضاد للدفاع عن التعددية الثقافية التي جعلت من بريطانيا أمة عظيمة.
لكن في السنوات الأخيرة، بدأت تذوب مكاسب مناهضة العنصرية التي حققناها منذ 11 سبتمبر/أيلول. عاد الساسة ووسائل الإعلام إلى شيطنة المسلمين وتقديمهم كتهديد لمستقبل الأمة، خاصة منذ بداية حرب إسرائيل على غزة، حين رأينا عودة إلى الأيام المظلمة التي تلت 11 سبتمبر/أيلول مباشرة.
وُصِفت المسيرات التي طالبت بوقف أعمال الإبادة وقتل المدنيين بأنها دعوات “كراهية”، واتُهم المسلمون البريطانيون الذين دعوا إلى وقف ذلك العنف بأنهم “محرضون على الكراهية”. هذا التصعيد هو ما أوصلنا إلى الانفجار المروّع للكراهية الذي شهدناه الأسبوع الماضي.
لكن بفضل جهود مناهضي العنصرية، لم تستمر أعمال الشغب سوى أسبوع واحد، رغم أنها كانت تتنامى لعقود.
الآن، بعد أن هدأت الأمور، تحاول المجتمعات المتضررة التقاط أنفاسها. والسؤال هو: كيف نمنع تكرار هذه الكراهية؟
الطريقة الوحيدة لضمان عدم تكرار أعمال الشغب العنصرية، هي أن تبدأ الحكومة حربًا جادة ضد الأيديولوجيات اليمينية المتطرفة. يجب أن تواجه الحكومة اليمين المتطرف وتعصّبه المعادي للإسلام بشكل مباشر، وأن تدافع عن حقوق طالبي اللجوء والمهاجرين، كما نصّت عليها القوانين الدولية.
يجب على الحكومة أن توضح موقفها من الإسلاموفوبيا. ما لم يدرك قادة هذا البلد أن كراهية المسلمين والمهاجرين تشكل مصدرًا للإرهاب المحلي، وتهدّد النسيج الاجتماعي للمجتمع البريطاني، فإننا سنشهد في المستقبل أسابيع أخرى من العار.
يتعيّن على الحكومة الآن أن تشكر الشعب البريطاني الذي وقف ضد اليمين المتطرف، وأن تتخذ إجراءات فورية لضمان عدم ضياع جهوده. على ستارمر وحكومته أن يدافعوا عن التعددية الثقافية، وفي الوقت ذاته، أن يعالجوا التفاوتات والظلم العميق الذي تعاني منه الطبقات العاملة متعددة الأعراق في المملكة المتحدة.
وأي تقاعس في هذا الاتجاه سيكون بمثابة استسلام لليمين المتطرف، وخيانة للقيم التي تجعل من بريطانيا أمة تستحقّ أن نفتخر بها.
رابط المصدر