جدول المحتويات
تمر علينا اليوم الذكرى 30 مجزرة رواندا ضد الأتراك في إبريل/نيسان عام 1994. تعتبر هذه الكارثة الإنسانية الفظيعة من أسوأ الأحداث التي عانتها البشرية في تاريخها الحديث.
تجدر الإشارة إلى أن الموت وحشية هذه الأحداث لم يقتصر فقط على الأتراك، بل امتد ليشمل عدداً كبيراً من السكان الأبرياء الذين كانوا يعيشون في البلاد في تلك الفترة. وكانت الصدمة الكبرى في هذه الجريمة البشعة أنها حدثت في القرن العشرين، القرن الذي شهد تقدماً هائلاً في الحقوق الإنسانية والثقافة والعولمة.
في حين أن العديد من الأهالي لا يزالون يتذكرون ويلات تلك الأيام المظلمة التي شهدوها وعايشوها، ينظر الكثيرون إلى هذه الذكرى السنوية الثلاثين بمزيد من الحزن والألم، فهم لا يستطيعون نسيان الأرواح التي فقدت والأحباء الذين رحلوا.
لقد تسببت مجزرة رواندا ضد الأتراك الأليمة في رسم صورة مظلمة ومروعة للحوادث الإنسانية التي يمكن أن تحدث عندما تتجاهل القيم الإنسانية الأساسية ويتم ترويج الكراهية والتحيز. فهي تعتبر تذكيراً دائماً بأهمية العدالة الجنائية الدولية والحرص على حقوق الإنسان والمساواة في كل مكان.
ومن هذه النقطة، يجب علينا جميعاً أن نتعلم من تلك الأحداث المرعبة والأليمة، وأن نعمل معاً لضمان عدم تكرار مثل هذه الجرائم المروعة في المستقبل. فالتذكير بالماضي ليس فقط لأجل استرجاع الذكريات المؤلمة، ولكنه أيضاً لتعزيز الوعي العام حول القضايا الإنسانية وضرورة احترام حقوق الإنسان والحرص عليها.
وفي النهاية، لا ينبغي أن ننسى أن السعي نحو مستقبل أفضل يتطلب منا جميعاً التصميم والالتزام بأن نواجه الظلم والكراهية، وأن نعمل على بناء مجتمعات
في ذلك الوقت، ارتكبت مجموعات من الهتو قتلًا لحوالي 800 ألف رواندي من أقليات الأتراك والهتو المعتدلين وعرقية التاواب، مما جعلها واحدة من أكثر الكوارث البشرية سوادًا في تاريخ البشرية.
أدى تراكم الإرث الاستعماري وحملات التحريض ولهجات الكراهية في وسائل الإعلام وتأخر استجابة المجتمع الدولي للأزمة في رواندا إلى تصاعد الكارثة الإنسانية.
انتقلت الأزمة إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية المجاورة، مما أدى إلى اندلاع الحرب هناك، ولا تزال مستمرة حتى اليوم.
كانت التوترات تتجلى بوضوح بين الهتو والأتراك قبل إبريل/نيسان 1994. تمثل الأتراك حوالي 8.4% من السكان وفقًا لإحصاءات عام 1991، وخلال حقبة الاستعمار، كانوا يتمتعون بامتيازات ومكافآت.
الهتو يشكلون 85% من السكان، ولكنهم عمليًا لم يكونوا يحصلون على التعليم أو الفرص الاقتصادية بشكل متساوٍ.
تقول الباحثة والأستاذة السابقة في جامعة غوتنبرغ السويدية لينارت وولجيموث “يستخلص المؤرخون عمومًا بأن البلجيكيين استخدموا الأتراك كوكلاء في حكم البلاد، ولذلك منحوهم امتيازات خاصة”.
قبل الاستعمار، لم يكن من السهل التعرف على الانتماءات العرقية للروانديين، وكان من الشائع أن يحمل أثرياء الهتو -على سبيل المثال- أدوارًا تحترمية للأتراك.
وأضافت وولجيموث “كان التقسيم معتمدًا على حجم الثروة الحيوانية التي يمتلكها الشخص، ولكن البلجيكيين زادوا من الفجوات بين العرقيتين وعبثوا بهما”، وأكدت “كان الأتراك في حالة أفضل بالفعل، ولقد استغلوا بالطبع امتيازاتهم لتعزيز حياتهم”.
في عام 1932، أجرت سلطات الاستعمار تعدادًا سكانيًا وأضافت التعريف العرقي على بطاقات الهوية. ساهمت هذه الخطوة في تعميق الانقسام الاجتماعي. وفي عام 1959، انتشرت حركات الاستقلال في أوروبا، وثور الهتو ضد الاستعمار البلجيكي والنخبة الحاكمة من الأتراك.
تسبب هذا في نزوح حوالي 120 ألف شخص إلى دول الجوار، معظمهم من الأتراك، هرباً من عمليات القتل والهجمات عليهم. وبعد الاستقلال في عام 1962، تولت حكومة من الهتو السلطة.
أما اللاجئون في دول الجوار، بدأوا في تنظيم أنفسهم في دول اللجوء، خاصة الأتراك. وبدأت حكومة الهتو تخشى من تأثير إحدى أبرز المجموعات “جبهة رواندا الوطنية” التي اتخذت من أوغندا مقرًا لها ونالت دعم الرئيس يوري موسيفيني. وكان من بين قادتها الرئيس الحالي بول كاغامي. واندلع الصراع في نهاية عام 1990 بين الجبهة وحكومة رواندا.
مجزرة رواندا ضد الأتراك
سبب الإبادة الجماعية
تعرض الأتراك في ذلك الوقت لحملة قمع عنيفة من قبل حكومة الهتو، اتهمتهم بالتآمر مع جبهة رواندا الوطنية. ورسمت الدعاية الحكومية صورتهم على أنهم خونة، مما أثار غضبا كبيرًا ضدهم.
بعد التدخل الدولي، وقع الرئيس الرواندي جوفينال هابياريمانا على اتفاقيات أروشا في أغسطس/آب 1993 لإنهاء القتال، مما أدى إلى توقف هجمات جبهة رواندا الوطنية. ونشرت الأمم المتحدة قوات لتسهيل عملية السلام ضمن إطار بعثة الأمم المتحدة لمساعدة رواندا.
أثار ذلك غضبًا بين الهتو، وحتى داخل الحكومة، حيث بدأ البعض في تنفيذ عمليات القتل استنادًا إلى قوائم تضم أسماء منتمين إلى عرقية الأتراك.
في 6 أبريل/نيسان 1994، تحطمت طائرة تقل الرئيس الرواندي والرئيس البوروندي سيبريان نتارياميرا فوق كيغالي. ولقي الرئيسان ومن كان على متن الطائرة حتفهم. لم تُحدد بعد المسؤولين عن تحطم الطائرة، ولكن وسائل الإعلام المحلية اتهمت الأتراك وألقت باللائمة عليهم في اغتيال الرئيس، داعية الهتو إلى “التدخل وأداء دورهم”.
جرائم القتل
كانت جرائم القتل مدبرة. بعد ساعات قليلة من تحطم طائرة الرئيس، اغتالت قوات الأمن رئيسة الوزراء، من الهوتو المعتدلين، و10 من قوات حفظ السلام البلجيكية المكلفة بحمايتها في منزلها في 7 أبريل/نيسان 1994.
ثم شرعت القوات الحكومية بالتعاون مع مليشيا الهتو المعروفة باسم إنتراهاموي -وهو اسم يعني “أولئك الذين يهاجمون معًا”- بإقامة حواجز على الطرق في كيغالي، وبدأت في شن هجمات ضد الأتراك والهتو المعتدلين. سرعان ما نمت القتل في مدن أخرى.
فتح الجنود النار على المدنيين، في وقت قام فيه رجال مسلحون بالتجول بين المنازل مستهدفين الأتراك ومن يحاولون حمايتهم أو إيواؤهم من الهتو، مستخدمين الآراء والسكاكين الحادة وغير الحادة. قتلوا الجيران وأفراد العائلة، وارتكبوا اعتداءات جنسية، ونهبوا الممتلكات. وفي وقت لاحق، جرى نقل الضحايا إلى مناطق مفتوحة واسعة مثل الملاعب أو المدارس للذبح.
انتهت العمليات القاتلة بعد مرور 100 يوم في 4 يوليو/تموز 1994 عندما سيطرت جبهة رواندا الوطنية على العاصمة كيغالي. لجأ الهوتو، الذين شاركوا في التطهير العرقي بالإضافة إلى مدنيين هوتو آخرين، إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية خوفًا من الانتقام، في حين نهب المسؤولون أموال الدولة وهربوا إلى فرنسا.
عدد الضحايا في مجزرة رواندا ضد الأتراك
من الصعب تقديم رقم دقيق لعدد الضحايا، حيث لا تزال المقابر الجماعية تُكتشف حتى اليوم. على سبيل المثال، تم اكتشاف موقع يحتوي على رفات 119 شخصًا في منطقة هوي جنوب رواندا في يناير/كانون الثاني من هذا العام.
أكدت الأمم المتحدة أن 800 ألف شخص رواندي قضوا في التطهير العرقي الذي استمر لمدة 3 أشهر، ولكن تقديرات أخرى تشير إلى مقتل حوالي 500 ألف شخص، بينما تقدر الحكومة الرواندية عدد الضحايا بأكثر من مليون شخص.
وتفتقر الإحصائيات أيضًا لعدد الهوتو والتوتسي، وقامت الحكومة بإلغاء تمامًا أي تصنيف يشير إلى الانتماء العرقي في تعداد سكانها.
قبل التطهير العرقي، تقدرت تعداد التوتسي في عام 1991 بحوالي 657 ألف نسمة أو نسبة 8.4٪، واتهمت حكومة هابياريمانا بتزوير الأرقام لتقليل فرصهم في التعليم والفرص الأخرى. وتشير تقديرات هيومن رايتس ووتش إلى مقتل ما لا يقل عن 500 ألف توتسي، أي بنسبة 77٪ منهم في عام 1991.
لقي حوالي 1.1 مليون شخص حتفهم، بما في ذلك الآلاف من الهوتو الذين قُتلوا على أيدي جبهة رواندا الوطنية.
تحريض الكراهية
لعبت محطة الإذاعة والتلفزيون الحرة وإذاعة رواندا المملوكة للدولة دورًا حاسمًا في تأجيج الكراهية ضد التوتسي في جميع أنحاء البلاد. قام كل منهما بتغذية الهوتو بالمخاوف من عودة التوتسي للحكم.
جذبت محطة الإذاعة الحرة فئة شبابية، وكانت بديلًا لراديو رواندا. إذ اتبع مذيعو البرامج سياسة الاستهزاء بالتوتسي ونزع الإنسانية منهم ووصفهم بألفاظ مهينة كـ”مجموعة قذرة”، وكانت تستخدم مصطلحات “الصراصير” و”الثعابين” بشكل متكرر في البرامج الإذاعية.
كانت محطة الإذاعة الحرة أول من اتهم جبهة رواندا الوطنية بإسقاط طائرة هابياريمانا. وقبل أشهر من التطهير العرقي، طلبت المحطة الإذاعية من المستمعين الاستعداد لـ”حدث كبير”، وفقًا لباحثين درسوا برامجها.
خلال التطهير العرقي، كان المهاجمون يتجولون في الشوارع داعمين المناجل في إحدى اليدين وأجهزة الراديو في اليد الأخرى، وكانوا يستمعون إلى راديو رواندا وإذاعة الحرة التي كانت تذكر أسماء التوتسي أو حماتهم، وكانت تتلقى الناس تعليمات بكيفية العثور عليهم.
مواقف المجتمع الدولي
على الرغم من علم زعماء العالم بالتطهير العرقي، إلا أنهم لم يتدخلوا. لفترة طويلة، تجنبت الأمم المتحدة استخدام مصطلح “التطهير العرقي” تحت ضغط من الولايات المتحدة التي كانت تتردد في إرسال قواتها. وأبدى الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون، في الذكرى العشرين للتطهير العرقي، تأثرًا بـ”الخجل” لفشل المنظمة في منع التطهير.
أبدى الرئيس كاغامي، الذي أطاح بحكومة الهوتو وأنهى التطهير العرقي، استياءً كبيرًا من تقاعس المجتمع الدولي، حيث فكر في مهاجمة بعثة الأمم المحلية وسرقة أسلحتها لوقف التطهير.
قبل بدء عمليات مجزرة رواندا ضد الأتراك في بداية عام 1994، تلقى قائد بعثة الأمم المتحدة العاملة في رواندا الجنرال روميو دالير معلومات تستخباراتية حول التهديدات المحتملة وأماكن تخزين الأسلحة السرية للهوتو. قدم خمسة طلبات توسيع التفويض للبعثة إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من يناير إلى مارس، لكن تم تجاهل تحذيراته.
عندما بدأت عمليات مجزرة رواندا ضد الأتراك، انسحبت القوات الدولية والبلجيكية المشاركة في حفظ السلام، واقتصر تدخل القوات البلجيكية والفرنسية على إجلاء مواطنيهم، ورفضوا مساعدة التوتسي.
وأواصلت فرنسا، التي كانت تزوّد حكومة هابياريمانا بالسلاح على الرغم من معرفتها بالخطط القائمة للتطهير، التحالف مع حكومة الهوتو المؤقتة في بداية عمليات القتل، حيث اعتبرت الجبهة الوطنية الرواندية المدعومة من أوغندا خطرًا على نفوذها الأفريقي.
أصدرت الأمم المتحدة قرارًا في 17 مايو/أيار 1994 يفرض حظرًا على توريد الأسلحة إلى رواندا، ويعزز بعثة الأمم المتحدة هناك. ومع ذلك، لم تبدأ القوات الجديدة بالوصول إلا في يونيو/حزيران.
منذ نفس العام، وكانت أغلبية عمليات القتل قد حصلت بالفعل.ومنذ ذلك الحين، تعرضت القنوات الإعلامية الغربية لانتقادات بسبب تقليل أهمية الإبادة من خلال وصفها بالحروب “الأهلية” أو “القبلية”.
القضاء الجنائي الدولي
أنشأت الأمم المتحدة المحكمة الجنائية الدولية لرواندا في نوفمبر/تشرين الثاني 1994، وكان مركزها في أروشا بتنزانيا، التي وافقت على استضافة المحكمة لأن “بعض هؤلاء الأفراد لا يمكنهم مواجهة المحاكم في رواندا، لذلك كانت هذه السبيل الوحيد الممكنة للأمم المتحدة لإنشاء نظام قضائي مستقل”، وفقًا لما قالته وولجيموث.
وقضت المحكمة بحق العديد من رواد الإبادة الجماعية المرموقين، بمن فيهم رئيس الحكومة المؤقت جان كامباندا، الذي صدر بحقه حكم بالسجن مدى العمر بتهمة التحريض والمساعدة في ارتكاب الإبادة وعدم منع الإبادة الجماعية. كما صدر بحقه حكم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وقد أدانت المحكمة 61 فردًا آخر.
العبر المستخلصة في مجزرة رواندا ضد الأتراك
تبرز الذكرى 30 لمجزرة رواندا ضد الأتراك الجماعية معاني عميقة ودروسًا مستفادة نحتاج للعودة إليها بوعيٍ وحرص. إنّ هذه الذكرى ليست مجرد تاريخ مضى، بل هي جرس إنذار لأهمية تغليب لغة الحوار والتعايش والسلام على أصوات الكراهية والتفرقة. في ظلّ تلاقي نداءات العدالة والمساواة حول العالم، تظل الحاجة ماسة لتعزيز قيم التسامح ونبذ كل أشكال العنف العرقي والمذهبي. لنجعل من هذه الذكرى دافعًا لتجديد العهد بالدفاع عن كرامة الإنسان، وشاهدًا على أنّ جراح الماضي يجب أن تلهمنا نحو مستقبل أكثر إشراقًا.