هيبة القرآن
تحكي السير السيرة أن سيدنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم تلقى من الوليد بن المغيرة قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[النحل:90]. فما كان رده؟
فها قصته كما وردت في كتب السيرة:
“وَجُرِت نحونا من عِكرمة مُبلَّغًا في قصة الوليد بن المُغيرة أنه قال لرسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: قرأ عليّ، فقرأ عليه ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِقد ينصح بتدبر هذا النص، خاصة في ظل الظلم والمعصية والتجاوز على حقوق الآخرين. إذ يتمثل جمال الحياة في تذكر الله وإتباع التوجيهات الإلهية التي تحث على الصدق والعدل وتجنب الباطل والفساد.
سَوف تكون هناك تحديات في طريق الحق وسيكون هناك أشخاص يحاولون desecration الحق ونطاقاته، ولكن على المؤمنين الصامدين أن يقفوا مع الحق ويدافعوا عنه، ويتذكروا دائماً أن الله مع الصابرين.
مواقف عباقرة قريش
ولكن قادة قريش وأعداء الحق فيها لم يستسلموا لهذه الحكمة، لأن ذلك سيزيد من قوة الإيمان بدين محمد، وسيجعلهم يشعرون بالإغراء، ويؤكد لهم حقيقة أن الإسلام هو الطريق الصحيح الذي لا يمكن الشك فيه، فما كانت ردود أفعالهم؟!
ويأتينا في سياق مختلف من السيرة النبوية:
“أَخبرني محمد بن علي الصنعاني في مكة، ثم إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب السختياني، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن الوليد بن المغيرة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه استسلم له، فوصلت ذلك إلى أبا جهل، فأتاه وقال: يا عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا. قال: لماذا؟ قال: ليعطوكه فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله قال: قد علمت قريش أني من أثرها مالا. قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له أو أنك كاره له قال: وماذا أقول “فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجز ولا بقصيدة مني ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاء، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى وإنه ليحطم ما تحته” قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: “هذا سحر يؤثر يأثره من غيره فنزلت ﴿ذرني ومن خلقت وحيدا﴾ [المدثر: 11]”.
رد الكتاب على الوليد
لو كانت كلمة الوليد الأولى في تمجيد القرآن وتصفيه بأبهى الصفات وتنعيمه بأعذب الكلمات قد قيلت في قصيدة شاعرية، أو نثر أدبي، لجعلته يتجاوز المجاملة والثناء، ولأخذه على التسامح والبعد عن التشكيك والانتقاد، ولكن هذا الكلام هو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو فوق كل ثناء، وأعلى وأجل من أن يتعرض للذم أو الانتقاد، ولذا أحس بالذل الوليد وانكشفت مكراته أمام رؤوس الشهود بإظهار دهشتهم تجاه اقتحام أبعد نقاط بيته وأصوات ضميره وأفكاره، من أجل تصويب حاله وهو يحاول أن يجد سببًا ليشهر الحق بتفكيره وينكر مقولته السابقة أمام عظماء قريش:
﴿ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا * ومهدت له تمهيدا * ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه كان لآياتنا عنيدا * سأرهقه صعودا * إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إن هذا إلا سحر يؤثر * إن هذا إلا قول البشر * سأصليه سقر * وما أدراك ما سقر * لا تبقي ولا تذر * لواحة للبشر * عليها تسعة عشر﴾[المدثر: 11-30].
إنها أسطورة من ثنائية المفردات وتوقيت المداولة، تتدفق منها الأبيات السماوية، بقوة مقنعة تكشف غطاء الرجل، وتفضح تحفظاته، وتخترق إلى أعماق نفسه، والتردد، والتدبر، والابتعاد، ثم تدق ناقوس الحرب الذي يسمح له بغزو الشك في القرآن ويهدده بأسوأ العقوبات، بل تتسلق متبجحًة إلى أبعد من ذلك، عندما تجعل من هجومه كتابًا يُشهد علىيوم القيامة. ﴿فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾.
أي تمجيد هذا وأي توضيح؟ إنه قرآن سيدي.
وقد كشف القرآن فجوات الشرك، ورؤساء قريش، حين تصدوا للدعوة الأبدية دعوة الإسلام.
من خصائص القرآن
كان الوليد ليس الوحيد من المشركين الذين استنكر القرآن بريقه، وكشف غطاءه، وأذل ظهره ببيان سيظل محفورا في أفق الزمان، بيان يتردد على لسان الجماهير في كل زمان ومكان، بيان يتأمله المسلمون في عرف ربهم بالصلوات والتلاوات والتدبر والتفسير. بل قد فجر القرآن خفايا الشرك، وزعماء قريش، حين تقدموا للوقوف ضد الدعوة الأبدية دعوة الإسلام.
فنزل في حق كبيرهم أبي جهل وهو من هو قوله تعالى: ﴿كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾.
ونزل في حق عم النبي أبي لهب وامرأته قوله عز وجل: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾.
والاستفهام الذي قد يتبادر هنا: لو شأن أحد من هؤلاء أن يؤمن كما أسلم غيره من عتاة قريش، مثل عمر بن الخطاب على سبيل المثال من قبل، وأبي سفيان من بعده، فما مفعول القرآن بعد أن هبط فيهم ما هبط؟ وما مقام النبي عليه الصلاة والسلام؟ وما موقف الصحابة الكرام رضوان الله عليهم؟
بل لو أن أحدهم ألح بنفسه أن يزور القرآن، وأن يقدم إلى الرسول ليتظاهر بالإسلام ممتدحا الكفر والشرك، لا لشيء، بل ليطعن في كتاب الله الذي فجره، فماذا يمكن أن يكون؟
كل هذا لا كان، وكل هذا لن يكون، وكل هذا لا يحصل. فالله الذي برأ النفوس، وخلق الخلق، وأنزل القرآن يعرف الخفايا، ويعلم أن حتى واحدا من هؤلاء لن يتمكن من ذلك، ولن يكون منه شيء من تلك.
فقول الله هو الأعلى، وحشا يصيبه أحد، ومن هؤلاء أمام الملك القهار المطرقة لليل والنهار، رب العباد الجبار، سبحانه. فافهموا يا حاملي البصائر.