هكذا تركت الحرب الإسرائيلية آثارها الثقيلة على فتيات غزة
غزة- ترافق غنى وشقيقاتها الثلاث شروق الشمس نحو شوارع وأزقة مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، يجمعون كل شيء قابل للاشتعال، ويصلح أن تأكله نيران فرن من الطين تستخدمه والدتهن لإعداد الخبز وما تيسر لهذه الأسرة النازحة من طعام.
وبأحذية وملابس بالية تقضي الشقيقات الأربع، وترافقهن أحيانا فتيات من العائلة والنازحين، ساعات النهار من الصباح وحتى المساء، بحثا عما اختصرته غنى (13 عاما) بتعبير من اللهجة المحكية “وقيد للنار” من أخشاب وكرتون وورق وعبوات بلاستيكية.
تنحدر غنى من أسرة كبيرة في بلدة بشمال القطاع، ولم تقبل أن تتحدث للجزيرة نت إلا بوعد بعدم ذكر اسم عائلتها أو نشر صورة تظهر ملامحها التي تنكرها وتقول “ما كنت هيك قبل الحرب، كنت جميلة، وشعري حلو وناعم”.
وفتكت الحرب بمئات آلاف الأطفال، خاصة الفتيات، ومن بقي منهم على قيد الحياة اضطرته الظروف القهرية إلى خوض غمار العمل الشاق، للمساعدة في تأمين لقمة العيش، في ظل حصار إسرائيلي حاد، وحرب ضارية دخلت عامها الثاني على التوالي.
مشقة لقمة العيش
غنى وشقيقاتها لسن بحاجة إلى وقت طويل لإعداد أنفسهن كما اعتدن قبل الحرب للخروج من المنزل، فلم يعد لديهن منزل، ولا تتوفر المياه النظيفة للاستحمام، وليس لديهن ملابس أخرى لتبديلها، وقد نزحن مع أسرتهن في اليوم الأول للحرب من بلدة بيت حانون شمال القطاع.
واجتاحت قوات الاحتلال البلدة وعاثت فيها فسادا ودمارا، ودمرت كليا منزل غنى وأسرتها، والمدرسة التي كانت تدرس بها، وتعد الأيام والسنين والحلم يكبر معها أن تلتحق بجهاز الشرطة، وتصبح شرطية تساهم في ضبط الأمن.
وتنقلت هذه الأسرة من مكان إلى آخر في شمال القطاع حتى جنوبه، ولا تدرك غنى عدد مرات النزوح، وقد اضطرت وأسرتها في مايو/أيار الماضي، وعلى وقع العملية الإسرائيلية البرية بمدينة رفح لمغادرتها نحو مدينة خان يونس المجاورة، وتقول إن أسرتها (9 أفراد) مع 4 أسر أخرى يزيد عددها عن 30 فردا، يقيمون في ممر داخل مدرسة.
وعند كل صباح تحمل غنى وشقيقاتها الأصغر أكياسا فارغة، وينطلقن في شوارع المدينة وأزقتها، ويتنقلن من مكان إلى آخر حتى وقت الظهيرة، ويعدن للمدرسة بأكياس مملوءة بكل شيء يعثرن عليه، ويعتقدن أنه قابل للاشتعال.
تتحلق غنى وأسرتها لتناول وجبة الغذاء، وتقول “الحرب علمتنا نأكل كل شيء، ولا نسأل عن نوعية الطعام”، وبعد استراحة قصيرة تنطلق وشقيقاتها مجددا في جولة ثانية تمتد حتى مغيب الشمس.
وتستخدم والدة غنى ما تجمعه بناتها من الشوارع وتحت ركام المنازل المدمرة “لإحماء الفرن وإشعال النار من أجل إعداد الخبز والطعام”، وتقول هذه الفتاة بكلمات تفوق عمرها “بنلف بالشوارع عشان نلاقي لقمة نأكلها”.
ولا يقتصر يوم غنى الشاق عند جمع “وقيد النار” ويمتد لساعات متقدمة من الليل لبيع الخبز للمارة، وتقول شقيقتها الأصغر روعة (11 عاما) “نبيع بـ15 أو 20 شيكلا (متوسط 5 دولارات) عشان نطبخ ونأكل”. وتكمل “قبل الحرب كنا عايشين كويسين في بيتنا وبابا بيصرف علينا، وبنروح على المدرسة وبنتعلم وحلمي أن أكون طبيبة، والآن ما بدنا إلا نرجع على بيت حانون، وما بدنا ننزح أكثر من هيك”.
بائعة على الرصيف
وعلى مدخل ما يعرف بـ”مخيم الصحفيين” الملاصق لمجمع ناصر الطبي تفترش الطفلة سعاد زعرب (13 عاما) الأرض وأمامها كومة من الملابس تعرضها للبيع، حيث يواجه الغزيون أزمة ملابس حادة، جراء توقف حركة الاستيراد وتدمير غالبية المحال التجارية.
كان والد سعاد يعمل في بيع هذه الملابس قبل الحرب، وتقول للجزيرة نت إن والدها احتفظ بما تبقى لديه من ملابس، وتنقل بها من مكان إلى آخر في رحلة النزوح بين مدينتي رفح وخان يونس.
وإثر اجتياح مدينة رفح عادت سعاد وأسرتها إلى منزلهم في خان يونس فوجدوه أنقاضا، وتقيم هذه الأسرة المكونة من 6 أفراد مع آخرين من الأقارب في خيام بمنطقة بطن السمين بالمدينة.
تقضي سعاد مع أحد أشقائها نهارهما في بيع الملابس للمارة، وغالبيتهم من النازحين، وممن دمرت منازلهم، وفقدوا كل ملابسهم ومقتنياتهم تحت أنقاضها، ووفقا لهذه الطفلة، فإن والدها مريض لا يغادر الخيمة، وتعمل من أجل المساهمة في إعالة أسرتها.
ورغم واقعها المرير، فإن سعاد تتمسك بأمل النجاة من هذه الحرب والعودة إلى مقاعد الدراسة، ومواصلة طريقها لتحقيق حملها بأن تصبح طبيبة أطفال، وتقول إنها تعلقت بحلمها أكثر خلال الحرب التي قتل وأصيب فيها آلاف الأطفال.
وخلال عام من الحرب، حصدت نيران الاحتلال أرواح 5757 فتاة طفلة دون عمر الـ18، منهن 364 طفلة رضيعة أقل من عام، بحسب توثيق “وحدة نظم المعلومات الصحية” في وزارة الصحة.
وقدر مدير الوحدة المهندس زاهر الوحيدي لـ”الجزيرة نت” أن الحرب خلفت في عامها الأول 12 ألفا و633 طفلة يتيمة، من بينهن 11 ألفا و970 طفلة فقدت أحد الوالدين، و663 طفلة فقدت كلا الوالدين.
وبحسب توثيق الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني (حشد)، فإن الحرب حرمت زهاء 650 ألفا، أكثر من 50% منهم من الفتيات، من التعليم الأساسي، وشردتهم عن مقاعد الدراسة في المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية، التي تعرضت غالبيتها للتدمير كليا أو جزئيا.
الواقع الصحي للفتيات
وفي خصوص انعكاس الحرب على صحة فتيات غزة، تقول الطبيبة لبنى العزايزة للجزيرة نت “تراجعني حالات كثيرة لنساء، وبينهن نسبة عالية لفتيات صغيرات، يعانين من التهابات شديدة في المسالك البولية، وحكة شديدة في الجزء السفلي من الجسم، وهي ناجمة عن مشكلات متعلقة بمرحلة البلوغ والدورة الشهرية، وتدني مستويات النظافة داخل الخيام ومراكز الإيواء، وعدم توفر الفوط الصحية، وارتفاع أسعار المتوفر منها بالأسواق بصورة لا تناسب الغالبية من النازحين المسحوقين، فلجأت الأمهات والفتيات إلى استخدام قطع من القماش والنايلون غير النظيفة، وكان لذلك مضاعفات سلبية على صحتهن”.
وبحسب الطبيبة لبنى المتخصصة بالأطفال والمواليد والرضاعة الطبيعية، فإن المشكلات الصحية التي تعاني منها المرأة النازحة في غزة، تعود غالبا إلى غياب الخصوصية في الخيام والمراحيض والحمامات، وعدم توفر المياه النظيفة ومستلزمات النظافة الشخصية.
وجراء ذلك، فإن الكثير من الفتيات خاصة في مرحلة البلوغ تشكو من إفرازات غير طبيعية وآلام أسفل البطن، وأمراض جلدية وحكة شديدة أسفل الثدي وفي مناطق حساسة بالجسد، وحصر بول ومشكلات بالكلى والتهابات المثانة والرحم نتيجة الامتناع عن الذهاب للمرحاض العام في مخيمات النزوح من مغيب الشمس حتى الصباح، وهذا كله يسبب ضغوطا نفسية هائلة على الفتاة وأسرتها، وفقا للطبيبة لبنى.
وقالت إن “البيئة المحيطة وتراكم مخلفات الاحتلال، وكذلك أكوام النفايات، تؤثر على نحو خطير على صحة الإنسان عموما، والمرأة على وجه الخصوص، وترفع من احتمالات الإصابة بسرطان الثدي والسرطانات الأخرى”.
رابط المصدر