هل كان تهجين القمح في الهلال الخصيب مفتاح نشوء الحضارة المعاصرة؟

By العربية الآن



من الهلال الخصيب.. هل كان تهجين القمح السبب في قيام الحضارة المعاصرة؟

يُعتبر القمح أحد أبرز المحاصيل التي لعبت دورًا جوهريًا في تطور البشرية على مر التاريخ (بيكسابي)
القمح يُعد أحد أبرز المحاصيل التي لها دور جوهري في تطور البشرية على مر التاريخ (بيكسابي)

يُعتبر القمح من المحاصيل الأساسية التي لعبت دورًا حيويًا في تطور البشر عبر التاريخ؛ فهو ركز انتباه المجتمعات على الأمن الغذائي والاقتصادي لفترة طويلة. وعلى مر العصور، ارتبط القمح بنشأة حضارات كبرى مثل الحضارة المصرية القديمة وحضارات بلاد ما بين النهرين. ويُعتقد أن تطور تهجين القمح كان العامل الأساسي وراء انتشار هذه المحاصيل وتأقلمها مع بيئات متنوعة.

دراسة تكشف عن سر تهجين القمح

في دراسة حديثة نُشرت في دورية “نيتشر” في 14 أغسطس/آب الماضي، أظهر الباحثون كيفية تطور قمح الخبز من خلال تهجين أنواع متعددة من الأعشاب البرية. وأوضح الباحثون أن هذا التهجين نتج عن دمج جينومات ثلاثة أنواع من الأعشاب، مما أدى إلى ظهور نوع سداسي الصبغيات قادر على التكيف مع ظروف مناخية متنوعة، مما ساهم في نشوء حضارات بعيدة عن منطقة الهلال الخصيب، وبالتالي تشكيل عالمنا المعاصر الذي يضم 8 مليارات نسمة.

لتبسيط مفهوم تهجين القمح، يمكننا تشبيهه بخلط نوعين مختلفين من الزهور للحصول على لون جديد. في حالة القمح، يتم دمج نوعين مختلفين للحصول على نوع جديد يجمع صفات إيجابية من كلا النوعين.

يتألف القمح الحديث من ثلاثة جينومات فرعية (أ) و(ب) و(د)، وكل منها جاء من قمح بري قريب. وقد أسهم “الدوسر الطوشي” وهو نبات بري، في تكوين الجينوم (د) عند تهجينه مع قمح المعكرونة الذي زُرع في الهلال الخصيب منذ 8 إلى 11 ألف عام مضت. الجينوم يُعتبر بمثابة كتاب ضخم يحتوي على كل التعليمات الضرورية لبناء أي كائن حي، وتنتقل هذه التعليمات عبر الأجيال، مُحددًة الصفات التي يمتلكها الكائن، مثل لون العيون والطول.

اليوم، يُعتبر الدوسر الطوشي مصدرًا بالغ الأهمية في تطوير وهندسة القمح لمقاومة الأمراض ورفع تحمل ظروف الضغط. بحسب أندريا جونزاليس مونوز، طالبة الدكتوراة بجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، فإن “الجينوم الكامل للدوسر الطوشي يحتوي على 72% من التنوع الجيني للقمع المتواجد ضمن مجموعات عالية الجودة لـ46 عينة، مما يوفر كتالوجًا دقيقًا للتنوع الجيني.”

الدوسر الطوشي (آنا بيريرا)

تاريخ تدفق الجينات

لم يكن انتشار قمح الخبز بالأمر السهل، حيث واجهت بعض البيئات صعوبات لم تتناسب معه، كما ظهرت اختناقات جينية تاريخية نتيجة لعمليات التهجين التي أدت إلى الانخفاض في التنوع الجيني في جينوم (د) مقارنة بغيره.

يقول إيميل كافيليت جيورزا، طالب الدكتوراة في قسم العلوم والهندسة البيولوجية والبيئية، أن “تدفق المورثات من سلالات متنوعة أسفر عن تنوع وراثي جديد كان مفقوداً من جينوم قمح الخبز (د)، مما ساعد على تعزيز قدراته في التكيف مع الظروف المناخية الجديدة أثناء العملية الزراعية النموذجية.” وهذا أسهم في تمكين قمح الخبز من التكيف مع بيئات جديدة بعيدة عن منطقة الهلال الخصيب.

لتبسيط المفهوم، يمكننا تشبيهه بتبادل الكتب مع صديق. هذا التبادل يحدث مع المادة الوراثية بين الكائنات، مما يغير سماتها بعد إجراء التبادل.

قامت مجموعة من الباحثين الدوليين بقيادة جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية بتطوير مورد جينومي للدوسر الطوشي، بهدف تسريع اكتشاف الجينات وتحسين مقاومة الأمراض والظروف البيئية الصعبة. وقاد الفريق براندي وولف وسيمون كراتينجر، بالتعاون مع جيورزا وجونزاليس، من خلال اتحاد القمح البري المفتوح لجمع وتحليل البيانات الجينية من سلالات متعددة للدوسر الطوشي.

من الهلال الخصيب إلى أوروبا

أشارت دراسات سابقة إلى أن هناك سلالة مميزة من عشبة الدوسر الطوشي تقع في جمهورية جورجيا الحالية، على بعد حوالي 500 كيلومتر من منطقة الهلال الخصيب. وتعتبر هذه السلالة مهمة لأنها أعطت قمح الخبز الجين المفضل لجودة العجين.

في الدراسة الحالية، افترض الباحثون أنه بناءً على وجود تداخل جيني تاريخي مشابه لما نراه في الجينوم البشري، سيكون هناك نسبة أعلى من هذه السلالة في أصناف القمح الجورجية. ونجحت التحليلات في إظهار أن الأصناف المحلية من القمح في جورجيا تُعبر عن نسبة 7% من هذه السلالة، وهي ضعف ما يكشف عنه نظيرها في الهلال الخصيب.

يقول طارق قابيل، خبير التكنولوجيا الحيوية بجامعة القاهرة، “قدمت الدراسة فهمًا أعمق للتنوع الجيني لهذا النوع أكثر مما كان معروفًا سابقًا. وعلى الرغم من ذلك، لا يزال هناك مجال للتحسين من خلال إجراء دراسات إضافية باستخدام التقنيات الحديثة لتعزيز دقة التجميع الجينومي.” ويشير إلى إمكانية مقارنة النتائج مع دراسات أخرى على نفس النوع أو على أنواع قريبة منه.

دراسات سابقة أظهرت وجود سلالة مميزة من عشبة الدوسر الطوشي في دولة جورجيا الحالية بمنطقة القوقاز (بيكسابي)

أكدت جونزاليس أن “دراستنا هي الأولى التي تقدم كتالوجًا لـ46 مجموعة جينوم عالية الجودة من الدوسر الطوشي، بما في ذلك مجموعات مرجعية على مستوى الكروموسوم لكل من سلالات الطوشي الثلاث، وقد زادت مجموعتنا من 242 مجموعة جينية غير مكررة في دراسة سابقة إلى 493 مجموعة جينية غير مكررة مع بيانات الجينوم الكامل المتاحة للجمهور. يمثل هذا الكتالوج موردًا غنيًا للتنوع الجيني يمكن استغلاله لتحسين صفات قمح الخبز.”

يشير قابيل إلى أن نتائج الدراسة تعد خطوة هامة نحو ضمان مستقبل الزراعة، في ظل التحديات التي يفرضها تغير المناخ. ويضيف أن هذه النتائج تُعزز جهود اكتشاف الجينات المرتبطة بتحمل الإجهاد وتحسين سلالات قمح الخبز لمواجهة الظروف البيئية القاسية.

التنوع الجيني في مواجهة التحديات المناخية

يوضح جيورزا في تصريحه أن “التداخلات الجينية التي حدثت نتيجة تهجين قمح الخبز مع سلالات برية ذات صلة كانت حاسمة في إعادة بناء التنوع الجيني بعد الاختناقات الجينية، مما جعل قمح الخبز واحدًا من أكثر المحاصيل زراعة عالميًا.”

ساعدت هذه التداخلات في توسيع نطاق قمح الخبز من موطنه الأصلي الذي يشمل حوض نهري دجلة والفرات وساحل بلاد الشام. وقد أسهم ذلك في تحسين الأمن الغذائي عالميًا، وبالتالي ساعد حضارات متعددة خارج منطقة الهلال الخصيب على التقدم والازدهار اقتصاديًا.

حاليًا، ومع ذلك، تواجه زراعة القمح في البلاد العربية تحديات من انتشار الأمراض والآفات التي تؤثر على الإنتاج. وبفضل المعلومات المستخلصة من هذه الدراسة، يمكن تحديد الجينات المسؤولة عن مقاومة هذه الأمراض، وبالتالي تطوير أصناف قمح قوية وموثوقة، بحسب ما يذكر قابيل.

ويختتم قابيل بأن “نتائج الدراسة تمثل فرصة فريدة لتحسين إنتاجية القمح في المنطقة العربية ومواجهة تحديات التغير المناخي، لكن تحقيق هذا الهدف يتطلب تضافر جهود الباحثين والمزارعين وصانعي القرار.”

المصدر: الجزيرة



رابط المصدر

أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Exit mobile version